للأسف لم تواتيني فكرة كتابة هذه اليوميات قبلاً، ربما بسبب حالة الدهولة التي كنا فيها كطلبة يقضون عامهم الدراسي الجامعي الأول في كلية ككلية الطب، وجدوا أنفسهم مطالبين خلال أول أسبوع فقط بمذاكرة ما يوازي كل ما درسوه في عام دراسي كامل في الثانوية العامة، لأ و إيه بالإنجليزي الممتزج باللاتينية أعزها الله و حفظها من كل سوء ..
المهم أنني قررت في النهاية و مع بداية العام الدراسي الثاني لي في هذه المخروبة- كما أحب دومًا أن أسمي أي مؤسسة تعليمية جديدة التحق بها – أن أكتب طرفًا مما شاهدت و سأشاهد، لا في صورة يوميات، يل هو أقرب للمقالات الناقدة.. كل مقال يأخذ موقفًا أو حدثًا و هاتك يا نقرزة ..
ما زلت أذكر أول ما كتب توفيق الحكيم في كتابه الأكثر من رائع "يوميات نائب في الآرياف"، إذ قال: إن صاحب الحياة الهنية لا يكتب منها شيئًا علي ورق بل يحياها بكل ما فيها، أما من هم مثلي ممن يحيون حياة بائسة، عل الكتابة تخفف عنهم شيئًا من بلواهم .. و أظن أنني أشعر نفس الشعور ..
لست انتظر أن تهز كلماتي أحدًا .. فمن جهة لن أكتب علي طريقة "كشف المستور فيما يدور في كلية الطب بين سحب البخور"، بل ربما امتلك قراء تلك المقالات من الحكايات ما هو أكثر إثارة للشفقة و الضحك مما سأكتب، لكن هذا لا يمنع أن ما سأكتبه يعد علي الأقل نسخة من شعور أكثر من ألف و ثلاثمائة و تسعة و تسعين طالبًا و طالبة، هم دفعتي كلها ..
كل ما أتمناه بعد أن تقرأ هذه المقالات ألا تغلق المتصفح قائلاً: الله يخرب بيتك .. ضيعت لنا وقتنا ع الفاضي .. منك لله يا شيخ !
***
لنلق أولاً نظرة عامة علي الكلية ... الملاحظة التي أنا متأكد أنك ستخرج بها من النظرة الأولي هي بالضيط ما قاله د. الخرادلي وكيل الكلية لشئون الطلبة في حفل استقبال الدفعة الجديدة من طلبة الطب لهذا العام، إذ قال باستنكار شديد و معه كل الحق في هذا: "إيه ده .. هو مفيش رجالة في الدفعة دي و لا إيه ؟!" ..
دفعتنا بشكل أو بآخر حافظت علي نسبة معقولة بين الذكور و الإناث، تقريبًا 7 بنات لكل غلبان واحد منا، لكن الأمر يزداد سوءًا كل عام، حتي إنني أشك أن تحتوي دفعة 2015 علي طالب واحد، و إن وجد فإنه سيكون حتمًا كديك البرابر .. يا عيني عليك يا بني، حتلاحق علي مين و لا مين !!
ربما تبدو ملاحظتي غير ذات معني، لكنك ستدرك لم ذكرتها كملاحظة أولي عندما أخوض أكثر و أكثر في ذكر تفاصيل الحياة الجامعية البهيجة لطلبة الطب أعانهم الله علي مصائب دهرهم ..
أذكر و نحن وقوف أمام أحد المدرجات في انتظار أن يفتح علي بابا الباب .. أقصد أن يفتح العامل الباب، و كنّ - أي هنّ - يحتللن 99 % من المساحة الموجودة أمام الباب، و نحن كالمعتاد نقف منزوين في أحد الأركان بصورة تثير الشفقة و تجعل أي شخص يتساءل حقًا عن السبب المنطقي لهذه الزيادة غير الطبيعية في أعداد الطالبات .. هل هو مجرد التفوق الدراسي في الثانوية العامة، أم هي حالة عامة في مصر كلها، ربما يكون منشأها خلل في الهرمونات يجعل إنتاج الحيوانات المنوية المحتوية علي الصبغي X يفوق تلك المحتوية علي الصبغي Y ؟ .. المهم و أيًا كان السبب، فإننا في وقفتنا هذه سمعنا واحدة تقول: "أيوه .. حتفضلوا تقلوا كده لغاية ما تنقرضوا .. تختفوا" .. يا ساتر علي السوداوية و الحقد !
