انفتح الباب بهدوء لا يكاد يلحظ و سط هذا الضجيج ليدلف أرنوك بخطواته الهادئة و ملابسه و لثامه الذي لا يخفيه بل يجعله مميزا ، حتى و صل الى احدى الموائد فارتمى على مقعد بهدوء و جلس يشاهد الناس يرقصون على تلك الموسيقى ، و شرد قليلا و قد حملت اليه تلك النغمات سيلا من الذكريات ، بعضها جميل و بعضها لا يحب أن يذكره .. قطع عليه شروده صوت يقول : أهلا بالقناص ،ثم اكمل : كيف حال غزلانك يا أرنوك ؟؟
- يرسلون اليك بي يا بالرين .. و يأبون الا أن آتي لزيارتك من حين لآخر
قالها ثم رفع رأسه مبتسما لصديقه القديم الذي سحب مقعدا ليجلس قبالته .. سأله بالرين : فيم كنت شاردا يا أرنوك ؟؟
- في ذكرياتي يا رين ..
- لقد نسيت الذكريات من زمن يا روك .. نسيتها كلها فلا أذكر منها سواك ..
- إذ لم يبق منها سواي .. قالها و هو يشرب من تلك الكأس التي ناولتها اياه امرأة تعمل في الحانة
أشار اليها بالرين لترحل ، نظرت اليه و هي تستدير و كأنها تسأله شيئا فابتسم لها و قد أومأ .. ثم قال : فلتنس يا روك .. انس يا صديقي .. لقد انتهى ما كنا عليه و ها نحن ذا .. أحدنا صاحب خانه .. و الآخر قناص يقضي ايامه في الغابة هائما .. ليعود بين الفينة و الأخرى ببعض لحم الغزال ، أو فراء لثعلب فيبيعه بثمن بخس .. يحصد كرونكات قليلة تكفي بالكاد مئونته ..
- اراني انسى في الترحال ما كان ..
- دعك من هذا فما جئت هنا لتتذكر .. ألم تشتق لطعام غاريتا ؟؟
- و من لا يشتاق اليه .. اكاد أحيانا أراهن أنها أمهر من طباخ الملك
ضحكا معا ، ثم سأل بالرين : أولم تشتق لغير الطعام .. أولم تشتق لصاحبته ؟؟
سكت أرنوك و قد أخذ يخط بأظافره علامات على خشب المائدة القديم ، - إنها لا تزال تحبك يا روك .. أنها تعد الأيام ، فإذا انقضى الشهر و لم تأت تقلق و تضطرب و لا تزال تسألني ان كنت سمعت من أخبارك شيئا ، أنا لا أعرف حقا ما الذي حدث لك .. لقد كنت تبادلها نفس المشاعر ، أخبرتني بهذا بنفسك
قطع أرنوك كلامه قائلا : كفي يا رين .. كفى .. و إن كنت أحبها ، ما يجدي الآن ، هل سأصطحبها معي إلى الغابات كفرسي ؟؟! أم هل أتركها هنا و هي زوجتي فلا أعود اليها الا بين شهر و آخر .. أم هل اظل هنا معها و نموت جوعا .. أتحسبني اسعد عندما أتغافلها أو أشيح بعيني عنها كيلا أرى في عينيها نظرة اللوم و الحب ؟؟
- لكنها تعرف ما جرى يا روك و لا تنتظر أكثر من حبك
- و لكن انا لا أرضى لها مجرد حبي ، لا أريد أن يعني حبي جوعها أو عنائها ؛ فحبها يعني لي الكثير ، لا تحسبني حجرا ، و لكني يا صديقي أدرك أنك ترعاها كما لو كنت أنا هنا بل و ربما أكثر ، ولولا وجودها عندك ، ما غفل لي جفن .. ففي هذا مصلحتها
-أقسم لك ان لو كانت لي أختا ، لما رعيتها أكثر من ذلك
- لست أخبرك هذا لتقسم لي يا رين ، فأنا اثق فيك أكثر من نفسي .. و لكن يشق علي أن أراها حزينه و لكن هذا الأفضل لها حتى تتغير الأمور
-و متى تتغير يا صديقي ؟؟ لا أحد يعلم
-فلنأمل يا رين .. هل لنا الا الأمل
- حسنا .. فلتبق لها على بعض أملها إذن ..
- ماذا تقصد ؟؟
قطع كلامهما مجيء غاريتا تحمل الطعام ، بعد أن أخبرتها السيدة التي جاءت بالشراب أن أرنوك بالخارج ، وضعته على المائدة و قد اخذت تنظر بطرف عينها الى أرنوك تتأمل ملامحه التي تحفظها عن ظهر قلب و هي تسأله عن حاله ، و استمرت تلحظه و هو يأكل في صمت ثم جمعت بقايا الطعام و نهضت لتعيدها للداخل .. حينها علا صوت في الحانة من جهة المشرب لهذا الذي أفرط في شرابه قائلا : ماذا أرى .. هل نزل القمر ليحتفل معنا الليلة أم ماذا .. اين كنت تخبئها عني يا بال .. أيكون لديك هذا الجوهرة و تمنعها عني
، أقبل مترنحا جهة المائدة و هو يشير لغاريتا .. مد يده ليضايقها و قبل أن تلمسه يدها كانت يد ارنوك تمسك برأسه الى الخلف و يده الأخرى ممسكة بالسكين و قد لامس نصلها رقبته و أرنوك يهمس في أذنه : فكر أن تضايقها و ساجعل لحمك يباع أرخص من لحم الكلاب
قال الرجل و قد آلمه النصل الذي انغرس طرفه برقبته فسال شريط رقيق من الدم : هون عليك يا رجل ، لم اكن أعلم أنها تخصك .. هون عليك
- نعم تخصني و لتعلم أنك لو سولت لك نفسك بشيء ، فلن أتركك إلا و سكيني تزين قلبك قالها أرنوك ثم اطلقه من يده دافعا اياه جهة المشرب : فلتلهو بكأسك هناك
أشار بالرين للعازف أن يستمر في عزفه ليصرف الناس عما حدث ثم التفت الى أرنوك يهدئه .. ثم نظر جهة الحانة قائلا : عليه اللعنة ذلك الزنديق ، لأنه جاسوس للقصر يظن أنه بوسعه أن يدوس الناس
- ولا الملك ذات نفسه يجرؤ أن يمسها وفي قطرة دماء تجري بعروقي يا بالرين .. قالها و هو يعيد سكينه الى غمدها ثم التقت عيناه بعيني غاريتا و قد امتلأت فرحا حين سمعت قوله ، خفض عينيه يخفيهما
- شكرا يا أرنوك قالت فرحة
قال ولا يزال مطرقا : لا بأس يا غاريتا .. لا بأس
مدت يدها تحمل الطعام و هي تمضي غاضبة من اعراضه و لكنه سرعان ما مد يده فأمسك بالاناء يعيده للمائدة ، و رفع راسه قائلا :
- هل ترقصين معي ؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق