2.12.09

بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل السابع/ الجزء الثاني

الفصل السابع - أوراق حكومية

"السلام عليكم .. إزاي الصحة ؟" .. قالها عبد الواحد محييًا سكرتيرة فاروق، فردت و الابتسامة تعلو وجهها:
- و عليكم السلام يا باشمهندس .. الحمد لله على كل حال ..
- فاروق جوه ؟
- الدكتور لسه داخل ما بقالوش ..
و نظرت لساعتها ثم تابعت:
- تلات دقايق ..
- لازم الدقة قوي يعني .. طب أنا داخل له ..
- طب ثواني أدي له خبر ..
- لا لا لا .. دا أنا عاوزها مفاجأة ..
و أجلسها بإشارة من يده، و توجه إلى باب حجرة فاروق و فتح بابها دون مقدمات و قال و هو يصرخ:
- سلّم نفسك الإنكار مش حيفيدك ..
لثوان ارتبك فاروق و ثبت نظره إلى ذلك الواقف بالباب، و لم يلبث أن انفجر ضاحكًا و هو يقول:
- يخرب بيت طاستك يا أخي .. اقفل الباب و اتنيّل ادخل ..
أغلق عبد الواحد الباب و تقدم، فيما أكمل فاروق:
- يعني أسود فحمة، و داخل قفش، و بتصرخ، و سلم نفسك و الإنكار و مش الإنكار .. هو إيه يا بني، حد قال إني عاوز أموت بالسكتة القلبية ؟
تعانقا يضحكان، و أكمل فاروق:
- يعني لولا إن السكرتيرة عارفة إننا صحاب الروح بالروح كانت قالت الدكتور فاروق مصاحب مجانين ..
- يا عمي فك شوية من النشا اللي أنت عايش فيه ده .. عاوز أعرف يعني فيها إيه لو الدكتور يعيش فريش كده ..
- هو اللي بتعمله ده بتسميه "فريش" .. و بعدين طب ما أنا عايش أهه، وفل الفل، بس لازم شوية وقار، على الأقل احترامًا للمهنة اللي أنا بامارسها .. أنا باتعامل مع أقدس حاجة خلقها ربنا .. روح البني آدم ..
بدأت علامات الضحك و الابتسام تخفت شيئًا فشيئًا، و قال عبد الواحد:
- المهم، أنت عامل إيه ؟
- الحمد لله على كل حال .. ماشية و لسه عايشين ..
- تخيل بقى قابلت مين من يومين كده ؟
- مين ؟ .. جورج بوش ؟
- لا يا عم، باتكلم بجد ..
صمت فاروق للحظة مفكرًا، ثم قال:
- مين يعني ؟ .. حد من قرايبك في السودان ؟
- و دول حأعمل عليهم نشرة، كفاية السحابة السودا اللي هما جايين فيها ..
ضحك فاروق و سأله:
- مين بقى ؟
- بندر ..
- بندر ؟ .. بندر مين ؟
- بندر القطرنجي .. تعرف حد بالاسم ده غيره ؟
ظهرت على وجه فاروق علامات تذكر ذكرى بعيدة، و قال:
- يااااااه .. ده عمر تاني يا بني .. و ده عترت عليه فين ده ؟
- تخيل فين ؟ .. كنت حأدوسه بالعربية !
- و حصل إيه ؟
- لا خير الحمد لله .. أنا كنت باسوق و أنا سرحان و فقت، و هو كان ماشي و هو سرحان و فاق .. خبطة نونو كده بس ما حصلش منها حاجة الحمد لله ..
بدت علامات الاهتمام على فاروق، و انحنى للأمام مستندًا إلى مكتبه، و سأل:
- و الواد ده عامل إيه دلوقتي، و إيه اللي جابه مصر أصلاً ..
- تقريبًا مشاكل والده ف سوريا ..
- هو قال لك كده ؟ و لا تخمين ..
- تخمين، بس هو اتضايق لما سألته .. على كل هو حيقعد ف مصر رسمي خلاص ..
- يآنس و يشرف .. هو سكن و لا لسه ..
- من زماااان .. دا بقى له حاجة بتاع تلات شهور هنا ..
- و لا آلو و لا إزيكوا و لا أي حاجة كده ..
- أنت عارف الواد ده موعود بالمصايب .. بيصعب عليا قوي ..
- طب معاك نمرة تليفونه ؟
- أكيد ..
و أخرج هاتفه المحمول يمليه الرقم، و فاروق يتساءل:
- ألا عملت إيه بخصوص الأرض ؟
أعاد عبد الواحد هاتفه إلى جيبه و هو يسأل فاروقًا:
- ألا قول لي الأول .. أنا معطلك عن حاجة ؟
- لا لا أبدًا .. أنا بأحب آجي بدري شوية علشان لو فيه حاجة متأخرة أخلصها، بس مفيش ..
- طب حلو .. بص يا سيدي ..
و اعتدل في جلسته، و تابع:
- عملت الشكوى اللي طلبها سيادة العقيد محسن، و قدمتها له النهاردة و قال لي إنه حيتابع الموضوع بنفسه و يتصل بي يقول لي إيه آخر التطورات .. على فكرة ..
صمت لحظة ثم تابع، فيما قطع فاروق تساؤله الذي كان على طرف لسانه:
- الراجل ده ذوق جدًا .. نادرًا ما بألاقي حد من الشرطة بالنضافة دي ..
- الطيور على أشكالها تقع .. أنت لو ما كانش قلبك أبيض، كنت وقعت في حيص بيص ..
- آه و الله .. تخيل ..
مد عبد الواحد ساقه و انزلق قليلاً في مقعده عاقدًا يديه فوق رأسه، و قال:
- تخيل بقى لو ما كنتش أنا أعرفك و أنت ما تعرفش العقيد محسن .. كنت اتسورت .. بلد علشان تاخد فيها حقك .. حقك، مش حق غيرك .. علشان تاخده لازم كوسة و وسايط !
- ده بيفكرني بكلمة قالها لي أبو واحد زميلي أيام الثانوي .. قال لي البلد دي مش ماشية براسها، دي ماشية بـ"و لا مؤاخذة" اللي في الناحية التانية من الجسم ..
- المقعدة ؟
- طبعًا هو استخدم اللفظ الصريح، بس معاه حق .. مفيش بلد في الدنيا فيها اللي بيحصل عندنا ده ..
التفتا إلى الباب إثر طرق خفيف من السكرتيرة التي فتحت الباب بعد الطرق و قالت:
- أستاذ ممدوح وصل يا دكتور ..
- طب ثواني و دخليه ..
ثم التفت إلى عبد الواحد و قال:
- أول عيان وصل يا باشا .. اتكل أنت بقى ..
- ماشي يا سيدي .. ألا قول لي ..
ثم أكمل و هو يقوم عن مقعده:
- أخبار الحاج عبد الغفار إيه ؟
- هو جيمي قال لك ؟
- اتصلت بيه علشان نتفق ع المصيف، فاعتذر و حكى لي ع الموضوع ..
- حاجة بسيطة، و عملية أبسط، بس دقيقة شوية .. يوم في المستشفى، و يوم كمان يستريح، و بعد كده خروج، و يقعد بقى تلات شهور لغاية ما كل حاجة تتحسن و يرجع يمشي على رجليه تاني ..
- إن شاء الله .. بس شكلها فركش السنة دي م المصيف .. أنا حتى حاسس إني ما ليش نفس .. الواد خميس كان ..
و احتبست الكلمات في حلقه، فقال محاولاً الإفلات من الموقف:
- المهم استأذن أنا، و أسيبك للعيانين .. بركة إنك بخير .. سلام ..
شيعه فاروق بنظراته، التي لم ير عبد الواحد أن طبقة رقيقة من الدمع قد كستها:
- و مين له نفس يا عُبد .. مين له نفس ..
***
تمطأ إسماعيل بقوة كقط استيقظ لتوه، و تثاءب و هو يفرك عينيه اللتين أضناهما كثرة النظر إلى الأوراق و المكاتبات و المذكرات و الإعلانات، ثم حك رأسه يحاول أن يزيل الشحنات الساكنة التي تراكمت بين خصلات شعره الأكرت من كثرة التفكير، و إثر طرق خفيف على باب حجرة مكتبه قال:
- اتفضل يا حسين ..
دخل ابنه مبتسمًا، فتابع:
- عاوز تنزل طبعًا ؟
- ميزتك يا باب إنك قاريني .. ما بأحتاجش أطوّل في الكلام و أكتر ..
ابتسم إسماعيل و قال:
- يا بني أنا بنقرا جيناتي أنا .. المهم، حتروح فين ؟
- أنا اتفقت مع إيهاب و طلعت إننا نطلع سينما، بس مستني الموافقة الملكية ..
و اتبعها بابتسامة تزلف و تملق ابتسم لها إسماعيل، و قال:
- حتدخلوا فيلم إيه ؟
- الفيلم بتاع أحمد حلمي الجديد ..
- آسف ع الإزعاج ؟
فرقع حسين بأصابعه و قال:
- يا حلاوتك يا سمعة يا بتاع السيما أنت ..
- احترم نفسك يا ولد .. الحكاية كلها إن الواد دا داخل دماغي ..
- يعني موافق ؟
- بس المهم تدخلوا الفيلم دا فعلاً، مش تشوفوا حتة بت مقلوظة على بوستر بتاع فيلم أجنبي تقوموا تدخلوه علشان اللحمة .. فاهم ياض ؟
- عيب يا بابا .. و دا كلام ..
- دا كلام و نص يا روح بابا ..
ثم قام عن مكتبه و توجه إليه و قال:
- المهم بس ما تتأخرش .. يعني حداشر بالكتير تكون هنا، و طبعًا ما تنساش إن في اختراع اسمه التليفون ممكن أجيبك من قفاك بيه ..
- عارف يا بابا ..
قالها بشيء من الضيق فرد إسماعيل:
- حبيت أفكرك بس، رغم إني لغاية دلوقتي ما استعملتش الميزة دي في الموبايل ..
ثم دفعه برفق و قال:
- يا لا يا بطل .. بالسلامة، و ابقى خليك فاكر تجيب معاك لبن و أنت جاي .. عارف لو نسيت ..
- لا مش حأنسي .. سلام ..
و انطلق فيما نادى إسماعيل زوجه:
- لو قاعدة ف الإنتريه خليكي .. أنا جاي لك ..
و اتجه إلى حجرة المعيشة يثني ظهره و ركبتيه و جذعه محاولاً الخروج من حالة التيبس التي أصابته من كثرة الجلوس إلى المكتب يراجع ما تم في شأن جهاز الأشعة المحترق، و الجفت الجراحي الغير مطابق للمواصفات ..
- وصلت لإيه يا إسماعيل ؟
- مسخرة .. دا أنا كنت قاعد على خازوق مش كرسي رئيس مجلس إدارة ..
- يا ستار يا رب .. ليه يعني ؟
- بصي يا ستي ..
ملأ صدره بالهواء و قال:
- الأول بس ابعدي البصل دا عن عيني، مش ناقصة تدميع .. و بعدين مش تخلصي البتاعة دي ف المطبخ ..
- يا خويا تعبت من كرسي المطبخ المأتب ده .. فوّت يا راجل، ما أنا اللي بانضف ..
- نهايته .. بصي يا ستي ..
ملأ صدره بالهواء مرة أخري و غاص في الأريكة الوثيرة و تابع:
- الجزمة ابن الكلب الأولاني بتاع الصيانة .. جزمة و ابن كلب و يستاهل ضرب الجزم .. الواد بتاع الأشعة قدم ييجي ميت طلب إنهم يشوفوا صرفة في جهاز التكييف اللي بايظ، و هو يصلبت فيه، و يا ريته بيصلبت فيه بذمة .. السلك المستخدم أرفع م المطلوب، و الجهاز يشتغل يوم و هوب .. ووووووش، يوّلع، و الجهاز بتاع الأشعة وووش معاه .. ابن كلب واطي .. مش عارف ليه يعني قلة الأدب دي ..
- يكون عاوز يكهن الجهاز و يجيب واحد من شركة له فيها معرفة و يسلك له قرشين ؟
- أنا قلت كده برضك، بس لزومها إيه قلت الأدب دي .. كان يقول إن الجهاز لا يصلح و إنه لازم يتكهن، و ما كانش حد حيعارضه، لأن الجهاز قديم فعلاً ..
- و الموضوع حيخلص على إيه بعد ده كله ؟
- دي كده فيها خيانة أمانة .. الواد العبيط مش واخد باله إنه ماضي على نفسه عقد، فيه بند إنه مسئول عن كل أجهزة المستشفى، ما لم يذكر اسم مختص آخر، فيما يتعلق بمسألة الصيانة، و إن إخلاله بمسئوليته فيما يتعلق صيانة أي جهاز تحت إيده يعتبر خيانة للأمانة، و يقاضى بموجب مواد القانون فيما يختص بخيانة الأمانة .. و ديني لأكون مربيه و موديه ف داهية ..
- يا خويا هدي أعصابك .. بلاش التنشنة دي ..
أنهت ما بيدها من أصابع محشي الكوسة، و نفّضت ما علق بيديها من بقايا خليط الأرز و الخضرة و البصل، و حملت الصينية و الأوعية ذاهبة للمطبخ و زوجها يشيعها بكلماته:
- خليكي أنت في المحشي بتاعك ده بالبصل و عينك المدمعة و سيبيني أنا أفش غلي شوية .. أنا حانفجر ..
و بينما هي في المطبخ تفرغ مما بيدها من صوان و أوعية، تذكر ما كان بينه و بين مسئول قسم المشتريات، فضحك بملء فيه، بل لا نكذب لو قلنا قهقه، ما جعل زوجه تسأله و هي ما زالت في مطبخها:
- بتضحك على إيه يا إسماعيل ؟
- دا البأف التاني بتاع المشتريات .. تعالي بس أنت الأول و بعدين أحكي لك ..
الحق أن ما فعله مع مسئول قسم المشتريات كان يستحق التصوير و التسجيل .. حتى هو نفسه لا يزال غير مصدق أنه فعل ما فعل ..
- طبعًا الواد دلوقتي مفتوح معاه تحقيق رسمي و شكله حيلبس قضية اختلاس وش يعني .. بس أنا جبته على جنب و حبيت أعرف منه و امشيها ودي في الأول، لأنه أصلاً معرفة من زمان قوي .. ماحبتش أفتح على بوابة جهنم من أولها، قلت يمكن ييجي بالذوق .. لقيته بيبقبق و يتهته و يلغبط في الكلام، و بعدين شويتين لقيته بيقول كلام تاني خالص و شايط و أنت بتكلمني كده ليه، و أنا عملت اللي فيه المصلحة و مش عارف إيه و أبصر إيه .. لقيتني مرة واحدة هبيت فيه، قلت له بص ياض .. أنا دكتور آه، رئيس مجلس إدارة مستشفى قد الدنيا ماشي، لكن أنا أصلا من القباري و أمي من كرموز ..
- يا خبر أبيض ..
- صبرك بالله .. قلت حتبق معايا و مش حتيجي بالذوق، حأكون مفرج عليك اللي يسوى و اللي ما يسواش و أخليهم يبيعوا منك الكيلو بقرش .. فاهم ؟
- و عمل إيه ؟
- و الله أنا مش عارف أنا قلت الكلمتين دول إزاي أصلاً، بس الواد بلّم و تنّح و قر بكل حاجة .. ابن الرفضي جاب الجفت من شركة شغال فيها واحد قريبه، و سجل الفاتورة بسعر، و دفع سعر أقل، و الباقي في جيبه .. و الدكتور التاني رئيس قسم العمليات استلم و الحجة اللي اتقالت له إن ده الجفت المتوفر في السوق حاليًا، و إن العمليات ممكن تأخر أكتر من كده، لو انتظرنا وصول الرسايل اللي حيكون فيها الجفت اللي إحنا عاوزينه ..
- بس أنت شلقت له خالص يعني .. كان في حد حاضر ؟
- لا .. ما أنا مش حبعبع بكل ده و في ناس نضيفة قاعدة .. اسمي برضه دكتور و رئيس مجلس إدارة .. المهم في الآخر حولته تحقيق رسمي .. ما دام هي قلة أدب، يبقى يتربى أحسن .. نومة البورش حتعلمه، هو و الدغف التاني بتاع الصيانة ..
- طب أشرب الينسون و روّق دمك .. كفاية حرقة أعصاب ..
- أنا ما حارق دمي غير إن الاتنين بياخدوا مرتب يتحسدوا عليه .. بيعضوا الإيد اللي اتمدت لهم ليه ؟ .. ليه النتانة و قلة الأدب دي ..
- في ناس طبعها كده .. تحسن لها بس هيا في الآخر واطية .. الحمد لله إن ربنا كشفهم و خلّصك منهم ..
- بأقولك إيه ..
و ضغط زر تشغيل التلفزيون و أخذ يستعرض المحطات المختلفة و تابع:
- أنا بأقول نتفرج على حاجة أحسن من السيرة النكد دي ..
- طب اربط هنا .. خلي الفيلم ده جميل ..
و رغم أنه كان – ظاهريًا – يتابع الفيلم معها، إلا أن ذهنه كان في واد آخر ..
***





ليست هناك تعليقات:

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar