24.2.11

أحلام الفتى الدائخ - الحلم العاشر


الحلم العاشر: إنني أرى المستقبل !

لست ممن يؤمنون بقدرة المرء على روية المستقبل، رغم أنني أؤمن بأن الله قد يرسل إشارات لعباده فيها إخبار بشيء من الغيب، و هي المبشرات التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، يراها الرجل الصالح أو تُرى له، لكن ما أراه في منامي ليس يندرج تحت هذا بالتأكيد ..

أقول هذا في البداية لأنني واجهت ثلاثة أحلام، لست أرى العجب فيهم، بقدر ما أراه فيما تلاهم و صاحبهم من أحداث ..

دعوني أسرد الحلم الأول ..

بدأ الحلم بشكل مفاجئ بمشهد انهيار أحد العقارات، و بشكل ما، أحسست المشهد قريبًا مما حدث في الحادي عشر من سبتمبر .. ركام و غبار و قطع من الحجارة متناثرة في كل مكان، و كومة عملاقة من بقايا المنزل المنهار، و أمام هذا المنزل وقف مجموعة يصرخون في فزع، لكن المدهش كان ثباتهم؛ فرغم أن سقوط المبنى و لا شك سيصنع موجة من التضاغط تطيح بأي واقف في محيطه، فإن هؤلاء ظلوا ثابتين، و إن كان الرعب باديًا عليهم .. شعرت لحظتها كما لو كانوا يواجهون موجة تضاغط ناشئة عن تصادم أغطية الأواني لا انهيار مبنى كامل ..

بعد انقشاع الغبار بلحظات بدأ الناس يجرون في كل اتجاه للهرب من توابع السقوط، و هو ما لم أستطع تفسيره في ضوء ثباتهم العجيب .. في غمرة هذا التدافع انبرى اثنان يحاولان العثور على أفراد أسرتهم .. كان من الواضح الصبغة الجنوب-شرق-آسيوية التي تصبغهم، و قدرت أنهم من كوريا ..

انضم آخرون إلى هذين، و شكلوا دائرة، و أمسكوا بكتاب أبيض لست أدري من أين جاء بالضبط، لكن ما شعرت به لحظتها أنه وسيلة تواصلهم مع المفقودين تحت الأنقاض .. كنت أراهم كما لو كنت أرى مشهدًا في السينما، فيه شخصان يقفان قبالة بعضهما البعض، و الكاميرا تدور من حولهم بسرعة نسبية مع إبطاء على فترات ثابتة، فتعطيك الإحساس بإنك تدور في آلة طرد مركزي، تتسارع حينًا و تبطء حينًا .. أعلم أن الوصف معقد، لكنه الأقرب لما شاهدته لحظتها ..

كان الكتاب في منتصف الدائرة، معلق في الهواء، فكلهم يمسونه لكنهم لا يمسكونه، و كلما مسه أحدهم أبطأ المشهد قليلاً مع الإبقاء على دوران الكاميرا، و أشعر لحظتها أن هذا الشخص يبذل مجهودًا ذهنيًا كي يركز و يرى ما خلف الغبار، و كلما استطاع أحدهم التركيز بما يكفي في أحد المفقودين، انضم إليهم هذا المفقود ليأخذ مكانه في الدائرة ..

و في لحظة معينة، و كأنما هذا هو آخر المفقودين، اكتسى المشهد بياضًا، كما لو كنت أواجه الشمس على حين غرة، ثم انقشع كل هذا، و وجد هذان الباحثان عن أسرتهما نفسيهما في وسط أحد الشوارع البعيدة، التي تبدو كما لو كانت قد اقتطعت من نيويورك، و قد أمسك كل منهما بيد الآخر، و شخص على مقربة منهما يمسك الكتاب الأبيض و يودعهما، لأستيقظ بعدها ..

حتى هذه اللحظة، فلا شيء جديد .. هلوسة أخرى من هلوساتي المتعددة التي ربما اعتدتم عليها، لكنني كما قلت لا أرى العجب في الحلم ذاته، بل فيما صاحبه من أحداث؛ فذا الحلم رأيته في الثاني عشر من ديسمبر 2010، و هو اليوم الذي شهدت فيه الإسكندرية أعنف طقس على الإطلاق، و عندما قرأت عناوين الصحف في اليوم التالي صدمت بعنوان بالخط العريض: انهيار مصنع في الإسكندرية !

حسنًا .. لننتقل إلى الحلم الثاني ..

كان هذا على قدر ما أذكر في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر الفائت .. كان حلمًا مشوشًا هو الآخر، و لست أدري من أين بدأ و لا أي المشاهد قبل أيها، لكن هذا لا يهم على أي حال، فهذا الحلم تحديدًا أشعر أن قراءته من بدايته لنهايته لا تختلف كثيرًا عن قراءته من نهايته لبدايته ..

المشهد الأول كان القاعة الرئيسة في أحد الكنائس .. قداس هائل لست أدري أهناك كنيسة يمكن أن تستوعب هذا الكم من البشر أم لا، لكن ما لاحظته هو جو عام من الهرج و المرج، لست أدري أهو لمصيبة حلت، أم هو جو الاحتفال و المرح .. لا يمكنني التحديد، فالمشهد لم يدم إلا لحظة، لا تتيح التيقن من أي شيء، و حتى معرفتي بإن هذا قداس في أحد الكنائس جاء من إحساسي بالمشهد، لا من علامة مميزة فيه، كصليب أو غيره ..

انتقلت في لمح البصر إلى مشهد آخر، و كان الانتقال من مشهد القداس إلى المشهد الجديد خاطفًا، و يشبه تأثير Motion Blur في الفوتوشوب (أعتذر لمن ليست لديهم خبرة في هذا البرنامج عن هذا التشبيه، لكنه الأقرب إلى ما رأيت)، و سرعان ما وجدت أمامي حجرة ضيقة خالية من كل شيء إلا من رجل عجوز، يرقد متكومًا في أحد الأركان، ثم سطعت للحظة أمام عيني صورة البابا كيرلس الثاني الشهيرة، التي يشخص فيها للسماء متضرعًا، و احسست أنه ذاك الرجل المتكوم في أقصى الحجرة .. إحساسي أثناء الانتقال من الساحة إلى الحجرة أنني أنتقل إلى طابق أعلى في الكنيسة ..

شعرت للحظة أنني أطير، ثم تكرر نفس تأثير Motion Blur هذا، و وجدت أنني أعلى الكنيسة، لكن الغريب هو طراز المباني الذي شاهدته، إذ كان و لا ريب يشبه مباني أوروبا في القرن التاسع عشر، بالمسحة القوطية المميزة لتلك البنايات، و لسبب ما، شعرت أنني في براج عاصمة التشيك، و لا تسألني لم هذه تحديدًا .. ربما هو الجو الشرق-أوروبي المخيم على المشهد لحظتها ..

الكنيسة نفسها كانت تشبه كنائس تلك الحقبة من تاريخ أوروبا، و بدت أشبه بالقلعة .. انتقلت طائرًا من سطح الحجرة التي كنت بداخلها منذ لحظة متجهًا ناحية مجموعة أبراج قصيرة تنتمي للكنيسة أيضًا، مبنية فوق جزء آخر من السطه، تبدو كما لو كانت مصمتة لا قلب لها يحوي سلمًا كما هو متوقع، و و بين هذه الأبراج الأربع امتد سور عال للغاية، سرعان ما عرفت سبب وجوده ..

حلقت فوق هذا الجزء المحمي بالسور لأفاجئ بأسد غضنفرأسود اللون فاحمه ينظر إليّ في ترقب و تحفز، و أنا بالطبع لا أدري لي رأسًا من قدمين .. حاولت الهرب لكنني تجمدت للحظة كان قد ارتفع هو خلالها طائرًا كي يلحق بي، و هو ما جعلني أتعجب من وجود السور طالما باستطاعته الطيران ..

فررت منه في طيران انسيابي سلس، و أخذ ينتقل من سطح إلى آخر، و أنا من شرفة إلى أخرى، حتى بدا عليه التعب على ما يبدو، فتسملت مهمة مطاردتي أربع لبؤات سوداوات مثله تمامًا، و لا زلت أطير حتى أنهكهن التعب فأسلمن مطاردتي إلى شبل صغير رمادي اللون سرعان ما تركني .. الغريب أن هذه المطاردة المحمومة لم تتجاوز مساحة لا تزيد كثيرًا عن مساحة الغرفة التي أكتب منها هذا الذي تقرأون ..

هبطت بسلام إلى شرفة أحد المنازل، بينما ذاك الشبل البائس يراقبني من سطح المنزل المقابل، و بدا أن المشهد العام انتقل لحي شعبي في قلب القاهرة، بعد أن كنا في براج ..

قبل أن استيقظ مباشرة سطعت للحظات مشاهد شعرت أن موضعها الطبيعي كان في بداية الحلم قبل أن انتقل للحجرة الفارغة .. القاعة الرئيسة مرة أخرى، لكنهم كانوا على ما يبدوا يحتفلون ببعض المتخرجين حديثًا من الكليات، و قد تأكد لي هذا من آخر مشهد مر أمامي قبل أن استيقظ، إذ كانت إحداهن ترتدي قبعة التخرج و تمسك بما يبدو أنه شهادة تقدير ملفوفة و مربوطة بشريط من حرير، و تبتسم في فخر و انتصار، لكن المشهد كان مهزوزًا لدرجة منعتني من التيقن من أي شيء .. كل هذا الوصف أكتبه نتيجة إحساسي باللحظة أكثر منه مشاهدة حسية ..

ذكرت أن هذا الحلم كان في الأسبوع الأخير من ديسمبر 2010، و غني عن التذكير ما حدث في الإسكندرية في ليلة رأس السنة .. أذكر أن إحدى ضحايا هذا التفجير كانت طالبة قد أنهت لتوها دراستها، و كانت قد كتبت على صفحتها على فيسبوك ما معناه أنها تتمنى لو تتحقق أمنيات ما بعد التخرج في العام الجديد ..

على أية حال، لننتقل إلى الحلم الثالث ..

إنني أعتبر هذا الحلم هو درة هذه الأحلام الثلاثة، ربما لأنه تنبأ (و اسمحوا لي باستخدام كلمة تنبأ) بالشيء الأهم على الساحة الآن ..

يبدأ الحلم بمشهد أرى نفسي مع مجموعة من زملائي في الكلية، بالإضافة إلى بعض الزميلات أيضًا، نجتمع كلنا في حجرة هي بياض في بياض؛ أرضية بيضاء و حوائط بيضاء، مع إضاءة زرقاء خافتة أعطتني الإحساس أننا في فيلم من أفلام الخيال العلمي، لكن الحقيقة أننا كنا في أحد مقرات أمن الدولة يُحقق معنا جميعًا بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم .. لمحت صديقي الذي أعرفه بميله لتيار الإخوان المسلمين، و صديقًا آخر ينتمي للحزب الرمادي الذي ينتمي إليه أغلب المصريون، و لمحت وجوهًا أخرى أكدت لي أننا كزملاء دراسة – كلنا – في نفس القفص ..

استمر التحقيق لدقائق اقتادونا بعدها لحجرة أخرى لنشاهد أدوات التعذيب .. من الواضح بالطبع أنهم لم يجدوا منا نفعًا، فقرروا استعمال الشدة .. أذكر أن هذه الحجرة كانت هي نفسها الشقة القابعة في الطابق الأرضي من البناية التي أسكن فيها، و التي تسكنها عجوز شمطاء لا استسيغها، لم أعجب كثيرًا عندما جعلت شقتها مقر حفلات التعذيب الأمنية .. الفارق الوحيد هو الارتفاع الشاهق الذي أصبح عليه سقف الشقة .. ربما كان هذا ليستوعب أحجام أدوات التعذيب الضخمة التي كانوا يعرضونها علينا ..

نسيت أن أقول أنني عند انتقالي من مكتب أمن الدولة حيث الاستجواب إلى تلك الشقة البائسة، راودني إحساس قوي أن شقتنا كانت هي مقر أمن الدولة الذي كنا فيه منذ لحظات .. على أية حال، فقد هربت ..

كان الباب مفتوحًا، و لا أحد يحرسنا .. نظرت إلى صديقي الرمادي و قلت إنني سأهرب، و ربما حررتهم فيما بعد .. انطلقت أجري بطول الشارع الذي أسكن فيه في الحقيقة .. كان جريًا عجيبًا؛ فأنا أنطلق بسرعة أشعر أنها مهولة، لكنني لم أبرح مكاني بعد، بينما نهاية الشارع تقترب مني و تبتعد .. انتهى هذا المشهد سريعًا عندما وجدت نفسي أمشي بجوار سور معدني، بدا و كأنه يحيط بمبنى جهاز أمن الدولة، الذي لا أدري ما الذي أتى به هاهنا ..

شعرت أثناء سيري أن هذا المكان هو في الأصل استاد الإسكندرية، لكن مرأى القصر الذي يبدو خلف الأسوار ليس له علاقة بأي ملاعب رياضية .. أسير بجوار السور و الليل قد خيم حولي – و هو كذلك منذ بداية الحلم – لأفاجئ بشرطي ينبت من العدم يجلس بجوار حجيرة خشبية للحراسة يسألني بشكل مباشر: لم هربت ؟

نظرت إليه مندهشًا في الوقت الذي جاء أخي ليعرف ماذا يحدث .. لا أذكر إجابتي تحديدًا، لكنها كانت شيئًا من قبيل: ثورة، أو لن نسكت .. شيء من هذا القبيل، أو ربما أظن أنه شيء من هذا القبيل لتأثري بالأحداث الحالية .. أيًا كان ما قلته لحظتها، فقد نبهت أخي أننا سنجري، و ألقيت قنبلة يدوية صغيرة الحجم كانت في يدي ناحية السور، و انطلقنا نجري مبتعدين بينما ظل الشرطي مكانه .. نظرة سريعة إلى الخلف أدركت معها أن القنبلة اصطدمت بأحد الأعواد المعدنية التي تشكل السور، فارتدت إلى الخلف، و هو ما يعني أنها لن تنفجر و لن تحدث الأثر المطلوب .. ضغطت زر الإيقاف – و لا تسل أين هو جهاز التحكم هذا، فلست أدري، لكن المشهد لحظتها بدا بمثل هذا التأثير تمامًا – فتجمد المشهد، ثم ضغطة أخرى على زر العودة إلى الخلاف فرجع المشهد بكافة تفاصيله بينما أنا واقف في مكاني، حتى وصلنا إلى اللحظة التي أرمي فيها القنبلة، فأزحتها قليلا عن موضعها، و أعدت تشغيل المشهد و انطلقت مبتعدًا، لتهبط خلف الأسوار، و تفجر كل ما في المكان ..

دون مقدمات وجدت نفسي مع أخي على دراجة هوائية، بعد أن كنا نجري على أقدامنا، و سلكنا طريقًا فرعيًا لتتبدل الأرض من تحتنا، فبعد أن كانت أسفلتًا صارت طينًا، و أصبحنا في كفر الدوار .. كنا ذاهبين إلى منزل جدتي، حيث الراحة و إعداد الحقائب للهرب من السلطات التي تطلب رأسي ..

صعدنا، لأجد أمي جالسة أمام الحاسوب تتابع صفحتها على فيس بوك، و هو رابع المستحيلات بالطبع إن لم يكن خامسها .. لم يكن بيت جدتي كما هو في الواقع، لكنه يحمل الكثير من روحه .. أخبرت أمي أنني سأهرب، و أنني سأحزم بعض حاجياتي و انطلق، ثم استيقظت ..

حسنًا ..

ماذا أريد أن أقول بعد كل هذا ؟ .. لا شيء .. بقدر إنكاري لإمتلاكي لأي قدرة خارقة توصلني بعالم ما وراء الطبيعة، بقدر ما أتمناها؛ ربما كي أعوض في عالم ما وراء الطبيعة ما أفتقده في عالم الطبيعة ..

أيًا كان الأمر، أكنتم ممن يعيشون أمام الطبيعة أو ممن يعيشون وراءها، أرجو أن تكون قد استمتعتم بما قرأتم ..

23.2.11

سر العلم الأخضر !


ذات يوم طلب مني صديقي إبراهيم الجارحي – الصحفي، و مؤسس تيت راديو – ان أصمم له علمًا يكون شعارًا رسميًا لجمهورية تيت المستقلة التي يرأسها بشكل ديكتاتوري .. و رغم أن الأمر لا يستحق، و بعيدًا عن أنني لم أصمم العلم أصلاً، إلا أنني انطلقت أبحث أولاً عن فلسفة تصميم الأعلام، و كيف يمكن أن تُختزل الدولة و القيمة في مجموعة من الألوان و الخطوط و الأشكال ..

و بينما أنا أبحث وجدت مقالاً يعرض بالأمثلة كيف يمكن أن يكون العلم معبرًا بحق، و كيف يمكن أن يكون كتلة من العبث الصارخ، و لفت نظري ما قاله كاتب المقال عن العلم الليبي الحالي، إذ قال إن هذا العلم هو علم فريد متفرد بين أعلام الدنيا، فهو لا يحتوي سوى لون واحد وحيد لا ثاني له، و هو اللون الأخضر، و لا يحتوي أي عناصر أخرى، فلا لون سوى الأخضر، و لا شيء يملأ هذا الأخضر من خطوط أو أشكال أو دوائر أو أي شيء، و هو وضع لم يتكرر من قبل في أي دولة أو مؤسسة ..

تذكرت هذا و أنا أتابع ما يحدث في ليبيا، و جنون هذا الرجل الذي فاق كل حد، و للحظة خُيل إليّ أن مفتاح الأمر كله في هذا العلم ..

فهذا اللون الواحد الأوحد الوحيد يعبر بحق عن دولة الفرد و حالة الفرد/الدولة التي يعيشها الشعب الليبي منذ أربعة عقود، و هو في الوقت نفسه يعبر عن نفسية شديدة النرجسية، ترى أنها وحدها كافية لتعبر عن كل شيء في الدولة، و كل فرد في الدولة، و أن ما تعبر عنه هو الدولة، و أن ما عدا ذلك سقط متاع ..