أردت لحظتها أن أقول لها أنكن لن تجدن بعد ذلك "بأفًا" يغازلكن علي كل ما فيكن من بلاوي، لكنني آثرت الصمت ..
لنترك هذه النقطة، لأنها ستفرض نفسها مستقبلاً، و أنا واثق من هذا، و لننتقل لأخري .. و هذه الأخري هي مباني الكلية .. إنها واحدة من أهم ثلاث مشاكل تواجه الطلبة في كلية الطب، أما المشكلتان الأخريتان فهما المنهج و الأساتذة المحاضرون ..
و لأنني إنسان يكره التشاؤم، فسأبدأ بأفضل مدرجات الكلية، أو كما يقولون "أحسن الوحشين" .. مدرج التشريح .. ربما تظن أنني أقصد أن الطلبة "بتتشرح" إلي أن تجد لها مكانًا فيه، و هو قول صحيح، لكنني أقصد ذلك المدرج الكائن في مبني المشرحة الجديدة ..
حتي هذا المدرج علي اتساعه، لا يسع العدد المقرر أن يحضر فيه في المرة الواحدة، إذ أن جدول المحاضرات يضع نصف الدفعة الأول في المجموعة أ، و نصفها الثانية في المجموعة ب، و حيث أن دفعتنا هي 1400 طالب تقريبًا، لذا فمن المفترض أن يسع هذا المدرج سبعمائة طالب في المرة الواحدة، لكنه للأسف لا يسع سوي ستمائة كحد أقصي، و يا ويله يا سواد ليله اللي أمه داعية عليه يبقي من الميّة اللي حيقفوا، خصوصًا لو كان الجدول فيه 3 أو 4 محاضرات ورا بعض .. دوالي إن شاء الله ..
و رغم أن الطلبة فهمت الدرس، و أصبحت "تديها آر بي جيه"، و "تنطش" أغلب المحاضرات، إلا أن المشكلة ما تزال قائمة ..
و إذا كان هذا هو حال أفضل مدرجات الكلية - من وجهة نظري - فما بالك ببقية المدرجات ..
مدرج 1 يثير تساؤلاً محيرًا .. زمنيًا هو أحدث من مدرج التشريح الذي بني في عهد عبد الناصر، لكن مدرج التشريح علي اتساعه لا يحتوي علي عامود أو حتي نصف عمود في منتصفه ليحمل السقف، بينما يحتوي مدرج 1 في منتصفه علي عامودين كالخوازيق تحجب الرؤية عن القطاع الأيمن من المدرج تمامًا و تحول الجالسين فيه إلي متحدي الإعاقة يعتمدون كالعمي علي أسماعهم فقط، رغم أن عيونهم ما زالت Full Option ..
لست أدري حقًا هل تتقدم علوم الهندسة عندنا للوراء، بحيث يصبح مهندسو عهد عبد الناصر أكثر تقدمًا من مهندسي هذه الأيام، و أي أحمال تلك التي تطلب توزيعها هذه الخوازيق المغرّاة حتي توضع في منتصف المدرج بهذا الشكل المستفز ؟ .. حقًا إن لله في خلقه شئون ..
و أخيرًا كارثتي الكلية .. مدرجي 3 و 4 .. لمن لا يعلم، فهذه المدرجات صممت لتستوعب تلك الأعداد المهولة من الطلبة التي كانت تدرس في بدايات الكلية، في عهد الملك أحمد فؤاد الأول ملك مصر و السودان، و التي بلغت - امسك نفسك و جهز دواء القلب - 117 طالبًا علي سن و رمح .. أديني عقلك أنت بقي و قعد لي فيها سبمعيت بني آدم بصورة إن شالله حيوانية حتي ..
الأطباء القدامي، دفعات 70 فما فوق، أطلقوا علي هذين المدرجين اسمًا معبرًا .. مدرج القرود .. الطلبة المساكين لا يجدون خرم إبرة حتي للجلوس، فلا يسعهم سوي الوقوف علي النوافذ، في صورة تحاكي كثيرًا جبلاية القرود ..
اعترض أحد أصدقائي أن يُصنف هو مع النسانيس و الشمبانزي، نظرًا لضخامة جسده النسبية، لكنني أقنعته أنه في هذا المدرج، إن لم يكن نسناسًا، فإن هناك من القردة نوعًا يطلقون عليه اسم الغوريللا، ربما وجد لنفسه فيه شبيهًا ..
بقي المبني الأكاديمي، و المشرحتان، لكنني سأتركهما وقت يأتي ذكرهما عند الحديث عن السكاشن، أما الآن .. فالسلام ختام ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق