24.11.09

بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل السابع / الجزء الأول

الفصل السابع – أوراق حكومية

من المعروف عن زكريا أنه يستطيع التحكم في تعبيرات وجهه إلى الحد الذي يجعله يتخبط في بحر متلاطم من المشاعر، لكن وجهه يبدو للناظر كمن ارتدى قناعًا، فلا يفصح عن شيء، و الموقف الذي يفقده هذه السيطرة على تعبيرات هو موقف يستحق التسجيل .. حدث قبلاً مع سارة، و ها هو الأمر يتكرر مع هذه السيدة التي ارتمى الطفل في أحضانها ..
وقف لحظات ينظر إليها بينما هي مشغولة تمامًا بطفلها تقبله و تحتضنه بطريقة تحطم أضلعه .. ينظر إليها بذات النظرة المندهشة، و عندما رفعت رأسها لتنظر إلى صاحب هذا الجسد الواقف إلى جوارها لم يتحرك منذ دقيقة كاملة، كانت الدهشة من نصيبها هي ..
- مش معقولة .. يا نهار أبيض .. زكريا ؟
- أنا ..
لم يستطع أن يقول غيرها ردًا عليها فيما اندفعت هي، من فرط دهشتها هي الأخرى، تتحدث كأنما لسانها كان في عقال و خرج:
- مش معقولة بجد .. يا نهار من غير ألوان .. إيه ده ؟ .. إزيك و فينك و عامل إيه ؟
و أمام تحديقه الغريب فيها قالت:
- في إيه يا بني ؟ .. مالك متنح كده ؟
- لا .. بس المفاجأة قوية جدًا .. دول تلاتين سنة يا إسراء .. دا لو كان فيلم كنت قلت المخرج بيستعبطنا ..
ضحكت من تعليقه و سألها:
- بس دا أنتي اتغيرتي خالص .. الملامح الأساسية زي ما هي، بس .. يا نهار .. و الولد كمان ..
- دا شمس ..
- شمس ؟
- شمس الدين ..
نظر إليها نظرة ظاهرها الطيبة و باطنها الخبث، مع ابتسامة تحمل المعنى ذاته و هو يقول:
- أحب أنا الأسماء المميزة ..
و فيما تضرجت وجنتاها بحمرة خفيفة تابع هو بجدية:
- بس شكل أبوه شامي ..
- سوري ..
- دا أنت سافرتي كمان ؟
كادت أن تجيب فقاطعها متسائلاً:
- و لا اتجوزتوا هنا ؟
- دي قصة طويلة .. دا أنا اتجوزت و اتطلقت و سافرت و قعدت حاجة بتاع خمس سنين لغاية ما قابلت أبو شمس ..
و أشارت لولدها فهبط إليه زكريا قائلاً:
- عارف أحلى حاجة عملتها النهاردة إيه يا بطل ؟
- شو ؟
- إنك ما رضتش تيجي معايا لما قلت لك يا لا نروح ندور على ماما .. جدع ..
انتفخت أوداج شمس فخرًا بنفسه، فيما سألته:
- و أنت بقى بقيت فين ؟
- ممكن تقول لي دكتور زكريا ..
- أيوه يا عم ..ما هو طول عمرك دحّيح .. مش غريبة عليك يعني ..
قالتها و ضحكت، فرد مبتسمًا:
- أعوذ بالله .. ما كفاية قر بقى .. من أيام الإبتدائي و أنتي بتقرّي .. ارحمي نفسك شوية ..
ثم استأذنها لحظة ليأتي بعربته، ثم قال و هو يدفعها أمامه:
- أنتي خلصتي التسويقة و لا لسه ؟
- أنا لسه جاية أصلاً ..
و بدآ المسير ثم تابعت:
- لسه ما بقاليش نص ساعة .. باشتري شوية أدوات منزلية كده ..
- إيه ده ؟ .. أنتوا نازلين إجازة و لا إيه ؟
- لا .. نازلين خالص .. حنستقر هنا .. أبو شمس صفّى شغله هناك في سوريا ..
- و لو فيها تطفل يعني .. بس معلش، حد يسيب الجنة اللي هناك و ييجي يقعد في اللحوسة اللي هنا دي ؟
- كل واحد له ظروفه ..
كان ردها من نوعية "عفوًا، هذه المنطقة محظورة"، و هو ما جعله يغير مسار الحديث لأشياء أخرى كثيرة من تلك التي يسألها الناس عندما يلتقون بعد غيبة طويلة ..
- ما دمتم نازلين إقامة، يبقنا حنشوف بعض كتير إن شاء الله ..
- إحنا نازلين في شقة في شارع سوريا ع البحر ..
توقف فيما استمرت هي بضع خطوات ثم توقفت مندهشة و سألته:
- في حاجة ؟
- حاجة ؟ .. دول حاجات يا ماما .. أصل أنا ساكن في المعسكر الروماني ..
- طب عظيم جدًا .. بقينا جيران يا أستاذ كمان أهو ..
- بس كمية المصادفات دي فوق الوصف بجد ..
و أخذ يعد على أصابعه:
- أولاً أنا ما بأجيش كارفور الوقت ده .. عادة بآجي أول ما يفتح و هو لسه رايق، أخلص و أطلع ع العيادة .. النهاردة اضطريت ألغي العيادة علشان اجتماع مجلس القسم اللي أخرني .. و بعدين اتأخرت كمان مرة علشان الزحمة .. و بعدين دخلت من باب غير اللي بأدخل منه كل مرة، فبدأت بقسم الأطعمة بدل الإلكترونيات زي كل مرة .. و بعدين تيجي و تقول لي إن إحنا بقينا جيران كمان، رغم إن من ساعة ما أخدنا الابتدائية إحنا الاتنين فص ملح و داب .. بصراحة شيء لا يصدكه عكل ..
لم تكن تملك جوابًا .. كل هذا الكم من المصادفات لا يصح أن نسميه مجرد مصادفات، إنها ترتيبات القدر .. هي لا تؤمن بكلمة مصادفة أصلاً، فهي تعبر عن العشوائية، بينما كل شيء في هذا الكون يسير وفق نظام من العسير أن نقول بوجود مكان للعشوائية فيه .. لكن تصاريف القدر هذه، لأي غرض و لأي هدف ؟ .. لا تستطيع أن تخمن هي أو هو، لكنها حتمًا لغرض عظيم ..
انتهيا مما كان فيه، و قد صادق زكريا شمسًا و أخذ يستعيد مع إسراء ذكريات بعيدة .. بعيدة للغاية، لكنها بالقطع لا يمكن أن تذهب أدراج الرياح .. و في سيارته أخذته الذكريات مرة أخرى في غياباتها تقذفه يمينًا و يسارًا، و هو لا يدري أنه على وشك إضافة المزيد إلى هذا المعين الذي لا ينضب من ذكرياته ..

***
هبط جمال و فارس من سيارة الأول أمام نقطة شرطة باب شرقي، و توجها مباشرة إلى مأمور النقطة، الذي ابتدر جمال بالحديث، بعد عبارات المجاملة و الشكر المعتادة:
- محمود باشا كلمني و لو أني مش محتاج وصاية .. تحبوا تشربوا إيه ؟
- شكرًا جزيلاً .. لو كوباية مياه ساقعة أكون شاكر جدًا ..
بعد أن أدى التحية قال المأمور للجندي:
- اتنين حاجة ساقعة و إزازة مياه مشبّرة .. بسرعة يالا ..
ثم التفت إلى جمال و فارس و قال:
- يا أهلاً و سهلاً .. تاخدوا واجبكم و يكون الكاتب و واحد من الظباط تحت أمركم ..
و فيما أخذ جمال يرشف من زجاجة المياة الغازية، كان فارس يحاول ترتيب ما سيقوله في المحضر، حسب توجيهات جمال، في رأسه .. كان متوترًا و يريد أي شيء يفرغ فيه هذه الشحنة الهائلة من الغضب و التوتر الذي يستعر بداخله، و لو لم يكن بكامل قواه العقلية لحطم هذا المكتب على رأس من فيه، و لو أنه لا يكفيه هذا لإفراغ ما بداخله ..
الأمر كله قد يكون عبثًا، و لو صح هذا فهو عبث ثقيل .. اتصل به أحدهم على هاتفه المحمول و لم يظهر له سوى هذه العبارة المستفزة "Private Number" .. ضغط زر الإجابة بتلقائية:
- آلو ؟
- أستاذ فارس بدر ؟
- أيوه ..
- اللي بيلعب بالنار يا أستاذ بتلسعه .. لو لعب بيها أكتر .. بتحرقه ..
- مين معايا ؟
كانت صوتًا رزينًا وقورًا جدًا، و كانت إجابة سؤاله الأخير هي الصمت المطبق و الخط الذي أُغلق دون كلمة زائدة .. جلس للحظات كالمذهول، ثم انتبه إلى أنه يمتلك برنامجًا صغيرًا يعمل تلقائيًا عند بدء أي مكالمة فيسجلها .. استمع لها ثانية علّه يهذي، فوجد أنه – للأسف – لا يهذي ..
أنهى ما في يده و رجع إلى منزله، يضرب أخماسًا لأسداس .. طريقة الحديث توحي بتهديد خفي، و هو تهديد بالقتل ما لم يكن قد خسر ذكاؤه مع توازنه النفسي الذي تبعثر بعد هذه المكالمة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: منذ متى كان له أعداء بلغوا من الجرأة مبلغًا حتى يهددوه بالقتل ؟ .. ثم، و هذا هو الأهم، إلى أي مدى هم جادون في هذا ؟ ..
حاول أن يبدو طبيعيًا لكن والدته كانت أكثر شحوبًا من المعتاد، و رجفات يديها كانت أقوى من المعتاد، و كما توقع تمامًا:
- في واحد اتصل و قال لي دا منزل أستاذ فارس بدر، قلت له أيوه، قال لي قول لي لابنك يا حاجة إن اللي بيلعب بالنار بتلسعه، لو لعب بيها أكتر بتحرقه .. قصده إيه يا بني الراجل ده كفى الله الشر ؟
لم تكن بالطبع تجهل ما يعني، و حاول هو أن يطمأنها بكلمات من عينة:
- لا .. دا شكله بيهزر، أو بيعاكس .. ما أنت عارفة رخامة البني آدميين دلوقتي ..
و توارى عن عينيها في حجرته، شاعرًا أن الدنيا قد انقلبت من حوله رأسًا على عقب، ثم انتبه لما قاله لوالدته منذ لحظة .. لم لا تكون فعلاً معاكسة ليس إلا ؟ .. ربما هو أحد هؤلاء المخابيل الذين يسمع عنهم كثيرًا، فيهدد فلانًا أو فلانًا كي يشتهر، لكن أي شهرة يبتغيها هذا المأفون من وراءه ؟
قضى بقية يومه كمن يسير على شوك .. الجملة لا تحمل أكثر من معناها، لكن طريقة إلقائها تحمل المعنى كله ..
ربما هو واحد ممن فضحهم فيما سبق ؟ .. جائز، لكنه – لو لم تخنه الذاكرة – قد دفع ثمن هذا من عمره ستة عشر شهرًا في المعتقل "ينعم بحياة فاخرة"، و كان هذا بعد مقال فضح فيه أحد قادة الحزب الحاكم .. فمن يكون هذا يا ترى، لو هو واحد منهم ؟
قاده هذا الاحتمال أن يكون هذا الوكيل، عادل عبد الحليم، الذي يشير إليه من طرف خفي في مقالاته، هو السبب، لكن ما كتبه حتى الآن لا يعدو كونه كلامًا دون نشر أسماء، فمن أين له هذا التأكد ؟ .. السؤال ليس من أين له هذا التأكد، بل من أين له هذه الجرأة، أو لنكن أدق، هذه "الصفاقة" حتى يهدده بالقتل مباشرة ؟
شعر برأسه تدور و تدور، و الاحتمالات تكاد تقضي عليه، ففعل الشيء الوحيد الذي رآه صالحًا في مثل هذا الموقف .. اتصل بجمال، و شرح له كل ما حدث، و كان الحل الذي طرحه جمال – حتى هذه اللحظة – هو إثبات تلك الواقعة بمحضر رسمي، و تتبع هاتفه لمعرفة من المتصل، هذا إن اتصل مرة أخرى، و السعي لترخيص سلاح ناري ..
- حضرتك ما بتشكش في حد معين ؟
- مع الآسف لأ .. الاحتمالات كتير، و مش عاوز اتهم حد أو احطه في دايرة الشكوك لمجرد الظن ..
أنهى المحضر، و حصل على رقمه، و خرجا يشيعهما المأمور بكلماته و تحياته، و عند السيارة قال جمال:
- لو عاوز رأيي .. هو وكيل الوزارة ده ..
- أنا بأقول كده .. بس ما توصلش لدرجة القتل .. ما عنده المعتقل زي ما الزفت التاني دا عمل .. عنده مليون طريقة، بس المرة دي طريقته مرعبة جدًا ..
استقرا بالداخل ثم تابع فارس:
- أنا مش قلقان عليّ أنا .. أنا قلقان على الست الوالدة .. أمي مش حمل بهدلة، و الموضوع دا عاملها قلق ما قولكش .. بتلف و تدور حوالين نفسها زي أيام المعتقل الله لا يرجعها ..
- إن شاء الله خير .. بس المهم هدّي أنت اللعب في الجرنان شوية .. واضح إنه راجل بيحب يخلص م الآخر، و الجحر اللي يطلع منه التعبان .. بيقتل التعبان و يسد جحره ..
قالها جمال، ليغرقا بعدها في صمت مطبق ..
***
أغلقت سارة مفكرتها الصغيرة و وضعت القلم جانبًا و توجهت إلى أحب مكان لديها في حجرتها الصغيرة .. الشرفة .. جلست تستمتع بنسمات العصر الرقيقة مغمضة عينيها مفكرة فيما كتبت منذ لحظات ..
كانت زيارتها برفقة والدتها لطبيب القلب هذا منذ أسبوع، و قد دهشت بالفعل من هذه المصادفة .. هذا الذي كاد يفرغ مثانته من فرط الحرج، و تلعثم متأسفًا فلم يبن شيئًا من كلامه هو "أستاذ دكتور" و في تخصص كهذا، و الأدهى هو أنه صديق لزوج بنت خالها، و عما قريب سيكون الطبيب المعالج لوالدتها و من سيجري لها عملية جراحية دقيقة تتعلق بها حياتها أو ما تبقى منها ..
غريبة هذه الدنيا .. حادث تافه لم تعره اهتمامًا على الإطلاق، و نسفته نسفًا من ذاكرتها، تجد أنه أصبح مركز أحداث الأيام القادمة .. لو قال لها أي شخص هذا لحسبته أبلهًا يتخرص لا يعي ما يقول !
لكنها، رغم نسيانها بالفعل لما حدث في هذه اللحظة، شعرت أنه تفاعل مع وجودها مع والدتها بنفس الصورة .. شعرت أنه تشتت و خرجت بعض الكلمات من فيه تحتاج لترجمة و تفسير .. ترى هل كان يتوقع أن تتعامل معه باستنكار، باعتبار أن أستاذًا جامعيًا ليس من المفترض أن يتصرف بهذا الحمق ؟ .. أم أن صمتها المطبق دون صوت كأنها غير حاضرة هذه الجلسة جعله يقع في حيرة فلا يعرف أهو صمت أم استنكار ؟
لكن الحقيقة هي أنها – في كل وقت و حين – صموتة كالقبر، و ربما عاد هذا لدماها المختلطة .. أب مصري و أم من جد إنجليزي منحها ذلك البرود الفطري الإنجليزي الذي اكتسبه أهله عبر قرون من الحياة في هذه البقعة الباردة الضبابية من الكرة الأرضية ..
لكنها ليست صموتة من باب العادة و الوراثة فحسب .. هي تتأمل .. تحاول أن تسبر أغوار ما و من ترى .. و ربما للسبب نفسه درست علم النفس البشرية، و اختارت أن تدرّسه في الجامعة، رغم ضعف العائد المادي، لكن ما تبحث عنه أكثر من مجرد أموال تنفقها، و ما تملكه يجعلها في غنى عن كل هذا ..
غدًا تذهب إليه حاملة نتائج الفحوص و التحاليل و الأشعة التي أجرتها والدتها طوال أسبوع، و ترى هل كانت على حق، أم أنه كان متوترًا لأمر آخر، و أسقطت هي هذا التوتر على ما حدث بينهما، و توهمت أنه توتر لمرآها ؟ .. غدًا تعرف، لكن غدًا هو يوم آخر ..
***

23.11.09

الذهب الأحمر - الفصل الثالث

الفصل الثالث

"الأمر حتمًا ينطوي على خدعة .. تارام ليس صديق طفولتي كي يعرض ابنته مقابل حلف عسكري، و هو يعلم أنني أمقته كما أمقت الهوبوز، و لولا قوة مملكته لما لجأت إليه .."
زفر الملك با-هيب و هذه الأفكار تدور في رأسه، و غاص في سريره أكثر، بينما صنع صوت تنفس زوجه المنتظم بجواره خلفية موسيقية رتيبة، لو لم يكن مشغول الذهن لقذفت به في غيابات النوم منذ ساعات ..
"أيعرضها لتكون عينًا له ؟ .. من المستحيل بالطبع مراقبة زوج الأمير و وضعها تحت مراقبة دائرة الأمن، خاصة لو كانت أجنبية، و هو ما يجعلها في حرية تامة أن تتصل بأبيها و بمن تشاء .. لكن أي شيء مفيد يمكن أن تقدمه له و النساء ممنوعات من حضور أي شيء في أي شيء يتعلق بأي شيء من شئون الحكم ؟ .. هل تقدم له معلومات عنا، نحن الأسرة المالكة ؟ .. رأسي يكاد ينفجر .."
قام عن سريره بعد أن تعب من كثرة محاولاته أن ينام و فشله لما يزيد على ثلاث ساعات .. توجه إلى شرفة غرفته يطلب بعض النسيم عله يبرد هذا الآتون المشتعل في رأسه ..
سيرفض .. نعم سيرفض .. "و لم أقبل ؟ .. سنجعل الأمر يبدو طبيعيًا .. لا بد من رأي مجلس المشورة لزواج النبلاء و الأمراء و الملوك، و مجلس المشورة رفض .. أخشى ما أخشاه أن يتخذ الرفض ذريعة لإعلان الحرب .. الحرب ؟"
نظر للسماء التي بدأت تباشير الفجر الأولى في صبغ صفحتها، و للنجوم المتراصة في صمت كأنها تشاركه تفكيره في هذا الاحتمال .. و لم لا ؟ .. لم لا يكون تارام قد انتظر طويلاً حتى تأتيه هذه الفرصة، فيجعل من نفسه المدافع عن شرف مملكته التي أهينت برفض ابنته، و يحقق في الوقت ذاته غرضه من نهب مملكة النازوم ؟ .. و لكن .. "أيعقل أن يتورط تارام في حرب جديدة، و الهوبوز يهددون حدوده ليل نهار، و هو بحسب ما وردني مطحون كالبُرّ في هذه الحرب ؟"
أعادته الجملة الأخيرة إلى مجلس المشورة، فهو مصدره في هذه المعلومات، و هو لا يشعر تجاه أعضائه براحة، رغم ما يبدونه من ولاء ظاهر و باطن .. زفر مرة أخرى، لكنه قطع زفرته بعنف، إذ اتلقطت عيناه شيئًا – أو شبحًا – يقفز من فوق سور القصر و يهبط في خفة النمور، و ميّز فيه ملابس الغوغاء، فتصاعد الدم إلى رأسه يغلي، و ذهب من فوره و الغضب و القلق – كلاهما – يحركه نحو رافعة الإنذار، لتنطلق الأجراس داخل القصر توقظ الخدم و الحرس أن هبوا لنجدة مليككم ..
في فزع هبت الملكة من نومها العميق تتساءل عن السبب لإطلاق أجراس الإنذار، و بنفس القدر من الفزع كان را يتحرك كالمحموم، يريد الوصول إلى غرفته، قبل أن يكتشف أحدهم – أيًا كان هذا الـ "أحدهم" – أنه غير موجود في غرفته، و أنه هذا الغوغائي الذي تسلل إلى القصر ..
أكثر ما كان يخشاه أن يكتشف والده رحلاته الليلية .. اختلاط النبلاء بالغوغاء جريمة، و أي حالة تكتشف ليس لها إلا الإعدام، لأنها "تلويث للدم الملكي النبيل بدماء حقيرة" .. والده لم يتذكر لموار-هن ما كان بينهما، و أطاح برأسه عندما حدث ما حدث، و هو لا يريد أن يضع نفسه أو يضع والده في موقف كهذا أبدًا ..
و رغم حرج الموقف، إلا أن را تفكر في هذا المنطق الملتو الجائر .. بأي حق اعتبروا أنفسهم أصحاب دماء نبيلة، و بأي حق وصموا أولئك بأنهم غوغاء ؟ كيف يصل الأمر به، و هو الأمير/الملك الذي يريد أن يتعرف على شعبه أكثر .. يتعرف على سواده و جمهوره أكثر .. كيف يصل الأمر به أن يعتبر مجرمًا لا يستحق عقوبة سوى الإعدام ؟
لم يطل التفكر، إذ توقع أن يطرق أحد الحرس بابه بين لحظة و أخرى يطلبون منه أن يفتح لهم، ليأخذوه إلى المخبأ، أو ليطمأنوا عليه، و الأوامر لديهم صريحة، بأن الطرقة الثالثة هي الأخيرة، و بعدها فالباب حِلٌ لهم يفتحونه عنوة ..
خلع ملابس الغوغاء و اخفاها، و ارتدى منامته على عجل و دخل غرفة الاستحمام، يريد أن يجد لنفسه مبررًا لبطأ استجابته، بوجوده في هذه اللحظة يلبي نداء الطبيعة ..
كان أكثر ما يشغل تفكيره في هذه اللحظة هو رد فعل والده .. هل اكتشف أصلاً أنه هو هذا المتسلل، أم يظنه واحدًا من الغوغاء بحق ؟ .. أدار الأمر في رأسه، و رأى أن الاحتمال الثاني أقرب للمنطق .. لو كان قد تحقق من شخصيته و هو يقفز فوق السور لما ملأ الدنيا صراخًا، و لأتاه من فوره غاضبًا عاصفًا .. هدأ لهذا التفسير، لكنه عاد يتصنع القلق و الدهشة ليواجه بهما الحراس و والده و والدته، و ليستعين بهما على قضاء ما تبقى من الليلة يبحث عن آثار هذا الغوغائي الشبح الذي لن يكون له أثر إلا أثره هو شخصيًا ..
خرج من غرفة الاستحمام و قد حرص على أن يبلل نفسه، ثم اتجه إلى باب غرفته يرسم على وجهه علامات الاهتمام و الدهشة و القلق، لكن الدهشة انقلبت من مصطنعة إلى حقيقية عندما فوجيء بوالده على أعتاب الغرفة يسأله في لهفة:
- را .. ألمحته ؟
- من هو ؟
- ذلك الغوغائي .. شاهدته و أنا في شرفة القصر يتسلل ناحية غرفتك ..
- كنت في غرفة الاستحمام فلم ألحظ أحدًا ..
و قبل أن يكمل را كلمته الأخيرة، كانت أوامر الملك قد صدرت إلى الحرس أن فتشوا الحجرة، عل هذا الغوغائي قد اختبأ فيها، ليهوي قلب را إلى ما هو أبعد من قدميه ..
***

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar