25.9.11

أحلام الفتى الدائخ - الحلم الرابع عشر



الحلم الرابع عشر: أشياء في السياسة، و أشياء في الطب

كعادة كل أحلامي، بدأ الحلم بداية مشوشة مرتبكة، لكنني استطعت بسهولة التعرف على المكان، رغم التغير الكبير الذي طرأ عليه، و الذي أكاد أقول جعله شيئًا آخر لا علاقة له بالأصل على الإطلاق .. قاطنو الإسكندرية يعرفون منطقة الأزاريطة و تفاصيلها، على الأقل بما يخدم وصفي و سردي للأحداث ..

البداية كانت على الكورنيش في مواجهة أرض كوتة و تلك الملاهي العرجاء المجاورة لها، حيث بداية شارع شامبليون الذي ينتهي بميدان الخرطوم حيث كليتي حفظها الله من كل سوء .. هذا ما هو كائن على أرض الواقع، أما ما كان في الحلم فلا علاقة له من قريب أو بعيد بكل هذا ..

كنت أسير على الكورنيش، شاعرًا أنني "أسبح" أو "أنزلق" فوق الأرض انزلاقًا سريعًا، كأنني أركب سيارة تسير بسرعة تتجاوز الستين كيلومترًا في الساعة – و لا تسل كيف حسبت سرعتي، فالأمر كله إحساس داخلي – في الاتجاه المؤدي إلى المنشية، ثم نظرت إلى يساري فرأيت المساحة التي تشغلها أرض كوتة – أرض المعارض السكندرية، أو هكذا جعلوها – قد شغلتها عدة مبان هائلة الحجم عظيمة الاتساع لا يمكن بحال أن تستوعبها المساحة الأصلية للأرض الفضاء أصلاً، و الأدهي من ذلك هذا الطابع القوطي المميز الذي صبغها كلها، حتى شعرت أنني انتقلت لعصور أوروبا المظلمة، رغم أن هواء بحر الإسكندرية كان يصدمني عن يميني ..

السور نفسه الموجود على أرض الواقع كان محيطًا بتلك المباني، بكل ما يحمله من قذارة و رسوم و إعلانات .. وجدت نفسي فجأة داخل الأسوار كأنني طرت فعبرت طريق الكورنيش في لمح البصر – و هو ما لا أستطيعه و أنا في كامل وعيي – و اخترقت السور دون أن يمسسه أو يمسسني سوء، و انطلقت بنفس الانزلاق السريع اتجول بين تلك المباني ..

كان المبنى الأقرب للكورنيش هو مسجد البارون "......"، و لست أذكر حقًا اسم البارون، لكنه كان اسمًا شاعريًا موسيقيًا حزنت حقيقة أنني نسيته .. ثم انطلقت فإذا وراءه كنيسة لم أدر لها اسمًا، لكنها كانت بضخامة المسجد تقريبًا، و كلاهما حمل شيئًا من آيا صوفيا بالإضافة للطابع القوطي الذي صبغها من أعلاها إلى أسفلها .. القباب الواسعة المفلطحة تحديدًا هي التي أعطتني هذا الإيحاء القوي ..

لسبب ما لست أدري ما هو شعرت و أنا أنزلق بين تلك المباني كأنني أسير في شوارع قصر المنتزه – القصر الرئاسي ذو الحديقة الغناء، و قبلة العشاق الليلية ..

واصلت انطلاقي الانزلاقي، و إن هي إلا ثوان حتى غابت الشمس أو كادت – و قد كان الوقت عصرًا منذ لحظات – بينما وصلت إلى منطقة تشبه – لو أنك تذكر هذا المشهد من الأفلام الأمريكية – المنطقة الواقعة بين بنايتين، بكل ما فيها من فوضى و صناديق قمامة و سلالم حريق و قطط و كلاب ضالة .. كان هذا هو المكان الذي وصلته، و إذا بي أرى عجبًا ..

كانوا مجموعة من الرجال مجتمعين، جالسين على مقاعد خشبية كتلك المنتشرة في المقاهي الشعبية، يجلس أحدهم في الصدارة بينما يتحلق الباقون حوله في نصف دائرة .. لم أنتبه تمامًا لعددهم، و أظنهم ما بين الأربعة و الخمسة، و يقف خلفهم و حولهم عدد آخر من الأشباح لم أتبين لمن هم، لكنني عرفت من الجالسين على المقاعد، و هذا هو العجب ذاته ..

أما الجالس في الصدارة فكان حازم صلاح أبو إسماعيل، و أما المتحلقون حوله فقد تبيّنت منهم العوا و عمرو موسى، و أغلب الظن أن الباقين الذي لم أتبينهم هم بقية المترشحين للرئاسة؛ البرادعي و حمدين صباحي و أبو الفتوح، في تأثر واضح مني لمشهد اجتماعهم منذ أيام، ثم استمعت لشيء من حديثهم فكانوا يتحدثون عن السفارة الإسرائيلية، و هنا كان موطن العجب الثاني ..

كانوا يتحدثون عن أن إمدادات السفارة من الوقود  في تضاؤل مستمر لوجود تسرب حاد في "قعر" السفارة، و هي فرصة جيدة لإمداد السفارة بوقود مغشوش يمكن معه أن نفجرها عن بعد .. العجيب أن الكلام بدا لي منطقيًا جدًا لحظتها، و التمعت أمامي صور تعبيرية – إن صح التعبير – عن السفارة و هي طائرة في الفضاء و الوقود يتسرب منها كأنها برميل مثقوب، ثم مشهد آخر و النار تلتهم السفارة و تفجرها تفجيرًا ..

لم أكن واقفًا استمع، بل كنت أواصل انزلاقي الذي لازمني من بداية الحلم، إلا أنني تباطئت قليلاً كأنني أنزلق بالتصوير البطيء، و أخذت أطوف حولهم كالشبح؛ أراهم و لا يرونني، و أحلق فوق رؤوسهم كأنني أحرسهم .. ثم انطلقت مبتعدًا و أشرقت الشمس مرة أخرى، و اختفى المشهد كلية من أمامي ..

وجدت نفسي فجأة في الطابق الرابع من مستشفى الشاطبي للأطفال، وسط جمع غفير من زملائي، كأننا في امتحان أو ما شابه، و كلنا نرتدي الأردية البيضاء و نبدو على أتم استعداد، و هو ما عزز شعوري بجو الامتحانات .. المستشفى قريبة من مكان المشهد الأول، لذا لم أتعجب كثيرًا من وجودي فيها .. ثم وجدت أن نفرًا من الأساتذة يدعونا للمرور على الحالات لتفقدها و تقييمها، لأكتشف لحظتها أننا أصبحنا جميعًا أطباء امتياز، و أن هذا الجمع الغفير سيشن هجومًا مريعًا على المرضى لفحصهم، إلا أن ظني قد خاب لسبب سأذكره لاحقًا ..

دخلت إلى الحجرة الأولى إلى يميني، حيث العناية المركزة – في الحلم فقط لا الحقيقة، ففي الحقيقة تحتل دورة المياه هذا الموقع – لأجد طفلة كنت أتابع حالتها عندما كنت أؤدي تدريبي العملي في المستشفى .. وجدتها راقدة و قد انتفخت من الكورتيزون الذي كانت تتعاطاه كعلاج لحالتها المزمنة، فتوجهت إليها متسائلاً عن سر تواجدها ها هنا ..

لم تكن الفتاة هي نفسها، و لم تكن الأم هي نفسها، لكن الإحساس الذي غمرني لحظة رؤيتهما أنها هي ذات الطفلة و هي ذات الأم .. على أية حال لم أصل إلى إجابة محددة لسؤالي، فبدأت أتفحص الطفلة، لأجدها بالإضافة لما هي فيه من آثار علاج الكورتيزون قد أصيبت بحول عجيب؛ فكل عين تتحرك منفردة دون رابط أو ضابط، حتى شعرت أن عينيها عروستا ماريونيت معلقتين بخيوط يحركهما أحد العابثين و قد جلس خلف المقلتين ..

تركتها و خرجت من الغرفة، و قد يأست من الوصول لجديد، بالإضافة لشعور عميق بـ"الدهولة" و انعدام التوازن غمرني إثر رؤيتي إياها، و لمحت على البعد أحد أساتذتي يجري مسرعًا، و كنت أود سؤاله عن حالة هذه الطفلة لكنه ابتعد سريعًا، و على كل، فقد صرفت اهتمامي عن الأمر برمته لما رأيت ما آل إليه الطابق الذي أنا فيه ..

وجدت أن الممر بأكمله قد امتلأ بأكوام الرمل و الأسمنت و الحجارة، و أجزاء من الحائط قد تهدمت – و لم تكن هذه هي الحال قبل أن أدخل الغرفة – و زملائي أجمعين واقفين يحاولون الانتقال من طرف الممر الذي أنا فيه للطرف الآخر، مرورًا بأكوام الرمل و الحجارة هذه، و لم يقترب أي منهم من أي حجرة من الحجرات المتناثرة يمينًا و يسارًا، فانطلقت معهم لأجدهم متباطئين للغاية، ثم اكتشفت السر عندما تقدمت خطوات ..

على جانبي الممر كانت صناديق بيبسي و سفن أب مفتوحة على مصراعيها، مثلجة و جاهزة للشرب، في عبوات جديدة سعة لتر و نصف، متاحة مجانًا لمن أراد، كعرض ترويجي لهذا الشكل الجديد من المشروب الغازي .. كانت الزجاجة إسطوانية طويلة، ربما بطول ثلاثين سنتيمترًا، رفيعة بقطر قد لا يتجاوز السبعة سنتيمترات، و قد زُينت بنقوش جديدة تمامًا على سطحها الخارجي .. أخذت زجاجتين، و أنا استمع إلى مندوب بيبسي الذي أخذ يؤكد مرارًا و تكرارًا أن الزجاجات مجانية تمامًا لمن شاء أن يحمل ما شاء، و أنها هدية من شركة بيبسي ..

فتحت زجاجة سفن أب لأجدها قد فارت و أغرقتني، و استيقظ من نومي دون أن ارتشف منها شيئًا ..

22.9.11

أحلام الفتى الدائخ - الحلم الثالث عشر


الحلم الثالث عشر: ما بين النوم و اليقظة

بت أعاني في الفترة الأخيرة من اضطرابات في نومي، جعلت عشر ساعات متصلة من النوم أمرًا مستحيلاً، و لم يعد من الممكن أن تمر هذه الفترة دون أن استيقظ ثلاث مرات أو أربع، دون أي سبب واضح في كثير من الأحيان، استيقاظًا لا هو المذهب للنوم الجالب لليقظة و الانتباه، و لا هو الخالي من الهلاوس و الأوهام، ليتمزق نومي كل ممزق، و أفقد لذة فقدان الوعي المتصل الهاديء .. في الماضي التليد كان بإمكاني النوم لخمس عشرة ساعة متصلة دون أن أفيق إلا في نهاية الرحلة، أما الآن فلم يعد هذا في الإمكان على الإطلاق ..

و رغم أن هذا يسبب لي الكثير من الإزعاج و الإرهاق، إلا أنه أفرز في الوقت ذاته عددًا من المواقف، تقع كلها في تلك المنطقة الرمادية ما بين النوم و اليقظة، لست أنكر أنها أضحكتني حد الوقوع أرضًا، رغم أنها تقلقني لأسباب قد أذكرها لاحقًا .. على أية حال، فإنني أظن أن أبلغ مثالين على تلكم المواقف هذان اللذان سأرويهما ها هنا ..

أما الأول فأحب دائمًا أن أحكيه من نهايته، و نهايته كانت و أنا جالس وسط العائلة الكريمة في مساء أحد الأيام، و إذا بأمي تتساءل في اندهاش عن سر هذا البيض النيئ الذي لوث المطبخ، و تبقت آثار منه على حوض الأطباق و الصنبور، في ظل غياب تام لأي دليل يشير إلى قلي أو سلق أو ما شابه ..

و لأننا جميعًا كنا نجهل تمامًا عم تتحدث، فقد أبدينا دهشتنا مما تقول، و قد كنت أكثرهم دهشة و استغرابًا، لشعوري الدفين أن شيئًا ما مما تقول متعلق بي، لكنني لست أذكر و لا أستطيع أن أتذكر متى و لا أين و لا كيف و لا لماذا ..

ثم على حين غرة اشتعلت شمعة الذاكرة داخل تلافيف مخي الصدئة، و تذكرت ما كان ..

كان هذا في الليلة التي سبقت هذا المساء المليء بالدهشة و التساؤل .. أذكر أنني كنت أحلم، لكن عن أي شيء كان هذا الحلم فلست أذكر على الإطلاق، لكنني من ملابسات الحادث أقول إنه كان يتعلق بشكل أو بآخر بالطبخ و المطبخ .. استيقظت في جوف الليل، أو بمعنى أدق قمت عن السرير لكنني لم استيقظ بعد، و لا يزال الحلم دائرًا في مخيلتي، ثم توجهت إلى المطبخ ..

أذكر أن المصباح كان مضاءً، فاتجهت مباشرة إلى الثلاجة، و أخرجت منها بيضة انتقيتها بعناية، و لا زلت حتى هذه اللحظة اتساءل عن سر تدقيقي في الانتقاء، لكنني على يقين أنني لن أعرف قط .. تمتمت بأصوات غير مفهومة، و بعدما اطمئننت إلى البيضة و أنها هي المطلوبة، توجهت بها إلى الحوض و كسرتها على الصنبور، ثم وضعت كل نصف في يد، و أخذت أنقل المح من نصف إلى آخر، بينما الزلال يتساقط ذاهبًا إلى شبكة الصرف، حتى إذا فصلت كلاهما – المح و الزلال – أسقطت المح في يمناي، ملقيًا بالقشرة في صندوق القمامة القريب مني، ثم ضغطت مح البيضة الكائن في يميني فتفتت عنه ذلك الغشاء الذي يجعله شيئًا واحدًا، و لوث لونه الأصفر يمناي، التي وضعتها فوق يسراي و حركتهما سويًا كأنني أغسلهما في الوضوء، ثم مسحت شفتاي بالمح و أنا اتمتم أن كل شيء سيصير على خير ما يرام، و أن المقادير ستخرج مضبوطة هذه المرة (و هو الأمر الذي يجعلني أظن أن الحلم كان متعلقًا بالطبخ و المطبخ)، ثم غسلت يداي دون فمي، و أطفأت الأنوار و عدت إلى سريري أكمل نومي كأن شيئًا لم يكن ..

العجيب و المثير للدهشة ليس أنني نسيت تمامًا كل هذا، و لم أكن لأتذكره لولا أن أمي ذكرته، لكن العجيب هو أنني عندما تذكرت هذه التفاصيل، تذكرتها تجري أمامي كأشباح أحلامي .. ضبابية مشوشة أتذكر أغلبها كأحاسيس و خبرات شعورية أكثر منها صورًا  و مشاهدات، و هو الأمر الذي يعني أنني كنت لا أزال أحلم، رغم أنني – طبقًا لقوانين الطب التي درستها، أو هكذا أظن – تغيرت من وضع النائم إلى وضع المستيقظ، و هما وضعان يتمايز فيهما نشاط المخ تمايزًا كبيرًا، إلا إذا كان نشاط مخي واحدًا في الحالتين، و هو أمر لا استبعده حقيقة !

أما الموقف الثاني فكان مزعجًا و مثيرًا للتوتر طوال حدوثه، لكنني لم أتمالك نفسي من الضحك حقًا عندما تذكرته في الصباح ..

بدأ الأمر باستيقاظي – استيقاظًا حقيقيًا هذه المرة، و إن كان مشوبًا ببلبلة المستيقظ لتوه – على وخز قوي في جانب صدري الأيسر، مع فشل مزر في التقاط أنفاسي .. استيقظت ملتاعًا مفزوعًا و لم يكن بخاطري سوى شيء واحد؛ هذه ذبحة صدرية غير مستقرة، أو لقرائي من الأطباء Unstable Angina .. كان هذا أول ما جال بخاطري لأسباب عدة، أولها أنني حتى وقت قريب – أربع سنوات مضت – كنت على شفا حفرة منها، و لأن الوخز جاء في الجانب الأيسر، و لأنني لم أكن قادرًا بحال على التقاط أنفاسي و كلما حاولت فشلت و ازداد الألم أكثر ..

كنت مفزوعًا و لا شك، و أحاول بشتى الطرق أن أذهب الألم و أن التقط أنفاسي، و سيطرت عليّ فكرة واحدة: لا بد أن ابتلع قرص نيتروجلسرين الآن و دون إبطاء، لكن السؤال المنطقي: من أين لي بهذا ؟!

والدي يمتلك مكتبة عريضة من الأدوية، لكنه لم يضف إليها أدوية الذبحة الصدرية بعد، و هو ما يعني أنني إما أن ألقى حتفي، أو أن أذهب لأقرب صيدلية لأشتري منها .. لست أدري أي شيء اخترت من هذا، لكن الأكيد أن القرار الذي حظي بالتنفيذ هو أنني عدت إلى النوم كجوال الرمل .. جثة تغط في نوم عميق احتل البحث عن النيتروجلسرين كل مشاهده ..

كنت أبحث في لهفة محمومة .. اعتصر ذاكرتي عل قرصًا فر هنا أو هنالك، أو أتى خطأ إلى منزلنا، و عندما أعياني التفكير، أخذت أبحث في تلافيف مخي عن مصدر آخر للنيتروجليسرين غير الأدوية، و قفز لذهني أن أبحث عن طعام يحمل بين جزيئاته تلك المادة التي أصبحت معلقًا بها كقشة الغريق ..

أعياني التفكير مرة أخرى فاستيقظت لأكمل البحث المحموم، خاصة و أن الوجع كان على حاله لم يتغير، إن لم يكن قد زاد عن السابق .. قمت عن مرقدي و أخذت أتجول في المنزل .. ذهبت إلى الصيدلية التي يحتفظ فيها والدي بأدويته و بحثت فلم أجد، ثم ذهبت إلى المطبخ فلم أجد لدينا أي شيء من اللحوم المصنعة – اللانشون، البلوبيف، البسطرمة – و التي هي غارقة في النترات كمواد حافظة، و مكسبات للون الأحمر الزاهي ..

أعياني التفكير مرة ثالثة فعدت إلى النوم العميق هذه المرة بلا أحلام و لا إزعاج، اللهم إلا بعض المناوشات حول أفضل سبيل لعلاج ما أنا فيه قبل أن يتطور الأمر إلى ما لا تحمد عقباه، و لست أدري كيف كان ليتطور، و هو الذي لو كان به شيء مما توهمت لقضى عليّ من أول مرة استيقظت فيها، لكن حالة البلبلة و الاضطراب كانت أكبر من أن اتنبه لأي تفاصيل ..

عندما استيقظت في الصباح الباكر و أخذت أفكر – و أنا في كامل وعيي – فيما حدث في تلك الليلة الطويلة، و أتدارس هذا الألم الذي ألمّ بي و أحلله، وجدت أن الأمر لم يتعد التهابًا بسيطًا في الغشاء البلوري المبطن للقفص الصدري، لكن عقلي الباطن مدفوعًا بحالة التوتر التي أعيشها تلك الأيام – و لدراسة الطب فيها النصيب الأكبر – أحالت أبسط الأشياء إلى مشكلة كبرى، زادها بلة حالة اللانوم و اللايقظة التي بت أعاني منها مؤخرًا ..

قلت في بداية الحديث أن ما يحدث يقلقني بقدر ما يضحكني، و هو يقلقني ليس لأنه يعني مباشرة أن دفاعاتي النفسية ضد صروف الضغط العصبي تنهار شيئًا فشيئًا، و أولى دفاعاتي هي اللاوعي الذي أطلق عقاله أثناء نومي فيقتص لي من كل ما حدث طوال النهار، بل لأنني أدرك أنا ما أواجهه الآن ليس سوى غيض من فيض، و أن الضغط العصبي الحقيقي آت بضراوة و هو لا يشبه هذا الذي أنا فيه إلا في الاسم، و هو ما يعني أنني قد أصبح نزيلاً ممتازًا في أي مصحة نفسية مع أول اختبار حقيقي في هذه الحياة ..

إلا أنني رغم هذا التفكير السوداوي المقبض، أؤمن إيمانًا عميقًا أنه ما من هم يأتي فيقصم ظهر ابن آدم، إلا و يأتي معه فرجه ..

13.9.11

نفسي أطلع رقاصة !


لا بد أن العنوان قد صدمك – و ربما لم يفعل – و هو الشعور ذاته الذي انتابني عندما عشت هذا الموقف عندما كنت في الصف الرابع الإبتدائي .. كانت فتاة جديدة وفدت إلى مدرستنا و انضمت إلى فصلنا، و لم أكن أرتاح لها كثيرًا .. لم أكن اجتماعيًا – و لا زلت في الواقع – و كان من الصعب أن اتآلف بسرعة مع الغرباء – و لا زلت أيضًا – إلا أن هذا لم يكن وحده السبب وراء عدم ارتياحي لها .. كنت أشعر أن بها شيئًا مريبًا عجيبًا، حتى اسمها لم يكن مستساغًا بالنسبة لي – و أظنه كذلك حتى هذه اللحظة .. ميرام .. من أي جحيم أتى هذا الاسم ؟!

لنعد للموقف المعنيّ .. كنا ننتظر دورنا في طابور طويل ينتهي عند مُعلمتي إحسان – أنعم الله عليها ببركة العمر و حسن الخاتمة – كي نصحح التمرين اللغوي الذي أنهيناه للتو، و على حين غرة فوجئت بها و قد انتفخت أوداجها، و أحمر وجهها الأسمر، و جحظت عيناها و علا صوتها الذي كان عاليًا دومًا، و إذا بها تنظر بكل هذا التوعد و التهديد الكائن في ملامحها إلى هذه الميرام و تقول: "يا قليلة الأدب يا معفنة .. في بنت محترمة تقول كده ؟! في بنت محترمة تقول أنا عاوزة أبقى رقاصة ؟!"

أما ما حدث فهو أن جارتها عندما بلغها دورها في التصحيح وشت بما كان بينهما من حديث عن المستقبل، و الذي صدمتها فيه ميرام بهذا القول العجيب، الذي أورثني صدمة أضافت سببًا آخر فوق أسبابي كي أتوجس خيفة من هذه الفتاة ..

و لعلك تتساءل، لم أقص على مسامعك هذا الموقف ؟ أما الإجابة فستأتي لاحقًا في سياق هذا المقال، و لكن دعني قبلها أقص عليك موقفًا آخر ..

في حقيقة الأمر هو ليس موقفًا بالتحديد، بل عدة مواقف تدور حول سؤال رئيس: "نفسك تطلع إيه لما تكبر ؟!" .. و الحقيقة الدامغة التي لا نقاش فيها أنني قد التحقت بكلية الطب منذ خمس سنوات، و هو ما يعني أن "الفاس وقعت في الراس" و لربما وصلت إلى العَجُز، و هو ما يعني أيضًا أن إجابة هذا السؤال قد قيلت و قيلت حتى شبعت و شبع السامعون منها، لكنني أرى رغم هذا أن القطار لا يقف بالضرورة ها هنا ..

و أعنى بهذا القطار إجابة السؤال؛ فجسديًا أنا لم أصبح شيخًا بعد، و لا يزال بي بقية من قوة الشباب و عزمه، اللذين استهلك أغلبهما إرهاق النفس و الروح في مقاومة صنوف العذاب في هذه الدنيا، لكن المحصلة واحدة في النهاية، و هي أنه يمكنني اعتبار دراسة الطب محطة لا نهاية خط ..

و حقيقة الأمر أنني لم أر نفسي مطلقًا في ثوب الطبيب البشري، و كلما سألني أحدهم هذا السؤال في صغري فإن إجابة من ثلاث كانت تتراقص في ذهني ..

أما الأولى فهي مدرس لمادة التاريخ الفرعوني، أو باحث فيه، أنقب في الصحاري و استكشفها، ممنيًا نفسي باكتشاف كاكتشاف كارتر الأسطوري .. مقبرة كمقبرة توت عنخ آمون تُفتح على يديّ، رغم أنني لا أتحمل الحر كثيرًا أو قليلاً، حتى و إن كنت أفضله على البرودة، إلا أنه يظل خيارًا مدمرًا بالنسبة لي ..

و أما الثانية فهي مهندس إليكترونيات و مبرمج، رغم أن مرأى الأرقام يربكني، و ليس من شيء في الوجود يقلب كياني رأسًا على عقب كعلم الرياضيات، و ليس من شيء يشعرني بغبائي المستتر و الظاهر كالعمليات الحسابية على اختلاف ضروبها ..

و أما الثالثة فهي طبيب بيطري، رغم أنني كنت أخشى القطط كالموت حتى بلوغي السادسة تقريبًا، و لا زلت أخشى الكلاب ما صغر منها و ما كبر، و أخشى الاقتراب من الدجاج و الإوز و سائر الطيور حتى لا تنقرني بمنقارها، و أكره الاقتراب من البهائم ما كان منها على أربعة أو ما كان منها على اثنتين ..

و لا يعني هذا أنني أكتب هذا المقال أندب حظي العاثر الذي أوقعني في هذه الكلية المملة الهادمة للذات الروح و البدن، المدمرة لذكريات الماضي و أحلام المستقبل، بل على العكس تمامًا، فأنا أحب علم الطب و أراه كما رآه الشافعي يرحمه الله أنبل العلوم و أشرفها بعد علوم الشرع، لكن هذا لن يمنعني في الوقت نفسه أن أعلن أن كليتي الموقرة لا تنتمي بحال لا للكليات، و لا للطب، و من يقول بغير هذا فهو إما أعمى عمى لا شفاء منه أو متواطيء في تلك الجريمة النكراء التي تُرتكب في كل لحظة بحق عقولنا ..

على أية حال، فلعلك لاحظت أنني اخترت ثلاثة أشكال مختلفة للمستقبل، ليس لي فيها ناقة و لا جمل، و المؤهلات التي تطردني منها أكثر مما تشدني إليها، ثم إذا بي أختار الاختيار الرابع الذي لم يكن على اللائحة إطلاقًا، لارسم طريقي في الحياة به لأعوام مديدة قادمة، إن مد الله في عمري و خرجت منها سالمًا ..

و لربما فسر هذا لم أرى أن المحطة النهائية لم تحن بعد، و أن قطاري لم يبلغ نهاية طريقه حتى الآن، و لربما فسر هذا شعوري الدائم أنني لست أنا الذي يجب أن يكون، و أن "أنا" آخر ينتظرني في مكان ما لنتحد سويًا و نصبح "أنا" ثالثًا يفعل ما عجزت عنه و عجز عنه هذا الآخر ..

و لعلك لاحظت في الوقت ذاته – و هو أمر لا يحتاج نباهة في الواقع – أن الاختيارات الأربعة هي على النقيض تمامًا من أمنية ميرام التي افتتحت بها هذا المقال، و هذا يقودني للتساؤل الذي يشغل بالي حاليًا، من جملة ما يشغل بالي: أينا كان على صواب ؟

عندما سمعت تلك الكلمة من مُعلمتي مد الله في عمرها صُدمتُ صدمة حقيقية .. لم أتصور لحظتها أن أي شخص قد يتمنى لنفسه هذه المهنة المدمرة بكافة المقاييس، على المستوى الأخلاقي و الاجتماعي و النفسي .. دمار شامل .. لكنني عندما أنظر لاختيارها في هذه اللحظة الراهنة، بعد أن كسرتُ حاجز الثانية و العشرين أتساءل بصدق: أينا كان على صواب ؟

لربما كان اختيارها هذا – إن كان حقًا و صدقًا، و لست أظنه كذلك بالطبع – نابعًا من دراسة أشد عمقًا للواقع مما هي عليه دراستي، التي بنيت أركانها على عدد من المعطيات تتمثل في أن الدين و العلم و العمل هم الأساس، و أن ما بعدهم سيأتي حتمًا، بينما بنت هي دراستها على أن ما بعدهم يأتي قبلهم، ثم فليأتوا أو لا يأتوا، فالأمر سواء ..

لربما كانت تقرأ الواقع بصورة أفضل، و قد رأت أن الآية قد انقلبت فصارت اختياراتي الأربعة كهشيم تذروه الرياح، لا تكفل لمن اختارهم أي عيش كريم، بينما اختيارها يتهافت وراءه الناس رغم احتقارهم لمن يختارونه، في تناقض عجيب مريب .. لربما كان الأمر كذلك ..

لكنني على أية حال لا أصلح راقصة بالطبع، و في الوقت ذاته فإن المقابل الذكوري للراقصة لا يتفق معي بأية حال، و لا داعى للحديث عنه، فهو مخجل أيًا كانت درجة تلميحي إليه، حتى إنني كتبت توصيفه و مسحته ثلاث مرات قبل أن أقرر ألا أكتبه أو أدونه، و أي مهنة ذكورية خارجة على القانون – كي تتفق مع انحطاط مهنة الراقصة – لا تتفق مع إمكانياتي، لا الجسدية و لا النفسية، و لا تتفق مع طموحاتي في ترك بصمة مؤثرة بيضاء في تاريخ الكرة الأرضية ..

على أية حال، فإنني استخلص مما سبق حقيقتين أراهم جليتين؛ أما الأولى فهي أن الاختيارات التافهة قد تبدو هي الأقرب لفهم الواقع، و الأقرب لفهم من أين تؤكل الكتف إن شئنا الدقة، لكنها تظل في كل الأحوال اختيارات تافهة، لا تقدم و لا تؤخر، و لا تزيد و لا تنقص، و لا تترك خلف من اختارها إلا بصمة سوداء فاحم لونها لا تسر الناظرين بكل تأكيد ..

لربما كان اختيار ميرام هو الاختيار المؤدي مباشرة و دون حواجز إلى حياة رغدة كتلك التي ننشدها جميعًا، لكنها ستعيش و تموت كأنما هي هباء منثور لا يذكره أحد إلا بما لا يسر، و لربما كانت اختياراتي الأربعة مجتمعة – و غيرها – هي الاختيارات المؤدية مباشرة و دون حواجز إلى شظف العيش و صعوبته، و مكابدة ألوان التعب و الشقاء، لكنني في النهاية أراهن على الأثر على المدى البعيد، و هو رهان يبدو لكثيرين – و إلا لما انقلبت الآية من الأساس – رهانًا غبيًا خاسرًا ..

و أما الحقيقة الثانية فهي أن من اخترع لفظة "قطار الحياة" كان عبقريًا بحق، لكنه لم يكن دقيقًا بما يكفي؛ فالحياة ليس قطارًا يرتحل من محطة إلى أخرى حتى ينتهي بالقبر فيتكوم راكبه فيه، بلا سبيل للعودة للخلف، بل إن القطار نفسه هو المحطات .. كل عربة من عرباته العديدة هي مرحلة في حياتك، و بعدد ما في هذا القطار من عربات فحياتك ثرية أو فقيرة، و بقدر ما و من تحتويهم تلك العربات فحياتك ثرية أو فقيرة .. و كما أن تنقلك من عربة إلى أخرى هو أمر ميسور، فكذلك تنقلك من مرحلة لأخرى ذهابًا و عودة هو أمر ميسور .. ربما تترنح قليلا و ربما يستغرق منك الأمر بعض الوقت، لكن ما دام تنقلك يتم في إطار من العقلانية و المنطق فهو أمر ميسور .. بالطبع فإن وصول القطار إلى محطته الأخيرة هو الوصول الأول و الأخيرة، و لا سبيل للعودة منه إلا يوم نبعث، لكنني أتحدث عن الذهاب و العودة بينما نحن على هذه الأرض ..

ربما تحن في لحظة إلى يوم من أيام طفولتك البعيدة – حتى و إن كنت تراءها طفولة بائسة مثلي، لكن لها طعمًا مختلفًا لست تنكره رغم هذا .. ربما يتراءى لك أن تترك كل ما أنت فيه و تجرب شيئًا آخر .. لونًا آخر للحياة .. ربما و ربما و ربما .. كل الاحتمالات ممكنة طالما تراها كذلك .. لا تركن إلى عربة واحدة حتى تتجمد فيها، فهذا لن يضيف للعربة شيئًا، و سيأخذ منك الكثير ..

يموت من يرى أن ما هو فيه هو نهاية المطاف، و أنه قد وصل إلى المحطة التي سيظل فيها إلى أن يأخذه قطار حياته أخذًا حثيثًا إلى قبره .. يموت قبل أن يموت بكثير ..

على أية حال فإنني أعتذر منك إن كنت سببت لك صداعًا بلا طائل، فلست أراني قد قلت جديدًا بأية حال من الأحوال، اللهم إلا تشويهي لسمعة ميرام شر تشويه، و قذفها بكل شائنة تقريبًا، فإن قابلتها يومًا فأبلغها مني السلام و اعتذاري، و أخبرها أنني لم أكن أقصد، من وراء حديثي هذا كله، شرًا قط ..

1.9.11

طبيب القصر


تدور طائفة لا بأس بها من القصص الخيالية التي تصنف تحت ما يسمى في الإنجليزية Fantasy في فلك مجموعة محددة من الأفكار، تنحصر غالبًا في الأميرة التي تعاديها ساحرة شريرة، تلقي عليها بصنوف السحر و التعاويذ، فتلقيها في غيابات النوم العميق الأبدي اللانهائي، أو تقلبها ضفدعًا أو قطة أو ما شاءت من بني الحيوان، حتى يأيتها الموعود، الذي ينقذها مما هي فيه، و يزيل عنها سحر السحرة و تعاويذ المشعبذين، ثم تكون له و يكون لها، و تنتهي القصة بالبنين و البنات ..

قصتنا هذه المرة ليست كأولئك، رغم أنها تنتمي للمناخ نفسه، من قصور و قلاع، و ملوك و ملكات، و أمراء و أميرات، و حاشية متخمة بالنبلاء الطفيلين الذين يعيشون مع الملك و على الملك، و يتنفسون نفاقه و رياءه، و قد كان هو منهم ..

طفيلي كما ينبغي له أن يكون .. برغوث بشري متكامل الصفات، يتكئ على قدر هائل من الثقة بالنفس التي تكاد تصل إلى حد الانفجار، و يستند إلى قدر مهول من سعة الحيلة و الخبث جعلته يتفلت من مكائد دُبرت له بعدد شعر رأسه، الذي شاب بعضه لفرط ما رأى، لكنه رأى بالإضافة لما شيّبه ما نعّمه، فظل على ما هو فيه ..

و ما كان فيه أنه كان يشي بالكل، فالكل لديه سواء تحت حذائه، يصعد على أجسادهم و يتقرب بهم إلى الملك، الذي ازدادت محبته له رغم بغض الجميع له، و ارتفعت مكانته عنده رغم احتقار الجميع له، لكنه كان ينظر إليهم أجمعين كهباء منثور، طالما أنه قد ضمن العرش و ما فيه و مَن فيه ..

أما مَن في العرش فكان ملكًا ذا سلطان و هيبة، ثم أصبح ذا شيطان و خيبة، منذ أن أسلم أذنه إلى كل هماز بسوء مشاء بين الناس بما يضر و لا ينفع، و يؤخر و لا يقدم، و يهدم و لا يبني ..

أراك تتساءل أين الطبيب فيما يحدث؛ فالجو ممتليء بمؤامرات الحكم و السلطة، و طالبو الجاه و المنصب من الوشاة و المنافقين، و أين جو الخيال و الفانتازيا وسط رائحة الدم و السلطة التي تنتشر بين الكلمات .. أراك تتساءل، و هكذا كانت الأميرة في تلك اللحظة الفارقة في حياتها ..

كانت و أخوها على غير جبلة الوالد و الوالدة .. طيفان رقيقان كأنما اقتطعا من قوس قزح أو ندى الصباح، حالمان كفرسان المائدة المستديرة، ممتلآن بأمال عريضة تقاطعت – لسوء حظهما – مع آمال البرغوث البشري، فانقلب قوس قزح ظلمة، و اختفى ندى الصباح من على أوراق الشجر، و سقطت الأميرة طريحة الفراش ..

و كانت آمال البرغوث أن يعلو بناؤه أكثر و أكثر، و لم يكن له أن يفعل هذا إلا إذا وضع جسدًا بمنزلة جسد الأميرة تحت قدميه، و لم يكن جلالة الملك ليرفض طلبًا كهذا لصفيه و نديمه ..

يقول الناس إن آلام النفس أقسى من آلام الجسد ألف مرة، لكن النفس ليست كيانًا مسطحًا، بل هي كتلة متجانسة متنافرة من المشاعر و الانفعالات، مليئة بالتضاريس و الهضاب و المرتفعات، و الجرح فيها لا يلتئم بندبة خطية من نسيج ليفي ميْت فاقد لكل معاني الحياة، بل جرحها يلتئم – إن التأم – بجرح آخر أشد غورًا و أعمق سبيلاً، فلا سبيل إلى التئام و لا طريق إلى نسيان ..

فليؤتى بكل طبيب .. فليؤتى بكل نابغة في الطب .. فليؤتى بكل عبقري خبير تجرع صنوف العلاج و طرق التطبيب فليطببها .. فليؤتى بأي طبيب كان .. آتوني بهم أو لأقتلنهم أجمعين ..

و لا يجيب نداء الملك الملتاع الغاضب سوى طبيب واحد ..

طبيب واحد وحيد أتى من آخر بقعة في المملكة، و الأميرة على فراش الموت، نفس يخرج في هواء الأرض و نفس يصعد إلى جو السماء .. طبيب واحد وحيد في مقتبل عمره يحمل في قلبه عزم الشباب و حكمة الشيوخ أتى يقبل المهمة التي تنحى عنها الجميع ..

إذا رأيته شعرت أنه عصا المكنسة .. نحيف حتى تظن أنه غير موجود، بأنف رفيع حاد كالموسى و عينان حادتان صافيتان تخترقانك اختراقًا .. وجه حاد القسمات طيبها تشعر إذا نظرت إليه بهيبة، لكنها هيبة ترتاح إليها و تطمئن لصاحبها، و تفتح قلبك له على مصراعيه، تمامًا كما فعلت الأميرة ..

لم يكن يعرف شيئًا عن صراعات القصر و خبايا الحكم و دسائس السلطان، لكنه أدرك بحدسه أن الجو مشحون بطاقة سلبية رهيبة كاتمة للأنفاس مطبقة على الأنفس .. لم يكن غريبًا بالنسبة له أن تسقط الأميرة في مثل هذا الجو المشحون، فعدم سقوطها هو العجب ذاته ..

جس نبضها في هدوء و تفحصها في سرعة الخبير الذي يعرف أين يضع يده و متى يرفعها .. نظر إلى والديها في صمت ثم حول بصره إلى أخيها و أشار إليه دون كلام أن يبقى و أن يخرج جلالته و جلالتها .. الملك الغاضب الملتاع لم يعتد هذه المعاملة الآمرة، لكنه انصاع في آلية غريبة، مدفوعًا – ربما – بسحر شخصيته القوية، و انصرف ..

قال الطبيب إن أخته كجسد ليس بها شيء، لكن نفسها مهشمة ألف قطعة .. قال الطبيب إنه يريده أن يحكي، فروى، و سأله فأجاب .. لملم أدواته و أغلق حقيبته و طلب أن يتركوه يتجول في القصر، ففي القصر علاج الأميرة مما فيها ..

فتحت له الأبواب و ترك له الحبل على الغارب .. تجول و تفحص و رأى و سمع، ثم في النهاية أعلن أن شفاء الأميرة اليوم .. اليوم عند غروب الشمس تقوم الأميرة من مرقدها ..

 جلس إلى الأميرة و أمسك يمناها برقة كمن يمسك بلورًا يخشى عليه الكسر .. نظرت إليه تلك النظرة الخاوية التي تملأ عينيها منذ عدة أسابيع، فسكب عليها الشيء الكثير مما بداخله فتنفست بعمق .. أضاء عينيها بريق غاب عنها منذ أسابيع، و انفرجت شفتاها بشيء لم تنطقه، لكنه سمعه يدوي في أذنه .. أطبق على يداها بيده الأخرى و اقترب منها في صمت ثم دعاها للنهوض فنهضت ..

كان الجمع ينتظر في قاعة العرش .. الملك و الملكة و الأمير و البرغوث البشري، الذي صار كالبرغوث حقًا لا يفارق سيده .. دخل عليهم القاعة تتأبط يمناه .. تسير الهوينى لكنها تسير ثابتة .. نظرة عينيها تقول الكثير لكن من يفهم ما تقوله قليلون، و شفتاها المزمومتان تصرخان بجبال من الكلمات لكن الصم أكثر ممن يسمعون ..

وقفا في منتصف القاعة قبالة الملك الذي ألجمته الدهشة، كما ألجمت زوجه، فيما بدت البغضاء من عيني البرغوث تكاد تحرق الأرض و من عليها فتذرها قاعًا صفصفًا، لا ترى فيها عوجًا و لا أمتًا .. تركها و تقدم منفردًا و انحنى إجلالاً ثم تحدث ..

قال إن الأميرة لم تمرض بجسدها، بل إن روحها تمزقت كل ممزق .. قال إنه لا يعجب لهذا بقدر ما يعجب أنه تأخر جدًا .. كل شيء في القصر يدعو للسقم و المرض، و كل شبر يدعو للهلاك و العدم .. قال إن الملك يخطيء كل يوم ألف مرة إذ يصاحب مثل هذه الطفيليات و البراغيث المسماة بالنبلاء و الصفوة، و أنهم ليسوا نبلاء و ليسوا صفوة، بل مجموعة من المنتفعين الذين اعتادوا العيش على الملك، فلا هم نفعوه، و لا هو أمن شرهم ..

قال إن القصر امتلأ جوه برغبات مريضة في الوصول لهذا العرش .. مؤامرات تحاك بليل و بنهار، و أقنعة تغطي كل الوجوه، و خلف الوجوه أقنعة أخرى تغطي نفوسًا نتنة .. قال إن الأميرة لم تسقط صريعة المرض لأن ذا البرغوث أرادها لنفسه، بل كانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير ..

قال إن القصر تمايز إلى نور و ظلمة .. ظلمة تأكل من النور يومًا تلو الآخر، و نور ينزوي انزواءً .. قال و قال و قال، و الملك يستمع مبهوتًا كأنه لم يستمع لأحد من قبل، و كأنه يصطدم بفنون القول لأول مرة .. بهت كأنما يساق إلى موت، و اندفع من خلفه البرغوث يصرخ ..

قال إن هذا الطبيب يهذي و يخرف، و إنه يطمع لنفسه في ملك عريض إذ يحاول أن يكسب الملك إلى صفه بإن يوهمه أنه الناصح الأمين، و إنه يتقرب إلى الأميرة بحجة علاجها، لكن مراده من وراء هذا خبيث .. قال الطبيب أنه بمثل هذا ابتلع الظلام كل نور في القصر .. مثل هذا من البشر لا يجد ما يمشي به بين الناس إلا الوشاية و خبيث القول و العمل، و أن أذن الملك ملأت قلبه و عقله خَبَثًا و زورًا عندما أنفذت كلام هذا البرغوث إليه ..

قال إن المُلك يفسد إذا صار في مهب ريح الوشاية السَموم .. قال إن الأميرة ليست مريضة، بل هي الوحيدة ذات الصحة و العافية، و أن من سواها في هذا القصر مرضى حتى الثمالة .. قال و قال و قال، و الملك و الملكة و الأمير يستمعون في صمت، و برغوث بني البشر يرغي و يزبد أن اقتلوا هذا الأفاق المنافق الكذاب، و للمرة الأولى ينظر إليه الملك باحتقار ..

قال الطبيب و روى مما رأي .. هل كان ذا الذي أرسلته إلى أقاصي الأرض بعيدًا عن أهله و أحبابه، جلالتك، لجرم ارتكبه، أم لوشاية من واش لم تتكلف حتى عناء التحقق منها ؟ هل ذا الذي أقطعته أرضًا يموت الفرس الأدهم تعبًا قبل أن يبلغ منتهاها، جلالتك، يستحقها، أم لحلو كلام و معسول حديث نافقك به أقطعتها إياه ؟ هل ذا الذي إلى يمينك يستحق منزلته، أم وصلها على أجساد العباد ؟ هل ترى، جلالتك، أنك حقًا الملك، أم أنك سلّمت المُلك إلى هؤلاء ؟

ثم قام الملك عن عرشه، و أشار إلى الحرس أن اطحنوا هذا البرغوث طحنًا فلا تذروا منه لحمًا و لا عظمًا .. قال للطبيب أن له أن يسأله ما يشاء، فقد أراه ما لم يكن يرى، و أسمعه ما لم يكن يسمع، فسأله الرحيل .. أمسكت الأميرة بيده فزعة جزعة .. قالت إنه كمن يمنحها هواء الدنيا ثم يكممها بيديه، فكيف يرحل .. قال إن هواء الدنيا لا يمنحه أحد لأحد، و هو لم يفعل شيئًا إلا أنه أزاح الغطاء، فلها أن تملأ صدرها كما شاءت .. هو طبيب يداوي، لكن ما بعد الدواء هو شأنها هي فحسب ..

قال للملك إن الطفيليات تتكاثر في الظلمة، و تنمو على العطايا و المنح، و هي في كل الأحوال لا فائدة من ورائها، و لا نفع منها يرتجى .. قال إنه قد أتم ما أراد و ما أريد، و إنه لا مستقر له ها هنا بعد الآن ..

سار مبتعدًا تحوطه غلالة خفيفة من ضباب المساء، تتابعه الأميرة من نافذتها، و قد خيل إليها أن نورًا ينبعث منه، ثم خيل إليها كأنما استحال يمامة طارت مبتعدة ثم استحالت نقطة نور في السماء، لكنها لم يتسن لها أن تعرف الحقيقة قط ..

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar