تدور طائفة لا بأس بها من
القصص الخيالية التي تصنف تحت ما يسمى في الإنجليزية Fantasy في فلك
مجموعة محددة من الأفكار، تنحصر غالبًا في الأميرة التي تعاديها ساحرة
شريرة، تلقي عليها بصنوف السحر و التعاويذ، فتلقيها في غيابات النوم العميق
الأبدي اللانهائي، أو تقلبها ضفدعًا أو قطة أو ما شاءت من بني الحيوان،
حتى يأيتها الموعود، الذي ينقذها مما هي فيه، و يزيل عنها سحر السحرة و
تعاويذ المشعبذين، ثم تكون له و يكون لها، و تنتهي القصة بالبنين و البنات
..
قصتنا هذه المرة ليست كأولئك، رغم أنها تنتمي للمناخ
نفسه، من قصور و قلاع، و ملوك و ملكات، و أمراء و أميرات، و حاشية متخمة
بالنبلاء الطفيلين الذين يعيشون مع الملك و على الملك، و يتنفسون نفاقه و
رياءه، و قد كان هو منهم ..
طفيلي كما ينبغي له أن يكون ..
برغوث بشري متكامل الصفات، يتكئ على قدر هائل من الثقة بالنفس التي تكاد
تصل إلى حد الانفجار، و يستند إلى قدر مهول من سعة الحيلة و الخبث جعلته
يتفلت من مكائد دُبرت له بعدد شعر رأسه، الذي شاب بعضه لفرط ما رأى، لكنه
رأى بالإضافة لما شيّبه ما نعّمه، فظل على ما هو فيه ..
و ما
كان فيه أنه كان يشي بالكل، فالكل لديه سواء تحت حذائه، يصعد على أجسادهم و
يتقرب بهم إلى الملك، الذي ازدادت محبته له رغم بغض الجميع له، و ارتفعت
مكانته عنده رغم احتقار الجميع له، لكنه كان ينظر إليهم أجمعين كهباء
منثور، طالما أنه قد ضمن العرش و ما فيه و مَن فيه ..
أما
مَن في العرش فكان ملكًا ذا سلطان و هيبة، ثم أصبح ذا شيطان و خيبة، منذ أن
أسلم أذنه إلى كل هماز بسوء مشاء بين الناس بما يضر و لا ينفع، و يؤخر و
لا يقدم، و يهدم و لا يبني ..
أراك تتساءل أين الطبيب فيما
يحدث؛ فالجو ممتليء بمؤامرات الحكم و السلطة، و طالبو الجاه و المنصب من
الوشاة و المنافقين، و أين جو الخيال و الفانتازيا وسط رائحة الدم و السلطة
التي تنتشر بين الكلمات .. أراك تتساءل، و هكذا كانت الأميرة في تلك
اللحظة الفارقة في حياتها ..
كانت و أخوها على غير جبلة
الوالد و الوالدة .. طيفان رقيقان كأنما اقتطعا من قوس قزح أو ندى الصباح،
حالمان كفرسان المائدة المستديرة، ممتلآن بأمال عريضة تقاطعت – لسوء حظهما –
مع آمال البرغوث البشري، فانقلب قوس قزح ظلمة، و اختفى ندى الصباح من على
أوراق الشجر، و سقطت الأميرة طريحة الفراش ..
و كانت آمال
البرغوث أن يعلو بناؤه أكثر و أكثر، و لم يكن له أن يفعل هذا إلا إذا وضع
جسدًا بمنزلة جسد الأميرة تحت قدميه، و لم يكن جلالة الملك ليرفض طلبًا
كهذا لصفيه و نديمه ..
يقول الناس إن آلام النفس أقسى من
آلام الجسد ألف مرة، لكن النفس ليست كيانًا مسطحًا، بل هي كتلة متجانسة
متنافرة من المشاعر و الانفعالات، مليئة بالتضاريس و الهضاب و المرتفعات، و
الجرح فيها لا يلتئم بندبة خطية من نسيج ليفي ميْت فاقد لكل معاني الحياة،
بل جرحها يلتئم – إن التأم – بجرح آخر أشد غورًا و أعمق سبيلاً، فلا سبيل
إلى التئام و لا طريق إلى نسيان ..
فليؤتى بكل طبيب ..
فليؤتى بكل نابغة في الطب .. فليؤتى بكل عبقري خبير تجرع صنوف العلاج و طرق
التطبيب فليطببها .. فليؤتى بأي طبيب كان .. آتوني بهم أو لأقتلنهم أجمعين
..
و لا يجيب نداء الملك الملتاع الغاضب سوى طبيب واحد ..
طبيب
واحد وحيد أتى من آخر بقعة في المملكة، و الأميرة على فراش الموت، نفس
يخرج في هواء الأرض و نفس يصعد إلى جو السماء .. طبيب واحد وحيد في مقتبل
عمره يحمل في قلبه عزم الشباب و حكمة الشيوخ أتى يقبل المهمة التي تنحى
عنها الجميع ..
إذا رأيته شعرت أنه عصا المكنسة .. نحيف حتى
تظن أنه غير موجود، بأنف رفيع حاد كالموسى و عينان حادتان صافيتان تخترقانك
اختراقًا .. وجه حاد القسمات طيبها تشعر إذا نظرت إليه بهيبة، لكنها هيبة
ترتاح إليها و تطمئن لصاحبها، و تفتح قلبك له على مصراعيه، تمامًا كما فعلت
الأميرة ..
لم يكن يعرف شيئًا عن صراعات القصر و خبايا
الحكم و دسائس السلطان، لكنه أدرك بحدسه أن الجو مشحون بطاقة سلبية رهيبة
كاتمة للأنفاس مطبقة على الأنفس .. لم يكن غريبًا بالنسبة له أن تسقط
الأميرة في مثل هذا الجو المشحون، فعدم سقوطها هو العجب ذاته ..
جس
نبضها في هدوء و تفحصها في سرعة الخبير الذي يعرف أين يضع يده و متى
يرفعها .. نظر إلى والديها في صمت ثم حول بصره إلى أخيها و أشار إليه دون
كلام أن يبقى و أن يخرج جلالته و جلالتها .. الملك الغاضب الملتاع لم يعتد
هذه المعاملة الآمرة، لكنه انصاع في آلية غريبة، مدفوعًا – ربما – بسحر
شخصيته القوية، و انصرف ..
قال الطبيب إن أخته كجسد ليس بها
شيء، لكن نفسها مهشمة ألف قطعة .. قال الطبيب إنه يريده أن يحكي، فروى، و
سأله فأجاب .. لملم أدواته و أغلق حقيبته و طلب أن يتركوه يتجول في القصر،
ففي القصر علاج الأميرة مما فيها ..
فتحت له الأبواب و ترك
له الحبل على الغارب .. تجول و تفحص و رأى و سمع، ثم في النهاية أعلن أن
شفاء الأميرة اليوم .. اليوم عند غروب الشمس تقوم الأميرة من مرقدها ..
جلس
إلى الأميرة و أمسك يمناها برقة كمن يمسك بلورًا يخشى عليه الكسر .. نظرت
إليه تلك النظرة الخاوية التي تملأ عينيها منذ عدة أسابيع، فسكب عليها
الشيء الكثير مما بداخله فتنفست بعمق .. أضاء عينيها بريق غاب عنها منذ
أسابيع، و انفرجت شفتاها بشيء لم تنطقه، لكنه سمعه يدوي في أذنه .. أطبق
على يداها بيده الأخرى و اقترب منها في صمت ثم دعاها للنهوض فنهضت ..
كان
الجمع ينتظر في قاعة العرش .. الملك و الملكة و الأمير و البرغوث البشري،
الذي صار كالبرغوث حقًا لا يفارق سيده .. دخل عليهم القاعة تتأبط يمناه ..
تسير الهوينى لكنها تسير ثابتة .. نظرة عينيها تقول الكثير لكن من يفهم ما
تقوله قليلون، و شفتاها المزمومتان تصرخان بجبال من الكلمات لكن الصم أكثر
ممن يسمعون ..
وقفا في منتصف القاعة قبالة الملك الذي ألجمته
الدهشة، كما ألجمت زوجه، فيما بدت البغضاء من عيني البرغوث تكاد تحرق
الأرض و من عليها فتذرها قاعًا صفصفًا، لا ترى فيها عوجًا و لا أمتًا ..
تركها و تقدم منفردًا و انحنى إجلالاً ثم تحدث ..
قال إن
الأميرة لم تمرض بجسدها، بل إن روحها تمزقت كل ممزق .. قال إنه لا يعجب
لهذا بقدر ما يعجب أنه تأخر جدًا .. كل شيء في القصر يدعو للسقم و المرض، و
كل شبر يدعو للهلاك و العدم .. قال إن الملك يخطيء كل يوم ألف مرة إذ
يصاحب مثل هذه الطفيليات و البراغيث المسماة بالنبلاء و الصفوة، و أنهم
ليسوا نبلاء و ليسوا صفوة، بل مجموعة من المنتفعين الذين اعتادوا العيش على
الملك، فلا هم نفعوه، و لا هو أمن شرهم ..
قال إن القصر
امتلأ جوه برغبات مريضة في الوصول لهذا العرش .. مؤامرات تحاك بليل و
بنهار، و أقنعة تغطي كل الوجوه، و خلف الوجوه أقنعة أخرى تغطي نفوسًا نتنة
.. قال إن الأميرة لم تسقط صريعة المرض لأن ذا البرغوث أرادها لنفسه، بل
كانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير ..
قال إن القصر
تمايز إلى نور و ظلمة .. ظلمة تأكل من النور يومًا تلو الآخر، و نور ينزوي
انزواءً .. قال و قال و قال، و الملك يستمع مبهوتًا كأنه لم يستمع لأحد من
قبل، و كأنه يصطدم بفنون القول لأول مرة .. بهت كأنما يساق إلى موت، و
اندفع من خلفه البرغوث يصرخ ..
قال إن هذا الطبيب يهذي و
يخرف، و إنه يطمع لنفسه في ملك عريض إذ يحاول أن يكسب الملك إلى صفه بإن
يوهمه أنه الناصح الأمين، و إنه يتقرب إلى الأميرة بحجة علاجها، لكن مراده
من وراء هذا خبيث .. قال الطبيب أنه بمثل هذا ابتلع الظلام كل نور في القصر
.. مثل هذا من البشر لا يجد ما يمشي به بين الناس إلا الوشاية و خبيث
القول و العمل، و أن أذن الملك ملأت قلبه و عقله خَبَثًا و زورًا عندما
أنفذت كلام هذا البرغوث إليه ..
قال إن المُلك يفسد إذا صار
في مهب ريح الوشاية السَموم .. قال إن الأميرة ليست مريضة، بل هي الوحيدة
ذات الصحة و العافية، و أن من سواها في هذا القصر مرضى حتى الثمالة .. قال و
قال و قال، و الملك و الملكة و الأمير يستمعون في صمت، و برغوث بني البشر
يرغي و يزبد أن اقتلوا هذا الأفاق المنافق الكذاب، و للمرة الأولى ينظر
إليه الملك باحتقار ..
قال الطبيب و روى مما رأي .. هل كان
ذا الذي أرسلته إلى أقاصي الأرض بعيدًا عن أهله و أحبابه، جلالتك، لجرم
ارتكبه، أم لوشاية من واش لم تتكلف حتى عناء التحقق منها ؟ هل ذا الذي
أقطعته أرضًا يموت الفرس الأدهم تعبًا قبل أن يبلغ منتهاها، جلالتك،
يستحقها، أم لحلو كلام و معسول حديث نافقك به أقطعتها إياه ؟ هل ذا الذي
إلى يمينك يستحق منزلته، أم وصلها على أجساد العباد ؟ هل ترى، جلالتك، أنك
حقًا الملك، أم أنك سلّمت المُلك إلى هؤلاء ؟
ثم قام الملك
عن عرشه، و أشار إلى الحرس أن اطحنوا هذا البرغوث طحنًا فلا تذروا منه
لحمًا و لا عظمًا .. قال للطبيب أن له أن يسأله ما يشاء، فقد أراه ما لم
يكن يرى، و أسمعه ما لم يكن يسمع، فسأله الرحيل .. أمسكت الأميرة بيده فزعة
جزعة .. قالت إنه كمن يمنحها هواء الدنيا ثم يكممها بيديه، فكيف يرحل ..
قال إن هواء الدنيا لا يمنحه أحد لأحد، و هو لم يفعل شيئًا إلا أنه أزاح
الغطاء، فلها أن تملأ صدرها كما شاءت .. هو طبيب يداوي، لكن ما بعد الدواء
هو شأنها هي فحسب ..
قال للملك إن الطفيليات تتكاثر في
الظلمة، و تنمو على العطايا و المنح، و هي في كل الأحوال لا فائدة من
ورائها، و لا نفع منها يرتجى .. قال إنه قد أتم ما أراد و ما أريد، و إنه
لا مستقر له ها هنا بعد الآن ..
سار مبتعدًا تحوطه غلالة
خفيفة من ضباب المساء، تتابعه الأميرة من نافذتها، و قد خيل إليها أن نورًا
ينبعث منه، ثم خيل إليها كأنما استحال يمامة طارت مبتعدة ثم استحالت نقطة
نور في السماء، لكنها لم يتسن لها أن تعرف الحقيقة قط ..