و لست أدري ما الذي يدل عليه اختيار اللون الأخضر، فليبيا صحراء شاسعة، و الواحات و المساحات الخضراء فيها لا تسوغ التعبير عن الدولة بأكملها باللون الأخضر، و لو كان الأخضر مجاورًا للأصفر لكان الأمر مقبولاً نوعًا، باعتباره معبرًا عن الواقع و المأمول معًا، لكن الأخضر وحده لا يمكن تفسيره إلا بـ"طول الأمل"، الذي جعل القذافي يطمع و يطمح أن يظل يحكم ليبيا حتى تصير كلها خضراء، لكنه مع الأسف ظل فيها حتى حتى كاد أن يحيلها كلها حمراء قانية ..

هناك تفسير للون الأخضر، و هو تفسير طفولي للغاية لكنه يلقى في نفسي هوى و ميلاً، و هو العلاقة بين اللون الأخضر و الملوخية، و علاقة الأخيرة – لفظًا – بالمانيخوليا، أو الذهان كما كان يسميه أطباء العرب قديمًا .. ربما كانت إشارة خفية من العقيد إلى أنه مريض نفسي !

ثم هذا الغياب التام للتفاصيل، و التسطح التام للعلم لا يمكن فصلهما عن الهلامية الرهيبة التي يدير القذافي بها البلاد .. فهي ليست جمهورية، بل جماهيرية، و ما هو الفارق ؟ تأتيك الإجابة: الجماهيرية من الجماهير، بينما الجمهورية من الجمهور !

ثم هو ليس رئيس الجماهيرية، بل هو قائد الثورة، و قد قالها بنفسه عندما طالبه الناس بالتنحي فقال إنه ليس الرئيس حتى يتنحى، و هو تصنيف سياسي فريد من نوعه .. هناك دولة هي مملكة و يحكمها ملك، و هناك دولة هي إمارة و يحكمها أمير، و هناك دولة هي جمهورية و يحكمها رئيس، و هناك دولة هي سلطنة و يحكمها سلطان، أما أن تكون الدولة جماهيرية و يحكمها قائد ثورة، فهو عبث ليس له مثيل !

ثم أين هي مؤسسات الدولة ؟ أين المؤسسة التنفيذية ؟ أين المؤسسة التشريعية ؟ أين المؤسسة القضائية ؟ أين المؤسسة العسكرية ؟
لا تجد شيئًا من هذا على الإطلاق .. حتى المؤسسة العسكرية هي خليط عجيب من القوات، لعل أكثرها إثارة للشعور بالهزلية هي قوات الحرس النسائي التي تحرس فخامة العقيد، و في النهاية تحولت القوات المسلحة لمجموعة من المرتزقة الأجانب، تضرب الليبين أهل البلد بأوامر مباشرة من الأخ القائد ..

أين هو الدستور ؟ الكتاب الأخضر ؟ أقسم بالله أن هذا الكتاب لو انفقت البشرية عقول مخابيلها كلهم من أجل الخروج بمعشار ما فيه لما استطاعوا .. إنه كتاب يستحق أن يدرسه الأطباء النفسيون ليعرفوا أساليب المصابين بالذهان في التفكير، لكن يقيني هو أنهم لن يستطيعوا تعميم نتائج دراستهم على أي شخص آخر سوى القذافي، فالأمر يتجاوز حدود القدرة العلمية بكل تأكيد ..

مَن يحدد سياسة الدولة ؟ و ما هي سياسة الدولة الليبية في الأساس ؟! الرجل يقول إنه أعطى الحكم للشعب منذ عام 1975 عن طريق تشكيل الشعبيات و المؤتمرات الشعبية و اللجان الثورية، و هو قول يشبه قول مبارك أن مصر تعيش أزهى عصور الديمقراطية !

دولة هلامية و علم فريد و شخص عجيب، صنعوا حالة فريدة في تاريخ الأمم و الشعوب .. إننا لا نواجه رجلاً مخبولاً وضعه التاريخ في مقعد الحاكم ليحول بلده إلى "خرابة" و نفسه إلى أضحوكة، بل نواجه ما هو أكبر .. إن هذا الرجل – ببساطة – يعيد تعريف الخبال !

يرحم الله ليبيا، و يقيلها من عثرتها، و يقيض لها مَن يخلصها مما هي فيه .. قولوا آمين ..

20.2.11

الغباء الجمعي !


رغم اهتمامي بعلم النفس، و محاولاتي المستمرة للاستزادة منه، إلا أنني واجهت صعوبة في فهم مصطلحي "الوعي الجمعي" و "اللاوعي الجمعي"، اللذان وضعهما كارل يونج، كواحد من رواد علم النفس في التاريخ الحديث، بالإضافة إلى صديقيه سيجموند فرويد، و ألفريد أدلر ..

إلا أنني رغم هذا أمتلك صورة أظن أنها ضبابية بعض الشيء عن ماهية المصطلحين، لكنها تفي بغرض هذا المقال .. نستطيع تعريف الوعي الجمعي بإنه مجموع وعي أفراد المجتمع، و الذي يعني بدوره أنه مجموع طريقة الأفراد في فهم البيئة المحيطة و تقرير طرق التصرف حيال متغيراتها، أما اللاوعي الجمعي فهو مجموع الخبرات المختزنة في لاوعي الأفراد، و التي تتوارثها الأجيال جيلاً وراء جيلاً، مشكلّة موروثًا يحكم التصرفات الواعية للأفراد بصورة أو بأخرى، و يمكننا القول إن الموروث الثقافي هو إحدى صور اللاوعي الجمعي ..

أكتب هذا كي أقر حقيقة لا بد أن نعترف جميعًا بها، شئنا أم أبينا، و هي أن الحكام العرب قد أضافوا إلى علم النفس مصطلحًا جديدًا، هو الغباء الجمعي !

من المثير للدهشة و للفضول العلمي في آن هذا التشابه المزري في رد الفعل لدى الحكام العرب واحدًا تلو الآخر إزاء المظاهرات و الاحتجاجات و الثورات التي تجتاح الوطن العربي في تفاعل متسلسل يخلب الألباب و يسحرها .. تشابه يجعلك تقول بنفس راضية: تعددت الوجوه، و الغباء واحد ..

البداية كانت مع بن علي في تونس، الذي استلزم الأمر أربعة أسابيع متصلة من الاحتجاجات و الإضرابات و الاعتصامات حتى يفهم الشعب، و المضحك أن فهمه اقتصر على عدم ترشحه للرئاسة في 2014 .. الأكثر إضحاكًا أنه تصور أن هذا سيهدأ الشعب التونسي، و هو التصور الذي يملأ عقل كل طاغية طالت به السنون في سدة الحكم ..

حتى هنا فنحن لا نتحدث عن غباء جمعي، بل هو غباء سلطوي فردي ديكتاتوري لا شك فيه، لكن انتقال الاحتجاجات إلى مصر جعل الصورة تتضح أكثر .. في البداية أخذ النظام يتحدث بنفس اللهجة العجيبة، و هي أنه لا يخاف أحدًا لأن يده نظيفة، و "مفيش على راسه بطحة"، و استلزم الأمر ثلاثة أيام متصلة من الاحتجاجات و المظاهرات و الاعتصامات الحاشدة بحق، و انسحاب تام للشرطة (بأوامر عليا بالطبع)، و إطلاق سراح المسجونين و البلطجية (بأوامر عليا أيضًا)، و نزول الجيش و فرض حظر التجول على البلاد، و مئات القتلى و آلاف الجرحي .. استلزم الأمر كل هذا كي يخرج مبارك بعدها ليخطب في الناس قائلاً إنه قرر تنحية الوزارة لأنها لم تنفذ تعليماته !

الحق أن الأمر يجمع بين الغباء في قراءة المشهد و العناد و الكبر، لكن الشاهد في الأمر هو أن مبارك تصرف مثل بن علي تمامًا، و إن اختلفت الأزمان و المدة في الحالتين ..

قطع مبارك خدمات الإنترنت و الهاتف المحمول، و شوّش على قناة الجزيرة، و أزالها تمامًا من القمر المصري نايل سات .. و في السويس قطع عنهم الكهرباء و المياه، و كأنه يتعامل مع مجموعة من الخراف و النعاج، و هو تصرف غبي آخر، سنجد له مثيلاً بعد قليل عندما ننتقل للحديث عن باقي الدول العربية .. تصرف غبي لأنه ببساطة جعل الناس التي التزمت بيوتها تنضم إلى المتظاهرين .. شخص لا ضوء يهديه الطريق داخل منزله و لا مياه ليروي بها ظمأه، و لا إنترنت أو أي وسيلة اتصال أخرى، فما الذي يجعله يلتزم المنزل ؟!

و كأنما هي عدوى، انتقل مرض الغباء من مبارك إلى نائبه، فبدأ التحدث عن أجندات أجنبية تحرك المتظاهرين، و أن ما يطالبون به غريب عن الروح المصرية الأصيلة، و هو الشيء الذي يثير الضحك بقدر ما يثير الغيظ، فالجهة التي تستطيع أن تحرك هذه الملايين لهي جهة جديرة بالاحترام، و هي الأقدر على حكم البلاد و لا شك !

المثير للشفقة كان الإعلام الرسمي، الذي كان يتصبب غباء و بلاهة، عندما يصر على وصف الأجندات، و يفتح المجال لمن يقول إن المتظاهرين يتلقون وجبات كنتاكي مجانية من أجل التظاهر، و يترك الحديث لمن يقول إن ميدان التحرير هو "ماخور كبير"، و يركز على الأماكن الفارغة من الميدان، أو يجعل مشهد النيل الهادئ هو ما يملأ الشاشة، و كأن السمك هو مَن سيتظاهر !

ثم انتقلت روح التحرر و التحرير إلى بقية الوطن العربي بعد أن استطاع الشعب المصري إزاحة مبارك عن كرسي الرئاسة – و إن كانت أقاويل تؤكد أنه لم يتزحزح تمامًا – إلى باقي الوطن العربي، ليظهر مصطلح الغباء الجمعي واضحًا للجميع ..

بدأ الليبيون في الدعوة إلى مظاهرات حاشدة يوم 17 فبراير، فصرح القذافي أنه سيعتقل كل من يدخل فيسبوك، ثم قطع الخدمة لاحقًا بالإضافة لقطعه كافة صور الاتصال، و خدمات أخرى، و هو ذات الخطأ الغبي الذي ارتكبه مبارك، متصورًا أن الأمر كله ينحصر في فيسبوك و تويتر، و أن هذان هما أس البلاء ..

انطلقت المظاهرات في اليمن، فتحدث عبدالله صالح عن الأجندات الأجنبية التي تحرك المتظاهرين، و هو الأمر الذي دفع البعض للبحث عن مورّد الأجندات الذي لا ينضب هذا، بحيث استطاع الحصول على "توكيل" الوطن العربي بأكمله .. ذات الخطأ الغبي الذي ارتكبه نظام مبارك من قبل ..

انطلقت المظاهرات في البحرين، فنزل الجيش يفرق المظاهرات بالرصاص الحي، و هو ذات العنف غير المبرر الذي استعمله القذافي و لا يزال يستعمله لصد المظاهرات و تفريقها، لكن القذافي تفوق على الجميع و لا شك .. استخدام المدفعية الثقيلة و الدبابات و الرشاشات الثقيلة و ربما الطائرات أيضًا، و استقدام مرتزقة من أفريقيا لقتل المتظاهرين .. لا أصف كل هذا بالغباء، فالغباء في التعامل مهما بلغ لا يمكن أن يبلغ هذه المنزلة، و لا أجد وصفًا أدق و أبلغ من قول الله سبحانه و تعالى "فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" ..

المشهد يتكرر من بلد لآخر، و نفس التصريحات و طريقة التصرف تتكرر من حاكم لآخر، و كأن المعين الذي ينهلون منه كله واحد، و كأنهم جميعًا رضعوا من بقرة واحدة، مصابة على الأرجح بجنون البقر !

لقد أسس الحكام العرب لمصطلح الغباء الجمعي، بل جعلوه مذهبًا في الحكم، و هو أمر – أزعم – أنه سيغير الكثير من نظريات علم السياسة، و سيدفع علماء النفس لبحث هذا الأمر، و إيجاد تعريف دقيق له، لكن حتى ذلك الحين، يبقى الغباء الجمعي المحرك الأكبر لتصرفات الحكام العرب بلا منازع ..

8.2.11

كيف ستتحول ثورة 25 يناير من "ثورة" إلى "نكسة" ؟


ستجتذب تدوينتي هذه المؤمنين بنظرية المؤامرة و عشاقها، و سيجد الكافرون بها أسبابًا عديدة ليتشاجروا معي، لكنني على ثقة أنني أسوق أدلة مقنعة للطرفين .. أيًا كان الأمر، فإن حقيقة صغيرة يجب أن تكون واضحة قبل أن أكمل: لست أنا صاحب هذا التحليل و الرؤية – التي أراها صائبة – لما سيأتي، و لا يتعدى دوري دور الناقل الأمين ..

على أية حال، و أيًا كان موقفك مما حدث في الخامس و العشرين من يناير الماضي، لا بد و أنك تعترف أنه غير الكثير في مصر، و أنه حرك الساكن الراكد فيها، بل أعاد تعريف الحركة أيضًا .. كيف إذن يمكن أن يتحول هذا من "ثورة" إلى "نكسة" ؟

لأكن دقيقًا، فالتعبير المناسب هو أنها ستتحول إلى "وكسة" و انتكاسة للشعب المصري، و المزعج في الأمر هو أن الشعب هو من سيحولها إلى هذا، بشكل غير مباشر ..

كيف هذا ؟

لنبدأ بأولى تصريحات محمود رضوان وزير المالية الجديد، الذي أعلن عن إنشاء صندوق لتعويض المتضررين من أعمال الشعب، قيمة محتوى هذا الصندوق خمسة مليارات جنيه .. هل تستطيع أن تذكر لي آخر مرة كانت الحكومة فيها بهذه الرقة و الوداعة و العطف ؟!

الملاحظة الثانية هي أسعار السلع الغذائية الآخذة في الانخفاض .. أنا أتحدث على الأقل عن الخضروات التي ألاحظ – و لاحظ كثيرون ممن أعرفهم – أن أسعارها تهبط، بعكس ما هو متوقع مع أزمة بحجم ما نحن فيه، أو كما يقول النظام .. هذه مجرد بداية ليس إلا، و المزيد من التخفيض في الطريق ..

الملاحظة الثالثة هي ما قاله شهود عيان عن أشخاص يتحدثون عن جمال النظام و حلاوة النظام و استقرار النظام، يندسون – حقًا هذه المرة – وسط الناس ليشيعوا نوعًا من الانهزامية في النفوس .. يضاف إلى هذا لغة الخطاب الأخير للرئيس، الذي تحدث إلى العواطف و نحى العقل جانبًا ..

ماذا تستنتجون ؟

حسنًا .. الأمر ببساطة أن الحكومة و النظام سيحاولون كسب الوقت .. عمر سليمان بارع في هذا براعة شديدة، و هو مفاوض لا يشق له غبار – على الأقل بالنسبة لشباب الثورة – و هو قادر على كسب الوقت إلى ما لا نهاية ..

في الوقت ذاته تبدأ الحكومة خطة "فخفخة الشعب" بالمعنى الحرفي للكلمة؛ تخفيض الأسعار .. تخفيض الضرائب و إلغاء البعض .. معاقبة رموز الفساد في الحكومة السابقة، و إصدار بعض الأحكام الثقيلة .. رفع الرواتب، و ربما تحديد حد أدنى للأجور .. باختصار، ستكون مصر جنة، و لكن بشرط: حسني مبارك لن يرحل الآن و لن يتنحى، ليحافظ على "الاستقرار" ..

بينما هذه الخطوات تجري على قدم و ساق تبدأ الخلايا النائمة و عملاء النظام في الانطلاق، و الترويج إلى أن هؤلاء المتظاهرين المحتجين في ميدان التحرير و غيره هم خونة ناكرون للجميل لا يعون شيئًا و لا يفقهون .. أليس هذا هو النظام الفاسد الذي يطالبون بإسقاطه، و هذا هو الرئيس الذي يطالبون بمحاكمته ؟ إنهم مأجورون عملاء، فكما ترون: "النظام زي الفل" ..

سيتم الترويج لأكذوبة أن الرئيس لا يعلم، و أن ما كان إنما هو من فساد معاونيه .. سيتم تجميل صورة مبارك الأب الحنون، الذي استجاب لمطالب الشعب و أصلح النظام و أقال الفاسدين ..

شيئًا فشيئًا سيجد أولئك الثوار أنفسهم محاصرين .. النظام من جانب، و جموع الشعب المغيّب المجهل المغسولة دماغه من جانب آخر .. سيحكمون فكي الكماشة في قسوة و ستُجهض الثورة و هي لا تزال في مهدها ..

لحظتها لن "تعود ريما لعادتها القديمة"، بل ستعود لما هو أسوأ من عادتها القديمة .. لا يهم أسيستمر مبارك لحظتها أم لا، فالنظام نفسه و زبانيته باقون، و ستعود قبضته أقوى و أقسى مما كانت ..

لا أقول إن هذا هو "ما سيحدث"، بل هو الذي "من الممكن أن يحدث" ..

أنا لا أخاف علينا – نحن المتعلمين – من هذه الخطة القذرة، التي لطالما استعملها النظام قبلاً في أوقات الانتخابات التشريعية؛ فأغلبنا يمتلك عقلية ناقدة يستطيع بها أن يفند ما يرى و يسمع، لكنني أخشى من نصف الشعب المصري .. خمسة و ثمانون مليونًا نصفهم جاهلون لا يعرفون – حرفيًا – "الألف من كوز الذرة"، و لو قال لهم النظام إن هؤلاء الثوار خونة عملاء يحملون أجندات أجنبية و يأكلون بدعم من الموساد و أمريكا فسيصدقون .. سيصدقون كما صدق البعض منهم خطاب مبارك الأخير، و مثلما هم مستمرون في تصديق تفاهات و خرافات التلفزيون المصري ..

رسالتي باختصار أن النظام يحاول الالتفاف حول الثورة ليقتلها قبل أن تولد فعليًا، فهي حتى الآن – إلى حد بعيد – ثورة الشباب المثقف .. يحاول أن يستعمل الجاهلين الذين صنعهم عبر تاريخه ليقتل الفئة المتعلمة الواعية، و يقضي على أي أمل لهذا الوطن في غد أفضل ..

رسالتي باختصار هي أن تلتفوا حول التفافه .. انتبهوا لهذه اللعبة البطيئة الخبيثة، التي سيفرم فيها النظام كل من ثاروا عليه فرمًا .. انتبهوا و اشرحوا للناس لماذا ستستمر المظاهرات و الاعتصامات و الاحتجاجات ..

اشرحوا للبسطاء الذين لم ينالوا حظهم من التعليم و التفتح على الدنيا، و الذين هم هدف النظام الحالي لوأد ثورتنا في مهدها .. اشرحوا لهم لماذا و كيف .. اشرحوا لهم من أجل مَن نفعل هذا .. اشرحوا لهم و اغسلوا ذلك العفن الذي عشش في عقولهم و السم الذي يسري في عروقهم، و اكسبوهم إلى صفنا لا إلى صفوفهم ..

لا تكونوا أقل ذكاء من النظام ..

و في الوقت نفسه لا توقفوا الاحتجاج .. لا تهدأوا .. لا تركنوا إلى الراحة .. اجعلوا كل شبر في مصر مصدر إزعاج لهم .. اضغطوا عليهم حتى يرضخوا .. إننا نحقق مكاسب متتالية، و نحرك الجبال الرواسخ من قديم الزمن، فلا تتوقفوا الآن ..

رسالتي باختصار: واصلوا، فالنصر حليف الحق، و نحن بإذن الله على حق ..


3.2.11

نظرة الى مواقف الجميع - لا عنوان يليق - الجزء الأول

أولا .. رسالة احترام و تقدير ممزوجة بخجل الى هؤلاء الكبار ، الشباب العظيم الذي أحيا مصر ، و الكلام يفنى دون فناء المديح .. و الخجل هنا هو خجلي من نفسي أني لم أكن منكم أو حتى معكم .. و أدرك أن هذه السطور القليلة قد تبدو للبعض مشاركة و لكن الحق انها عجز حزين و أنني اذ كتبت قد ازداد احساسي بالعجز ، فقد وجدت لنفسي فيه نوعا من الهروب من تأنيب الضمير و لوم النفس و المهانة التي أشعر بها .. و لكن أنى لي أن أبلغ معشار ما بلغتم و قد حملتم أرواحكم على أكفكم بينما أكتفيت بحمل نظارتي لأشاهد و قلمي لأكتب ..
ثانيا أود أن أوضح أنني كشخص رافض للسياسة و ابداء رأي بها ، و لكن ان كان الصمت من ذهب ، فان بعض بريق الذهب قد يشغل النفس عن الحق و يصرفها عنه .. و لذا سأتكلم ، بصفتي مصري شاخدت و استخدمت فطرتي في تحليل الامور ، دون انتماء لأي تيار سياسي ، و دون التحيز لأي طرف من الأطراف .. و سأجتهد قدر المستطاع أن أنقد و أحلل تصرفات و مواقف لا أشخاص و جماعات..
ثورة الشباب ، و انتفاضة ، أو مظاهرة .. سمها ما تشاء و لكن لا تهضمها حقها الذي أجزم بأن التاريخ سيذكرها به و يرفعها مكانة عالية ، ان لم يكن في القريب العاجل فسيكون في يوم ما عندما تسقط الايدي التي تثبت الأقنعة في مكانها حتى الان .. هذه الانتفاضة و الصحوة من سبات العجز التي هزت العالم أجمع و أولهم نحن ، هؤلاء الذين لطالما استسلموا لقوة النظام و خافوا بطشه ، و سكتوا على الظلم و عن طلب حقوقهم ، و اثروا الحياة في مذلة على المقامرة بطلب حقوقهم ، لقد أيقظنا الشباب من سباتنا و جعلنا ندرك أن أي صوت مهما علا لا يمكنه أن يسكت صوت الحق ، و انه لما قام الناس يطلبون حقوقهم بصدق ، أخذ القامعون يخربون بيوتهم بأيديهم و يختبئون ، و أن ضعفنا كان ليس عن قوتهم و انما عن عجزنا أن نرى ما نحن عليه من قوة .. ايها الشباب العظيم ، لن أقول اكتفوا بأنكم أيقظتم شعبا من سبات عجزه و لكن لو لم تنالوا من وقفتكم الصادقة هذه الا هذا لكفاكم ..
ألوم و أعاتب و أستنكر موقف جميع الاحزاب السياسية المعارضة في مصر و الاخوان المسلمون أنفسهم - و أنا لا أحمل لأي منهم ضغينة شخصية بل و أحترم بعض تصرفاتهم السابقة - ، ألومهم لأنهم لم يكتفوا بعجزهم و لم يخجلوا من أن تهافتهم على السلطة و تكالبهم على القيادة و الجاه كلف مصر سنينا من ضياع المعارضة و توحش النطام ليفتك بشعب أعزل ، تكالب عليه ابنائه يشدونه من ثوبه من كل جانب حتى تمزق ، لم يكتف هؤلاء بما فعلوا و لكنهم سعوا يمزقون اللوحة الرائعة التي رسمها هؤلاء الشباب ، يشوهون معالمها الجميلة ، يمزقون وحدة الصف بخلافاتهم السفيهة ، يضعون انفسهم أمامهم و يسمون أنفسهم قادة و هم حتى لا يستحقون شرف السير خلفهم ولا حتى التصفيق لهم .. عفوا لقد ظهرت سوءاتكم لنا فواروا أنفسكم و استتروا .. ان الفرق بينكم و بين هؤلاء الشباب ، السبب أنهم نجحوا في بضعة ساعات في تحقيق ما فشلتم فيه لسنوات ، هو صدق نيتهم و خلوها مما لوثكم ، و تذكروا ن التاريخ لا يذكر من يسعون خلفه ، و انما يسعى حول قوم ليذكرهم ..
ألوم الشعب المصري ، الذي رأى أن أسهل الحلول هو لوم هذا الشباب ، بل أخذ البعض يعترض على ما فعلوا لأسباب لو ذكرها التاريخ لسبنا و لعابنا ، فالبعض لامهم لأن أسعار الطعام بل و السجائر ارتفعت ، لامهم البعض على السرقات و النهب ، غير خاف عليهمالدور الذي لعبه النظام في هذا المجال ، بل زاد تبجح البعض و قالوا ان هذا كان متوقعا من النظام الحاكم حاليا ، و كان يجب عليهم أن يضعوا هذا في اعتبارهم .. و أعجز عن فهم اي منطق هذا و أي عقل بشري يقبل به .. هؤلاء اسحب منهم مصريتهم و انتماءهم لأهل مصر العظام ، أعلق هذه المصرية أوسمة على صدور رجال من نوع اخر ، رجال المقاومة الشعبية ، الذين حملو عصيا خشبية و هراوات و قطع معدنية بالية ليقفوا و يحموا بلادهم - و الضمير خنا لتخصيص مصر بهم و منهم دون سواهم - و أهليهم .. هؤلاء جعلوني ابتسم رغم حزني ، جعلوني لأول مرة أعي معنى الحديث الشريف الذي قال اننا في رباط الى يوم القيامة .. أقول ان الله ينصر من ينصره ، و اقول ان هؤلاء الشباب نصروا الحق ، و الحق من اسماء الله عز و جل ، نصروا الله فنصرهم ، و أحبط كيد أعدائهم و ايقظ هؤلاء الذين كانوا بين السبات و اليقظة ، أيقظهم على شمس عزة و كرامة ، فوقفوا بعصيهم يواجهون الطلقات النارية بخوف نعم ، لأن من لا يخاف أحمق ، و الحماقة لم تكن من صفة هؤلاء الشجعان .. نعم كانوا خائفين و لكنهم وقفوا و حموا أنفسهم و أهليهم في خين تخلى أولئك المنافقن الذين دعوا أنفسهم حماة الوطن عن واجبهم ، و لست أدري كيف سيستطيع أحدهم أن يجيب اذا ما سئل فيما بعد عن عمله ، كيف له أن يجد في كرامته - ان كان بقي منها شيء - ما يمكنه من الاجابة ليقول انه ضابط شرطة .. فهؤلاء ليسوا كما قالوا مطولا ابطال الشرطة ، انما الابطال الذين حملوا المسؤلية حين وكلت اليهم ، لم يقصروا و لم يشتكوا .. بل لمحت في أعينهم فخرا و سرورا و حماسة .. و شعورا بداخلهم أنهم ذوي قيمة ، ليؤكد مرة أخرى أن العيب ليس بالشباب ، و انما في النظم و الممارسات التي همشتهم و قتلت أحلامهم لعقود ..
التلفاز المصري اقول له كلمتان لا أجد في قواميسي ما يعبر عن موقفه خيرا منهما .. " أخص " و " اخي " .. فكل السفه و الاستخفاف بعقولنا لسنوات كوم ، و ما حدث في الايام القلائل الأخيرة أكوام اخرى .. فعلى حين كانت جميع القنوات العالمية المحايدة و غير المحايدة تبث صورا لميدان التحرير بمتظاهريه ، كانت كاميراتهم ترصد لنا النيل الهاديء الجميل .. جعلت من الشباب عملاء و جواسيس و مرتشون ، و استمر الاستخفاف بعقولنا الى أن حدثت المعجزة و أدركت أن تلفازنا القومي يتنبأ بالغيب مساء أمس ، فقد عرف قبل ثلاث ساعات كاملة أن قنابل المولوتوف ستلقى في ميدان التحرير .. مما يضع الاف التساؤلات ، كيف عرفوا ، و أين وعود السيد الرئيس بالوقوف بالمرصاد للعنف ، أين الوعود يا رئيس مصر .. و اية المنافق ثلاث منها اذا وعد أخلف
مهزلة اعلامية أخرى هو المتحدث الرسمي في مجلس الشورى .. لست اذكر الاسم و لكني لأول مرة استمع لمسئول محترم يقول لفظة " يركب" رسميا و على التلفاز ! ثم جاء مساء أمس ليقول مرة أخرى ان مظاهرات الثلاثاء المليونية كانت 10 أو 20 ألفا بينما كانت مظاهرات المؤيدين للرئيس 10 مليون مواطن .. ولولا وجود والدتي بجواري لانفجرت بسيل من الكلمات الخارجة..
لوم الأحبة أوجهه لجيش مصر .. أحبكم الشعب قبل نزولكم ، و استقبلكم بحفاوة عندما نزلتم .. فرح بكم عندما أعلنتم انكم ابنائه و انكم لن تطلقوا رصاصة على مصري .. أنا نفسي وقفت و تحدثت مع بعضكم في منطقتنا و وقفنا جوارا الى جوار نمسك بالعابثين بأمن البلاد .. و كنا نأمل أن يكون موقفكم اكثر قوة ، و لكننا رضينا منكم بالحياد و قدرنا أنكم تواجهون اختيارا صعبا بين شعبكم و بين رجل منكم ، و لكن الأمس تحول حيادكم الى حياد سلبي مستفز ، و انتم ترون جمالا و خيولا تهجم على شباب أعزل يلقونهم يالحجارة و السيوف .. ثم صمتكم و قنابل المولوتوف تلقى ، فهذا يصعب أن يسمى حيادا يا جيش مصر ، و فقد جعلتم طرفا أعزلا من السلاح و تركتم للأخر ما يعينه ان يعيث في الأرض فسادا .. حتى اضطررتم شبابا التزم السلم لتسعة أيام أن يدافع عن نفسه باسلوب ليس من شيمه ، ألومكم على قدر المحبة ، و على قد العشم كما يقال ، ألومكم لأنكم أتخذتم موقفا كموقف الداخلية التي طالما رفعنم نجوما في سمائها ، و سؤال يعود فيطرح نفسه اين كانت الداخلية هذه المرة ، و كيف تطلبون منا أن نثق في الحكومة الجديدة بينما أول اختبار لها فشلت فيه ؟! ليس حيادا ما فعلتم بل اعانة على الظلم يا سادة ..

يتبع

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar