و بينما أنا أبحث وجدت مقالاً يعرض بالأمثلة كيف يمكن أن يكون العلم معبرًا بحق، و كيف يمكن أن يكون كتلة من العبث الصارخ، و لفت نظري ما قاله كاتب المقال عن العلم الليبي الحالي، إذ قال إن هذا العلم هو علم فريد متفرد بين أعلام الدنيا، فهو لا يحتوي سوى لون واحد وحيد لا ثاني له، و هو اللون الأخضر، و لا يحتوي أي عناصر أخرى، فلا لون سوى الأخضر، و لا شيء يملأ هذا الأخضر من خطوط أو أشكال أو دوائر أو أي شيء، و هو وضع لم يتكرر من قبل في أي دولة أو مؤسسة ..
تذكرت هذا و أنا أتابع ما يحدث في ليبيا، و جنون هذا الرجل الذي فاق كل حد، و للحظة خُيل إليّ أن مفتاح الأمر كله في هذا العلم ..
فهذا اللون الواحد الأوحد الوحيد يعبر بحق عن دولة الفرد و حالة الفرد/الدولة التي يعيشها الشعب الليبي منذ أربعة عقود، و هو في الوقت نفسه يعبر عن نفسية شديدة النرجسية، ترى أنها وحدها كافية لتعبر عن كل شيء في الدولة، و كل فرد في الدولة، و أن ما تعبر عنه هو الدولة، و أن ما عدا ذلك سقط متاع ..
و لست أدري ما الذي يدل عليه اختيار اللون الأخضر، فليبيا صحراء شاسعة، و الواحات و المساحات الخضراء فيها لا تسوغ التعبير عن الدولة بأكملها باللون الأخضر، و لو كان الأخضر مجاورًا للأصفر لكان الأمر مقبولاً نوعًا، باعتباره معبرًا عن الواقع و المأمول معًا، لكن الأخضر وحده لا يمكن تفسيره إلا بـ"طول الأمل"، الذي جعل القذافي يطمع و يطمح أن يظل يحكم ليبيا حتى تصير كلها خضراء، لكنه مع الأسف ظل فيها حتى حتى كاد أن يحيلها كلها حمراء قانية ..
هناك تفسير للون الأخضر، و هو تفسير طفولي للغاية لكنه يلقى في نفسي هوى و ميلاً، و هو العلاقة بين اللون الأخضر و الملوخية، و علاقة الأخيرة – لفظًا – بالمانيخوليا، أو الذهان كما كان يسميه أطباء العرب قديمًا .. ربما كانت إشارة خفية من العقيد إلى أنه مريض نفسي !
ثم هذا الغياب التام للتفاصيل، و التسطح التام للعلم لا يمكن فصلهما عن الهلامية الرهيبة التي يدير القذافي بها البلاد .. فهي ليست جمهورية، بل جماهيرية، و ما هو الفارق ؟ تأتيك الإجابة: الجماهيرية من الجماهير، بينما الجمهورية من الجمهور !
ثم هو ليس رئيس الجماهيرية، بل هو قائد الثورة، و قد قالها بنفسه عندما طالبه الناس بالتنحي فقال إنه ليس الرئيس حتى يتنحى، و هو تصنيف سياسي فريد من نوعه .. هناك دولة هي مملكة و يحكمها ملك، و هناك دولة هي إمارة و يحكمها أمير، و هناك دولة هي جمهورية و يحكمها رئيس، و هناك دولة هي سلطنة و يحكمها سلطان، أما أن تكون الدولة جماهيرية و يحكمها قائد ثورة، فهو عبث ليس له مثيل !
ثم أين هي مؤسسات الدولة ؟ أين المؤسسة التنفيذية ؟ أين المؤسسة التشريعية ؟ أين المؤسسة القضائية ؟ أين المؤسسة العسكرية ؟
لا تجد شيئًا من هذا على الإطلاق .. حتى المؤسسة العسكرية هي خليط عجيب من القوات، لعل أكثرها إثارة للشعور بالهزلية هي قوات الحرس النسائي التي تحرس فخامة العقيد، و في النهاية تحولت القوات المسلحة لمجموعة من المرتزقة الأجانب، تضرب الليبين أهل البلد بأوامر مباشرة من الأخ القائد ..
أين هو الدستور ؟ الكتاب الأخضر ؟ أقسم بالله أن هذا الكتاب لو انفقت البشرية عقول مخابيلها كلهم من أجل الخروج بمعشار ما فيه لما استطاعوا .. إنه كتاب يستحق أن يدرسه الأطباء النفسيون ليعرفوا أساليب المصابين بالذهان في التفكير، لكن يقيني هو أنهم لن يستطيعوا تعميم نتائج دراستهم على أي شخص آخر سوى القذافي، فالأمر يتجاوز حدود القدرة العلمية بكل تأكيد ..
مَن يحدد سياسة الدولة ؟ و ما هي سياسة الدولة الليبية في الأساس ؟! الرجل يقول إنه أعطى الحكم للشعب منذ عام 1975 عن طريق تشكيل الشعبيات و المؤتمرات الشعبية و اللجان الثورية، و هو قول يشبه قول مبارك أن مصر تعيش أزهى عصور الديمقراطية !
دولة هلامية و علم فريد و شخص عجيب، صنعوا حالة فريدة في تاريخ الأمم و الشعوب .. إننا لا نواجه رجلاً مخبولاً وضعه التاريخ في مقعد الحاكم ليحول بلده إلى "خرابة" و نفسه إلى أضحوكة، بل نواجه ما هو أكبر .. إن هذا الرجل – ببساطة – يعيد تعريف الخبال !
يرحم الله ليبيا، و يقيلها من عثرتها، و يقيض لها مَن يخلصها مما هي فيه .. قولوا آمين ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق