13.1.12

و ما نحن بعالمين !


يقول تعالى في سورة يوسف: "وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ياأيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون ۞ قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ۞"

لست هنا في معرض الحديث عن قصة سيدنا يوسف عليه السلام، و لست أذكر هذه الآيات الكريمة من باب تذكر قصته، أو جزء منها، بل إنني أذكرها لأدعوك لتتأمل معي في رد الكهنة على عزيز مصر إذ سألهم عن تفسير تلك الرؤيا العجيبة .. تأمل معي ذلك الترتيب: "قالوا أضغاث أحلام" ثم قالوا: "وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين".

لا بد أنك أدركت إلام أرمي؛ فلقد اندفع الكهنة فأطلقوا الحكم ثم أعترفوا بعدم أهليتهم لإطلاقه، و هو ما نعبر عنه في لغتنا العامية بـ"الفتيْ"، أو الفتوى بغير علم ..

و لنتأمل الآيات بصورة أكثر تركيزًا ..

الضغث هو الحزمة من أنواع الحشيش، و يقال أضغاث أي أخلاط و أهاويل، أي أن رؤيا الملك بتعبير اليوم هي "تخاريف ما بعد الوجبات الثقيلة"، و هو حكم عنيف إن صح التعبير، لا يصدر إلا من واثق من علمه. ثم يتبعون حكمهم هذا بقولهم "و ما نحن بتأويل الأحلام بعارفين"، و هي صيغة استثناء تفيد القصر و التخصيص، و تدل على شدة النفي و انعدام الشيء المنفيّ جملة و تفصيلا، و هو ما يعني اعترافهم أنهم في مسألة تأويل الأحلام "أجهل من دابة".

حسنًا .. لنسقط الأمر على واقعنا، و لو أنني على يقين أنني لا حاجة بي إلى هذا الإسقاط، فكلنا – تقريبًا – نتصرف كأولئك الكهنة، و نحن على علم تام بذلك .. أنت لا تعرف أي شيء تقريبًا عن تسعين بالمائة مما يدور حولك، لكنك تطلق أحكامًا و فتاوى فيما يزيد عن تسعة و تسعين بالمائة من هذه الأمور كأنك أعلم أهل الأرض .. تجهل نصف العالم و ترى النصف الآخر بصورة ضبابية، لكنك تصر على إسداء النصح كأنك ترى الدنيا بعينين صافيتين .. أنا لا أفقه حرفًا في تفسير القرآن لكنني أكتب مقالاً عن الفتوى بغير علم بادءًا إياه باستنباط شخصي لبعض آيات سورة يوسف !

الفتوى بغير علم هي في بعض الأحيان دافع قهري، و وسواس يجتاحك كإعصار تشعر أنه قد يدمرك إن لم تلوث أذن أو عين من أمامك بنصف العلم الذي لديك، الذي هو شر من جهل مطبق، و هو نصف لا يشعرك بنقص، بل قد يجعلك تتيه فخرًا به، و تزهو بنفسك في كل مكان مسببًا المزيد من الشقاء لمن سيأخذون منك بلا تمحيص .. لذا، و كلما همت بك نفسك أن تفتي بما لا تعلم، و على غرار النصيحة التي أسداها أحدهم إلى حسام .. كلما شعرت برغبة جامحة في أن تقول ما لا تفقه، فاستنشق من الهواء الشيء الكثير، و اكتمه، و اغمض عينيك بقوة، عل الله يرحم الجميع مما ستقول .. لو استطعت الحديث في هذا الوضع فأنت تستحق الذنب التي تصر على إتيانه !

رحم الله من قال لا أعلم !

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar