28.12.09

الوصايا الألف .. العشرة الرابعة

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الواحدة و الثلاثون: لا تتزوج من كان جمالها مشاعًا للجميع، فأغلب الظن أنك لن تتزوجها وحدك، و أن ألف عين تزوجتها قبلك
الوصية الثانية و الثلاثون: أولى مراتب الفشل أن ترغب فيه
الوصية الثالثة و الثلاثون: كن أنت، فإن لم تستطع فلا تكن غيرك
الوصية الرابعة و الثلاثون: أحلامك أوامر .. أنت من سينفذها
الوصية الخامسة و الثلاثون: يموت المرء و في نفسه شيء لم يحققه بعد .. اعمل جاهدًا أن تجعل هذا الشيء كأصغر ما يمكن
الوصية السادسة و الثلاثون: ما نقص من مالك ما وعظك، و ما زاد في مالك ما أطغى قلبك
الوصية السابعة و الثلاثون: بعض الرغبات تقتل، فاقتلها قبل أن تفعل
الوصية الثامنة و الثلاثون: إن كنت ترضى العيش بذلة، فلا تمتشقن الحسام اليمانيا
الوصية التاسعة و الثلاثون: اغترف من اللهو ما شئت، لكن إذا وقعت الطامة فلا تبك
الوصية الأربعون: لا تجعل من نفسك عذرًا يبرر الآخرون به أخطاءهم

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

26.12.09

القوة هي الحل، و أشياء أخرى


"جريدة الدستور – الإسكندرية – حسام الوكيل:
اعتصم ما يزيد علي 500 طالب وطالبة بكلية طب الإسكندرية أمام مكتب د. محمود الزلباني- عميد الكلية- احتجاجاً علي الاعتداء علي أحد طلاب الإخوان المسلمين أثناء توزيعه مذكرات علي الطلبة بأمر من أحد وكلاء الكلية.
وأكد محمد محفوظ- أحد الطلاب المعتصمين- أن طلاب الإخوان يقومون بجمع الامتحانات السابقة في المواد المختلفة وتجميعها في مذكرة تشمل أهم الأسئلة وأشار إلي أنه أثناء قيام محمد النمر- أحد طلاب الإخوان بالفرقة الرابعة بالكلية- بتوزيع المذكرة علي الطلبة قام وكيل الكلية بمصادرة المذكرات وأمر عدد من العمال بالاعتداء علي الطالب، حتي أصيب بكدمات وسحجات مختلفة ونزيف في الأنف والفم، الأمر الذي دفع مئات الطلاب إلي الاعتصام أمام مكتب عميد الكلية لمطالبته بالتحقيق في الواقعة مطالبين بإقالة وكيل الكلية الذي يمارس أعمال تعسفية مع الطلاب ويعتدي عليهم ورفعوا لافتات تفيد نفس المعني، إلا أن عميد الكلية رفض مقابلة الطلاب وقال: أنا اللي قلت له يعمل كده ولو مش عاجبكم روحو اشتكوني."

حدث هذا يوم الثلاثاء الماضي، الثاني و العشرون من ديسمبر، و رغم أنني لم أشهد الواقعة، لا في حينها أو حتى يومها، إلا أنني سمعت بها من أناس أثق بهم .. محمد النمر أعرفه شخصيًا و أثق به، لكنني سأحاول أن أتحدث من منظور موضوعي بحت .. رغم تعاطفي و تصديقي الكامل لرواية النمر، إلا أنني سأحاول جاهدًا التزام خط الوسط ..
لنبدأ من العام الماضي .. جذور المسألة تنتمي إلى العام الماضي، عندما صدر قرار بتعيين الدكتور أحمد عثمان أستاذ طب و جراحة العيون في منصب وكيل الكلية لشئون الطلاب، و هو الوكيل المعني في الخبر المذكور أعلاه .. أنا لا أنتمي لتيار بعينه – الإخوان مثلاً – حتى تبرر به عدم ارتياحي له، بل أعتبر نفسي من فئة المصريين المموهين، الذي يسيرون مع التيار الذي يشعرون أنه على حق .. دكة الاحتياطي السياسي إذا أردت تعبيرًا أدق ..
المهم أنني رغم هذا لم أشعر بالراحة منذ تعيين د. أحمد عثمان في منصب الوكيل، و ذلك من جملة التغيرات التي حدثت في الكلية، و لعل أهمها و أكثرها اتصالاً بموضوعنا هذا هو إغلاق كافة السبل الممكنة أمام أي نشاط طلابي "غير رسمي"، و اللارسمية هنا تعني عدم الانتماء لاتحاد الطلاب ..

بالطبع كان نصيب تيار الإخوان، و التيار الإسلامي بشكل أعم، من هذا التضييق هو نصيب الأسد، باعتبارهم تيار محظور من قبل الدولة من الأساس، بل إنني أذكر أن أحد أصدقائي المقربين قال لي أنه – أي د. أحمد عثمان – انتقل من وظيفة عميد كلية الطب بجامعة بيروت العربية إلى وظيفة وكيل كلية الطب بجامعة الإسكندرية، لا لشيء إلا ليفعل هذا .. ليقطع ألسن الجميع ..

لا أريد تحويل المقال لوصلة عزف منفرد في سب هذا الرجل، و التشنيع ضده، لأنني إذ أفعل هذا أجعل من نفسي عرضة للشرب من الكأس ذاته، لكنني أذكر الوقائع ليس إلا .. المهم أن العام الماضي لم يسلم من واقعة كهذه، لكنها مرت بسلام .. الحق أنها مُررت بذكاء ..
كنت جالسًا أنا و نفر من الأصدقاء نراجع ما سنمتحن فيه بعد لحظات، و إذ بنا نفاجيء بصوت يعلو، و صراخ يأتي من مكان قريب، لنكتشف أن أحد زملاءنا كان يقوم بالعمل ذاته الذي أثار مشكلة هذه المرة، و قد أتى أحد العمال ليصرفه، فتصرف هذا الزميل العزيز بمنطق "خدوهم بالصوت" و جعجع بالشيء الكثير، و الحق أنه لم يكن على حق في كثير مما قال لحظتها، بل شعرت أنه يريد كسب تعاطف أكثر من كسب موقف .. على أية حال، ما يدفعني للقول أنها مُررت بذكاء أن كل ما حدث هو أن تركه العامل يكمل كلامه، ثم حمل الطاولة و الورق بعيدًا، و فض التجمع القائم .. لا ضوضاء .. لا اعتداء .. لا مشاكل .. و السؤال هنا، لماذا لم يتم الأمر بهذه الطريقة هذه المرة أيضًا؟
في مكالمته مع برنامج 90 دقيقة صرح د.أحمد عثمان وكيل الكلية أن الجامعة لها نظام وقواعد يجب أن يتم احترامها وليس من المسموح تجميع الملازم والمذكرات كما أنه ليس من المسموح عمل أحزاب داخل الحرم الجامعى، أو استخدام الميكروفون كما فعل الطالب، وأنكر د. أحمد عثمان أن يكون قد تم الاعتداء على الطالب داخل الحرم الجامعى، حسب ما كتبته اليوم السابع .. مسألة تقنين طبع و تجميع الملازم طرحت خصيصًا بسبب التيار الإسلامي .. مذكرة بثلاثة جنيهات تحوي 90 بالمائة من المطلوب، و هي قشة النجاة لمن أراد الانتقال للعام المقبل و كفى، و هي مضمونة لأنها لا تخترع شيئًا جديدًا .. مجرد تجميع، رغم أنني أشهد أن بعضها كان يخرج أحيانًا عن المنهج، لكنها في النهاية كانت جيدة ..

فيما يفعل الإخوان هذا، كان المقابل في اتحاد الطلاب – الجهة الرسمية – هزيلاً .. مجهود ضعيف، يمر أمامي و أمام الكثيرين كالحلم .. الشيء الوحيد الذي أفلح، و ما زال يفلح فيه اتحاد الطلاب هو تنظيم الرحلات، و الحفلات، و الندوات .. أمور مهمة، لكنها ثانوية، و البعض مثلي و مثل كثيرين لن تهمهم هذه الأشياء .. و حتى لا أكون جاحدًا، هناك أيضًا بعض المراجعات المجانية في الدروس العملية في المواد المختلفة ..
و هكذا حتى يظهر الضعيف، لا بد للطرف الجيد أن يختفي، و هذا ما حدث .. بالطبع ليس هذا هو السبب الوحيد، فتيار الإخوان محظور من قبل الدولة– رسميًا – و موقف الكلية لن يخالف موقف الدولة الرسمي بطبيعة الحال، و كل طريقة تضعفه هي إسهامة و إضافة للدولة، و خطوة تعلي من شأنها، لكنها هذه المرة اتخذت طابعًا عنيفًا بعض الشيء ..

السؤال الأول الذي تبادر إلى ذهني بعدما حدث ما حدث هو لماذا استخدام القوة رغم أن الدبلوماسية كانت كفيلة بحل الموقف تمامًا ؟ .. استدعاء صغير في نهاية اليوم إلى حجرة الوكيل أو العميد، و إنذار شديد اللهجة يوجه إليه على نطاق ضيق، و ينتهي الأمر .. لا ضوضاء .. لا مشاكل .. حدث هذا مع زميل آخر – لا ينتمي للإخوان – لكنه ابتدع هو و مجموعة من زملائه جمعية يحاولون بها خلق كيان مواز للجمعية العلمية و الاتحاد، و كانت النتيجة هي إنذار عنيف و تهديد بالفصل التام إذا تكررت نشاطات هذه الجمعية ..
لكن الواضح من الأمر أن التصرف جاء "عميانيًا" كدفاع الأسود و الفهود عن عرينها: "اللي حيقرب حاشرّحه، و مفيش تفاهم" .. أن يهبط وكيل الكلية من مكتبه، و رئيس الحرس الجامعي، من أجل طالب يوزع بعض المذكرات فهذا دليل لا على قوة التيار الإسلامي كما قال البعض، بل على ضعف التيار الرسمي، و احتمائه بالقوة المفرطة في مواجهة أي موقف .. يعزز هذا التحليل ما حدث في اليوم التالي تحسبًا لمظاهرات متضامنة، أن طوقت الكلية بسيارات الأمن، و أغلقت الأبواب جميعًا إلا باب واحد، للتحكم في الداخلين و الخارجين ..
بالطبع لم يبدأ الأمر بنزول الوكيل في نفر من القوات الخاصة و المدرعات، للإمساك بالطالب المنشق و تأديبه .. لا بد أن الأمر بدأ بهدوء .. حوار هاديء من فئة: "مش قلت لك يا محمد ما تعملش كده ؟ .. يا فلان، لم الورق ده"، و عندما بدأ العامل في لملمة المذكرات، اندفع محمد لحمايتها، لأنها ببساطة تكلف مالاً .. العامل الذي ينفذ هذا الأمر أكاد أجزم أنه من فئة أفراد الأمن المركزي: اضرب يعني اضرب .. مقاومة بسيطة من محمد، ليحمل الأوراق بعيدًا بهدوء، ليفاجأ بالعامل يحاول جذبها بعيدًا بالقوة كأنها مخدرات أو أقراص إباحية ستحرز .. و هكذا اشتعل الموقف ..

و التزامًا بخط الوسط، فمحمد كان مخطئًا من البداية .. الأمر يحتوي على مخاطرة كبيرة، و القيام به يمثل تحديًا لا فائدة من ورائه، بل يجلب وخيم العواقب، بالإضافة إلى أنه أنذر من قبل على ما أظن، لكن هذا بالطبع لا يبرر ما حدث ..
الاستخدام المفرط للقوة لا يعني سوى الضعف .. نسبة من يميلون للدكتور أحمد عثمان مقارنة بنسبة من لا يميلون إليه قليلة للغاية، و هم غالبًا مجموعة الطلاب من قيادات الاتحاد المستفيدين مباشرة منه، أما الغالبية العظمى، فالعمى إليهم أقرب من تصديقه .. هذا بالطبع يعني أن خط الدفاع الخلفي مفقود .. عندما أعلن عبد الناصر تأميم القناة، كان يعلم المآسي و الويلات التي يمكن أن يجرها هذا القرار على الشعب، لكنه كان مطمئنًا إلى أنهم في ظهره يأمنّونه و يأمنّون قراراته، و يستطيع الاعتماد عليهم .. ها هنا ليس من شيء كهذا، بل كل الخطوط الخلفية مكشوفة، و هو بالطبع ما يدفع الإدارة – متمثلة في شخصه – لاستخدام أعنف الوسائل لتحقيق المطلوب من ناحية، و لإخافة القلة الباقية من ناحية أخرى .. "اضرب المربوط يخاف السايب" في أبهى حالاته ..
ثم إن الاعتداء بالضرب على أحد الطلاب داخل كلية طب الإسكندرية لم يحدث من قبل على قدر علمي، و هي سابقة يجب أن تسجل، و تدل في الوقت ذاته على انخفاض مستوى التعامل إلى درجة مزعجة و مقلقة ..

من استمع لفقرة 90 دقيقة التي تناول فيها معتز الدمرداش هذا الموضوع لا بد و أنه سمع عجبًا، و خرج أكثر حيرة مما دخل .. الطالب يؤكد أنه ضرب، و الوكيل – بطبيعة الحال – يؤكد أن الطالب يفتري .. شخصيًا، أنا أصدق كل حرف قاله محمد .. هو صديق أشهد له بالالتزام و الاحترام، و شهود الحادث هم أصدقائي الذين لا استطيع أن أشكك في صدقهم و صدق شهادتهم، لكنني لن أتوقف طويلاً عند هذه النقطة، بل أريد أن أذهب لأبعد منها ..
ما يلفت الأنظار هو كم الجرأة التي تحدث بها د. أحمد عثمان على الهواء مباشرة لينكر واقعة شاهدها العشرات على الأقل، و التقطت لها العدسات صورًا، بل و محاولة قلب الأمر على محمد، و اتهامه بالكذب و التلفيق، و أنه هو الذي بدأ بالضرب و التعدي على رجل يكبر والده بعشرة أعوام على الأقل .. الحقيقة أن هذه السياسة أصبحت سياسة الحكومة الرسمية: أنا أنا و ما سواي سرابُ، و كل ما فوق التراب ترابُ ..
يذكرني هذا بنكتة سمعتها منذ أيام عن جهاز جديد لكشف الكذب، يعتمد على صوت المتحدث دون توصيل أي أقطاب بجسمه .. بدأ المسئول الفرنسي الحديث عن برج إيفل، و أصالة الشعب الفرنسي و الأجبان الفرنسية، و كيف كان الفرنسيون أول من هبط على سطح القمر، فبدأ الجهاز في الصفير .. جاء دور المسئول الأمريكي ليتحدث فقال كلامًا عن قوة الاقتصاد الأمريكي، و عبقرية الشعب الأمريكي، و كيف أنه ساهم في حفر قناة السويس، فانطلق الجهاز يصفر .. ثم جاء دور المسئول المصري، فقال: "في الواقع .." و قبل أن يكمل كان الجهاز قد انفجر !

أعلم أن هذا الموقف سيأخذ فترة من الزمن ثم يفقد سخونته و يرقد على الرف بجوار زملائه الذين طواهم النسيان .. هل يذكر أحدكم مثلاً ما فعله عبد الله بظاظو الصيف الماضي ؟ .. الموضوع كان ساخنًا جدًَا، و استضيف الفتى في عدة محطات و عدة جرائد، و الآن ؟ .. لا شيء .. لهذا أعلم مسبقًا أن الأمر سيأخذ وقته ثم يمضي، و لهذا فأنا لست أكتب و استهلك كل هذه المساحة من أجل تحليل الموقف، أو الحصول على "جنازة أشبع فيها لطم" و أفرغ شيئًا من الغيظ بداخلي، بل الحقيقة أن هذه الحادثة فتحت الباب أمامي كي أتحدث في عدة نقاط طالما رغبت أن أتحدث فيها ..

أولى هذه النقاط طرحتها بالفعل، و هي استخدام القوة المفرطة في مواجهة أي موقف، أيًا كانت مواصفاته .. هاهنا هذا الحادث على سبيل المثال لا الحصر .. استرجع بذاكرتك كل الأحداث الماضية التي تعاملت فيها الحكومة مع أي موقف، و صنّف رد الفعل .. أزمة اللاجئين السودانيين .. المظاهرات .. الأزمات الغذائية و المائية المختلفة، كلها نفس السياسة و نفس التعامل .. القوة الغاشمة ..
النقطة الثانية هي الطريقة التي وضعها نظام ثورة يوليو لاختيار القيادات، و هي من اسوأ سيئاته و أشنعها .. "أهل الثقة قبل أهل الكفاءة" و ربما بدلاً من أهل الكفاءة ..
أنا لم أدرس كل القرارات التي اتخذها د. أحمد عثمان حتى أحكم عليه، لكن ما أراه أمامي كطالب يجعلني على درجة من اليقين أنه ليس الكفاءة الإدارية التي يمكنها أن تتحمل مسئولية كلية الطب في فترة حرجة كهذه الفترة التي تحاول فيها الحصول على الاعتماد، بحيث تصبح شهادتها على قدر من المصداقية لدى العالم الخارجي، لكنه بالطبع يستطيع أن يخرس الإخوان، و التيار الإسلامي، و كافة الأصوات التي ليست على هواه، و يجعل الجميع نائمًا في عسل أسود سرمدي، فلا ينشغل الطلبة سوى بالدراسة ثم الدراسة ثم الدراسة، و يقل الصداع الناشئ عنهم في رؤوس القوم .. يكفي تصرفه في الواقعة التي نتحدث عنها ..
و حتى لا أصبح محصورًا في هذا المثال الضيق، فلنستعرض سويًا أي مسئول في مصر .. الأمر ليس بحاجة لذكاء لمعرفة أن أهل الكفاءة يحصلون على أفضل أنواع "الصابون" ليبتعدوا عن المنصب قبل أن يقتربوا منه، أما أهل الثقة و مسّاحو الجوخ و المداهنين فهم الأقرب و الأبقى ..
ربما كانت نية نظام الثورة صالحة، و لم يرد سوى الحصول على المخلصين من أبناء الوطن، في ظل أجواء سياسية متقلبة، و مرحلةُ ولاء المرء فيها يحدد مصيره، لكن الأمر تحول لكارثة .. الكارثة ليست في من هو أهل الثقة هذا الذي سيتولى المنصب .. المشكلة في من سيختار أهل الثقة هؤلاء ؟ .. من الذين سيعتبرونهم من الثقات ؟
نظرة واحدة تجلعنا ندرك أن الفاسدين الصغار لم يأتوا إلا لأنهم أهل ثقة الفاسدين الكبار، و هو ما يعني أن سلسلة الفساد متشابكة من الرأس إلى أصغر صغير في النظام، فالكل يختار من هو تحت قدميه، و الطيور على أشكالها تقع..

النقطة الثالثة قتلت حديثًا و بحثًا في الصحف و المجلات، و طرحها د. أحمد عثمان على عجل في حديثه لقناة المحور، ألا و هي ممارسة العمل السياسي في الجامعات المصرية .. هدف النظام المصري أن يجعل الشباب جانبًا .. هذه الطاقة المهولة لا بد لها أن تذهب في أي شيء، إلا أن تصبح فوق رؤوسنا، و هي إن توفرت الفرصة ستصبح كذلك، لأن رؤوسم ليست نقية أو طاهرة .. لكن المتمعن يجد أن العمل السياسي مباح بشدة في الجامعات المختلفة، فنظرة واحدة تجعلك ترى أن معظم قيادات الاتحادات الطلابية هم في الأساس أعضاء في الحزب الوطني، و كل نشاط يتصل بالحزب و النظام مرحب به و مسموح، باعتباره نشاطًا يعلي من شأن الوطن و يدفعه للأمام، و نصيب هذا من الحقيقة في أغلب الأحوال يكافئ حبة الخردل ..
الأمر لا يزال في بدايته، و أغلب الظن أننا سنرى عجبًا في الأيام القادمة .. إما أن يهدأ الموضوع بسرعة غير طبيعية، أو أن يشتعل إلى آفاق لسنا نتوقعها، أو أن يظل الحال على ما هو عليه، كما يحدث دائمًا في هذا الوطن البائس ..

21.12.09

الوصايا الألف .. العشرة الثالثة

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الواحدة و العشرون: لا تنظر نهاية الطريق و أنت لم تضع قدمًا فيه بعد
الوصية الثانية و العشرون: كثيرون من يستمعون للنصيحة، قلة يعملون بها
الوصية الثالثة و العشرون: ستفشل إن كنت وحدك .. صدقني
الوصية الرابعة و العشرون: لا تنظر خلفك، فإنما جعلت عيناك من الأمام
الوصية الخامسة و العشرون: لا تجعل جل تركيزك في أقرب أهدافك .. ستحققه بنجاح ساحق، لكنك لن تصل لهدفك الأسمى
الوصية السادسة و العشرون: من عاش نذلا لم يمت مستورًا .. بل مكسورًا
الوصية السابعة و العشرون: أنت لا تملك الدليل .. أنت لا يحق لك الكلام
الوصية الثامنة و العشرون: صوتك العالي دليل ضعف موقفك، فإذا تكلمت يداك ضاع موقفك
الوصية التاسعة و العشرون: من عاش الألم يعرف كيف يرسم البسمة
الوصية الثلاثون: الحكمة ليست كلامًا منمقًا .. كثيرون ينمقون حديثهم، لكنهم يهذون

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

13.12.09

الوصايا الألف ... العشرة الثانية

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الحادية عشرة: لا تجعل النظر إلى وجهك كالنظر إلى قفاك
الوصية الثانية عشرة: لا تيأس .. اليائسون كالجحارة تهبط إلى القاع، أما الطموحون و المتفائلون فكأجنحة الطير، تحملهم لأعلى
الوصية الثالثة عشرة: لا تقتل .. القتل ليس فقط سكينًا تودعه صدر أخاك، بل أن تسفه منه و هو على حق، و تكذبه و هو على صدق، و تثبط فيه بهجة الحياة .. هذا هو القتل بعينه
الوصية الرابعة عشرة: كن مستمعًا جيدًا .. نصف مشاكل الدنيا تأتي ممن يتجاهلون الآخرين
الوصية الخامسة عشرة: تأكد دومًا من خطوطك الخلفية .. الجاهل من يتقدم بظهر مكشوف
الوصية السادسة عشرة: السفيه من سفه غيره، و استكثر خيره، و استقلّ ضيْره
الوصية السابعة عشرة: لا تتكبر .. إبليس خرج من رحمة الله بهذه الخصلة
الوصية الثامنة عشرة: نصف الناس جهلة و النصف الآخر يدعون العلم، و لكن خير لك أن تكون جاهلاً عن أن تدعي العلم
الوصية التاسعة عشرة: انزع عنك ثوب الحياء في اثنتين: في الحق و في الباطل .. أما الحق فكي لا يكون عقبة تحول بينك و بين إحقاقه، و أما الباطل فإكرامًا للحياء
الوصية العشرون: اصبر .. اصبر .. اصبر ..

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

10.12.09

جهار ضغط و سماعة - الحلقة الثالثة عشر

انتهت معركة الفرقة الثالثة منذ زمن، و بدأت منذ زمن أيضًا معركة الفرقة الرابعة .. الحق يقال أنها تبدو أخف وطأة من تلك التي سبقتها، ربما بفضل هذا النظام الجديد الذي ابتكروه، و ربما لأن المعركة السابقة بالفعل هي أم المعارك .. على أية حال فقد مرت، و لست أريد العودة إليها و لو ملئت أضلاعي ذهبًا ..
ما سأتحدث معكم فيه هذه المرة ليس له علاقة مباشرة بالفرقة الرابعة و موادها، لكنها كانت العامل المحفز لما سأتحدث عنه .. من المعروف طبعًا أن الطبيب لا بد له أن يمارس المهنة أثناء دراسته كي يكتسب الحس الإكلينيكي و الخبرة اللازمة كي يعمل بكفاءة و احترافية، و لو أن كثيرًا من الأطباء في عهدنا الحاضر لا يفترقون عن العطارين القدامى في شيء، اللهم إلا البالطو الأبيض .. على أية حال، فقد وضعت خططًا من أجل هذا منذ أن التحقت بالكلية، لكنها كلها باءت بالفشل لأسباب عديدة، أهمها في نظري أنني لم أكن أمتلك الخلفية العلمية و النظرية للأمراض التي سأراها و الاختبارات السريرية و المعملية التي سأطلبها أو أجريها، و بهذا تكون استفادتي من التدريب قريبة من الصفر، اللهم إلا إذا اعتبرنا تدربي على الاعتياد على جو المستشفى و التعامل مع المرضى هي استفادتي الوحيدة ..
المهم أنه و ابتداء من هذا العام، و اعتمادًا على العام السابق، بدأت الرؤية تتضح، و بدأ التدرب في المستشفى يكتسب أهمية، خصوصًا و أننا بدأنا بالفعل مرحلة التعامل مع الأمراض المختلفة و كيفية تشخيصها و علاجها و ما إلى ذلك .. و هكذا ارتديت البالطو و ذهبت في زمرة من الأصدقاء نريد أن نجعل من وقت فراغنا شيئًا مفيدًا ..
بالطبع لست أكتب لأتحدث عن تفاصيل طبية لن تهم أحدًا، حتى و لو كان من زملاء المهنة، لأنني ببساطة لم أتابع أي حالة لأكثر من أن تستقر حتى تحتجز في المستشفى أو تنتقل إلى الرفيق الأعلى، فقسم الاستقبال المستشفى الجامعي تنحصر مهمته في هذا الجزء من العملية الطبية: اجعل المريض مستقر الحالة حتى نهتم نحن به في الداخل .. أكتب إليكم لأن فترة ثلاثة أسابيع رأيت فيها الكثير من العجيب و الغريب ..
الحق أقول أنني مللت من كثرة سبي و لعني لهذا النظام الصحي، لذلك قررت حقًا أن أتوقف عن ذلك، لكن ما سأتحدث عنه هنا ليس النظام الصحي، بقدر ما هو المريض المصري المسكين، و الطبيب الأكثر إثارة للشفقة من المريض، و لو أن الحديث سيجرني دون أن أشعر كي أسب و ألعن في النظام الصحي المصري، لأنه السبب المباشر في هذه المآسي التي يحياها هذا المواطن المطحون ..
يأتيك المريض بوجه بائس من متاعب الحياة زاده المرض بؤسًا، يتساوى في ذلك من جاء مريضًا مزمنًا يتابع أو يشتكي من أحد المضاعفات، بالمريض الذي يشتكي عرضًا حادًا و مرضًا بسيطًا .. الكل في الهم سواء، و الشعور العام واحد، أننا وقعنا في الفخ .. فخ المرض الذي تزيده الحكومة مأساوية، و تجعل منه كابوسًا مقيمًا .. تكلفة التشخيص عالية، و تكلفة العلاج أعلى .. المريض يأتي المستشفى الحكومي يملأه شعور لأنه لا يستطيع الإتيان بقيمة تعريفة الكشف في عيادة خاصة، و الانتظار على الألم أشد إيلامًا و أكثر مرارة من الوقوع في فخ المستشفيات الحكومية ذات السمعة التي لا نحتاج للتعريف بها ..
ربما كانت أحد عيوبي أنني صموت أغلب الوقت، أو لو شئنا الدقة "متنح" أغلب الوقت، لكن الحق أنني أراقب .. أراقب ما يحدث و من يحدثه و لماذا في محاولة مني و التحليل، لكن هذا لا يعني بالطبع أنني "الفيلسوف الطبيب"، فهذا من المستبعد حقًا .. على أية حال، أفادني هذا كثيرًا في تلكم الأيام القلائل التي قضيتها هناك، و أول ما استرعى انتباهي هم الأطباء أنفسهم ..
البعض يتعامل بالفعل مع المريض باعتباره "سفير رحمة" اختاره الله، و وهبه عقلاً يعي العلم الطبي، و قلبًا يشعر و يستشعر آلام البشر، كي يخفف هذا الألم عن المرضى، و لا يزيد إلى ألمهم الجسدي ألمًا نفسيًا أقسى و أمضّ، و البعض يتعامل من منطلق عجيب، مفاده أن هؤلاء المرضى هم مجموعة من المدّعون، الذين يريدون الحصول على خدمة طبية "ببلاش" و هم أصحاء، أو يريدون الحصول على إجازات أو .. أو .. و البعض يتعامل من منطلق أنهم مجموعة من الجهلة الغوغائيين "اللي خسارة فيهم اللقمة" و بالتالي "خسارة فيهم الطب"، و البعض عدواني بطبعه، و هذا لست أدري كيف سمح له أهله أن يلتحق بكلية الطب من الأصل ..
بعض المرضى يدعون، نعم .. أشهد بأنني رأيت مجموعة من هؤلاء .. معظمهم جهلة، نعم .. يطبقون المثل الشعبي "ما يعرفش الألف من كوز الدرة" بدقة و إخلاص، لكنهم في كل الأحوال بشر ..
أذكر حالة توليتها، كانت لمسجل سرقات، أثناء جلسة المحكمة فاجأ الجميع بقيئ دموي، و إغماء .. القيء حدث، و وقعت بعض نتائجه السلبية من انخفاض في ضغط الدم و فقدان السوائل و خلافهما، لكنه يدعي الإغماء ليهرب من المحكمة و من السجن بالطبع .. أذكر في هذه الحالة أن الحكيمة، رئيسة التمريض، قالت للنائب المسئول عن القسم في هذه النوبة "مسجون، قاتل، بكون فيه إيه بالذي .. ياخد حقه في العلاج، و يغور في ستين داهية بعد كده"، و الحق أن النائب لم يكن معترضًا من البداية، لكنني أذكر الموقف لأنها قالت بالضبط المبدأ الذي أسير وفقًا له، و لأن آخرين بالفعل يعترضون، و يكون رد فعلهم في حالة كهذه "برّه، دا بيستعبط" ..
و بمناسبة الحديث عن الأطباء، فليس منطقيًا أن أمر على نقطة توزيع المسئولية عليهم مرور الكرام .. يسير النظام الصحي في المستشفى اعتمادًا على طبيب مقيم "نائب" مسئوليته اعتماد كافة الأوراق و التقارير و الطلبات التي تتم أثناء نوبته، و التي يقوم بها الأطباء الآخرين، و هم إما في مرحلة الامتياز، أو هم على شاكلتي، ما زالوا يتدربون .. المهم أن كل هذا الحمل - اعتماد كل شيء و التأكد من صحته و مراجعته - يقع على كاهل شخصين فحسب في كل نوبة .. هذا الشخصان مطلوب منهما أن يجريا الكشف على كل الحالات، لأنه رغم وجود أطباء قد يفوق عددهم عدد المرضى، إلا أن توقيع النائب يعني تحمله مسئولية ما سيفعل مع المريض تحملاً تامًا، و هذا ما يدفعه بالطبع، للتأكد من كل حالة و إجراء الكشف عليها حتى لا يحاسب ظلمًا على ما يفعله الآخرون .. و هكذا نجد أن هذين الطبيبين - في نهاية الأمر - يتحولان إلى الطبيبين الوحيدين بالعنبر، لأنهما ببساطة أصحاب الأمر و النهي فيه ..
في أوقات الهدوء النسبي، ليس هناك أي مشكلة من أي نوع، لكن لو زاد الضغط قليلا على العنبر، لأصبحت النتيجة أن مريضين فحسب هم من يتلقون الخدمة الصحية في لحظة ما، فيما ينتظر الآخرون حتى يفرغ النائبان من التأكد من أن الطبيب الذي تحت إمرته يعمل بكفاءة، و يسير في الطريق الصحيح .. أتحدث هنا عن تأثير ذلك على المريض، لأن تأثيره على الطبيب أمر مفروغ منه .. "كالّو" في اليأفوخ دون ذرة شك .. الأمر ليس ضغط عمل، بل هي أرواح سيسأل عنها الآن و في الآخرة، و ليس من مجال يذكر للخطأ ..
إذا تركنا كل هذا جانبًا، و حاولنا النظر للأمور نظرة متفائلة، نجد أن الميزة الوحيدة في كل هذه الفوضى - أسرّة لا تكفي، و أجهزة معاقة ذهنيًا و بدنيًا، و أطباء لا يمكنهم العمل دون الرجوع للنائب الذي تتحول دماغه جراء ذلك إلى عش زنابير، و مرضى لا يتعاونون لأنهم لا يعرفون .. نجد أن الميزة الوحيدة و الأهم في كل هذا هي أن الطبيب أثناء تدربه يرى الحالات المرضية التي درسها كأشياء نظرية و كلمات مطبوعة على الورق، يجدها ماثلة أمامه بكل ما فيها، حتى تلك المضاعفات النادرة التي لا تحدث غالبًا .. تجدها في المريض المصري شاخصة أمامك، و هو ما يعني بالنسبة لي كطبيب فرصة مثالية لكي أرى ما لن أراه مستقبلا إذا كتب لي و عملت بالخارج ..
لكن هذه الميزة في الوقت ذاته تثير غصة في الحلق .. صار المعتاد بالنسبة لي أن أرى مريض السكر يشتكي من ارتفاع ضغط الدم و أمراض القلب المختلفة، رغم أن كليهما من المضاعفات التي تحدث على المدى الطويل، و من المفترض أن تحدث في واحد كل عشرين، و ليس ألا أجدها إلا واحد كل عشرين ..
أصبح من المعتاد أن أري مريض الكلى يشتكي من كبده، التي تضررت نتيجة الغسيل أو الأدوية أو الماء المسمم الذي يشربه .. نعم، هي ميزة أن أرى ما لا يرى، لكنها في الوقت ذاته كارثة أن أراه بهذا الحجم ..
و على الرغم من هذه المأساوية و التراجيدية التي أتحدث بها، فإن الأمر لا يخلو من طرافة، مردها غالبًا جهل المريض، أو اختلاف اهتمامه عن اهتمام الطبيب، بمعنى أنني كطبيب أرى مأساة أمامي تتمثل في صفراء مخيفة، و تليف في الكبد مفزع، و احتمال دخول الكليتين حلبة المرض، لكن ما يشتكي منه المريض هو بعض الدوار و الضعف !
على هذه الشاكلة كانت إحدى الحالات لرجل في الثمانين من عمره، أصيب بجلطة في المخ قبلاً، و يعاني من ضيق في الشريان الأودج الأيمن في الرقبة، و ضعف متقدم في السمع، و كل ما أتى به أهله ليشتكي منه هو دوار و سقوط لا إرادي كلما سار بضع خطوات !
كنت أتحدث لزوجته، و رغبت لحظتها فعلاً أن أخرج عن أدبي .. "يعني يا حاجة الراجل تمانين سنة، و ودانه ضايعة، و شرايين رقبته ضيقة، و مش عاوزاه يدوخ" .. مثل هذه الأشياء تجعل الطبيب يكاد ينفجر، و لو أنه من المفترض أن تحترم مشكلة المريض، لأنه لا يعلم مثلما تعلم، و ما يعيق حياته هو ما يراه مأساة، أما ما لا يشعر به، أو يراه شيئًا ثانويًا، فلن يعيره أي اهتمام، لكن هذا لا يمنع أن أشعر ببعض الحنق بسبب تفكير البعض، الذي - في مثل حالتنا هذه - يتوقع أداءً أعلى أو على الأقل مثلما سبق، من رجل بكل هذا التاريخ المرضي !
و بعيدًا عن استفزاز المرضى، فإن موقفًا حدث لي ليس يمكنني أن أنساه .. مريض يعاني من ارتفاع حاد في ضغط الدم، وصل إلى 200 على 100، و باعتبار أنه مريض بقصور في الشرايين التاجية الثلاثة، و بالسكر قبل كل هذا، فإن ضغط دم كهذا يعد كارثة .. جاء مع ابنه الذي سألني أن أقيس له الضغط، إذ أنه يشعر بصداع شديد، و قد قاسوا ضغط الدم في مركز طبي فكان الرقم الذي ذكرته .. نسيت أن أخبركم أن قسم الاستقبال لا يحوي سوى جهازين لقياس ضغط الدم، و باعتبار أن ضغط الدم من العلامات الحيوية، التي لا بد من قياسها في كل حالة، يمكن أن تستشعروا حجم المأساة التي يعيشها الطبيب، الذي يضطر "لركن" المريض جانبًا لحين وجود جهاز لا يستخدمه أحد .. و حتى إن وجد هذا الجهاز، فهو غالبًا جهاز معاق ذهنيًا، تنتفخ بالونته في غير الاتجاه المطلوب، و يرتفع الزئبق مليئًا بفقاقيع الهواء، و ربما ارتفع دون أن تنفخ البالونة أصلاً، و صمام التحكم في الهواء يعمل بسياسة التفريغ الشامل أحادي الاتجاه، إذ يفرغ الهواء دفعة واحدة دون تمكينك أن تهبط بمستوى الزئبق ببطء، و "ينفخك" أنت شخصيًا قبل أن ينفخ البالونة أو يسمح بمرور الهواء إليها ..
المهم .. جلس الرجل و ذهبت لإحضار جهاز قياس الضغط لأدخل في دوامة ليست بالقصيرة، وصل الرجل معها لمرحلة أصبح يهذي بمعنى الكلمة من الألم، و يضرب رأسه في السرير و في الحائط، ما جعل أحد الأطباء يعطيه قرصًا مخفضًا للضغط يمتص أسفل اللسان، و هو ما أدى في النهاية لأن يهدأ، و ينخفض ضغطه أربعين مليمترا زئبقيًا .. أخذ يشتكي لي، و أنا أحاول تهدئته، و كيف أنهم - أي الأطباء - يتدربون عليه، و أنه قد أتى من يومين ليقوم برسم كهربائي للقلب، ففشل الأطباء في ذلك، و الحق أن هذا ليس لعيب فيهم، بل لعيب في الجهاز، الذي تكاد تكون شاشته "الكاروهات" أقل عيوبه تأثيرًا على استعماله ..
وعدته أن أقوم أنا بنفسي بعمل رسم القلب الكهربي الخاص به، و هو ما جعله يظن أنني طبيب قلب متخصص، و لو علم أنني من زمرة الذين يتدربون عليه، لخلع نعله و أوسعني ضربًا !
الحق أنني لم أكن أخدعه، إذ أنني بالفعل متمكن إلى حد بعيد من توصيل الأقطاب و تشغيل الجهاز، و ما ينقصني هو كيفية تفسيره، و كان هذا هو السؤال الذي سألني إياه بعد أن أتممت الرسم "ها يا دكتور .. إيه الأخبار؟" .. سبحان من ألهمني وقتها ردًا قلت به الحقيقة دون أن أخبره بها .. أخبرته أنني لست أستطيع تفسيره، لكنني أجيد عمله، و هو ما دفعه إلى السؤال الثاني "مش حضرتك تخصصك باطنة برضك ؟" فأجبته أنني سأتخصص كطبيب باطني، لكنني لم أتخصص بعد، و لو علم أنني لم أتخرج حتى من الكلية .. الله وحده يعلم ماذا كان سيفعل !
لست أستطيع نسيان هذا الموقف، لأنه وضعني في مأزق، و لأنها من المرات القلائل التي أحسن فيها التصرف إلى حد بعيد، خصوصًا فيما يتعلق بالحوار مع الآخرين، و لأنه علمني كيف يمكنني أن أخرج من مأزق طالما فكرت في حلول مختلفة له .. هذا الموقف هو: كيف تبرر وجودك كطالب تنقصك الكثير من الخبرات و المعلومات، أمام مريض فيه ما فيه، و ليس يحتمل أن يعبث به أحد ؟
على أية حال، كانت تجربة مفيدة و مثيرة و ممتعة، لكنها جعلتني أرى مستقبلي كطبيب محاطًا بغلالة سوداء ..

7.12.09

الوصايا الألف .. العشرة الأولى

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الأولى: لا تثق بكل ما تسمع، حتى و إن كان من يتحدث هو لسانك
الوصية الثانية: لا تبك على من مات .. إن فارقك إلى جنة، فهو في مكان ليست دنيانا التي تبكي مفارقته إياها منه في شيء، و إن فارقك إلى نار، فليس حقًا أن تبكي من هو مثله
الوصية الثالثة: عد بما تستطيع، و لو كان كل ما تستطيع هو ألا تستطيع
الوصية الرابعة: لا تكذب .. لا تتجمل
الوصية الخامسة: إذا أخطأ غيرك، فلا تجعل من نفسك جلاده، فسوف يأتي اليوم الذي يكون هو فيه جلادك
الوصية السادسة: المال أو أخوك .. دس المال و اختر أخاك
الوصية السابعة: من بغى بسيف الحق، بُغي عليه بسيف الباطل
الوصية الثامنة: لا تحاول من أجل المحاولة، فهذا مضيعة للوقت و الجهد و المال .. حاول من أجل هدف واضح، أو توارى جانبًا و اصمت
الوصية التاسعة: ما تختاره الآن يشكل مستقبلك، فترو و لا تتعجل
الوصية العاشرة: من قال أنا عالم فقد وضع قدمًا على أول طريق الجهل

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

2.12.09

بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل السابع/ الجزء الثاني

الفصل السابع - أوراق حكومية

"السلام عليكم .. إزاي الصحة ؟" .. قالها عبد الواحد محييًا سكرتيرة فاروق، فردت و الابتسامة تعلو وجهها:
- و عليكم السلام يا باشمهندس .. الحمد لله على كل حال ..
- فاروق جوه ؟
- الدكتور لسه داخل ما بقالوش ..
و نظرت لساعتها ثم تابعت:
- تلات دقايق ..
- لازم الدقة قوي يعني .. طب أنا داخل له ..
- طب ثواني أدي له خبر ..
- لا لا لا .. دا أنا عاوزها مفاجأة ..
و أجلسها بإشارة من يده، و توجه إلى باب حجرة فاروق و فتح بابها دون مقدمات و قال و هو يصرخ:
- سلّم نفسك الإنكار مش حيفيدك ..
لثوان ارتبك فاروق و ثبت نظره إلى ذلك الواقف بالباب، و لم يلبث أن انفجر ضاحكًا و هو يقول:
- يخرب بيت طاستك يا أخي .. اقفل الباب و اتنيّل ادخل ..
أغلق عبد الواحد الباب و تقدم، فيما أكمل فاروق:
- يعني أسود فحمة، و داخل قفش، و بتصرخ، و سلم نفسك و الإنكار و مش الإنكار .. هو إيه يا بني، حد قال إني عاوز أموت بالسكتة القلبية ؟
تعانقا يضحكان، و أكمل فاروق:
- يعني لولا إن السكرتيرة عارفة إننا صحاب الروح بالروح كانت قالت الدكتور فاروق مصاحب مجانين ..
- يا عمي فك شوية من النشا اللي أنت عايش فيه ده .. عاوز أعرف يعني فيها إيه لو الدكتور يعيش فريش كده ..
- هو اللي بتعمله ده بتسميه "فريش" .. و بعدين طب ما أنا عايش أهه، وفل الفل، بس لازم شوية وقار، على الأقل احترامًا للمهنة اللي أنا بامارسها .. أنا باتعامل مع أقدس حاجة خلقها ربنا .. روح البني آدم ..
بدأت علامات الضحك و الابتسام تخفت شيئًا فشيئًا، و قال عبد الواحد:
- المهم، أنت عامل إيه ؟
- الحمد لله على كل حال .. ماشية و لسه عايشين ..
- تخيل بقى قابلت مين من يومين كده ؟
- مين ؟ .. جورج بوش ؟
- لا يا عم، باتكلم بجد ..
صمت فاروق للحظة مفكرًا، ثم قال:
- مين يعني ؟ .. حد من قرايبك في السودان ؟
- و دول حأعمل عليهم نشرة، كفاية السحابة السودا اللي هما جايين فيها ..
ضحك فاروق و سأله:
- مين بقى ؟
- بندر ..
- بندر ؟ .. بندر مين ؟
- بندر القطرنجي .. تعرف حد بالاسم ده غيره ؟
ظهرت على وجه فاروق علامات تذكر ذكرى بعيدة، و قال:
- يااااااه .. ده عمر تاني يا بني .. و ده عترت عليه فين ده ؟
- تخيل فين ؟ .. كنت حأدوسه بالعربية !
- و حصل إيه ؟
- لا خير الحمد لله .. أنا كنت باسوق و أنا سرحان و فقت، و هو كان ماشي و هو سرحان و فاق .. خبطة نونو كده بس ما حصلش منها حاجة الحمد لله ..
بدت علامات الاهتمام على فاروق، و انحنى للأمام مستندًا إلى مكتبه، و سأل:
- و الواد ده عامل إيه دلوقتي، و إيه اللي جابه مصر أصلاً ..
- تقريبًا مشاكل والده ف سوريا ..
- هو قال لك كده ؟ و لا تخمين ..
- تخمين، بس هو اتضايق لما سألته .. على كل هو حيقعد ف مصر رسمي خلاص ..
- يآنس و يشرف .. هو سكن و لا لسه ..
- من زماااان .. دا بقى له حاجة بتاع تلات شهور هنا ..
- و لا آلو و لا إزيكوا و لا أي حاجة كده ..
- أنت عارف الواد ده موعود بالمصايب .. بيصعب عليا قوي ..
- طب معاك نمرة تليفونه ؟
- أكيد ..
و أخرج هاتفه المحمول يمليه الرقم، و فاروق يتساءل:
- ألا عملت إيه بخصوص الأرض ؟
أعاد عبد الواحد هاتفه إلى جيبه و هو يسأل فاروقًا:
- ألا قول لي الأول .. أنا معطلك عن حاجة ؟
- لا لا أبدًا .. أنا بأحب آجي بدري شوية علشان لو فيه حاجة متأخرة أخلصها، بس مفيش ..
- طب حلو .. بص يا سيدي ..
و اعتدل في جلسته، و تابع:
- عملت الشكوى اللي طلبها سيادة العقيد محسن، و قدمتها له النهاردة و قال لي إنه حيتابع الموضوع بنفسه و يتصل بي يقول لي إيه آخر التطورات .. على فكرة ..
صمت لحظة ثم تابع، فيما قطع فاروق تساؤله الذي كان على طرف لسانه:
- الراجل ده ذوق جدًا .. نادرًا ما بألاقي حد من الشرطة بالنضافة دي ..
- الطيور على أشكالها تقع .. أنت لو ما كانش قلبك أبيض، كنت وقعت في حيص بيص ..
- آه و الله .. تخيل ..
مد عبد الواحد ساقه و انزلق قليلاً في مقعده عاقدًا يديه فوق رأسه، و قال:
- تخيل بقى لو ما كنتش أنا أعرفك و أنت ما تعرفش العقيد محسن .. كنت اتسورت .. بلد علشان تاخد فيها حقك .. حقك، مش حق غيرك .. علشان تاخده لازم كوسة و وسايط !
- ده بيفكرني بكلمة قالها لي أبو واحد زميلي أيام الثانوي .. قال لي البلد دي مش ماشية براسها، دي ماشية بـ"و لا مؤاخذة" اللي في الناحية التانية من الجسم ..
- المقعدة ؟
- طبعًا هو استخدم اللفظ الصريح، بس معاه حق .. مفيش بلد في الدنيا فيها اللي بيحصل عندنا ده ..
التفتا إلى الباب إثر طرق خفيف من السكرتيرة التي فتحت الباب بعد الطرق و قالت:
- أستاذ ممدوح وصل يا دكتور ..
- طب ثواني و دخليه ..
ثم التفت إلى عبد الواحد و قال:
- أول عيان وصل يا باشا .. اتكل أنت بقى ..
- ماشي يا سيدي .. ألا قول لي ..
ثم أكمل و هو يقوم عن مقعده:
- أخبار الحاج عبد الغفار إيه ؟
- هو جيمي قال لك ؟
- اتصلت بيه علشان نتفق ع المصيف، فاعتذر و حكى لي ع الموضوع ..
- حاجة بسيطة، و عملية أبسط، بس دقيقة شوية .. يوم في المستشفى، و يوم كمان يستريح، و بعد كده خروج، و يقعد بقى تلات شهور لغاية ما كل حاجة تتحسن و يرجع يمشي على رجليه تاني ..
- إن شاء الله .. بس شكلها فركش السنة دي م المصيف .. أنا حتى حاسس إني ما ليش نفس .. الواد خميس كان ..
و احتبست الكلمات في حلقه، فقال محاولاً الإفلات من الموقف:
- المهم استأذن أنا، و أسيبك للعيانين .. بركة إنك بخير .. سلام ..
شيعه فاروق بنظراته، التي لم ير عبد الواحد أن طبقة رقيقة من الدمع قد كستها:
- و مين له نفس يا عُبد .. مين له نفس ..
***
تمطأ إسماعيل بقوة كقط استيقظ لتوه، و تثاءب و هو يفرك عينيه اللتين أضناهما كثرة النظر إلى الأوراق و المكاتبات و المذكرات و الإعلانات، ثم حك رأسه يحاول أن يزيل الشحنات الساكنة التي تراكمت بين خصلات شعره الأكرت من كثرة التفكير، و إثر طرق خفيف على باب حجرة مكتبه قال:
- اتفضل يا حسين ..
دخل ابنه مبتسمًا، فتابع:
- عاوز تنزل طبعًا ؟
- ميزتك يا باب إنك قاريني .. ما بأحتاجش أطوّل في الكلام و أكتر ..
ابتسم إسماعيل و قال:
- يا بني أنا بنقرا جيناتي أنا .. المهم، حتروح فين ؟
- أنا اتفقت مع إيهاب و طلعت إننا نطلع سينما، بس مستني الموافقة الملكية ..
و اتبعها بابتسامة تزلف و تملق ابتسم لها إسماعيل، و قال:
- حتدخلوا فيلم إيه ؟
- الفيلم بتاع أحمد حلمي الجديد ..
- آسف ع الإزعاج ؟
فرقع حسين بأصابعه و قال:
- يا حلاوتك يا سمعة يا بتاع السيما أنت ..
- احترم نفسك يا ولد .. الحكاية كلها إن الواد دا داخل دماغي ..
- يعني موافق ؟
- بس المهم تدخلوا الفيلم دا فعلاً، مش تشوفوا حتة بت مقلوظة على بوستر بتاع فيلم أجنبي تقوموا تدخلوه علشان اللحمة .. فاهم ياض ؟
- عيب يا بابا .. و دا كلام ..
- دا كلام و نص يا روح بابا ..
ثم قام عن مكتبه و توجه إليه و قال:
- المهم بس ما تتأخرش .. يعني حداشر بالكتير تكون هنا، و طبعًا ما تنساش إن في اختراع اسمه التليفون ممكن أجيبك من قفاك بيه ..
- عارف يا بابا ..
قالها بشيء من الضيق فرد إسماعيل:
- حبيت أفكرك بس، رغم إني لغاية دلوقتي ما استعملتش الميزة دي في الموبايل ..
ثم دفعه برفق و قال:
- يا لا يا بطل .. بالسلامة، و ابقى خليك فاكر تجيب معاك لبن و أنت جاي .. عارف لو نسيت ..
- لا مش حأنسي .. سلام ..
و انطلق فيما نادى إسماعيل زوجه:
- لو قاعدة ف الإنتريه خليكي .. أنا جاي لك ..
و اتجه إلى حجرة المعيشة يثني ظهره و ركبتيه و جذعه محاولاً الخروج من حالة التيبس التي أصابته من كثرة الجلوس إلى المكتب يراجع ما تم في شأن جهاز الأشعة المحترق، و الجفت الجراحي الغير مطابق للمواصفات ..
- وصلت لإيه يا إسماعيل ؟
- مسخرة .. دا أنا كنت قاعد على خازوق مش كرسي رئيس مجلس إدارة ..
- يا ستار يا رب .. ليه يعني ؟
- بصي يا ستي ..
ملأ صدره بالهواء و قال:
- الأول بس ابعدي البصل دا عن عيني، مش ناقصة تدميع .. و بعدين مش تخلصي البتاعة دي ف المطبخ ..
- يا خويا تعبت من كرسي المطبخ المأتب ده .. فوّت يا راجل، ما أنا اللي بانضف ..
- نهايته .. بصي يا ستي ..
ملأ صدره بالهواء مرة أخري و غاص في الأريكة الوثيرة و تابع:
- الجزمة ابن الكلب الأولاني بتاع الصيانة .. جزمة و ابن كلب و يستاهل ضرب الجزم .. الواد بتاع الأشعة قدم ييجي ميت طلب إنهم يشوفوا صرفة في جهاز التكييف اللي بايظ، و هو يصلبت فيه، و يا ريته بيصلبت فيه بذمة .. السلك المستخدم أرفع م المطلوب، و الجهاز يشتغل يوم و هوب .. ووووووش، يوّلع، و الجهاز بتاع الأشعة وووش معاه .. ابن كلب واطي .. مش عارف ليه يعني قلة الأدب دي ..
- يكون عاوز يكهن الجهاز و يجيب واحد من شركة له فيها معرفة و يسلك له قرشين ؟
- أنا قلت كده برضك، بس لزومها إيه قلت الأدب دي .. كان يقول إن الجهاز لا يصلح و إنه لازم يتكهن، و ما كانش حد حيعارضه، لأن الجهاز قديم فعلاً ..
- و الموضوع حيخلص على إيه بعد ده كله ؟
- دي كده فيها خيانة أمانة .. الواد العبيط مش واخد باله إنه ماضي على نفسه عقد، فيه بند إنه مسئول عن كل أجهزة المستشفى، ما لم يذكر اسم مختص آخر، فيما يتعلق بمسألة الصيانة، و إن إخلاله بمسئوليته فيما يتعلق صيانة أي جهاز تحت إيده يعتبر خيانة للأمانة، و يقاضى بموجب مواد القانون فيما يختص بخيانة الأمانة .. و ديني لأكون مربيه و موديه ف داهية ..
- يا خويا هدي أعصابك .. بلاش التنشنة دي ..
أنهت ما بيدها من أصابع محشي الكوسة، و نفّضت ما علق بيديها من بقايا خليط الأرز و الخضرة و البصل، و حملت الصينية و الأوعية ذاهبة للمطبخ و زوجها يشيعها بكلماته:
- خليكي أنت في المحشي بتاعك ده بالبصل و عينك المدمعة و سيبيني أنا أفش غلي شوية .. أنا حانفجر ..
و بينما هي في المطبخ تفرغ مما بيدها من صوان و أوعية، تذكر ما كان بينه و بين مسئول قسم المشتريات، فضحك بملء فيه، بل لا نكذب لو قلنا قهقه، ما جعل زوجه تسأله و هي ما زالت في مطبخها:
- بتضحك على إيه يا إسماعيل ؟
- دا البأف التاني بتاع المشتريات .. تعالي بس أنت الأول و بعدين أحكي لك ..
الحق أن ما فعله مع مسئول قسم المشتريات كان يستحق التصوير و التسجيل .. حتى هو نفسه لا يزال غير مصدق أنه فعل ما فعل ..
- طبعًا الواد دلوقتي مفتوح معاه تحقيق رسمي و شكله حيلبس قضية اختلاس وش يعني .. بس أنا جبته على جنب و حبيت أعرف منه و امشيها ودي في الأول، لأنه أصلاً معرفة من زمان قوي .. ماحبتش أفتح على بوابة جهنم من أولها، قلت يمكن ييجي بالذوق .. لقيته بيبقبق و يتهته و يلغبط في الكلام، و بعدين شويتين لقيته بيقول كلام تاني خالص و شايط و أنت بتكلمني كده ليه، و أنا عملت اللي فيه المصلحة و مش عارف إيه و أبصر إيه .. لقيتني مرة واحدة هبيت فيه، قلت له بص ياض .. أنا دكتور آه، رئيس مجلس إدارة مستشفى قد الدنيا ماشي، لكن أنا أصلا من القباري و أمي من كرموز ..
- يا خبر أبيض ..
- صبرك بالله .. قلت حتبق معايا و مش حتيجي بالذوق، حأكون مفرج عليك اللي يسوى و اللي ما يسواش و أخليهم يبيعوا منك الكيلو بقرش .. فاهم ؟
- و عمل إيه ؟
- و الله أنا مش عارف أنا قلت الكلمتين دول إزاي أصلاً، بس الواد بلّم و تنّح و قر بكل حاجة .. ابن الرفضي جاب الجفت من شركة شغال فيها واحد قريبه، و سجل الفاتورة بسعر، و دفع سعر أقل، و الباقي في جيبه .. و الدكتور التاني رئيس قسم العمليات استلم و الحجة اللي اتقالت له إن ده الجفت المتوفر في السوق حاليًا، و إن العمليات ممكن تأخر أكتر من كده، لو انتظرنا وصول الرسايل اللي حيكون فيها الجفت اللي إحنا عاوزينه ..
- بس أنت شلقت له خالص يعني .. كان في حد حاضر ؟
- لا .. ما أنا مش حبعبع بكل ده و في ناس نضيفة قاعدة .. اسمي برضه دكتور و رئيس مجلس إدارة .. المهم في الآخر حولته تحقيق رسمي .. ما دام هي قلة أدب، يبقى يتربى أحسن .. نومة البورش حتعلمه، هو و الدغف التاني بتاع الصيانة ..
- طب أشرب الينسون و روّق دمك .. كفاية حرقة أعصاب ..
- أنا ما حارق دمي غير إن الاتنين بياخدوا مرتب يتحسدوا عليه .. بيعضوا الإيد اللي اتمدت لهم ليه ؟ .. ليه النتانة و قلة الأدب دي ..
- في ناس طبعها كده .. تحسن لها بس هيا في الآخر واطية .. الحمد لله إن ربنا كشفهم و خلّصك منهم ..
- بأقولك إيه ..
و ضغط زر تشغيل التلفزيون و أخذ يستعرض المحطات المختلفة و تابع:
- أنا بأقول نتفرج على حاجة أحسن من السيرة النكد دي ..
- طب اربط هنا .. خلي الفيلم ده جميل ..
و رغم أنه كان – ظاهريًا – يتابع الفيلم معها، إلا أن ذهنه كان في واد آخر ..
***

24.11.09

بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل السابع / الجزء الأول

الفصل السابع – أوراق حكومية

من المعروف عن زكريا أنه يستطيع التحكم في تعبيرات وجهه إلى الحد الذي يجعله يتخبط في بحر متلاطم من المشاعر، لكن وجهه يبدو للناظر كمن ارتدى قناعًا، فلا يفصح عن شيء، و الموقف الذي يفقده هذه السيطرة على تعبيرات هو موقف يستحق التسجيل .. حدث قبلاً مع سارة، و ها هو الأمر يتكرر مع هذه السيدة التي ارتمى الطفل في أحضانها ..
وقف لحظات ينظر إليها بينما هي مشغولة تمامًا بطفلها تقبله و تحتضنه بطريقة تحطم أضلعه .. ينظر إليها بذات النظرة المندهشة، و عندما رفعت رأسها لتنظر إلى صاحب هذا الجسد الواقف إلى جوارها لم يتحرك منذ دقيقة كاملة، كانت الدهشة من نصيبها هي ..
- مش معقولة .. يا نهار أبيض .. زكريا ؟
- أنا ..
لم يستطع أن يقول غيرها ردًا عليها فيما اندفعت هي، من فرط دهشتها هي الأخرى، تتحدث كأنما لسانها كان في عقال و خرج:
- مش معقولة بجد .. يا نهار من غير ألوان .. إيه ده ؟ .. إزيك و فينك و عامل إيه ؟
و أمام تحديقه الغريب فيها قالت:
- في إيه يا بني ؟ .. مالك متنح كده ؟
- لا .. بس المفاجأة قوية جدًا .. دول تلاتين سنة يا إسراء .. دا لو كان فيلم كنت قلت المخرج بيستعبطنا ..
ضحكت من تعليقه و سألها:
- بس دا أنتي اتغيرتي خالص .. الملامح الأساسية زي ما هي، بس .. يا نهار .. و الولد كمان ..
- دا شمس ..
- شمس ؟
- شمس الدين ..
نظر إليها نظرة ظاهرها الطيبة و باطنها الخبث، مع ابتسامة تحمل المعنى ذاته و هو يقول:
- أحب أنا الأسماء المميزة ..
و فيما تضرجت وجنتاها بحمرة خفيفة تابع هو بجدية:
- بس شكل أبوه شامي ..
- سوري ..
- دا أنت سافرتي كمان ؟
كادت أن تجيب فقاطعها متسائلاً:
- و لا اتجوزتوا هنا ؟
- دي قصة طويلة .. دا أنا اتجوزت و اتطلقت و سافرت و قعدت حاجة بتاع خمس سنين لغاية ما قابلت أبو شمس ..
و أشارت لولدها فهبط إليه زكريا قائلاً:
- عارف أحلى حاجة عملتها النهاردة إيه يا بطل ؟
- شو ؟
- إنك ما رضتش تيجي معايا لما قلت لك يا لا نروح ندور على ماما .. جدع ..
انتفخت أوداج شمس فخرًا بنفسه، فيما سألته:
- و أنت بقى بقيت فين ؟
- ممكن تقول لي دكتور زكريا ..
- أيوه يا عم ..ما هو طول عمرك دحّيح .. مش غريبة عليك يعني ..
قالتها و ضحكت، فرد مبتسمًا:
- أعوذ بالله .. ما كفاية قر بقى .. من أيام الإبتدائي و أنتي بتقرّي .. ارحمي نفسك شوية ..
ثم استأذنها لحظة ليأتي بعربته، ثم قال و هو يدفعها أمامه:
- أنتي خلصتي التسويقة و لا لسه ؟
- أنا لسه جاية أصلاً ..
و بدآ المسير ثم تابعت:
- لسه ما بقاليش نص ساعة .. باشتري شوية أدوات منزلية كده ..
- إيه ده ؟ .. أنتوا نازلين إجازة و لا إيه ؟
- لا .. نازلين خالص .. حنستقر هنا .. أبو شمس صفّى شغله هناك في سوريا ..
- و لو فيها تطفل يعني .. بس معلش، حد يسيب الجنة اللي هناك و ييجي يقعد في اللحوسة اللي هنا دي ؟
- كل واحد له ظروفه ..
كان ردها من نوعية "عفوًا، هذه المنطقة محظورة"، و هو ما جعله يغير مسار الحديث لأشياء أخرى كثيرة من تلك التي يسألها الناس عندما يلتقون بعد غيبة طويلة ..
- ما دمتم نازلين إقامة، يبقنا حنشوف بعض كتير إن شاء الله ..
- إحنا نازلين في شقة في شارع سوريا ع البحر ..
توقف فيما استمرت هي بضع خطوات ثم توقفت مندهشة و سألته:
- في حاجة ؟
- حاجة ؟ .. دول حاجات يا ماما .. أصل أنا ساكن في المعسكر الروماني ..
- طب عظيم جدًا .. بقينا جيران يا أستاذ كمان أهو ..
- بس كمية المصادفات دي فوق الوصف بجد ..
و أخذ يعد على أصابعه:
- أولاً أنا ما بأجيش كارفور الوقت ده .. عادة بآجي أول ما يفتح و هو لسه رايق، أخلص و أطلع ع العيادة .. النهاردة اضطريت ألغي العيادة علشان اجتماع مجلس القسم اللي أخرني .. و بعدين اتأخرت كمان مرة علشان الزحمة .. و بعدين دخلت من باب غير اللي بأدخل منه كل مرة، فبدأت بقسم الأطعمة بدل الإلكترونيات زي كل مرة .. و بعدين تيجي و تقول لي إن إحنا بقينا جيران كمان، رغم إن من ساعة ما أخدنا الابتدائية إحنا الاتنين فص ملح و داب .. بصراحة شيء لا يصدكه عكل ..
لم تكن تملك جوابًا .. كل هذا الكم من المصادفات لا يصح أن نسميه مجرد مصادفات، إنها ترتيبات القدر .. هي لا تؤمن بكلمة مصادفة أصلاً، فهي تعبر عن العشوائية، بينما كل شيء في هذا الكون يسير وفق نظام من العسير أن نقول بوجود مكان للعشوائية فيه .. لكن تصاريف القدر هذه، لأي غرض و لأي هدف ؟ .. لا تستطيع أن تخمن هي أو هو، لكنها حتمًا لغرض عظيم ..
انتهيا مما كان فيه، و قد صادق زكريا شمسًا و أخذ يستعيد مع إسراء ذكريات بعيدة .. بعيدة للغاية، لكنها بالقطع لا يمكن أن تذهب أدراج الرياح .. و في سيارته أخذته الذكريات مرة أخرى في غياباتها تقذفه يمينًا و يسارًا، و هو لا يدري أنه على وشك إضافة المزيد إلى هذا المعين الذي لا ينضب من ذكرياته ..

***
هبط جمال و فارس من سيارة الأول أمام نقطة شرطة باب شرقي، و توجها مباشرة إلى مأمور النقطة، الذي ابتدر جمال بالحديث، بعد عبارات المجاملة و الشكر المعتادة:
- محمود باشا كلمني و لو أني مش محتاج وصاية .. تحبوا تشربوا إيه ؟
- شكرًا جزيلاً .. لو كوباية مياه ساقعة أكون شاكر جدًا ..
بعد أن أدى التحية قال المأمور للجندي:
- اتنين حاجة ساقعة و إزازة مياه مشبّرة .. بسرعة يالا ..
ثم التفت إلى جمال و فارس و قال:
- يا أهلاً و سهلاً .. تاخدوا واجبكم و يكون الكاتب و واحد من الظباط تحت أمركم ..
و فيما أخذ جمال يرشف من زجاجة المياة الغازية، كان فارس يحاول ترتيب ما سيقوله في المحضر، حسب توجيهات جمال، في رأسه .. كان متوترًا و يريد أي شيء يفرغ فيه هذه الشحنة الهائلة من الغضب و التوتر الذي يستعر بداخله، و لو لم يكن بكامل قواه العقلية لحطم هذا المكتب على رأس من فيه، و لو أنه لا يكفيه هذا لإفراغ ما بداخله ..
الأمر كله قد يكون عبثًا، و لو صح هذا فهو عبث ثقيل .. اتصل به أحدهم على هاتفه المحمول و لم يظهر له سوى هذه العبارة المستفزة "Private Number" .. ضغط زر الإجابة بتلقائية:
- آلو ؟
- أستاذ فارس بدر ؟
- أيوه ..
- اللي بيلعب بالنار يا أستاذ بتلسعه .. لو لعب بيها أكتر .. بتحرقه ..
- مين معايا ؟
كانت صوتًا رزينًا وقورًا جدًا، و كانت إجابة سؤاله الأخير هي الصمت المطبق و الخط الذي أُغلق دون كلمة زائدة .. جلس للحظات كالمذهول، ثم انتبه إلى أنه يمتلك برنامجًا صغيرًا يعمل تلقائيًا عند بدء أي مكالمة فيسجلها .. استمع لها ثانية علّه يهذي، فوجد أنه – للأسف – لا يهذي ..
أنهى ما في يده و رجع إلى منزله، يضرب أخماسًا لأسداس .. طريقة الحديث توحي بتهديد خفي، و هو تهديد بالقتل ما لم يكن قد خسر ذكاؤه مع توازنه النفسي الذي تبعثر بعد هذه المكالمة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: منذ متى كان له أعداء بلغوا من الجرأة مبلغًا حتى يهددوه بالقتل ؟ .. ثم، و هذا هو الأهم، إلى أي مدى هم جادون في هذا ؟ ..
حاول أن يبدو طبيعيًا لكن والدته كانت أكثر شحوبًا من المعتاد، و رجفات يديها كانت أقوى من المعتاد، و كما توقع تمامًا:
- في واحد اتصل و قال لي دا منزل أستاذ فارس بدر، قلت له أيوه، قال لي قول لي لابنك يا حاجة إن اللي بيلعب بالنار بتلسعه، لو لعب بيها أكتر بتحرقه .. قصده إيه يا بني الراجل ده كفى الله الشر ؟
لم تكن بالطبع تجهل ما يعني، و حاول هو أن يطمأنها بكلمات من عينة:
- لا .. دا شكله بيهزر، أو بيعاكس .. ما أنت عارفة رخامة البني آدميين دلوقتي ..
و توارى عن عينيها في حجرته، شاعرًا أن الدنيا قد انقلبت من حوله رأسًا على عقب، ثم انتبه لما قاله لوالدته منذ لحظة .. لم لا تكون فعلاً معاكسة ليس إلا ؟ .. ربما هو أحد هؤلاء المخابيل الذين يسمع عنهم كثيرًا، فيهدد فلانًا أو فلانًا كي يشتهر، لكن أي شهرة يبتغيها هذا المأفون من وراءه ؟
قضى بقية يومه كمن يسير على شوك .. الجملة لا تحمل أكثر من معناها، لكن طريقة إلقائها تحمل المعنى كله ..
ربما هو واحد ممن فضحهم فيما سبق ؟ .. جائز، لكنه – لو لم تخنه الذاكرة – قد دفع ثمن هذا من عمره ستة عشر شهرًا في المعتقل "ينعم بحياة فاخرة"، و كان هذا بعد مقال فضح فيه أحد قادة الحزب الحاكم .. فمن يكون هذا يا ترى، لو هو واحد منهم ؟
قاده هذا الاحتمال أن يكون هذا الوكيل، عادل عبد الحليم، الذي يشير إليه من طرف خفي في مقالاته، هو السبب، لكن ما كتبه حتى الآن لا يعدو كونه كلامًا دون نشر أسماء، فمن أين له هذا التأكد ؟ .. السؤال ليس من أين له هذا التأكد، بل من أين له هذه الجرأة، أو لنكن أدق، هذه "الصفاقة" حتى يهدده بالقتل مباشرة ؟
شعر برأسه تدور و تدور، و الاحتمالات تكاد تقضي عليه، ففعل الشيء الوحيد الذي رآه صالحًا في مثل هذا الموقف .. اتصل بجمال، و شرح له كل ما حدث، و كان الحل الذي طرحه جمال – حتى هذه اللحظة – هو إثبات تلك الواقعة بمحضر رسمي، و تتبع هاتفه لمعرفة من المتصل، هذا إن اتصل مرة أخرى، و السعي لترخيص سلاح ناري ..
- حضرتك ما بتشكش في حد معين ؟
- مع الآسف لأ .. الاحتمالات كتير، و مش عاوز اتهم حد أو احطه في دايرة الشكوك لمجرد الظن ..
أنهى المحضر، و حصل على رقمه، و خرجا يشيعهما المأمور بكلماته و تحياته، و عند السيارة قال جمال:
- لو عاوز رأيي .. هو وكيل الوزارة ده ..
- أنا بأقول كده .. بس ما توصلش لدرجة القتل .. ما عنده المعتقل زي ما الزفت التاني دا عمل .. عنده مليون طريقة، بس المرة دي طريقته مرعبة جدًا ..
استقرا بالداخل ثم تابع فارس:
- أنا مش قلقان عليّ أنا .. أنا قلقان على الست الوالدة .. أمي مش حمل بهدلة، و الموضوع دا عاملها قلق ما قولكش .. بتلف و تدور حوالين نفسها زي أيام المعتقل الله لا يرجعها ..
- إن شاء الله خير .. بس المهم هدّي أنت اللعب في الجرنان شوية .. واضح إنه راجل بيحب يخلص م الآخر، و الجحر اللي يطلع منه التعبان .. بيقتل التعبان و يسد جحره ..
قالها جمال، ليغرقا بعدها في صمت مطبق ..
***
أغلقت سارة مفكرتها الصغيرة و وضعت القلم جانبًا و توجهت إلى أحب مكان لديها في حجرتها الصغيرة .. الشرفة .. جلست تستمتع بنسمات العصر الرقيقة مغمضة عينيها مفكرة فيما كتبت منذ لحظات ..
كانت زيارتها برفقة والدتها لطبيب القلب هذا منذ أسبوع، و قد دهشت بالفعل من هذه المصادفة .. هذا الذي كاد يفرغ مثانته من فرط الحرج، و تلعثم متأسفًا فلم يبن شيئًا من كلامه هو "أستاذ دكتور" و في تخصص كهذا، و الأدهى هو أنه صديق لزوج بنت خالها، و عما قريب سيكون الطبيب المعالج لوالدتها و من سيجري لها عملية جراحية دقيقة تتعلق بها حياتها أو ما تبقى منها ..
غريبة هذه الدنيا .. حادث تافه لم تعره اهتمامًا على الإطلاق، و نسفته نسفًا من ذاكرتها، تجد أنه أصبح مركز أحداث الأيام القادمة .. لو قال لها أي شخص هذا لحسبته أبلهًا يتخرص لا يعي ما يقول !
لكنها، رغم نسيانها بالفعل لما حدث في هذه اللحظة، شعرت أنه تفاعل مع وجودها مع والدتها بنفس الصورة .. شعرت أنه تشتت و خرجت بعض الكلمات من فيه تحتاج لترجمة و تفسير .. ترى هل كان يتوقع أن تتعامل معه باستنكار، باعتبار أن أستاذًا جامعيًا ليس من المفترض أن يتصرف بهذا الحمق ؟ .. أم أن صمتها المطبق دون صوت كأنها غير حاضرة هذه الجلسة جعله يقع في حيرة فلا يعرف أهو صمت أم استنكار ؟
لكن الحقيقة هي أنها – في كل وقت و حين – صموتة كالقبر، و ربما عاد هذا لدماها المختلطة .. أب مصري و أم من جد إنجليزي منحها ذلك البرود الفطري الإنجليزي الذي اكتسبه أهله عبر قرون من الحياة في هذه البقعة الباردة الضبابية من الكرة الأرضية ..
لكنها ليست صموتة من باب العادة و الوراثة فحسب .. هي تتأمل .. تحاول أن تسبر أغوار ما و من ترى .. و ربما للسبب نفسه درست علم النفس البشرية، و اختارت أن تدرّسه في الجامعة، رغم ضعف العائد المادي، لكن ما تبحث عنه أكثر من مجرد أموال تنفقها، و ما تملكه يجعلها في غنى عن كل هذا ..
غدًا تذهب إليه حاملة نتائج الفحوص و التحاليل و الأشعة التي أجرتها والدتها طوال أسبوع، و ترى هل كانت على حق، أم أنه كان متوترًا لأمر آخر، و أسقطت هي هذا التوتر على ما حدث بينهما، و توهمت أنه توتر لمرآها ؟ .. غدًا تعرف، لكن غدًا هو يوم آخر ..
***

23.11.09

الذهب الأحمر - الفصل الثالث

الفصل الثالث

"الأمر حتمًا ينطوي على خدعة .. تارام ليس صديق طفولتي كي يعرض ابنته مقابل حلف عسكري، و هو يعلم أنني أمقته كما أمقت الهوبوز، و لولا قوة مملكته لما لجأت إليه .."
زفر الملك با-هيب و هذه الأفكار تدور في رأسه، و غاص في سريره أكثر، بينما صنع صوت تنفس زوجه المنتظم بجواره خلفية موسيقية رتيبة، لو لم يكن مشغول الذهن لقذفت به في غيابات النوم منذ ساعات ..
"أيعرضها لتكون عينًا له ؟ .. من المستحيل بالطبع مراقبة زوج الأمير و وضعها تحت مراقبة دائرة الأمن، خاصة لو كانت أجنبية، و هو ما يجعلها في حرية تامة أن تتصل بأبيها و بمن تشاء .. لكن أي شيء مفيد يمكن أن تقدمه له و النساء ممنوعات من حضور أي شيء في أي شيء يتعلق بأي شيء من شئون الحكم ؟ .. هل تقدم له معلومات عنا، نحن الأسرة المالكة ؟ .. رأسي يكاد ينفجر .."
قام عن سريره بعد أن تعب من كثرة محاولاته أن ينام و فشله لما يزيد على ثلاث ساعات .. توجه إلى شرفة غرفته يطلب بعض النسيم عله يبرد هذا الآتون المشتعل في رأسه ..
سيرفض .. نعم سيرفض .. "و لم أقبل ؟ .. سنجعل الأمر يبدو طبيعيًا .. لا بد من رأي مجلس المشورة لزواج النبلاء و الأمراء و الملوك، و مجلس المشورة رفض .. أخشى ما أخشاه أن يتخذ الرفض ذريعة لإعلان الحرب .. الحرب ؟"
نظر للسماء التي بدأت تباشير الفجر الأولى في صبغ صفحتها، و للنجوم المتراصة في صمت كأنها تشاركه تفكيره في هذا الاحتمال .. و لم لا ؟ .. لم لا يكون تارام قد انتظر طويلاً حتى تأتيه هذه الفرصة، فيجعل من نفسه المدافع عن شرف مملكته التي أهينت برفض ابنته، و يحقق في الوقت ذاته غرضه من نهب مملكة النازوم ؟ .. و لكن .. "أيعقل أن يتورط تارام في حرب جديدة، و الهوبوز يهددون حدوده ليل نهار، و هو بحسب ما وردني مطحون كالبُرّ في هذه الحرب ؟"
أعادته الجملة الأخيرة إلى مجلس المشورة، فهو مصدره في هذه المعلومات، و هو لا يشعر تجاه أعضائه براحة، رغم ما يبدونه من ولاء ظاهر و باطن .. زفر مرة أخرى، لكنه قطع زفرته بعنف، إذ اتلقطت عيناه شيئًا – أو شبحًا – يقفز من فوق سور القصر و يهبط في خفة النمور، و ميّز فيه ملابس الغوغاء، فتصاعد الدم إلى رأسه يغلي، و ذهب من فوره و الغضب و القلق – كلاهما – يحركه نحو رافعة الإنذار، لتنطلق الأجراس داخل القصر توقظ الخدم و الحرس أن هبوا لنجدة مليككم ..
في فزع هبت الملكة من نومها العميق تتساءل عن السبب لإطلاق أجراس الإنذار، و بنفس القدر من الفزع كان را يتحرك كالمحموم، يريد الوصول إلى غرفته، قبل أن يكتشف أحدهم – أيًا كان هذا الـ "أحدهم" – أنه غير موجود في غرفته، و أنه هذا الغوغائي الذي تسلل إلى القصر ..
أكثر ما كان يخشاه أن يكتشف والده رحلاته الليلية .. اختلاط النبلاء بالغوغاء جريمة، و أي حالة تكتشف ليس لها إلا الإعدام، لأنها "تلويث للدم الملكي النبيل بدماء حقيرة" .. والده لم يتذكر لموار-هن ما كان بينهما، و أطاح برأسه عندما حدث ما حدث، و هو لا يريد أن يضع نفسه أو يضع والده في موقف كهذا أبدًا ..
و رغم حرج الموقف، إلا أن را تفكر في هذا المنطق الملتو الجائر .. بأي حق اعتبروا أنفسهم أصحاب دماء نبيلة، و بأي حق وصموا أولئك بأنهم غوغاء ؟ كيف يصل الأمر به، و هو الأمير/الملك الذي يريد أن يتعرف على شعبه أكثر .. يتعرف على سواده و جمهوره أكثر .. كيف يصل الأمر به أن يعتبر مجرمًا لا يستحق عقوبة سوى الإعدام ؟
لم يطل التفكر، إذ توقع أن يطرق أحد الحرس بابه بين لحظة و أخرى يطلبون منه أن يفتح لهم، ليأخذوه إلى المخبأ، أو ليطمأنوا عليه، و الأوامر لديهم صريحة، بأن الطرقة الثالثة هي الأخيرة، و بعدها فالباب حِلٌ لهم يفتحونه عنوة ..
خلع ملابس الغوغاء و اخفاها، و ارتدى منامته على عجل و دخل غرفة الاستحمام، يريد أن يجد لنفسه مبررًا لبطأ استجابته، بوجوده في هذه اللحظة يلبي نداء الطبيعة ..
كان أكثر ما يشغل تفكيره في هذه اللحظة هو رد فعل والده .. هل اكتشف أصلاً أنه هو هذا المتسلل، أم يظنه واحدًا من الغوغاء بحق ؟ .. أدار الأمر في رأسه، و رأى أن الاحتمال الثاني أقرب للمنطق .. لو كان قد تحقق من شخصيته و هو يقفز فوق السور لما ملأ الدنيا صراخًا، و لأتاه من فوره غاضبًا عاصفًا .. هدأ لهذا التفسير، لكنه عاد يتصنع القلق و الدهشة ليواجه بهما الحراس و والده و والدته، و ليستعين بهما على قضاء ما تبقى من الليلة يبحث عن آثار هذا الغوغائي الشبح الذي لن يكون له أثر إلا أثره هو شخصيًا ..
خرج من غرفة الاستحمام و قد حرص على أن يبلل نفسه، ثم اتجه إلى باب غرفته يرسم على وجهه علامات الاهتمام و الدهشة و القلق، لكن الدهشة انقلبت من مصطنعة إلى حقيقية عندما فوجيء بوالده على أعتاب الغرفة يسأله في لهفة:
- را .. ألمحته ؟
- من هو ؟
- ذلك الغوغائي .. شاهدته و أنا في شرفة القصر يتسلل ناحية غرفتك ..
- كنت في غرفة الاستحمام فلم ألحظ أحدًا ..
و قبل أن يكمل را كلمته الأخيرة، كانت أوامر الملك قد صدرت إلى الحرس أن فتشوا الحجرة، عل هذا الغوغائي قد اختبأ فيها، ليهوي قلب را إلى ما هو أبعد من قدميه ..
***

30.9.09

الذهب الأحمــر - تابع الفصل الثاني

" غريب أنني أتشوق لهذه الزيارة ، منذ مدة ليست بقصيرة و أنا أتذكرهم بضحكاتهم ، بنظراتهم ، بذلك الشيء العجيب الذي يربطهم ، قد لا يعرفون بعضهم البعض و لكنهم يتعاملون و كأنهم أصدقاء أحماء يربت أحدهم على كتف الاخر و يمازحه ، كأن الغوغائية صلة قرابة تجمعهم ، مالا أدركه عنهم كثير ، لكني سأحاول التعرف عليه شيئا فشيئا .. لقد قال لي المعلم موار يوما ان الملك الذي لا يعرف شعبا يحكمه كالحداد الذي لا يعرف كيف يوقد نارا أو يطرق ، و لست أنوي أن أكون هذا الحداد .. أريد أن أكون ملكا عظيما كوالدي "
نحى دواته و قلمه جانبا ، و قرأ ما كتب و ابتسامة طفيفة تعلو وجهه ، أحس كأنه يقرأ في أحد الكتب التي اعتاد أن يقرأها في المكتبة الملكية ، أعادته تلك الافكار الى مقابلته مع أرنوك ، تعجب كيف أنه لا يعرف الكثير عما حدث لمعلمه .. كان طفلا عندئذ و لم يخبروه شيئا لشدة ما أحب موار ، و لم يتجرأ أن يسأل عندما كبر خوفا من أن يثير الاما قديمة ، تعجب من بعض كلام أرنوك و كيف لم يفهم معناه ، و تعجب من اصرار أرنوك ألا يراه الملك و لا يعرف باللقاء الذي تم .. قطع سيل تساؤلاته صوت طرق على باب حجرته ، أغلق مذكراته و فتح درجا يبقيها فيه و أغلقه و أدخل المفتاح في جيب سترته ثم أذن لمن بالباب بالدخول.
***
-بالله عليك يا رجل ، يندر الحصول على غزال في مثل حجم هذا .. تعرف جيدا أنك لو بعته لأحد النبلاء فلن تأخذ فيه أقل من عشرة أضعاف ما تعرضه علي..
-ان لم يعجبك ما أعرضه عليك ، فبعه بنفسك لأحد النبلاء ..
-ليكن ما تريد يا رجل .. قالها على مضض ليعطيه الرجل ما كان قد عرضه سلفا من كرونكات قليلة لا تتناسب اطلاقا مع حجم و سمنة هذا الغزال ، ليمضي أرنوك مبتعدا الى حيث المكان الوحيد الذي يقصده عندما يزور المدينة

-لو كنت أحد رجال الملك ، لكنت الان في ورطة
التفت بالرين لصاحب الصوت ضاحكا و قد ميز صوته : قل لي انك لست من رجاله ، ثم ألقى ذلك الصندوق الذي أفرغ مختوياته على جانب الطريق باهمال و هو يتمتم ببعض كلمات ، ثم احتضن أرنوك قائلا في تساؤل : مبكرا جئت هذه المرة
-حظيت بصيد جيد ، كما أن هناك ما يجب أن أخبرك به
-كلي اذان مصغية
- أفضل أن تكون غاريتا موجودة معنا. قالها بجدية أقلقت بالرين الذي قال : ماذا هنالك يا روك؟
- لا شيء يدعو للقلق ..
***
- نارزا ، اشتقت اليك. قالها را و هو ينهض لاستقبال مربيته التي قالت : و أنا أيضا يا بني ، ارجو أن تكون رحلتك قد اتت ثمارها
- بعض الثمار و بعض ، دعك من تلك الأمور الملكية ، أوتعرفين ماذا كان يشغل بالي معظم الوقت؟
- لست أدري ، ربما فتاة تركتها خلفك هنا ؟ قالت ممازحة اياه
- اه نارزا ، انت تعرفين أنني لن أتزوج الان ، أقله ليس كما يرغبون بتزويجي .. ما شغل بالي خقا هم الغوغاء..
-ماذا عنهم ؟
- أريد أن أعرف الكثير عنهم ، هناك شيء ما لست أدركه ، كما أنني لست أرغب أن أكون هذا الحداد ..
- أي حداد ؟؟
- لا عليك ، انه شيء ما أخبرني به موار
- موار-هن ، لقد كان رجلا حكيما ، نعم الصديق و الوزير
- نعم .. أتذكرين ما حدث بينه و بين أبي حقا يا نارزا ؟ لا أستطيع أن أصدق قصة السم و الخيانة تلك
ارتبكت نارزا قليلا و شردت بعينيها تتذكر
- نارزا.. ؟ نادى عليها را يخرجها من ذكرياتها سائلا مرة أخرى عما حدث حينها
- أنا حقا لا أذكر الكثير يا بني ، و أنت تعرف ، نارزا لا تتدخل أبدا في شئون الحكم .. و لكن ما ذكرك به ، أقصد موار؟
- لقد رأيت .. بعض الكتب التي كنت أقرأها عليه
- أنس الماض بني ، و ان كنت تريد خقا تشريفه فاعمل بما علمك
- و هذا ما أنوي فعله.
***
- حسنا يا روك ، ماذا هناك ؟ أقلقتنا
- لا تقلقي غاريتا ، لقد قابلت را اليوم
- أ ي را تقصد
- و هل نعرف را سواه ، الامير را-هيمين
- ماذا ، يالله ، و هل عرف بنا ؟
- لا يا روك ، لقد أمسكني حرسه بينما كنت اصطاد ، فعرفني بينما عرضوني عليه
- و الان يجب علينا أن نفر مجددا .. قالها بالرين في قلق و حزن
- لا ، رين .. لقد أخبرته أنني الوحيد الذي نجا منا ، و ..
- أصدق هذا ؟
- نعم ، و لكني أحببت أن ابلغكما كي تأخذان حذركما ، لربما أبلغ أباه بالأمر ، و هذا ما رجوته ألا يفعل
- لا زلت أرى أن نختفي لبعض الوقت . قالها بالرين و قد بدا الخوف يتملكه
- لا رين ، انه لا يعرف عنكما شيئا ، و ما كان را ليعرفني لو لم أكن اشبه أبي الى هذه الدرجة .. كما أننا استغرقنا و قتا كي نصل لما نحن عليه الان ، فجميع عيون الملك يعرفونكم كغوفائي و زوجته يديرون خانة ، و يعرفونني كصياد ازوركم للطعام و النساء ، كما أنني لاحظت شيئا عليه ، كأنه لا يعرف ما جرى أو يجري ، كأنه كان سعيدا حقا لرؤياي
- و أن كان يا روك ، فقد كان والده يسعد لرؤيانا و أبانا كثيرا ، و لم يحل هذا بينه و بين ما فعل
- أدرك هذا ، لذلك أردت أن أخبركم ، و الان هل لي ببعض الطعام يا سادة؟ قالها ضاحكا مخاولا أن يهديء من روعهما.
***
دفع را-هيمين باب الحانة بيده و دلف الى هذا العالم الصاخب ليتجه الى ركن جلس فيه مراقبا ما يجري خوله كأنه طفل يتعلم ، قطع تركيزه صوت خشن : مضى زمن منذ رأيناك هنا أيها القط ؟
التفت الى هذا الصوت ليرى الرجل الضخم الذي تشاجر معه المرة السابقة فأجاب قائلا محاولا أن ينطقها كما يفعل الغوغاء : نعم ، مر و قت ليس بقليل
- لا بد أنك اشتقت اليهن
- هن ؟
- النساء ..
- بالطبع ، و لكني اشتقت الى الطعام الجيد أكثر
- اذن فعليك بحساء الخضروات ، فامرأة صاحب الخانة لا يضاريها في طهوه أحد
- و ماذا عنك ؟
- لقد تناولت طعامي للتو ، و لكني سأشرب معك حتى تنهي طعامك ثم نشرب سويا
نادى الضخم على النادلة و طلب زجاجة شراب و صحنا من الحساء ، سرعان ما عادت النادلة بالشراب و أخبرتهم أن الطعام سيستغرق بعض الوقت
ملأ الضخم الكأس و ناولها لرا قائلا : حتى يأتيك طعامك
- لست في مزاج للشرب حقا ..
رمقه الرجل بنظرة قلق ، و قال : أنت لا تشرب أبدا و لا تأتي هنا لأجلهن ، فلم تأتي اذا ؟ يا الهي .. أنت من رجاله
- رجال من ؟
- الملك ، انه رجل عظيم ، صدقني يا سيدي أنا لست على علاقة بأي مما يحدث من شغب
تعجب را من تصرف الرجل ، و كأن رجل والده ، و ان كان لا يفهم من هؤلاء ، يخيفون الغوغاء ، و لكنه قال للرجل : لا يا صديقي، و لكني أمتنع عن الشراب و النساء لسبب
- اي سبب هذا الذي يمنع شابا مثلك عنهما ؟!
- انها قصة طويلة ، لا أريد أن أشغل بالك بها
- و هل نملك شيئا الا الوقت أيها القط .. قالها و ابتلع ما كان قد صبه في الكوب دفعة واحدة ليكمل : احك لي ...

23.9.09

بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل السادس / الجزء الثاني

الفصل السادس - دوائر متقاطعة

"الناس دي عايشة في ماء البطيخ المغلي .. انجزوا و ارحمونا بقى من الرغي ده"
لو خرج هذا الحديث من دائرة سريرة زكريا إلى لسانه، فهو الطرد و الفضيحة بلا ذرة انتظار .. كان اجتماعًا لمجلس القسم في الكلية، و رغم وجود عدد من الشباب في الجلسة، إلا أن سيطرة الكبار على مسار الحديث جعله مملاً جدًا .. هؤلاء القوم يمتهنون الملل لا الطب ..
- دكتور زكريا .. تحب تقول حاجة ؟
قالها رئيس القسم كأنها طوق النجاة .. إذن سينتهي هذا الملل ..
- أفتكر إنك كلمتني في حاجة بخصوص جهاز القسطرة ..
بدا السرور واضحًا جدًا على وجه زكريا، ربما بصورة ملفتة للنظر، و كأنه يقول بملء فيه "يا ولاد الـ .. صدعتوني .. أخيرًا حأخلص"، إلا أن تحدثه لم يجعل أحدًا يعطي هذه الملاحظة الاهتمام الكافي، إذ انطلق يتحدث:
- يا أفندم، أنا باعتبر دايمًا إننا أسرة واحدة .. يعني مفيش بينا زعل ما دمنا في حدود الأدب ..
صمت لحظة و قد بدأت لمحة من توتر تغزو الأجواء، ثم تابع:
- أنا حاسس إن في ناس مشغلة جهاز القسطرة لحسابها .. الجهاز و لا مؤاخذة حمار شغل .. مش معقولة كل يومين يعطل، و أفاجأ من كلام العمال إن الدكتور فلان أو فلان شغال عليه، رغم إني كل ما أقول حاحجز عليه عملية و لا اتنين يقولوا أصله عطلان .. في حاجة غلط يا افندم ..
- قصدك مين بفلان و فلان يا دكتور زكريا ؟
قالها أحد الأساتذة الجالسين بحدة، فرد زكريا بهدوء:
- مش عاوز اتهم حد يا دكتور محيي، لأن ممكن يكون كلام العمال مجرد كلام فاضي و إنهم بيضربوا أسافين و خلاص .. لكن موضوع الأعطال الكتيرة دي مش منطقي و مش طبيعي و لازم يتحقق فيه .. إذا كان الجهاز قدم يبقى نجيب واحد تاني، و بعدين ..
قطع كلامه أن هب محيي كالعاصفة في وجهه:
- لأ ما ينفعش الكلام ده .. أنت تقول إن في ناس بتشغل الجهاز لحسابها و تتهمهم و بعدين تقول ممكن يكون أسافين و خلاص ؟ .. أنت كده بتتهمنا كلنا بالسرقة و التربح من ورا المهنة بشكل غير مشروع و من غير دليل .. دا ..
هنا قاطعه رئيس القسم قائلاً:
- في إيه يا دكتور محيي .. لزومها إيه الثورة دي كلها ؟ .. دكتور زكريا ما قصدكش بحاجة ..
بدا عليه الارتباك لحظة لم يدر خلالها ما يقول قبل أن يندفع:
- أنا رافض أسلوب الاتهام الجماعي .. اللي يتكلم عن القسم بكلمة وحشة يبقى يقصدنا كلنا بما فيهم أنا ..
- و أنا ما اتهمتش القسم كله يا دكتور محيي .. أنا قلت مش عاوز أقول الأسماء اللي سمعتها إلا إذا اتفتح تحقيق رسمي، علشان ما ابقاش اتهمت حد بالباطل لو كل الكلام اللي سمعته مجرد أسافين و إشاعات و كدب من غير رجلين .. لكن الكلام فعلا لازم يتاخد على محمل الجد و إلا الله أعلم إيه اللي حيحصل بعد كده ..
كاد محيي أن يندفع في الحديث مرة أخرى فقال محسن الكيال رئيس القسم:
- خلاص .. انتهينا .. الموضوع ده أنا حاحقق فيه بنفسي، و اللي حيثبت بأي شكل من الأشكال إنه بيستفيد من الجهاز لحسابه الشخصي يبقى أحسن يدور له على مكان تاني يشتغل فيه ..
قال زكريا:
- لو سمحت يا أفندم في نقطة تانية .. في دكتور بأشرف على رسالة الدكتوراه بتاعته .. الرسالة في طرق تثبيت الدعامات في الشرايين التاجية و أفضل الوسائل المتبعة لتفادي فشل تركيبها .. هل من المعقول إنه ييجي يدخل أوضة القسطرة يتقال له مالكش دعوة بالأوضة دي ؟ .. ما تقربش منها ..
صمت هنيهة ثم أضاف:
- دكتور محيي شخصيًا قال له كده و في شاهد ..
اندفع محيي للمرة الثانية:
- قصدك إيـ ..
- دكتور محيي ..
خرجت صارمة من محسن الكيال فصمت محيي على مضض فيما قال هو:
- مش معقولة اتنين أساتذة في كلية طب يتناقشوا بالطريقة الهمجية دي .. الكلام دا حصل فعلا يا دكتور محيي ؟
- دا كلام ما عليهوش دليل، و لو ..
- حصل و لا لأ ؟
صمت محيي لحظة ثم قال:
- لأ طبعًا .. أقول له كلام زي ده ليه، و بعدين أنا مش محتاج أقوله لو كنت عاوز، لأن الجهاز عطلان و دخوله زي عدمه ..
- فين الشاهد يا دكتور زكريا ؟
أشار زكريا لإحدى الحاضرات و قال:
- دكتورة منال كانت واقفة ساعتها، و سمعت الكلام ده ..
- أيوه فعلا يا دكتور محسن .. دكتور محيي قال له بالنص: "و أنت حتعمل إيه بأوضة القسطرة ؟ .. آخر حاجة تفكر فيها تدخل الأوضة دي"
صمت الكيال واضعًا كفيه المعقودين أمام ذقنه ثم قال و هو يومئ برأسه:
- عظيم جدًا .. أنت متحول للتحقيق يا دكتور محيي ..
هب محيي واقفًا و بدا أنه على وشك أن يرغي و يزبد و يدافع عن نفسه، فقاطعه محسن مشيرًا بيده:
- آخر حاجة حاسمح بيها إن القسم يتحول لعزبة يا دكتور محيي ..
- بس دا كلام مالوش أساس من الصحة .. دا افترا ..
- حيبان من التحقيق .. البرئ ما بيخافش ..
كان قوله بمثابة اتهام خفي، إلا أنه لم يتوقف عنده كثيرًا، بل لملم الأوراق التي أمامه، و هو يقول:
- الاجتماع انتهي يا دكاترة .. كل واحد يتفضل على شغله ..
و فيما أخذ محيي "يبرطم" ببعض الأشياء المبهمة، أخذ الأساتذة الجالسون في القيام و بعضهم يهمهم ببعض الأشياء عما حدث و عما سيحدث .. وحده زكريا انسل من بين الجمع كأنه ملح ذاب في ماء، و انطلق لا يلوي على شيء، يريد أن يخرج من المكان و يغادر الكلية بأسرع ما يكون، كي يستطيع القيادة قبل الازدحام، فالساعة تقترب من الثانية .. توقيت مفيض البشر في مصر خروجًا من أعمالهم و التلاميذ من مدارسهم و الطلبة من كلياتهم و أي شخص من أي مكان ..
عادة يشعر بالضيق و الملل و السأم و كل شعور ينتمي لهذه الفئة من زحام هذه اللحظات، أخذ يلعن في سريرة نفسه هذا الاجتماع الأخرق الذي اضطر لحضوره و سماع غثاء هؤلاء، و كأنهم يستمتعون بإضاعة الوقت .. من العسير حقًا أن يصدق، لولا أنه ينتمي إليه بالفعل، أن هذا القسم يضم بين جنباته أساتذة في فرع دقيق من الطب كجراحة الصدر و القلب ..
"ماء بطيخ مغلي من غير بذر" .. تمتم بها و هو يحاول الخروج من هذا التشابك الرهيب للسيارات أمام بوابة الكلية .. سيارات أجرة، و حافلات، و سيارات خاصة، و موظفون، و أطفال، و شحاذون و .. و .. و .. أمم ..
أخذ يقلب فكره فيما جرى في هذا الاجتماع .. ليس طبعًا وصلات العزف المنفرد التي قام بها الأساتذة قبل أن يتحدث، بل في رد فعل محيي تجاه كلامه .. أغلق الزجاج، و شغّل المكيف و بعض الموسيقى الهادئة و أخذ يتحدث إلى نفسه بصوت عالٍ كعادته كلما أخذ يقلب أمرًا على وجوهه كلها:
- أنا مازادش شكي إلا لما سمعت عم إمبابي بيتكلم عنه، بس النهاردة .. لأ أكيد في حاجة .. مش معقولة هياجه دا كله علشان خاطر ننوس عين سمعة القسم .. دا أول واحد ما بيعتبش عتبة القسم إلا علشان القبض و العمليات هو بسلامته ده ..
ابتلع ريقه بصوت مسموع كنوع من الموسيقى التصويرية، و أكمل باسمًا:
- شكلها حتبقى أيام سُقع يا زيكا .. مزيكا يا زيكا .. مزيكا ..
أخذته الموسيقى بعيدًا، و إن لم ينصرف ذهنه تمامًا عما حدث .. محيي متورط، لكن الإثبات سيكون عسيرًا كالمعتاد ..وجود منال كشاهد لحظة أن قال لهذا الطبيب ما قال كانت ضربة موفقة، لم يكن له فضل فيها بالطبع، اللهم إلا أن الله ألهمه أن يبعث بمنال برفقة بهاء – الطبيب الذي تدور حوله كل هذه القصة – إلى محيي كي يتفقا على دخوله غرفة القسطرة و العمل بها، باعتبار محيي المسئول عنها هذا العام .. بعث بها معه، ليس كواسطة، بل كدرع يخفف من حدة محيي، فهذا الأخير ذو طريقة صادمة في الحديث، و لربما كان حديثه أسوأ من هذا الذي قال لولا وجود منال ..
يبقى عم إمبابي، لكن إقناعه بالحديث رسميًا سيكون أمرًا شاقًا .. الرجل يحمل النظرة المصرية العتيدة نحو كل ما هو حكومي، حتى لو حمل إليه مصلحته على طبق من ذهب: "ابعد عن الشر و غني له"، لكن ليس من سبيل لإحكام الاتهام سوى شهادته .. هناك أيضًا العمال المسئولون عن الجهاز نفسه و تشغيله .. سيحاول أن يقنعهم، و ليوفقه الله ..
انحرف بسيارته خارجًا من شارع البطالسة متجهًا إلي شارع فؤاد في طريقه إلى محطة مصر، كخطوة في طريقه الرئيس إلى كارفور ليبتاع احتياجات الأسبوع من الطعام و الشراب .. كلما تذكر أنه يبتاع ما يريد الآن من كارفور بعد أن كان يفعل الشيء نفسه من سوق زنانيري بكليوباترا يبتسم، لكنه في أحيان كثيرًا يضحك ملء فيه ..
كان معروفًا وسط إخوته بأنه "بتاع السوق" .. هو المسئول عن إحضار متطلبات المنزل من السوق، فهو يعرف الأسعار و يتابعها، و يعرف الباعة الجيدين و الباعة "النص نص"و يعرف الأماكن التي تبيع بأسعار أقل .. كان مساعدًا ممتازًا لوالدته يرحمها الله، أما الآن، فحتى يفعل الشيء نفسه، فعليه أن يتخلى عن سيارته في بداية السوق و ربما قبله، و أن يترجل و يخترق الزحام و يبدأ في "النقاوة" و الفصال و البحث و الفحص، و هو لم يعد يمتلك البال الرائق المستعد لكل هذا التعب و النصب، بالإضافة إلى عدة أمور، ربما أهمها أنه لا يستقر في منزله كثيرًا .. ما بين العيادة و الكلية و المستشفيات التي يجري فيها عملية هنا أو هناك .. غالبًا ما يأكل في أي مطعم، أو يبتاع بعض الشطائر يزدردها على عجل، و في بعض الأحيان يظل صائمًا لا يدخل جوفه سوى الماء .. الأهم من هذا كله هو أنه لا يحمل هم أسرة و أولاد و منزل، و لهذا يتصرف بحرية أكبر، ثم إن ما يبتاعه لا يشكل سوى النذر اليسير .. بعض الأشياء التي اعتاد طعمها و لا يجدها خارج هذا السوق العملاق ..
وضع سيارته بعد لأي و جهد على الطريق المؤدي إلى كارفور إنطلاقًا من محطة مصر و انطلق يمضي الوقت في الاندماج مع نسمات الأحلام المنبعثة من السماعات، ينقر مع النغم تارة و يصفر تارة، و يصمت تارة معيدًا التفكير فيما حدث اليوم ..
عندما هبط من سيارته بعد أن وجد لها موضعًا "بالعافية"، نظر حوله و صفر مندهشًا و قال:
- أمال مين اللي فضل في البيوت إذا كان كل دول هنا ؟
اتجه للداخل و هو يتوقع زحامًا أسطوريًا قياسًَا على عدد السيارات الواقفة بالخارج .. هناك بالطبع من أتوا في المواصلات العامة .. أخذ واحدة من عربات التسوق و انطلق يضع ما يريد .. كان يتحرك على مكث و كأنه يمتلك اليوم بطوله، رغم أن الساعة تشير إلى الثالثة و الثلث، و هو ما يعني أنه لو استمر على هذا المنوال فسيصل إلى بيته في الواحدة صباحًا من اليوم التالي .. هو بالطبع لا يحمل هم العيادة، فاليوم إجازة نظرًا لاضطراره إلى ذلك بسبب اجتماع مجلس القسم، لكن ليس هذا هو سبب تمهله .. هو بالفعل مستمتع للغاية بما هو فيه .. هذا الكم الضخم من المنتجات حوله، ينظر و يتفحص، و يرى ما لا يراه في محلات أخرى .. متعة أن تتعرف على الجديد، حتى لو كان مجرد بضاعة لن تتعامل معها أو تشتريها .. إنه الفضول ليس إلا ..
بينما هو في مشيه الهاديء هذا، إذ به يسمع صراخ طفل يشق سمعه كأنه طلقة مدفع، و هو الشعور نفسه الذي شعر به من كانوا حول الطفل .. الطفل لم يعط إنذارًَا من أي نوع، بل انفجر – حرفيًا – في البكاء على الفور دون مقدمات ..
دنا منه زكريا يسأله ما يبكيك، إذ وجده وحيدًا ليس حوله من يشعر المرء إنهم من عائلته، أو هو يعرفهم و يعرفونه، فقدر أنه فقدهم في هذا الزحام الشديد، و هو أمر متكرر الحدوث، إذ كثيرًا ما يسمع نداءات بهذا المعنى في السماعات الداخلية للسوق .. دنا منه و سأله برفق و قد وجد إلى جواره سيدة تحاول تهدئته:
- في إيه يا حبيبي .. ماما فين ؟
لم يكن الطفل يرد سوى بكلمة واحدة "بدّي أمي .." و بلهجة تمزج ما بين المصرية و الشامية، ما جعل زكريا يقول:
- و كمان مش من هنا .. حلاوتها أم حسن ..
ثم هبط إلى مستواه مرة أخرى و قال:
- طب تعالى يا حبيبي نروح ندوّر عليها ..
- أمي قالت لي ما تمشي مع حدا ما تعرفه .. بدّي أمي .. عاوز ماما ..
طفل عنيد، لكن من الواضح أنه تائه بإهمال الأم و ليس عن قصده هو، فحديثه يكتسي بمسحة من تعقل غريب على من هو في سنه .. ارتفع صراخ الطفل مرة أخرى و فشلت السيدة التي كانت إلى جواره في تهدئته، فقالت:
- في إيه يا أستاذ .. ما تشوف حل، و لا شوف حد من الأمن ..
كان يبحث بعينه علّه يلتقط هذه الأم الملتاعة التي تبحث عن طفلها، فيما اجتذب صراخ الطفل عددًا من رواد المكان، و فردًا من الأمن أو ربما هو أحد العمال ليس إلا .. قال:
- تايه ؟
- أيوه .. و دماغه ناشفة مش عاوز يتحرك غير مع أمه ..
لم يكد الرجل يهبط على ركبتيه ليتحدث إلى الطفل، إلا و فوجئ بالطفل ينطلق نحو سيدة من بعيد و هو يصرخ فرحًا، و هي بالمثل، فابتعد من التفوا إذ شعروا أن الأمر قد انتهى و أن الطفل قد وجد ضالته، و قد انتفت الإثارة التي توقعوها من الموقف .. حتى تلك الآنسة التي توقفت تحاول تهدئة الطفل رحلت هي الأخرى، في رد فعل تعجب له زكريا، إذ توقع أن تقف و تقابل الأم، و لو حتى لتوبخها على تركها طفلها في مثل هذا المزدحم – كعادة الإنسان منا، يسلخ أخاه كأنه معصوم من الخطأ – هذا إن لم تتحدث إليها مادحة نفسها و أنها وقفت إلى جواره و أنها حاولت تهدئته و .. و .. و .. لكن يبدو أنها لا تهتم بشيء من هذا ..
الوحيد الذي بقي هو زكريا، ليقوم بالدور الذي توقعه من تلك الآنسة التي رحلت .. بالشق الأول منه تحديدًا .. لكنه فوجئ بشيء ألجم لسانه تمامًا، حتى بدا التعبير المرتسم على وجهه شديد البلاهة، لكن الحق يقال بأن الموقف كان مدهشًا، بل لا نبالغ لو قلنا فوق حدود الدهشة نفسها ..
***

21.9.09

بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل السادس / الجزء الأول

الفصل السادس – دوائر متقاطعة

أغمض جمال عينيه في إرهاق واضح، و فرك زاويتي عينيه بعد أن خلع نظارته الطبية، و حاول الاسترخاء بعد أن أرهقه هذا العميل المستفز و كاد يورطه في جنحة سب و قذف، رغم ما يمتاز به من هدوء فطري، تمتاز به عائلته كلها، بالإضافة لما أسبغته عليه مهنة المحاماة من برود أعصاب ..
أرخي ظهره على المقعد العملاق الذي ابتاعه خصيصًا لمثل هذه المواقف، و هو يستمع لضربات حسان على لوحة المفاتيح صانعًا معزوفة شنيعة ناشزة، لكنه يحبها رغم كل هذا، فهي السبيل الوحيد لكتابة مذكراته القانونية ..
اعتدل فجأة و أمسك سماعة الهاتف و طلب رقم فاروق، و انتظر حتى أتاه صوت السكرتيرة الحسناء – دائمًا هن حسناوات، هو وحده اختار حسان بصلعته المثيرة للانتباه لأنه يريد "حمار شغل" أولاً و قبل كل شيء .. قالت:
- عيادة د. فاروق صبحي .. مين معايا يا أفندم ؟
- د. فاروق موجود ؟
- أقول له مين ؟
- قولي له جمال .. جمال المحامي ..
غابت دقائق استمع بعدها لصوت فاروق:
- يا هلا يا جيمي .. إيه الدخلة الرسمي دي ؟
- إزيك يا فاروق .. عاوزني أقول لها إيه يعني ؟ .. جيمي ؟
ضحك فاروق ثم قال:
- أنت أخبارك إيه ؟ .. لسه ماناوتش ؟
- علشان كده باتصل بيك .. مش حينفع نروح أول سبتمر زي كل سنة .. رمضان بقى ..
- و هو كذلك .. تحب ..
قطع حديثه قول جمال:
- معلش دقيقة واحدة .. هناء بتتصل ..
ثم كتم السماعة بيده، و استدار يجيب على هاتفه المحمول الذي باغته برنته تلك:
- السلام عليكم .. إزيك يا هناء ؟
- بخير .. قول لي .. أنت فين دلوقتي ؟
شيء ما في لهجتها أشعره بالقلق .. رد:
- في المكتب .. في حاجة ؟
- طب ممكن تجيلي على مستشفى السلامة الجديدة .. في الأزاريطة ..
ازداد شعوره بالقلق .. قال:
- إيه .. حمدي حصل له حاجة ؟
- لا لا لا .. حمدي بخير .. بابا هو اللي بعافية شوية ..
- خير ؟
- خير إن شاء الله .. بس هو ..
أخذت نفسًا قصيرًا كأنما تستجمع شجاعتها لتلقي له بالخبر دفعة واحدة:
- بابا عمل حادثة ..
شعر كأن قلبه يتواثب .. حادثة في السادسة و الستين .. فليدعُ الله أن يخرج أباه منها قطعة واحدة ..
قال:
- أنا جاي حالاً .. مسافة السكة ..
ثم انتقل لفاروق و قال:
- فاروق .. أنت وراك حاجة دلوقتى ؟
سمع ضحكته مع قوله:
- حنطلع ع المصيف و لا إيه ؟
- كنت عاوزك معايا في مستشفى السلامة الجديدة ..
زال الضحك من صوت فاروق و قال:
- خير ؟
- والدي عمل حادثة و لسه هناء مبلغاني دلوقتي .. حتلاقيني هناك ..
- قدامي حالتين حأخلصهم و أكون عندك ..
- بس أوعك تكلفتهم .. مالهاش لزوم السربعة ..
رغمًا عنه ضحك فاروق، و قال:
- لا، اطمّن .. اتكل أنت و أنا حأحصلك ..
وضع جمال السماعة في مكانها و استجمع شتات أمره، ثم أخرج مفاتيح حجرته و وضع هاتفه المحمول باستعجال في جيبه، ثم خرج مغلقها وراءه، و انطلق نحو الباب مباشرة، إلا أنه تذكر حسان الذي يجلس يكتب المذكرات القانونية في حجرته، فعاد و قال:
- خلص، و قفّل، و امشي ..
ثلاث كلمات قالها لخصت كل ما أراد، و الحق أنها ليست بلاغة، بل هو الموقف وحده .. لغته العربية ليست في الحضيض، لكنها من ذلك النوع الذي تضعضع من كثرة كتابة المذكرات القانونية بلغتها الملتوية ..
اعتاد كثيرًا أن يصدر مثل هذه الأوامر إلى حسان، و ربما اختاره لأنه من ذلك النوع الذي لا يسأل كثيرًا .. بالطبع لم يفته أن يغلق باب حجرته جيدًا، لأنه رغم ثقته في حسان – و إلا ما ائتمنه على أسرار مكتبه و عملائه و على مكتبه كله – لا يزال ماثلاً في ذهنه قصة صديق له، صيدلاني، سرق أحد العاملين في صيدليته أوراقًا و كشوفًا مالية، من تلك الفئة التي لا تقدم للضرائب، و الذي يعني وقوعها في أيديهم قضية تهرب ضريبي تسد عين الشمس .. المهم أن هذا الشخص سرق المستندات، من مكتب صديقه داخل الصيدلية، لأنه – صديقه – كان يتصرف بسذاجة، باعتبار أن "الدار أمان"، فإذا به يجد هذه الكارثة، و التي تبعتها أخرى في صورة محاولة ابتزاز صريحة .. الأوراق مقابل مائة ألف جنيه عدًا و نقدًا ..
كان يأخذ جانب الحذر تجاه حسان، و أصبح بعد سماع هذا أكثر حيطة .. لا يريد بعد كل هذا العمر أن يتهمه أحد العملاء بخيانة الأمانة أو ما شابه .. هو لا يريد، و لا يقبل، و سيفري كل من يتسبب في هذا ..
لم يكن هذا ما يفكر فيه عندما انطلق بسيارته المنضغطة في بعضها البعض، أو بتعبير زكريا "وشها ف قفاها مش باين لها راس من رجل" .. هيونداي جيتز صغيرة صفراء فاقع لونها لا تناسب سنه و مهنته، لكنها تناسب طبيعته الملول فيما يتعلق بالبحث عن مكان كبير مناسب للسيارة كل صباح و مساء .. على كل هناك واحدة عندما يرتحل هو و الأسرة .. هيونداي أيضًا من الطراز العائلي التي تسع الجميع ..
لم يكن يفكر لا في حسان و لا الأوراق و لا أي شيء من هذا .. كان كل تفكيره منصبًا على الإجراءات القانونية التي سيتخذها و المسارات التي سيتبعها، و الاحتمالات المتوقعة و .. و .. و ..
كان يلقب في مستهل عمله كمحام أنه "يلعب بالبيضة و الحجر" .. بيضة و حجر ؟ لو أردنا الدقة لقلنا مزرعة بيض نعام و جبالاً من الحجارة .. كان في بعض الأحيان يقول مازحًا إنه لولا الحياء و مخافة أن تشطبه النقابة من سجلاتها، لكتب على لافتة مكتبه "أخصائي تخليص تجار المخدارت، و مسجلي الخطر" .. كان لا يتورع عن استخدام أي وسيلة ممكنة للوصول للهدف، و لم يكن يرفض أي شخص يتقدم له .. ربما كان قدوته في هذا هو أستاذه الذي شرب منه المهنة، و الذي كان في الوقت نفسه – و يا للعجب – سبب عدوله عن كل هذا الضلال ..
كان حادثًا مروريًا عاديًا، و كان المصاب هو أستاذه .. سيارة مسرعة يقودها شاب مستهتر في طريق هادئ في بقعة أهدأ، و الشاهد الوحيد هو رجل عجوز لم يختر الله وجوده في هذه اللحظة وحده دون كل خلقه إلا ليثبت لذلك الثعلب القانوني أنه يمهل و لا يهمل .. كان الشاهد الوحيد هو الرجل الذي جرده هذا المحامي من أهليته للشهادة في قضية انقضى عليها سنة، و حكم فيها بالبراءة لموكله المذنب، و كان هذا الرجل العجوز هو شاهد الإدانة الوحيد، و بلعبة قانونية و ببعض من التزوير، أصبح هذا الشخص المسكين، الذي لم يرد إلا أن يفي بالقسم و ألا يكون ممن كتم الشهادة "و لا تكتموا الشهادة و من يكتمها فهو آثم قلبه"، غير أهل للشهادة .. ها قد أصبح هذا الرجل ذاته .. بشحمه و لحمه و عظمه و شيبته التي حفرتها السنون .. أصبح هو الشاهد الوحيد على هذا الحادث، و هو الوحيد الذي يستطيع أن يذكر أرقام السيارة، لكنه و بكل بساطة لا يصلح .. !
كأنما زلزله ما سمعه من أستاذه، فأمضى أسبوعًا كاملاً صامتًا .. يتحدث القليل، و يأكل القليل، إلى أن اتخذ قراره أن يدمر كل البيض، و ينثر كل الحجارة، و أن يجلعها نظيفة حياته، فهؤلاء لا يأخذ منهم أتعابًا، بل جمرًا من نار ..
أخذ يفكر في كل ما يتعلق بحادثة والده، محاولاً إبعاد ذهنه عن والده ذاته .. والده في السادسة و الستين، و لن يتحمل .. لا يريد أن يقضي تلك اللحظات حتى يصل للمستشفى في هلع لا مبرر له عندما يجد أن الأمر أبسط مما صوره خياله، و لا يريد أن يضرب أخماسًا لأسداس و يذهب به الشيطان كل مذهب .. فليبقه بعيدًا حتى يراه رأي العين، و بعدها فليختر الانفعال الأصوب ..
غارقًا في أفكاره، و ماذا فعلت هناء و حمدي، و إلى أي مدى سارت إجراءات الشرطة، لم يستمع إلى رنين هاتفه المحمول إلا عندما بلغ مقطعًا عالي الصوت في نغمة الرنين .. انتبه إليه و ظنها أخته تارةً أخرى تطلعه على تطور مفاجيء، فإذا به يجد المتصل هو فارس، فانعقد عقله و لسانه معًا من الدهشة، إذ لم تكن من عادة فارس على الإطلاق أن يتصل به مباشرة على هاتفه المحمول، إلا إذا كان الأمر جد خطير ..
- آلو .. السلام عليكم .. أيوه يا فارس ..
- و عليكم السلام .. أنت في المكتب ؟ .. و لا شكلك في الشارع ..
- في العربية .. عندي مشوار كده في الأزاريطة ..
لم يشأ أن يزعجه بمسألة والده، إذ استشعر في صوته قلقًا خفيًا، من ذلك النوع الذي تتحسسه في صوت الشخص و نظرات عينيه، لكنك لن تجد ما هو أبعد من هذا من التعبير ..
- فين في الأزاريطة ؟ .. لازم أشوفك ضروري و دلوقتي ..
تمامًا كما قدر ..
- في مستشفى السلامة الجديدة ..
- يا ستار .. خير ؟
- والدي بعافية حبتين و رايح أزوره ..
- أنا آسف يا جمال .. بس فعلاً الموضوع ما يتأخرش .. مسافة السكة أكون عندك ..
و أغلق الخط، ليشعر أن الهدوء الذي كان يمني نفسه به قد انقلب رأسًا على عقب و في أقل من ساعة ..
***
في خطوات واسعة قطع فاروق المسافة من باب المستشفى إلى حيث قالوا إن السيد/ عبدالغفار جمال يرقد، في انتظار تقرير الأشعة المقطعية، و فيما هو يبحث بعينيه عن رقم الحجرة وجد جمالاً يقف مع أحد أطباء المستشفى و بجواره أخته هناء و زوجها حمدي، و قد بدا عليهم الاهتمام الشديد، و بالتفاتة عفوية التقطه جمال فقطع حديثه مع الطبيب و مضى إليه و هو ما زال في بداية الممر، فيما أكمل الطبيب شرحه لأخته ..
- ها طمنّي .. إيه الأخبار ؟
- أبويا شكله كويس .. مفيش ارتجاج الحمد لله .. شوية رضوض و كسر في القصبة ..
بدا الاهتمام على وجه فاروق، ما دفع جمال ليقول في قلق:
- إيه .. في إيه ؟ .. مالك كشّرت ليه ؟
أشار فاروق إلى الطبيب الذي كان جمال يقف إلى جواره:
- دا دكتور العظام ؟
- طبيب الطوارئ .. كان بيقولنا إيه اللي حصل بالظبط ..
اتجها إليه و فاروق يسأل:
- و قال إيه ؟
- شكله كلام ما يطمنش .. حاجة عن كسر في القصبة من فوق و المفصل و مش المفصل .. الصراحة أنا مشتت مش قادر أركز و أفهم منه كويس ..
بلغا الطبيب الذي كان يجيب على بعض أسئلة هناء، فالتفت إليهما و جمال يعرفهما بعضهما البعض:
- دكتور فاروق صبحي، استشاري جراحة العظام .. دكتور عبد التواب يوسف، طبيب الطوارئ هنا ..
لا يدري فاروق أقصد جمال هذا أم لا، لكن ذكر كلمة الاستشاري تعفي فاروق من الحرج الذي يتمثل في أن طبيبًا يأتي من الخارج و يتولى الحالة، كأن طبيب المستشفى "طرطور" أو غير أهل للثقة .. فارق الخبرة يمنحه هذا دون حساسيات، أو بأقل ما يجب منها ..
- أهلا و سهلاً ..
قالها فاروق و أخذ عبد التواب جانبًا و بدأ يستفسر عن الحالة و ماذا حدث و الأشعة و و و، و فيما هم في ذلك وصل تقرير الأشعة المقطعية، فالتقطه فاروق يقرأه باهتمام ثم قال:
- تشخيصك مظبوط جدًا يا دكتور .. مع الأسف مظبوط جدًا ..
أخذ عبد التواب التقرير يقرأه سريعًا ثم قال:
- على كل أظن إن العمليات دي بقت أبسط دلوقتي .. المهم أهل العيّان و رد فعلهم ..
- شكرًا جزيلاً يا دكتور .. أظن إني حأتولى مهمة أهل العيّان دي ..
انصرف عبد التواب إلى حجرة عبد الغفار يعطي بعض التعليمات للممرضة، فيما شهق فاروق بعمق قبل أن يتحدث إلى الثلاثة محاولاً شرح ما حدث:
- ببساطة و دون الدخول في تفاصيل طبية مرهقة .. عضمة القصبة فيها من فوق كلكوعتين فيهم مسطحات بتعمل مع ما يقابلها في عضمة الفخذ مفصل الركبة .. الكلكوعة الخارجية انفصلت نتيجة الكسر، و دا معناه حاجتين .. أولاً إننا لا زم نعمل عملية تثبيت بمسامير، ثانيًا إن المفصل دخل في اللعبة، و كل ما نخلص أسرع، كل ما النتايج تكون أحسن ..
- طبعًا يا دكتور .. لو تقدر تعمل العملية إمبارح يكون أفضل ..
قالتها هناء فابتسم و أكمل:
- إن شاء الله .. بس على كل أحب أطمنكوا .. العملية بسيطة جدًا .. دقيقة بس بسيطة .. مع التقدم دلوقتي نتايجها بقت ممتازة ..
- آمين ..
جذبه جمال من يده خفية فانسحبا ليسأله جمال:
- الكلام دا بجد و لا بتطمّن أختي و خلاص ؟
- على فكرة أختك أعصابها أنشف منك، حتستحمل الحقيقة حتى لو مُرّة يعني .. و بعدين أنا مش من أنصار إني أخبّي أي حاجة عن العيّان أو أهله ... العملية فعلاً بسيطة ..
ثم ابتسم و هو يضيف:
- بس محتاجة واحد علاّمة يعملها ..
و غمز لجمال بعينه فقال:
- يا روقة يا خويا يعني هو أنا جبتك ليه ؟ .. تبيع فجل ؟
- طب يالا نشوف الحاج و اطمن عليه ..
- السلام عليكم ..
كانت من فارس الذي وصل من خلفهما فاندهش فاروق فيما استقبله جمال قلقًا قائلاً:
- و عليكم السلام .. خير ؟
- والدك أنت عامل إيه الأول ؟
- والدي بمب .. طلعت بسيطة الحمد لله ..
- هو أصلا إيه اللي حصل ؟
هنا تدخل فاروق:
- حادثة و كسر بسيط كده ..
اندهش فارس لحيظات ثم لم يلبث أن قال:
- ما قلتش ليه يا جمال ؟ .. بتقولي بعافية شويتين ؟
- ما حبتش أقلقك .. شكلك قلقان أصلاً ..
- يعني أنت عارف إن فارس جاي ؟
- اتصل بيّا و قال عاوزك في حاجة ما تتأجلش .. خير ؟
زفر فارس زفرة حارة و قال:
- ا ..
ثم كتم ما أراد ثم تابع:
- الأول نطمن ع الحاج بعد كده نتكلم ..
دخل الثلاثة حجرة والد جمال، الذي بدا أفضل حالا منه عندما جاء منذ ساعتين .. مع سنه المتقدمه تصبح الهمسة كارثة، فمال بالك بحادث سيارة، و هو أصلاً على شفير هشاشة عظام ؟
تبادلوا كلمات الاطمئنان و الاطمئنان المضاد و بعض الدعاء بالصحة و تمام الشفاء ثم صمتوا ليتحدث عبد الغفار لابنته قائلاً:
- خلصتي موضوع المحضر يا هناء ؟
- لأ .. و معلش يا بابا، مش حتتنازل ..
- يا بنتي ..
قالها متنهدًا كأنما يقول "أنا مش حمل مناهدة .. اعملي اللي باقولك عليه"، فتدخل جمال في الحوار:
- بص يا بابا .. أنا عارف إنك مش عاوزها تتبهدل و أنها ست و العيال و الكلام ده كله .. بس لازم تتأدب ..
- آه .. لازم .. دي وليّة بجحة .. راجعة بضهرها إذ فجأة و عاوزة تلبّسنا الغلط .. و بتغالط تلات شهود يسدوا عين الشمس .. و بعدين لسانها طويل و أبيحة يعني .. دي مستفزة ..
تحدثت هناء كأنها "ما صدقت" .. فتابع جمال:
- أنا حاسيبها الليلة دي .. تتقلب ع الجنبين في الحجز وسط الستات القبحا بجد، علشان تعرف تغلط إزاي بعد كده .. و بكره أتنازل عن المحضر ..
- و لزومها إيه البهدلة دي بس يا ابني ..
- قرص ودن يا بابا .. مجرد قرص ودن ..
تنهد عبد الغفار مرة أخرى و كأنما أتعبه كل هذا، فقال فاروق:
- ريّح نفسك أنت يا حاج .. ابنك محامي عُقر و حيخلص الموضوع كما ينبغي .. المهم راحتك أنت ..
- راحة ؟ .. هما عاوزين يريحوني ..
لم يرد أي منهم، إذ واصل عبد الغفار:
- يا ابني أنا رجل جوه و رجل بره .. مش عاوز في آخر دنيتي أطلع منها و أنا مبهدل حد ..
- هي بهدلة بالضلال .. غلطت يبقى تاخد جزاتها، و بعدين قلت لحضرتك .. بكرة الصبح حاتنازل .. العوض على الله مش عاوزين منها حاجة ..
أشاح عبد الغفار بيده ما معنا: "اعملوا اللي أنتول عاوزينه .. تعبتوني"، ثم استأذن جمال ليخرج مع فارس و فاروق فيما بقيت إلى جواره هناء و زوجها ..
قال جمال:
- ها طمّني يا فارس .. خير ؟
- إن شاء الله خير .. و لو إني ما أظنش ..
و ألقى إليهما بما لديه، و كان مفجعًا بحق ..
***

16.8.09

الاستخدام الجائر و العبيط للإنترنت

كنت قد انتويت أن اكتب تدوينة عن "ظاهرة بظاظو" و ما حدث و ماذا يحدث و ماذا من الممكن أن يحدث، لكن نظرة البعض، الذين قرأوها بشكل حصري، اتفقت مع نظرتي في أنها جنحة سب و قذف، لا ينقصها سوى تحريك الدعوى القضائية .. لهذا ترونني قد عدلت عن الأمر برمته، لكنني لا زلت أكتب ..
على أية حال، أستطيع تلخيص تدوينة بظاظو في جملة "ديمقراطية النباح، و أبطال الورق"، و أظن هذا يكفي لتعرف ماذا كنت أنتوي أن أقول ..

لكن الأخبار السارة لا تنقطع في بلد كهذه .. أنا لا أعني الأخبار السارة حقًا، لكنني أعني تلك التي نقول عنها كذلك من باب الدعابات السوداء .. آخر هذه الأخبار السارة هو خبر تطبيق الشركات لسياسة الاستخدام العادل و الرشيد للإنترنت، رافعين شعار "محدودية اللامحدود .. عبط بلا قيود" ..

بعد أن أرغيت و أزبدت، و أرتفع ضغط دمي، و أصابني ما أصابني، جلست أتأمل هذا الذي حدث .. ما حدث و يحدث مثله كثير، يضعنا في فئة "بلدان الحصريات"، تلك البلدان التي تجد فيها كل عجيب و غريب، كأنها متحف لهذه الأشياء، و نحن في هذا نتشابه مع الولايات المتحدة الأمريكية، لكن حصرياتنا حصريات "غلسة" ..
نحن البلد الوحيد الذي تحتسب في رسوم النظافة بناء على استهلاكك للكهرباء، و لا تسل ما العلاقة .. لو أنك لا تضيء غير مصباح واحد من فئة "الوناسة"، لكنك قد حوّلت شقتك لحظيرة خنازير، تنتج كميات من القمامة تضعك في مصاف العشرة الكبار، لوجدت أن رسوم النظافة المطلوبة منك لا تذكر، لأن استهلاكك للكهرباء صفر على اليسار .. أما لو كنت من تعساء الحظ كثيرو الاستهلاك، فهذا يعني أنك من أكبر منتجي القمامة في العالم، و تستحق فاتورة تقصم ظهرك ..

نحن البلد الوحيد الذي يفتتح رئيس وزرائه و محافظ سلمًا كهربائيًا يصل ما بين ضفتي طريق، و توضع لوحة رخامية من الحجم الكبير تسجل هذا الحدث التاريخي .. حدث هذا عندنا في الإسكندرية أمام محطة قطارات سيدي جابر ..

نحن البلد الوحيد الذي يستخدم في الناس الصناديق المعدة لاستقبال وفود القمامة في صنع المخلل و غسل الخضروات لصنع السلاطات في المطاعم، بينما تسرق عجلات هذه الصناديق و محاورها المعدنية، لأنها من الصلب، و تباع بالشيء الفلاني ..

فقط و حصريًا في مصر، و لن تجد هذا في أي بلد آخر .. و عندنا فقط تعتبر الحكومة أن الشعب الذي تحكمه يستخدم الإنترنت بصورة جائرة و عبيطة، لذلك أطلقت سياسة الاستخدام العادل و الرشيد للإنترنت ..
نحن شعب نحب، بل نعشق نظرية المؤامرة، لكننا هذه المرة محقون .. عندما صدر هذا القرار، تعالت الأصوات أن القرار سياسي بالدرجة الأولى، هدفه الحد من استخدام الناس للإنترنت التي فتّحت عيونهم و آذانهم على الشيء الكثير مما كان خافيًا عنهم، و مما كانت الحكومة تذيع كلمتها فتكون هي الكلمة الفصل فلا يسأل أحد بعدها .. أما الآن، فكلام الحكومة و تلفيقها أصبح كـ"الطبيخ الحمضان"، لا ينظر إليه و لا يفكر فيه أحد، و السبب هو هذا الاختراع السافل المنحط الحقير الوغد المسمى بالإنترنت ..

وجهة النظر هذه لا تنقصها الوجاهة .. شاهد رد فعل الناس الآن و رد فعلهم قبل عدة سنوات .. حتى القنوات الفضائية لم تصنع هذا التأثير، و هذا "الفوقان" ..
حركة 6 أبريل .. الحركة بدأت و تشكلت و تبلور كل شيء فيها على الفيس بوك .. لم يعد هناك حاجة لمكان اجتماعات و منشورات و كلمة سر و و و .. الأمر بدأ و انتهى في الفضاء التخيلي، و هذا ما يقض مضجع النظام فعلاً ..

على أن الأمر برمته يدل على غباء شديد، متغلغل حتى النخاغ في العقلية الحكومية المصرية .. تبدو هذه السياسة بنظرة بعيدة عن التحيز ضد الحكومة سياسة عقلانية جدًا .. الكثيرون يشتكون من بطء التحميل و التصفح و من الضغط على الشبكة، و المبرر الذي تقوله الشركات هو أن كثيرًا من المستخدمين يستهلكون السعة في تحميل الأفلام و الأغاني و الألعاب و كل هذه الأمور الترفيهية، و هو ما يجعل من يستخدمون الإنترنت في الأمور الجادة يجدون صعوبة في العمل و تتأخر أعمالهم .. و من هنا تأتي هذه السياسة لتحد من أولئك "المفاجيع"، و تتيح الفرصة للغلابة كي يجدوا كيلوبايتات يومهم التي يلهثون خلفها ليل نهار ..

لكن نظرة واحدة – غير متحيزة أيضًا – ستحيل هذه السياسة إلى ثوب مهلهل .. بطء التحميل و التصفح يرجع أصلا إلى "الحشر" .. الشركة "تحشر" 7 ملايين مستخدم على الخط الذي لا يتحمل أكثر من 4 ملايين .. قل لي من أين يمكن أن يوفر الخط سعة لكل هذا ؟ إن البطء يبدو رد فعل مهذب من هذا الكابل البحري، الذي لو كان بشريًا لشـ .... لشتمنا بأعلى الصوت بسبب هذا الذي يحدث ..
تفاهة الاستخدام لا يُقضى عليها بهذه السياسة، بل بأساليب أخرى، أكذب لو قلت أنني أعرف شيئًا منها، لكنها حتمًا موجودة .. لا يوجد أمر يخلو من البدائل ..

ثم الدليل الأكبر على الغباء هو هذا التتابع .. أعلنت الشركات تخفيض الأسعار، ثم بعدها بأسبوعين أعلنت هذه السياسة .. ماذا كان سيحدث لو أنها أبدلت هذا مكان ذاك ؟ .. كانت لتمتص غضب الناس امتصاصًا، و لربما كان رد فعلهم أهون بكثير مما نراه اليوم ..
ثم إن اسم هذه السياسة في حد ذاته سبة في جبيننا .. سياسة الاستخدام العادل و الرشيد للإنترنت .. و هذا يعني أنك كنت تستخدم الإنترنت بظلم و جور و عبط و سفه قبل ذلك ..

و بالإضافة لكل ما سبق، تتجلى مظاهر "النتانة اليهودية" في السعات التحميلية المقررة لكل خط .. 25 جيجابايت للخطوط ذات السرعة 512 كيلو/ثانية على سبيل المثال، و هو أقل بكثير – حسب ما سمعت، و الله أعلم – مما يمكن أن تتحمله هذه السعة قبل أن ينفجر الخط و يقول "حقي برقبتي" .. ثم إن هذا التحديد مظهر آخر من مظاهر الغباء المستفز .. هناك غباء تقف أمامه ضاحكًا، و هناك غباء تقف أمامه تريد لطم صاحبه، و هناك غباء لن تقف أمامه لأنك ستموت بحسرتك .. لا أحتاج بالطبع لأخبرك أي نوع من الغباء كان هذا القرار ..

ماذا لو أنك جعلتها 50 جيجابايت ؟ .. لن يصل شخص لهذا الكم إلا إذا كان لا ينام، و يظل على مدار 25 ساعة في اليوم و الليلة يقوم بتحميل أي شيء و كل شيء يقع تحت يده .. أنت في أسوأ الظروف تضمن أن المشترك لن يستهلك و لو نصف السعة المحددة له، فلماذا لا تمتص غضبه، و تعلن سعات أكبر أنت تعلم قبل غيرك أنها مجرد كلام و حبر على ورق ؟

عندما انتويت أن أكتب هذه التدوينة، لم يكن قرار وزير الاتصالات الذي يقول إن سياسة الاستخدام العادل و الرشيد ستطبق على المستخدمين الجدد لمدة شهرين، من أجل الدراسة و الإحصاء و كثير من هذا الهراء .. و لا يبدو أن هذا القرار من فئة "لقد قررنا هذا منذ زمن، لكننا نسينا أن نقول" بل هو حتمًا من فئة "لم نقرر، و لم نفكر أن نقرر، و لم نكن لنفكر أن نقرر شيئًا كهذا، لكنكم اضطررتمونا لهذا يا .... " ..

على أية حال، هناك رأيان في تفسير هذا القرار:
الرأي الأول، و أنا أميل إليه: يقول بإن الحركة و الانتفاضة التي انتفضها المشتركون كانت موجعة، و منذرة بكارثة .. خصوصًا و أننا كشباب، الفئة الأكثر استخدامًا للإنترنت، أصبحنا نرى أنه بإمكاننا أن نفعل .. لم نعد كما مضى نرى أن كل شيء ليس له إلا أن يتم بالقوة الجبرية، و أنه ليس لنا خيار في أي شيء، إلا ماذا سنأكل اليوم .. مجموعة الفيس بوك المنادية بوقف الاشتراكات احتجاجًا على هذا القرار انضم لها في يومها الأول أربعة آلاف مشترك، و العهدة على الراوي ..
الرأي الثاني: يقول بإن أصحاب الكلمة المسموعة قد بعثوا ما يشبه الشكوى، للإدارة الأمريكية، يقولون فيها إن النظام المصري يمنع و "يغتت" فيما منحه باراك أوباما للعالمين العربي و الإسلامي من تسهيلات تقنية، و هو ما ألمح إليه في خطابه الأخير بالقاهرة .. حقيقة، لست أظن الولايات المتحدة تهتم بأن يتمتع الشعب المصري بقدرة على تحميل كل الأفلام التي يهواها لدرجة أن تضغط على النظام المصري – أيًا كان ممثله – حتى يحل هذه الأزمة، هذا بالإضافة إلى أنها "مش فاضية للعب العيال ده" .. لكن ديدن النظام المصري في الإصغاء، ككلب لكلمة سيده، كلما ما أشارت الولايات المتحدة – تحديدًا – مجرد إشارة، و "تصدير الطرشا" للشعب المصري – تحديدًا – يجعل هذا الرأي على شيء من الوجاهة ..

على أية حال، هذه حلقة أخرى في مسلسل إطلاق النار المتبادل بين الحكومة و الشعب، و الذي يبدو أنه لن ينتهي إلا بانتهاء أحد الطرفين، يدينا و يديكم طولة العمر، و عنصر جديد يضاف لقائمة الحصريات التي لا تنتهي، و مثال جديد على خبث ابن آدم، و كيف يمكن أن يبيعك الهواء، ثم يسرق منك ثمنه الذي غالى فيه من الأصل ..

قبل أن أختم، تذكرت شيئًا في خضم هذه الأزمة .. ما دامت الحكومة تخاف على الشعب من الاستهلاك السفيه للإنترنت، لماذا لا تحجب المواقع الإباحية، و هي قادرة على ذلك، و التي تلتهم – و لست أبالغ – نصف وقت الشباب على الإنترنت ؟ إذا كانت من فئة "الدفاع عن الحرية" فهي كذوب لا ريب، تكذبها هذه السياسة التي أعلنتها، و إن كانت تخشى المعارضة فهي بلهاء لا ريب، لأن من سيعارض قرارًا كهذا، سيغمس نفسه في العار إلى يوم يبعثون .. الحق أقول، إنني لأشتم في هذا رائحة المؤامرة ..

14.8.09

ماتفوت طبـــك

حافوت الطب ورايا
و ألبس عمة و عبايه
و أعمل دقن شبرين
و حابرم الشنبين
و أسمي نفسي سيدنا
و أقول اني مخاوي
حاجة احتراف عفاريت
مش زي الباقي .. هاوي
و أجيب حلة قديمة
و حبة زعفران
و أقول بخيمة لئيمة
على أشتاتا أشتوت
يليها كام شتيمة
أطلع يا أمشخوت
يا مارد يا أبو سيفين
بتقول جنودك مالهم
ليه بس زعلانين؟
اه، عايزين فطارهم
فخدة نملة هندي
عبرت المحيط
و شعرة من بطن ايد
عيل يكون عبيط
و كيلو لحمة ضاني
تكون من ديل خروف
امه نعجة سوداني
و بتعرف تقرا الحروف
و أبوه يكون تور
قرنه اتكسر في الحرب
أصله بلاد اشور
و صاحبه هراه ضرب
و عرف ديك من الصين
معاه باسبور ايطالي
مولود بقاله يومين
و يكون على صاحبه غالي
-و منين أجيبهم يا سيدنا؟
-تلاقي لو تدور
-طب أرجوك ساعدنا
-ممكن سندوح يقدر
-و مين سندوح يا شيخنا؟
-ده عفريت من المطاريد
فاتح كام شركة بريد
الطلب الناقص يجيبه
أما بياخد نصيبه
-طب شوفه يحتاج كام؟
-خمسينه بالتماام
يدفع صاحبنا أوام
أرمي حبة بخور
و أقول هجام جخام
و الطبق يلف يدور
أمد ايدي ف كيس
و أجيب عمل صغير
و أقول مبارك
حاجتتك أنقضت*
ارجع تجد مراتك
و كل الشرور مضت
و ادي كام تلاف جنيه
من غير شقا و علام
و الشهرة ايه يا عالم
مطلوبٌ في الأفلام
ماتفوت طبك يا صاحبي
و افتحلك حتى مقلى
بكرة عربية كبده
تبقى م الطب أبقى

* تقرأ بالفصحى

21.7.09

الجثة- ابراهيم الجارحى



انت قتلت القتيل ..... حتمشى فى جنازته ولا حتهبب ايه ؟؟......اسمع ابراهيم الجارحى

18.7.09

بلد الدخان الهابطإلى أسفل - الفصل الخامس

ملحوظة صغيرة قبل البدء: نظرًا لأنني لا أكتب هذه القصة بانتظام، يمكنكم دومًا الرجوع للفصول السابقة بالضغط على "بلد الدخان الهابط إلي أسفل" الموجود إلى جوار مقسمة هياسيًا مع في نهاية كل تدوينة .. أتمنى لكم قراءة ممتعة، و أتمنى منكم التماس العذر لي، فالإلهام ليس بيدي ..


الفصل الخامس – القطرنجي

وقف عبد الواحد أمام المرآة ليصفف شعره، و قد بدا مظهره في تلك البزة البيضاء غريبًا، لتناقضها الصارخ مع سواده النوبي، أو لنقل السوداني، الذي ينم عن أصوله ..
كان أبوه سودانيًا أبًا عن جد، و إن كان هذا الجد قد عاش في مصر، قادمًا مع أحد حملات الخديوي إسماعيل لتحرير إفريقيا .. أتي مع عائلته كاملة، إذ استشعر حلاوة و رغد العيش في مصر، مقارنة بحال السودان وقتها، لكنه لم يختلط، أو لنقل يتزوج، من المصريات، بل استمر النسل سودانيًا حتي أتي والد عبد الواحد، هازم الشيخي، ليقرر أن التي أحبها لا بد أن يتزوجها، حتي و لو كانت من المريخ ..
و كانت قصة زواج والديه عجيبة حقًا، لا تختلف في شيء عن تلك القصص الرومانسية الكلاسيكية، فرغم أن الشيخي كان رجلاً متفتحًا، إلا أنه ورث عن أبيه مسألة الحفاظ علي النسل السوداني، و كأنهم آخر السودانين علي الأرض، لكنه في النهاية رضخ لمطلب ابنه، خاصة بعدما لمس نبل من أحب ..
ضبط ياقة المعطف بعد أن رضي عن مظهره العام، و ذهب متعجلاً ابنته التي غابت منذ نصف ساعة لترتدي ملابسها، و هو ما يعني أن نصف ساعة أخري قد بقيت قبل أن تنتهي ..
- يا ست علياء أبوس إيدك .. إحنا كده حنتسحر مش حنتعشي ..
- خلاص يا بابا ..
- خلاص ؟ .. يعني لسه قدامك كمان تلات ساعات كده ؟
فوجيء بها و هو ينهي كلامه تخرج من حجرتها و قد انتهت من ارتداء ملابسها، فتراجع مندهشًا من انتهائها مبكرًا علي غير العادة، و قال:
- غريبة .. أنت متأكدة إنك مش عيانة .. أنت خلصتي بسرعة يعني ..
- يعني هو أنا اتاخر مش عاجب .. بدري برضه مش عاجب ..
- ربنا يديم عليك نعمة السرعة .. يالاّ يا ستي ..
قال جملته الأخيرة و هو يرتدي حذاءه، و وقف أمام المرآة للمرة الأخيرة منتظرًا إياها، و إن هي إلا ثوانٍ حتي كانت علي أهبة الاستعداد، فتأبط ذراعها و قال و هما يتوجهان نحو الباب:
- اللي يشوفنا دلوقتي يقول الراجل اتلحس في مخه و اتجوز تاني ..
- ليه يا بابا .. هو حضرتك معتبر قرار جوازك من ماما كان لحسان في المخ ؟
انطلقت ضحكته تدوي في فراغ سلم البناية، بينما ابتسمت هي في خبث طفولي .. امسك نفسه "بالعافية" ليقول:
- يخرب عقلك .. حتوديني ف داهية بكلامك ده ..
ثم تمالك نفسه قليلاً ثم أكمل:
- يعني أنا بغازلك و بقول كلمتين حلوين، تقومي تقولي كده ؟ .. ماشي يا ستي ..
استدعى المصعد، و سرعان ما استقرا في سيارة عبد الواحد البيجو 307 التي – و لا تفتح فاهك اندهاشًا – جاءته كهدية من أحد عملائه، لكنه يعتبرها دومًا جزءًا من أتعابه عن العملية التي أنجزها لهذا العميل .. ربما ترى الأمر مبالغًا فيه، لكن مليارديرَ يتعامل في ثلاثة مليارات كأموال سائلة تحت يده، بالإضافة للأصول التي تقدر بمليارات أخرى، لن تمثل سيارة هامر 1 مشكلة بالنسبة له، فما بالك ببيجو 307 ؟
كانا متوجهين لأحد المطاعم للاحتفال بتخرجها .. "العفريتة الصغيرة" كبرت و تخرجت من كلية الفنون الجميلة، قسم ديكور داخلي .. يا لله ! لقد مضى العمر كأنه فرس عربي يسابق الزمن نفسه !
كان ينظر إليها من وقت لآخر و هو يقود السيارة، و هي تنظر إليه متعجبة .. لم تكن تدري أنه يتذكر أيام طفولتها و صباها .. أول مرة تجري في المنزل، و لهذا سماها "العفريتة" .. "ألا يا أخي كل الأطفال يبدأوا يمشوا .. دي بدأت تجري .. عجايب !" ..
كان يتذكر عندما حصلت على الشهادة الإبتدائية، و كيف كانت سعادتها، رغم أنها كانت ستنتقل للمرحلة الإعدادية في مجمع المدارس الذي تنتسب إليه .. عندما حصلت على الإعدادية كانت كارثة بيئية .. لثلاثة أيام لم يأكلوا شيئًا سوى المعجنات: كعك، فطائر، مكرونة، و تقريبًَا كل ما يمكن أن يصنع من الدقيق .. لقد سعدت بها و قررت أن تطبخ كما لم تطبخ من قبل، و أن يأكلوا من صنع يديها .. لم يكن الطعام سيئًا، لكنه كان كثيرًا، لدرجةٍ جعلتهم يكرهون أن تفرح ثانية ..
كاد الأمر أن يتكرر مع الثانوية العامة .. عنـ ..
"بابا .. خلي بالك"
صرخت علياء مخرجة عبد الواحد من صومعة ذكرياته، لتنبهه إلى كارثة كانت على وشك الوقوع .. ضغطة قوية على المكابح، و جهد عظيم من السيارة حالا دون وقوع حادثة سير لذلك الوسيم الأشقر، الذي يبدو هو الآخر كالغارق في الذكريات ..
الحق أن الخطأ لم يكن خطأ عبد الواحد وحده .. الرجل أيضًا لم يكن على الأرض .. كان تائهًا في ماضيه يغوص و يسترجع شيئًا من ذكرياته التي تبدو مؤلمة مقبضة، فتعابير وجهه لا تنبأ إلا بذلك ..
صرير العجلات على الطريق و صراخ الناس جعل الرجل يتنبه إلى أن شيئًا ما يحدث، و إن هي إلا ثوان حتى أدرك أن هذا الشيء هو أنه كاد أن يدهس دون أن يدري .. كانت دهشته عظيمة، و كأنه يتعجب من نفسه كيف يكون غارقًا في الخيال لهذا الحد، و إن هي إلا ثوان حتى كان لدهشته سبب آخر ..
سبب بزغ عندما تلاقت عيناه و عينا عبد الواحد الذي نزل ليطمأن، فإذا بعينيه تحمل دهشة لا لهفة و رغبة في الاطمئنان، و إذا بالرجل يصرخ:
- مين .. عبد الواحد ؟
- بندر ؟
و تعانق الاثنان ..

***
رغم الموقف المتفجر الذي وقعت أحداثه منذ دقائق، إلا أن الهدوء هو الذي خيم على سيارة عبد الواحد، و بندر يستقر بجواره، فيما جلست علياء على الأريكة الخلفية تنظر إلى الاثنين اللذين لم يتبادلا كلمة واحدة - رغم أن عناقهما ينبئ بمعرفة سابقة طويلة و حميمة - و لا حتى كلمة ترحاب أو استرجاع ذكرى، حتى إن والدها لم يعرفها به أو يعرفه بها ..
لم تكن تعرف أن الاثنين يتذكران أحداث مضت دونها تسعة عشر عامًا .. كان عبد الواحد حينذاك قد تخرج لتوه من كلية الهندسة، و ما زال بندر في عامه الأخير، يحاول أن يخرج بأقل الخسائر، عندما حلّت "الطامة الكبرى" ببندر، و لكن قبل هذه الطامة الكبرى، حلّت به طامة صغرى، و كأنه موعود بهن، و كانت السبب في أن يتعرف بندر بعبد الواحد ..
هو بندر الحسن القطرنجي، من حلب في سوريا، و يدرس في مصر، و لأن مصر هي دومًا بلد السهولة المفرطة، كان لزامًا عليه أن يحصل على شهادة تفيد بإنه رضع لبن العصفور مخلوطًا بمح بيضة الديك ليستطيع الالتحاق بكلية الهندسة بجامعة الإسكندرية .. كان لزامًا عليه أن يدفع رشوة هنا و هناك لتسير أموره بسرعة و سلام، رغم أن المفروض أن تمر كنسمة الصباح، لكن كونه عربيًا أجنبيًا أعطى موظفي الجامعة و الكلية حقًا مكذوبًا في ابتزازه، و هو لا يعلم و لا يدري، و يظن أوراقه بالفعل ناقصة، من فرط ما أوهموه به ..
بينما كان عبد الواحد ينهي أوراقه لينتقل للفرقة الأولى بعد أن أنهى السنة الإعدادية، وجد زميلاً له قد أتى معه للغرض نفسه يصافح بندر و يعانقه، و يقدمه له ثم يسأله:
- و أخبار الورق إيه ؟
- هيك مصاري بتندفع ما شفت بحياتي .. يا خي لو بأريد أدرس بأمريكا بأدفع أقل من هيك ..
تعجب عبد الواحد، و أحب أن يعرف ما الأمر، فأخبره بندر .. طمأنه، و طلب منه بياناته، و لم يكن هذا إلا لأن خال عبد الواحد، منصور هاشم، يعمل في إدارة الجامعة، و يستطيع أن ينظر الأمر عن كثب، و قد كان ..
و عندما ذهب بندر بعد يومين، بناء على مكالمة من عبد الواحد يخبره أن يذهب و ينهي أوراقه، وجد أن الطاقم الإداري، أغلبه، قد تغير و أن أوراقه قد أخذت دورتها بسلاسة منقطعة النظير، و انتهى كل شيء ..
توطدت علاقتهما أكثر فأكثر، و ظل بندر يذكر هذا المعروف لعبد الواحد حتى أتى الوقت الذي زوّج فيه هذا المعروف بأخ له .. كان هذا في العام الرابع و الأخير من الدراسة الهندسية .. مشروع التخرج هو البوتقة التي يصهر فيها كل طالب خلاصة فكره .. تعبه و عرقه و سهره و عصير مخه، كل هذا يخرج في هذا المشروع ..
الحق أن بندر و مجموعته أتوا بمجهود جبار .. أن تخرج للنور سيارة تعمل بالتحكم عن بعد، ليس بأجهزة و لكن بصوتك، في مصر و في نهاية الثمانينات، فهذا هو الإعجاز بعينه، إذا وضعنا في الاعتبار أنك مجرد طالب، و لست باحثًا في أحد المراكز البحثية .. الحق أيضًا أن الفضل بعد الله سبحانه و تعالى يعود و لا شك لبندر، الذي استطاع أن يحضر القطعة الرئيسة في العمل بواسطة عمه الذي يعيش في الولايات المتحدة، و لهذا كان ألمه عظيمًا ..
أتته مكالمة بندر في ساعة متأخرة:
- أيوه يا بندر .. خير ..
- مو خير .. مو خير بنوب ..
- يا ستار يا رب .. احكي لي يا بني ..
- لازم أشوفك ..
و رغم أن الوقت يقترب من منتصف الليل، قابله عبد الواحد مفجوعًا و مفجوءًا في أحد المطاعم، ليجد عينه منتفخة من أثر السهر أو ربما البكاء، و عندما تحدث إليه بندر أدرك السبب ..
مشروع تخرجه سُرق .. الأستاذ الدكتور المبجل نسبه لنفسه في أحد الدوريات العلمية، قبل أن يتقدموا به رسميًا، ما جعلهم يبدون كمن أخذوه منه لا العكس .. سهر الليالي ضاع هباءً منثورًا ..
- ما ضاعش يا بندر .. استنى مني تليفون ..
و انصرفا، عبد الواحد لمنزله يفكر، و بندر لمنزله يجتر همّه .. بعد أربعة أيام، اتصل عبد الواحد ببندر يخبره أن الأستاذ منصور هاشم في إدارة جامعة الإسكندرية يطلبه بشكل شخصي ليروي له ما حدث .. كان بندر يائسًا، لكنه أدرك أن عبد الواحد يساعده بصدق، و لم يشأ أن يضيع فرصه، علّ فيها الخروج ..
ذهب إليه و شرح له الأمر بالتفصيل:
- معاك دليل ؟
- التصميمات، و البروفات، و ورق استلام هالقطعة .. ها اللي جبتا من عمي بأميركا .. كل شي معانا ..
- قدم لي شكوى رسمي، و سيب الباقي على الله ثم عليّ ..
نظر إليه بشك، و إن كان قد شعر في لهجته بصدق .. مر أسبوع، و إذا بعبد الواحد يتصل:
- أبشر يا سي بندر .. فُرجت ..
- عن جد ؟
أخبره أن شكواه كانت القشة التي قضمت ظهر البعير .. هذا الأستاذ الجامعي "سوابق" إن صح التعبير، و قد ضُجت إدارة الكلية من كثرة شكوى الطلبة منه، و أتت شكواه لتنهيه بالقاضية ..
- و الله ما أنا عارف كيف باتشكر لك .. أي شي بيكون أقل من هيك خدمة ..
- كفاية الفرحة في عنيك .. إحنا صحاب ياجدع ..
ربت عبد الواحد مبتسمًا على فخذ بندر الجالس إلى جواره و قال:
- و الله بعودة الأيام يا بندر ..
و ركن السيارة في موقعها المعهود كلما أتى هذا المطعم، و هبط الثلاثة ممنين أنفسهم بسهرة ليس لمتعتها حدود ..
***
- لسه قاعد لوحده ؟
- لسه .. قاعد لوحده و بالعافية بياكل .. أنا ..
سكتت سامية لحظة ثم أضافت بانزعاج:
- أنا قلقانة عليه قوي .. ساعات باعدي أسمعه بيتكلم، أفتكره بينادي عليّ .. أدخل ألاقيه بيكلم ماما، و يسكت كأنه بيسمع الرد منها ..
- برضه مابيقولش إيه اللي حصل ؟
- و لا كلمة .. كل ما أكلمه يقول لي الإشارة جت و مش باقي غير دقتين ..
- إشارة إيه بس و دق إيه ..
قالها محمود و هو يضرب كفًا بكف منزعجًا و قلقًا مما وصل إليه حال حميه، و قعد إلى جوارها بعد أن خلع نعليه، و قال:
- أكيد شاف منام .. شاف حاجة تربط ما بين حامد و حاجة وحشة هو خايف منها .. بس إيه اللي يخليه مصدق و عايش دور الاكتئاب دا قوي كده ؟
كادت أن ترد لكنه سبقها بالكلام:
- هو نام ؟
- ما أظنش ..
- طب أنا داخل له ..
توجه إلى حجرته يغير ملابسه قبل أن يتوجه إلى حجرة حميه، فيما جلست سامية تكمل ما بيدها من أشغال إبرة ..
- السلام عليكم يا عمي .. إزيك دلوقتي ؟
نظر إليه سعد هائمًا كأنما هو في عالم آخر .. تحركت شفتاه ثقيلتان متمتمًا بكلام لم يسمع منه محمود حرفًا، فقال:
- لغاية إمتى يا عمي ؟
جلس إلى جواره و أكمل:
- لغاية إمتى الحالة دي ؟ بس لو تقول لي فيه إيه، يمكن نقدر نحل الأمر سوا ..
تحركت شفتا سعد بالكاد ليخرج صوته مبحوحًا من صمت طويل:
- ماحدش يقدر يعمل حاجة .. دا قضا ربنا ..
- و نعم بالله .. طب حتى نفهم .. يمكن نساعد حتى بكلمة .. يا عمي إحنا مش قادرين نفرح حتى بحامد اللي لسه ما بقى لوش غير أربع أيام بس على وش الدنيا ..
- حامد ..
خرجت الكلمة من بين شفتيه كأنها نار محرقة، فانقبض قلب محمود و سأل:
- ماله ؟
أغمض سعد عينيه و بدأ يحكي بصوت خافت:
- كانت لابسة نفس هدومها في آخر يوم .. الجلباب الأخضر و الطرحة البني .. قلتلها قومي اعملي الشاي يا زينب قالت لي سلامة الشوف .. أنت مش واخد بالك إنك نايم .. قلت طب إزاي باكلمك و أنا نايم، قالت لي لأنك جاي كمان دقة و كمان دقة .. بنتك بتولد يا سعد و ولد ولدك عليه بطشة حمرا .. وحمة حمرا على كتفه اليمين كيف الدم .. لو انولد ولد حتقابلني بعد دقتين، و لو بنت يبقى دقة .. أنت مش بتخطرف يا خويا .. قوم شوف بنتك .. قلت لها بنت مين و ولد مين .. أنت فين يا زينب .. و راحت ..
كان محمود يستمع إليه شاعرًا بالقلق، و إن خالطه شعور بالفخر لصحة استنتاجه، لكن طرح هذا جانبًا إذ أكمل سعد:
- يا محمود أنا خلاص .. دقة و اتنين و مش حابقى معاكم .. عارف يعني إيه تعرف إنك حتموت قريب ؟
وجد محمود مدخلاً مناسبًا ليخرجه من هذه الحالة، فقال:
- خلاص يا حاج أنت قلتها .. دقة و اتنين .. فرضًا كان الكلام ده صح، أنت عارف الدقة دي قد إيه ؟ .. يمكن أسبوع .. يمكن شهر .. يمكن سنة .. حتعيش سنتين بحالهم في الاكتئاب ده ؟ و بعدين اللي عارف إنه خلاص حيموت، و لو إن ربنا بيقول في كتابه "و ما تدري نفس ماذا تكسب غدًا، و ما تدري نفس بأي أرض تموت" .. اللي عارف إنه خلاص حيموت كمان شوية يقعد في الحالة اللي أنت فيها دي ؟
أخذ نفسًا عميقًا، و قال:
- أنت يا عمي راجل بتصلي و حجيت قبل كده و اعتمرت، و أحسبك عند الله من المؤمنين .. المؤمن يعني مؤمن بقضا ربنا و بحكمه، و أنت كده و العياذ بالله كأنك بتعترض .. حزنك كأنك بتقول ليه يا رب خلتني أموت دلوقتي ؟ .. لو فرضنا صحة الكلام ده، مش الأحسن إنك تقرب من ربنا أكتر .. تصلي أكتر .. تصوم أكتر .. يمكن يكون ربنا بيحبك بعت لك إشارة علشان تبقى آخر أيامك في طاعته، بدل ما يفاجأك الموت و أنت غافل .. و بعدين ممكن يكون كل ده وهم .. ممكن تكون من الشيطان ..
- و الوحمة ؟
- يا عمي .. لا يسمّعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ..
كان محمود يشعر مع كل كلمة يقولها أن حماه يلين شيئًا فشيئًا .. و إن هي إلا لحظات حتى كانت سامية تسمع صوت أبيها يقول مجلجلاً:
- يا سامية .. جهز لي ميّه اتوضا، و كلمي درية تيجي هي و شعبان ..
و لم تتمالك إلا أن تزغرد معلنة انتهاء غمة كادت – دون مبالغة – أن تعصف بهم شر عِصفة ..
***
كانت الكلمات تخرج من فمه، في أحسن الأحوال، بذيئة بذاءة فاحشة .. قال:
- بص ابن الـ ... دا يا إما تلموه يا إما حالمكوا يا ابن الـ .. أنت و هو .. أنا مش ناقص كلام و تلسين .. اللي فيّ مكفيني و زيادة، مش ناقص .. زي ده يطلع لي كل يوم و التاني في الجرنان الـ .. ده و يلقّح بالكلام .. فاهم يا شردي ؟
خرجت الكلمات مبحوحة بعض الشيء من حلقه و قال:
- ماشي يا باشا .. أوامرك ..
جفف شردي عرقه بعد أن أغلق الخط بكثير من "مع السلامة يا باشا" و "في رعاية الله يا باشا" و "ربنا يديم عليك نعيمه يا باشا" .. يا باشا يا باشا .. الباشا وكيل وزارة الإسكان، و لو أن طبيعة عمله تحولت إلى اللاإسكان، و تحول إلى وكيل نفسه لا وكيل الوزارة ..
الغريب أن طبيعة عمله و منصبه لا يكفلان له هذا النفوذ، بحيث يسعى شردي المسكين إلى استعطافه و منحه الباشاوية في الذهاب و العودة، لكن الحقيقة أن نفوذه يتخطى منصبه بكثير .. علاقات واسعة، و صلات الخطوة التالية فيها هي صلة الدم و الرحم، مع الكثيرين و الكثيرين من أصحاب النفوذ و الكلمة المسموعة النافذ في هذا البلد ..
كان عادل عبد الحليم منخرطًا حتى قمة رأسه في معظم القضايا التي أخرجت محمد إبراهيم سليمان من الوزارة .. أخرجته من الوزارة ؟ هذه الجملة غير دقيقة، فهي تعني زوال النفوذ، و أمثال هؤلاء لا يزول نفوذهم .. موقعه فحسب هو الذي يزول و يتغير، أما النفوذ فلا ..
أيًا كان الأمر، كان هو الوسيط في أغلب الصفقات التي تمت، و التي خرج منها مجمعة بمبالغ مريحة جدًا، لكنه نجح ببراعة أن يستل نفسه من القضية دون أن تمسه كلمة، فأصدقائه من أصحاب النفوذ ما زالوا يحفظون له قطع الأراضي التي سهل لهم الحصول عليها بثمن بخس يكاد يقترب من اللاشيء ..
الآن يأتي هذا الصحفي المشاكس العنيد ليفتح الملف من جديد، رغم أن جهاز الكسب غير المشروع برأ ساحة الوزير و أغلق هذا الباب، لكن من الواضح أنه من عشاق تكسير العظام، و رجاله سيتكفلون بهذا بشكل أو بآخر ..
شردي، خادمه الأمين كالكلب، سيتكفل بهذا، فهو عمله الذي يتقاضى عنه راتبًا ضخمًا، بالإضافة لراتبه الأساسي كرئيس لأمن شركة الخدمات البترولية .. بعد هذا الدرس، لن يجسر أن يفكر في أن يفتح فمه ..
- الكلب ابن الـ ..
قالها محاولاً نسيان كل شيء، في سبيل الحصول على ذهن صاف لحفل الليلة ..
***

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar