22.9.11

أحلام الفتى الدائخ - الحلم الثالث عشر


الحلم الثالث عشر: ما بين النوم و اليقظة

بت أعاني في الفترة الأخيرة من اضطرابات في نومي، جعلت عشر ساعات متصلة من النوم أمرًا مستحيلاً، و لم يعد من الممكن أن تمر هذه الفترة دون أن استيقظ ثلاث مرات أو أربع، دون أي سبب واضح في كثير من الأحيان، استيقاظًا لا هو المذهب للنوم الجالب لليقظة و الانتباه، و لا هو الخالي من الهلاوس و الأوهام، ليتمزق نومي كل ممزق، و أفقد لذة فقدان الوعي المتصل الهاديء .. في الماضي التليد كان بإمكاني النوم لخمس عشرة ساعة متصلة دون أن أفيق إلا في نهاية الرحلة، أما الآن فلم يعد هذا في الإمكان على الإطلاق ..

و رغم أن هذا يسبب لي الكثير من الإزعاج و الإرهاق، إلا أنه أفرز في الوقت ذاته عددًا من المواقف، تقع كلها في تلك المنطقة الرمادية ما بين النوم و اليقظة، لست أنكر أنها أضحكتني حد الوقوع أرضًا، رغم أنها تقلقني لأسباب قد أذكرها لاحقًا .. على أية حال، فإنني أظن أن أبلغ مثالين على تلكم المواقف هذان اللذان سأرويهما ها هنا ..

أما الأول فأحب دائمًا أن أحكيه من نهايته، و نهايته كانت و أنا جالس وسط العائلة الكريمة في مساء أحد الأيام، و إذا بأمي تتساءل في اندهاش عن سر هذا البيض النيئ الذي لوث المطبخ، و تبقت آثار منه على حوض الأطباق و الصنبور، في ظل غياب تام لأي دليل يشير إلى قلي أو سلق أو ما شابه ..

و لأننا جميعًا كنا نجهل تمامًا عم تتحدث، فقد أبدينا دهشتنا مما تقول، و قد كنت أكثرهم دهشة و استغرابًا، لشعوري الدفين أن شيئًا ما مما تقول متعلق بي، لكنني لست أذكر و لا أستطيع أن أتذكر متى و لا أين و لا كيف و لا لماذا ..

ثم على حين غرة اشتعلت شمعة الذاكرة داخل تلافيف مخي الصدئة، و تذكرت ما كان ..

كان هذا في الليلة التي سبقت هذا المساء المليء بالدهشة و التساؤل .. أذكر أنني كنت أحلم، لكن عن أي شيء كان هذا الحلم فلست أذكر على الإطلاق، لكنني من ملابسات الحادث أقول إنه كان يتعلق بشكل أو بآخر بالطبخ و المطبخ .. استيقظت في جوف الليل، أو بمعنى أدق قمت عن السرير لكنني لم استيقظ بعد، و لا يزال الحلم دائرًا في مخيلتي، ثم توجهت إلى المطبخ ..

أذكر أن المصباح كان مضاءً، فاتجهت مباشرة إلى الثلاجة، و أخرجت منها بيضة انتقيتها بعناية، و لا زلت حتى هذه اللحظة اتساءل عن سر تدقيقي في الانتقاء، لكنني على يقين أنني لن أعرف قط .. تمتمت بأصوات غير مفهومة، و بعدما اطمئننت إلى البيضة و أنها هي المطلوبة، توجهت بها إلى الحوض و كسرتها على الصنبور، ثم وضعت كل نصف في يد، و أخذت أنقل المح من نصف إلى آخر، بينما الزلال يتساقط ذاهبًا إلى شبكة الصرف، حتى إذا فصلت كلاهما – المح و الزلال – أسقطت المح في يمناي، ملقيًا بالقشرة في صندوق القمامة القريب مني، ثم ضغطت مح البيضة الكائن في يميني فتفتت عنه ذلك الغشاء الذي يجعله شيئًا واحدًا، و لوث لونه الأصفر يمناي، التي وضعتها فوق يسراي و حركتهما سويًا كأنني أغسلهما في الوضوء، ثم مسحت شفتاي بالمح و أنا اتمتم أن كل شيء سيصير على خير ما يرام، و أن المقادير ستخرج مضبوطة هذه المرة (و هو الأمر الذي يجعلني أظن أن الحلم كان متعلقًا بالطبخ و المطبخ)، ثم غسلت يداي دون فمي، و أطفأت الأنوار و عدت إلى سريري أكمل نومي كأن شيئًا لم يكن ..

العجيب و المثير للدهشة ليس أنني نسيت تمامًا كل هذا، و لم أكن لأتذكره لولا أن أمي ذكرته، لكن العجيب هو أنني عندما تذكرت هذه التفاصيل، تذكرتها تجري أمامي كأشباح أحلامي .. ضبابية مشوشة أتذكر أغلبها كأحاسيس و خبرات شعورية أكثر منها صورًا  و مشاهدات، و هو الأمر الذي يعني أنني كنت لا أزال أحلم، رغم أنني – طبقًا لقوانين الطب التي درستها، أو هكذا أظن – تغيرت من وضع النائم إلى وضع المستيقظ، و هما وضعان يتمايز فيهما نشاط المخ تمايزًا كبيرًا، إلا إذا كان نشاط مخي واحدًا في الحالتين، و هو أمر لا استبعده حقيقة !

أما الموقف الثاني فكان مزعجًا و مثيرًا للتوتر طوال حدوثه، لكنني لم أتمالك نفسي من الضحك حقًا عندما تذكرته في الصباح ..

بدأ الأمر باستيقاظي – استيقاظًا حقيقيًا هذه المرة، و إن كان مشوبًا ببلبلة المستيقظ لتوه – على وخز قوي في جانب صدري الأيسر، مع فشل مزر في التقاط أنفاسي .. استيقظت ملتاعًا مفزوعًا و لم يكن بخاطري سوى شيء واحد؛ هذه ذبحة صدرية غير مستقرة، أو لقرائي من الأطباء Unstable Angina .. كان هذا أول ما جال بخاطري لأسباب عدة، أولها أنني حتى وقت قريب – أربع سنوات مضت – كنت على شفا حفرة منها، و لأن الوخز جاء في الجانب الأيسر، و لأنني لم أكن قادرًا بحال على التقاط أنفاسي و كلما حاولت فشلت و ازداد الألم أكثر ..

كنت مفزوعًا و لا شك، و أحاول بشتى الطرق أن أذهب الألم و أن التقط أنفاسي، و سيطرت عليّ فكرة واحدة: لا بد أن ابتلع قرص نيتروجلسرين الآن و دون إبطاء، لكن السؤال المنطقي: من أين لي بهذا ؟!

والدي يمتلك مكتبة عريضة من الأدوية، لكنه لم يضف إليها أدوية الذبحة الصدرية بعد، و هو ما يعني أنني إما أن ألقى حتفي، أو أن أذهب لأقرب صيدلية لأشتري منها .. لست أدري أي شيء اخترت من هذا، لكن الأكيد أن القرار الذي حظي بالتنفيذ هو أنني عدت إلى النوم كجوال الرمل .. جثة تغط في نوم عميق احتل البحث عن النيتروجلسرين كل مشاهده ..

كنت أبحث في لهفة محمومة .. اعتصر ذاكرتي عل قرصًا فر هنا أو هنالك، أو أتى خطأ إلى منزلنا، و عندما أعياني التفكير، أخذت أبحث في تلافيف مخي عن مصدر آخر للنيتروجليسرين غير الأدوية، و قفز لذهني أن أبحث عن طعام يحمل بين جزيئاته تلك المادة التي أصبحت معلقًا بها كقشة الغريق ..

أعياني التفكير مرة أخرى فاستيقظت لأكمل البحث المحموم، خاصة و أن الوجع كان على حاله لم يتغير، إن لم يكن قد زاد عن السابق .. قمت عن مرقدي و أخذت أتجول في المنزل .. ذهبت إلى الصيدلية التي يحتفظ فيها والدي بأدويته و بحثت فلم أجد، ثم ذهبت إلى المطبخ فلم أجد لدينا أي شيء من اللحوم المصنعة – اللانشون، البلوبيف، البسطرمة – و التي هي غارقة في النترات كمواد حافظة، و مكسبات للون الأحمر الزاهي ..

أعياني التفكير مرة ثالثة فعدت إلى النوم العميق هذه المرة بلا أحلام و لا إزعاج، اللهم إلا بعض المناوشات حول أفضل سبيل لعلاج ما أنا فيه قبل أن يتطور الأمر إلى ما لا تحمد عقباه، و لست أدري كيف كان ليتطور، و هو الذي لو كان به شيء مما توهمت لقضى عليّ من أول مرة استيقظت فيها، لكن حالة البلبلة و الاضطراب كانت أكبر من أن اتنبه لأي تفاصيل ..

عندما استيقظت في الصباح الباكر و أخذت أفكر – و أنا في كامل وعيي – فيما حدث في تلك الليلة الطويلة، و أتدارس هذا الألم الذي ألمّ بي و أحلله، وجدت أن الأمر لم يتعد التهابًا بسيطًا في الغشاء البلوري المبطن للقفص الصدري، لكن عقلي الباطن مدفوعًا بحالة التوتر التي أعيشها تلك الأيام – و لدراسة الطب فيها النصيب الأكبر – أحالت أبسط الأشياء إلى مشكلة كبرى، زادها بلة حالة اللانوم و اللايقظة التي بت أعاني منها مؤخرًا ..

قلت في بداية الحديث أن ما يحدث يقلقني بقدر ما يضحكني، و هو يقلقني ليس لأنه يعني مباشرة أن دفاعاتي النفسية ضد صروف الضغط العصبي تنهار شيئًا فشيئًا، و أولى دفاعاتي هي اللاوعي الذي أطلق عقاله أثناء نومي فيقتص لي من كل ما حدث طوال النهار، بل لأنني أدرك أنا ما أواجهه الآن ليس سوى غيض من فيض، و أن الضغط العصبي الحقيقي آت بضراوة و هو لا يشبه هذا الذي أنا فيه إلا في الاسم، و هو ما يعني أنني قد أصبح نزيلاً ممتازًا في أي مصحة نفسية مع أول اختبار حقيقي في هذه الحياة ..

إلا أنني رغم هذا التفكير السوداوي المقبض، أؤمن إيمانًا عميقًا أنه ما من هم يأتي فيقصم ظهر ابن آدم، إلا و يأتي معه فرجه ..





ليست هناك تعليقات:

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar