‏إظهار الرسائل ذات التسميات بلد الدخان الهابط إلي أسفل. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات بلد الدخان الهابط إلي أسفل. إظهار كافة الرسائل

4.6.10

بلد الدخان الهابط إلى أسفل

أظن أن هذه هي الحلقة الحادية عشر في هذه القصة، و أعتقد أنها ستكون الأخيرة.
الأمر ليس متعلقًا بنضوب الأحداث أو توقف الوحي .. الحقيقة هي أنني عزمت، و و لتدعوا الله أن يوفقني في هذا، أن أنتهي منها، حتى إذا اكتملت دفعت بها إلى واحدة من دور النشر لتكون أول إصدار مطبوع لي، و بطبيعة الحال فإن هذا لا يستقيم و حرق القصة فصلاً تلو الآخر على الإنترنت .. يكفينا ما أحرقنا منها ..
لست استطيع الجزم بموعد صدورها، فمن تابع منكم القصة - و هم قلة :) - يعرفون كيف أصبحت متشعبة و مليئة بالتفاصيل، بصورة تجعل كتابتها تحتاج إلى صبر و أناة، كي لا تفلت شاردة هنا أو هناك، و حتى تصمد الحبكة أمام سلطان المنطق ..
كل ما أرجوه هو أن تدعوا الله أن يوفقني، و يسدد خطاي ..

3.2.10

بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل الثامن

الفصل الثامن – جولة جديدة

- نعم يا .. أمك ... أنت حتستعبط ياض ..
و ألحق محمود جملته بقبضته التي هبطت قوية على سطح مكتبه، فيما تراجع المتهم الماثل أمامه من الرعب و هو يتمتم:
- و ربنا يا باشا ... و ربنا ما أعرف .. أنا بس اللي حيجبرني ع البهدلة دي و أنا متنيل عارف .. ما كنت حأقول يا باشا ..
مسح محمود وجهه براحة يده ضيقًا و زفر قائلاً:
- أقولك على حاجة .. أنا حأريحك خالص ..
ثم قام من جلسته و توجه ناحية المتهم الذي امتزجت مشاعر الراحة بالتوجس داخله فانطبعت على وجهه في صورة تعبير توتر و ترقب يزداد شيئًا فشيئًا كلما اقترب منه محمود، الذي قال في النهاية بهدوء مستفز:
- أنت تشرفنا ليلة هنا هو، و بعون الله ثم بعون زملاتك في الحجز حتفتكر يا ....
ثم رفع صوته:
- يا شاويش .. خده ع الحجز ..
و زفر ضيقًا و همًا فيما واصل المتهم توسلاته و رجاءاته، و ما أن جلس حتى أتاه الشاويش محييًا التحية العسكرية قائلاً:
- أستاذ جمال عبد الغفار يا أفندم ..
- دخله و هات واحد مظبوط بسرعة ..
و فيما انصرف الشاويش، قام ليرحب بجمال الذي ابتدره قائلاً بابتسامة:
- أنت يا بني مش حتبطل بهدلة ف خلق الله .. ماله الغلبان ده ؟
- ما تشغلش بالك .. واحد من المعفنين اللي ماليين البلد و ما خلّوش لولاد الحلال حاجة ..
ثم اعتدل في جلسته و قال:
- بس إيه المفاجأة الحلوة دي .. جنحة و لا جناية المرة دي ؟
- لو تمت حتبقى جناية .. ربنا يستر ..
- فارس ؟
أومأ جمال برأسه إيجابا فتابع محمود:
- عملتوا إيه ف المحضر .. أنا اتصلت بالمأمور عرفت منه إنه قام بالواجب و زيادة ..
- فارس ما اتهمش حد، و لو إن الكلام على اللي بيكتب عنه اليومين دول في الدستور ..
- ما تقول له يخف اللون .. أنا قلت له، بس هو دماغه ناشفة ..
أشعل سيجارة ثم تابع:
- أدخل ع الفيس ألاقيه كاتب لي لو قلت ما تخافش و مش ما تخافش .. الواد دا بيعمل كده ليه ؟
- مش دي القضية دلوقتي .. القضية ..
قطع حديثه دخول الساعي حاملاً القهوة، ثم تابع بعد خروجه:
- القضية إن إحنا محتاجين نرخص له سلاح .. أظن ما فيهاش مشكلة دي ..
- لا طبعًا .. في تهديد بالقتل، و محضر رسمي .. مفيش مشكلة خالص ..
- طب كارت كوسة صغير بقى، علشان ننجز ..
انفجر محمود ضاحكًا، ما دفع جمال للضحك أيضًا، رغم أنه لم يستشعر شيئًا يضحك فيما قال، ما دفعه للسؤال:
- إيش يا ولد ؟ مالك سخسخت كده ليه ؟
- أصلك استخدمت تعبير نكتة قوي .. المهم .. خد يا سيدي ..
و أخرج من جيبه بطاقة خط فيها بعض الكلمات و أعطاها إياه قائلاً:
- تروحوا بيها للعقيد كريم الصالحي في إدارة الأمن الجنائي و أدي له الكارت ده .. الراجل حبيبي من أيام الجيزة ..
أخذ جمال البطاقة معقبًا:
- ماشي يا سيدي .. ألا حماك عامل إيه ؟
- الحمد لله .. أزمة و عدت، و لو إنه لسه بيتوه مننا ساعات كده ..
أطفأ السيجارة ثم تابع:
- و أنت والدك أخباره إيه ؟ .. و عملت إيه في الولية بت الإيه اللي خبطته دي ؟
- هو كويس الحمدلله .. يوم الخميس بعد بكره فاروق حيعمل له العملية و تبقى كل حاجة تمام ..
- و المحضر ؟
- اتعاملت بكل أدب .. ليلة في الحجز و الصبح اتنازلت .. بس أدبت بت الرفضي دي ..
ثم قام مودعًا محمود:
- ما أعطلكش أنا بقى، و بالمرة ألحق أعدي على إسماعيل قبل ما أروّح .. سلام ..
- ما تخليك قاعد يا راجل .. دا القهوة لسه بحالها ..
- بحالها مين .. دا ما فاضلش إلا التفل .. سلام ..
و انصرف فيما شيعه محمود بتحياته، ليعود بعدها للعمل متمتمًا بأشياء متفرقة عن "الدماغ الناشفة" ..
***
أوقفت إسراء سيارتها و شرعت في إجراء مناورات "الركنة" التي جعلتها تدرك و هي تتعلم قيادة السيارات أن مثل هذا الفن لم يخلق لبنات جنسها .. هي لم ترد السيارة و لا تعلم قيادة السيارات، لكن المضطر يركب الصعب .. تشعر في كل لحظة أن شيئًا ما شنيعًا سيحدث .. أي شيء، و لو لم يحدث فهي تتوقعه على الدوام و تنتظره ..
في بعض الأحيان تجلس في شرفة المنزل تتطلع إلى شارع سوريا الواسع المفضي مباشرة إلى طريق البحر تتأمل السيارات، و المناورات التي يصنعها السائقون بسياراتهم .. في كل لحظة تمر تشعر أنها ترتكب ذنبًا لا يغتفر بقيادتها لسيارتها في مثل هذه الطرق .. هي لا تجيد القيادة من ناحية، و من ناحية أخرى فالسائقون يجلسون إلى مقاود سياراتهم كمن يجلس إلى لعبة سباق سيارات .. البقاء للأسرع، و هي لا تستطيع مجاراة ذلك ..
- ماما .. من شان شو اتوقفنا ؟
- حننزل نجيب شوية حاجات للبيت و نرجع ..
- بس "يوجي" عم يفوتني هيك ..
- ما تخافش .. حنرجع قبليه، و بعدين أنا موصية بابا مخصوص يسجله لك .. يالا ..
اثنتا عشرة عامًا خارج مصر جعلتها "كالخواجاية" .. لم تتأقلم بعد على الشراء من السوق مباشرة، و تفضل عليه – حتى حين – السوبر ماركت و المجمعات التجارية .. هنا السعر ثابت و لا حاجة لك للمساومة .. السعر ثابت و معقول و الجودة تجعلك لا تشعر أنك خدعت .. عندما ذهبت للسوق أول مرة بعد العودة من سوريا شعرت كأنها في غابة، و أن ما يحدث ليس له علاقة بنشاط البيع و الشراء بل بنشاط السرقة .. لا السعر يناسب الجودة، و لا الجودة أو التعامل يتناسبان و بني آدم ..
اثتنا عشرة عامًا في الخارج أفقدتها القدرة المصرية المتأصلة في كل واحد منا على المساومة و "تطليع عين البيّاع" قبل الشراء، لذا فالمجمعات التجارية هي الاختيار الأفضل حتى يأذن الله ..
انطلقت تنتقي من البضائع ما تحتاج، محاولةً تجاوز إلحاح شمس المتواصل بشراء هذه أو تلك .. السيطرة على عفريت كهذا كانت و ما تزال مأساة بالنسبة لها .. هو وحيدها، لذا فحنانها كله منصب عليه بحكم قوانين الرياضيات .. الحنان يوزع بالتساوي بين الأبناء، فإن لم يكن لديها غير هذا، فحنانها كله له .. لكنها في الوقت نفسه تدرك عواقب التدليل الزائد .. تحاول أن توازن بين هذا و ذاك، و تتعامل معه بشيء من الحزم الممتزج باللين و اللين المختلط بالحزم، لكنها كثيرًا ما ترى نفسها عاجزة ..
عاجزة ليس لأنها عاجزة .. عملها كمعلمة يجعلها تعرف كيف تتحكم في الأطفال، لكنها تشعر بالعجز لأنها وحدها من تواجه هذا الموقف .. زوجها مشغول حتى الثمالة في توطيد دعائمه هنا في مصر، و الخروج سالمًا من مشاكله التي ورثها عن أبيه في سوريا، و هي لا تلومه لانشغاله و لا تتضجر منه، لكنها في الوقت نفسه تتمنى لو لم يكن هذا حالها ..
عندما تزوجته منذ ست سنوات لم تكن تدري أن حياته معقدة إلى هذه الدرجة .. انقسامات عائلية، و مشاكل مع السلطة السورية، و حظ عاثر بطريقة تدعو للعجب .. من الغريب حقًا أنها أحبته، و ما زالت تحبه رغم كل هذا، و لربما هي تحبه لكل هذا .. تشعر معه بأن هناك أهدافًا أخرى بالإضافة للإنجاب و تربية الأولاد و كل هذه الأهداف التقليدية للزواج ..
انتظرت دورها أمام الخزينة، و هي تحاول تهدئة شمس ببعض العبارات التي لا تجدي – للأسف – معه نفعًا، ما جعلها تفكر في صلابة رأسه و من أين ورثها .. أمنها أم من أبيه ؟ .. أغلب الظن منها، فبفضلها طلقت من زوجها الأول، لكنه كان – على أية حال – لا يطاق ..
نفضت ذكراه من عقلها، و هي تستعيد الباقي مما دفعت ثمنًا للأشياء القليلة التي اشترتها .. نظرت إلى الحقيبتين البلاستيكيتين اللتين خرجت بهما في عجب، إذ لم تتصور أن يسوء الحال إلى هذه الدرجة .. بعض من المنتجات الألبان و بعض الأرغفة و قليل من الأطعمة المحفوظة، و المقابل ما يساوي نصف راتبها قبل أن تسافر ..
تذكرت أول عطلة نزلت فيها إلى مصر، و قد كانت بعد عامين متصلين في سوريا، و كيف شعرت وقتها أنها غادرت البلاد منذ ألف سنة أو تزيد، فالتطورات سواء كانت بالسلب أو بالإيجاب كانت كثيرة و كبيرة، و لو أن ما كان منها بالسلب كان أكثر .. الآن هي تشعر الشعور ذاته، إن لم يكن مضاعفًا ..
وضعت قدمها على دواسة الوقود بعد أن تأكدت من ربط حزامي الأمان، لتبدأ معركة جديدة على الأسفلت ..
***
فرقع زكريا أصابعه و رقبته و ظهره، في محاولة منه لفك التبيس الذي حل بعضلات جسده من طول الجلسة خلف المكتب لما يزيد عن خمسة و أربعين دقيقة، يحاول فيها شرح ما لا يُشرح لأحد المرضى .. زفر في ضيق، و قد جعله هذا المريض يفكر في أصناف المرضى الذين يتعامل معهم، هنا أو في المستشفى الميري ..
هناك المريض المستسلم، و هذا يريد أن يفهم ماذا أصابه، ماذا ستفعل، و بعد ذلك هو لك .. هناك المريض المزعج، و هؤلاء يتعددون حسب التخصص .. البعض يتخصص في الأمور المالية، فلا ينفك يساومك على أجرك كما لو كان يبيعك سلعة ما، و هناك من يتخصص في الأمور الفنية، فلا يتركك إلا و قد قررت أن تترك المهنة من كثرة ما سألك في تفاصيل التفاصيل، و كأنه قد انتوى أن يخرج من عندك طبيبًا .. البعض يتخصص في "خدمة ما بعد الخدمة"، فلا يتركك ليلاً أو نهارًا، و يعتبر هاتفك المحمول ملكًا له، قد أقطعته إياه يوم أعطيته رقمك .. أسئلة و استفسارات بالليل و النهار، و كأنك ما خلقت و لا تطببت إلا من أجله ..
البعض، و هؤلاء هم الأشنع على الإطلاق، مزعجون بالجملة .. يحترف و يجمع بين عدة فنون من الإزعاج، فيجعل من مداواته جحيمًا لا يطاق .. هناك المرضى العصابيون الموسوسون، الذين يشمون رائحة المؤامرة في كل إجراء تتخذه، و غالبة ما تكون المؤامرة المزعومة على جيوبهم المسكينة ..
زفر شاعرًا أن متابعة حالة هذا المريض المسن الذي خرج لتوه ستكون واحدة من لعنات الطب التي ستلازمه لفترة ما، و أن الشيء الوحيد الذي يجبره على تقبله هو أنه عاهد نفسه يومًا أن يكون لطيفًا ودودًا مع أي مريض أيًا كان، حتى لا يكون سببًا في مزيد من الألم لهؤلاء المساكين ..
- اللي بعده يا حنفي ..
- الآنسة سارة الهواري يا دكتور ..
و كأنما ألقى بدلو ماء بارد في وجهه، شعر زكريا بشيء من عدم الاتزان .. ما زالت تثير في نفسه شعورًا مبهمًا أنه ارتكب ذنبًا شنيعًا و جرمًا لا يغتفر، و أنها في أي لحظة قد تستدعي هذا الموقف و تتعامل معه وفقًا له ..
- خمس دقايق و دخلها ..
و هي الحيلة التي استعملها المرة السابقة حتى يستجمع شتات أمره الذي لا يدري حقًا لم تبعثر، رغم أنها لم تفلح تمامًا فيما سبق .. على أية حال، فالدقائق الخمس لن تدوم دهرًا، و لا بد من المواجهة في النهاية:
- السلام عليكم يا دكتور .. إزاي حضرتك ؟
- الحمد لله بخير .. إزاي الوالدة، أخبارها إيه ؟
- لسه الحال على ما هو عليه .. ألا بالحق يا دكتور زكريا ..
ثم اعتدلت في جلستها و وضعت صور الأشعة و التقارير الطبية على المكتب أمامه و أكملت:
- إحنا كنا بنسأل كده و إحنا بنعمل التحاليل و الأشعات، و دكتور القلب اللي عمل الإيكو لماما قال لها إنها احتمال تحتاج عملية مش مجرد قسطرة .. صحيح الكلام ده ؟
ابتسم في شيء من العجب، إذ أن كل المرضى إلا أقل القليل يفعلون الشيء نفسه .. يستفسرون عن أشياء لن يستطيع أحد الإجابة عنها ما لم يقرأ التقارير و التحاليل و يتفحصها بعناية .. كثيرون ينظرون للطبيب على أنه الشخص "اللي عارف كل حاجة في كل حاجة" أو كما يحب زكريا أن يعبر عن هذه النظرة "كمن بقر بطون الكتب و أتى على علوم الأولين و الآخرين" ..
رد قائلاً محافظًا على الابتسامة:
- هو قال رأيه لما شاف الأشعة .. أشوفها الأول و بعدين نتكلم ..
كانت طريقته المفضلة في الرد على مثل هذه الأسئلة، إذ تجعله كمن لم يقل شيئًا، لكن المعنى الخفي يصل للمريض أو أيًا كان من سأل فيغرقه في شعور من الخجل لاندفاعه و عدم انتباهه لشيء بسيط كهذا، و الحق أن هذا ما أصابها بالفعل ..
تركت له الأوراق التي أتت بها، و جلست صامتة تتأمل خلجاته .. الآن يبدو كالطبيب حقًا، واثقًا متمكنًا من علمه و شيء من الحكمة و الهيبة يحيط بجلسته، لكنها كدارسة محبة لعلم النفس، أو ربما هو الاستشفاف، أدركت أن شيئًا من التوتر و القلق يغلفان حركاته و سكناته .. أرادت أن تعرف في هذه المرة أهي السبب أم أنها أسقطت ما في نفسها على ما رأته في المرة السابقة، لكنها لم تستطع، إذ راودها شعور أنه من المحتمل أن تكون هذه طبيعته، و طريقته في التفاعل مع الحياة ..
قطع تأملها أن رفع عينيه عن الأوراق التي قدمتها له، و شعرت أنه ارتجف عندما رآها تحدق فيه فأشاحت بعينها محاولة الخروج من الموقف، لكنه بادرها بالحديث قائلاً:
- بصي حضرتك .. شرايين والدتك التاجية مع الأسف وصلت لنقطة اللاعودة .. يعني القسطرة و الدعامات و البالونات و الحاجات دي كلها حتبقى عاملة زي المسكنات، لا تغني و لا تسمن من جوع .. الحل المطروح قدامنا دلوقتي إننا نعمل عملية ترقيع للشرايين التاجية، أو بمعنى أدق تبديل .. نشيلهم و نحط أنسجة تانية مكانهم بحيث تقوم بنفس الوظيفة .. و إن شاء الله خير ..
ظلت صامتة لحظة انتظر خلالها زكريا السؤال المتوقع:
- يعني دلوقتي الخطوة الجاية إيه .. ماما تتحضر للعملية، و لا في حاجة تانية ؟ .. فحوصات تانية يعني ..
- لا لا لا .. مفيش فحوصات تانية و لا حاجة .. بس هي تأنسني كده في الوقت اللي يناسبها أكشف عليها مرة تانية في ضوء المعطيات الجديدة، و أسجل شوية بيانات كده ..
- إن شاء الله .. متشكرة جدًا يا دكتور ..
- لا شكر على واجب، و ابقى بلّغي سلامي لسامية و محمود ..
- آ ..
و جلست مرة ثانية بعد أن كادت تقوم من مقعدها:
- بمناسبة سامية، كان في حاجة عاوز أكلم حضرتك فيها بس مترددة جدًا ..
لسبب ما شعر بالقلق .. هذه الـ "جدًا" التي انتهت بها الجملة كان سيئة الوقع جدًا، و شعر أنها ستلقي بقنبلة في وجهه:
- يعني ع اللي حصل يوم الفرح .. بس حسيت إن حضرتك يعني آ ..
لم تدر بم تكمل، و لم يدر كيف يرد، إلا أن الله فتح عليه بما أنقذ كليهما:
- أنا اللي كنت عاوز أتأسف بس كنت محرج .. أنا اللي مفروض أبقى متردد و باعتذر ..
- حصل خير .. استأذن أنا ..
و قامت عن مقعدها شاعرة أنها ارتكبت مذبحة، فيما عاد إلى زكريا لونه الطبيعي مرة أخرى ببطء:
- يالا يا سي حنفي .. اللي بعده ..
لكن الحق يقال أنه أراد أن يغلق العيادة لتوه، ليجلس في مكان هادئ يستجمع شتات نفسه ..
***
عقد عادل عبد الحليم ذراعيه أمام صدره شاخصًا ببصره في تجهم محدثًا عبر تنفسه من فتحتي أنفه بسرعة موسيقى منذرة كأنها فحيح أفعى، هذا إن عُد الفحيح ضربًا من الموسيقى، و لو أن شردي الماثل أمامه و المقصود بكل مظاهر التوعد هذه لم يكن ليهتم كثيرًا بهذه التفاصيل الصغيرة و البلاغة المتحذلقة، إذ كان يشعر أن حياته، و ليس وظيفته فحسب، على المحك ..
- أنت بتقبض مني كام ألف في الشهر يا ابن الـ... ؟
- آ .. يعني ..
- كام ؟
سأله صارخًا خارجًا من عباءة التجهم التي ظل فيها لفترة مكشرًا عن أنيابه، فجفف شردي شيئًا من عرقه الغزير و قال مرتجفًا:
- خير سعادتك كتير يا باشا ..
- بس مش طامر يا ابن الكلب ..
- ليه بس يا باشا .. دا أنا لحم كتافي من خير و ماليش إلا سعادتك و ..
- بس بس .. اخرس ..
قالها ملوحًا بيده دلالة على نفس المعنى المنطوق، ثم قام متجهًا نحو النافذة الكبيرة خلفه، و صمت للحظات أرسل بصره خلالها، ثم قال:
- أنا قلت خلص المسألة يا شردي .. يعني تخلصها و تخلص عليه ..
ثم التفت إليه يصرخ:
- مش تقول لي هددته هو و أمه .. يا فرحتي بيك يا ننوس عين أمه ..
صمت لحظة قبل أن يكمل رافعًا سبابته مهددًا:
- آخر فرصة .. آخر فرصة تخلص فيها العملية دي كلها و إلا البقية في حياتك فيك يا شردي .. فاهم ؟
اومأ برأسه موافقًا، فتابع عادل و هو يعود لجلسته:
- عرفت نظام حياته إيه ؟
- أيوه يا باشا .. بيطلع م البيت الصبح ع الجرنان يديهم المقال بتاع تاني يوم، بعد كده بيقضي مشاويره و يرجع البيت و بعد الضهر بينزل تاني يلف شوية و يرجع البيت ع الساعة حداشر اتناشر كده ..
- تصطاده و هو راجع .. تاخد رجالتك و تعكموه علقة مش عاوز أمه تتعرف عليه بعديها ..
ثم مال للأمام منذرًا:
- المرة دي عاوز يجيني خبره .. فاهم ؟
- أوامرك يا باشا ..
- على الله تنفذها .. غور يالا من وشي ..
انصرف شردي يتمتم بالكثير من كلمات الحمد و الثناء فيما ظل عادل للحظات صامتًا حتى تأكد من انصراف شردي، ثم أمسك بهاتفه المحمول و ضغط أرقامه و انتظر المجيب:
- السلام عليكم .. إزاي صحتك يا باشا ؟
- عملت إيه يا عادل ؟
شعر عادل بالضيق لهذا الاستقبال الجاف، لكنه أجاب:
- كل تمام إن شاء الله يا باشا .. ديّتها بكرة بالكتير يكون عندك خبره، و تكون صورة جثته مالية الجرايد ..
- اتعشم كده .. أنا مش ناقص حد كل شوية ينخور ورايا .. فاهم ؟
- مفهوم يا باشا .. إحنا خدامين سعادتك ..
- ابقى اتصل بي و قول لي وصلتوا لإيه ..
و أغلق الخط ليغلقه عادل بالمثل قاذفًا بالهاتف إلى منتهى ما وصلت إليه يداه هاتفًا:
- فاكر نفسه إيه بـ... أمه ده .. إحنا اللي شايلين الشغل كله و طالع ... أبونا و ف الآخر يكلمني من فوق ..
و بينما الغضب و الغيظ يأكله من الداخل دافعًا إياه للتفكير في مخطط شيطاني آخر، كان شردي يجري مكالمة مماثلة مع أحد رجاله، مدفوعًا بخوفه الشديد من يد عادل الطولى، التي يمكن أن تمحو ذكراه إلى الأبد:
- جابر .. عاوزك أنت و الرجالة دلوقتي حالاً ..
- بس يا ريس أنا ..
- مفيش بس .. أنا قلت تيجي أنت و الرجالة يعني تيجوا ..
- يا ريس أنا مراتي بتولد، و معاها دلوقتي في المستشفى ..
- إن شالله تكون أنت نفسك بتموت .. بلاش كتر كلام ..
- أوامرك يا ريس .. في الشقة برضك ؟
- أمال حيكون فين يعني .. يالا اتكل أنت ع الله .. ساعة و تكونوا عندي ..
و أنهى الحديث ضاغطًا بعنف على دواسة الوقود يفرغ فيها ما بنفسه من توتر محاولاً التفكير كيف ينفذ ما طلبه عادل "باشا" منه .. عندما تفتق ذهنه عن التهديد بالقتل، ظن أن فارس سيرتدع، فإحساس المرء أن حياته في خطر يقفز بغريزة حب البقاء إلى القمة و الذروة، فلا يعود غيرها في مخيلته، و يصبح الابتعاد عن موطن الخطر هو شغله الشاغل، لكن ما حدث كان عكس ما توقع، إذ واصل فارس نشر مقالاته، و كأنه لا يبالي على الإطلاق ..
على أية حال، إذا لم يكن يبالي، فالموتى أيضًا لا يبالون ..
***

2.12.09

بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل السابع/ الجزء الثاني

الفصل السابع - أوراق حكومية

"السلام عليكم .. إزاي الصحة ؟" .. قالها عبد الواحد محييًا سكرتيرة فاروق، فردت و الابتسامة تعلو وجهها:
- و عليكم السلام يا باشمهندس .. الحمد لله على كل حال ..
- فاروق جوه ؟
- الدكتور لسه داخل ما بقالوش ..
و نظرت لساعتها ثم تابعت:
- تلات دقايق ..
- لازم الدقة قوي يعني .. طب أنا داخل له ..
- طب ثواني أدي له خبر ..
- لا لا لا .. دا أنا عاوزها مفاجأة ..
و أجلسها بإشارة من يده، و توجه إلى باب حجرة فاروق و فتح بابها دون مقدمات و قال و هو يصرخ:
- سلّم نفسك الإنكار مش حيفيدك ..
لثوان ارتبك فاروق و ثبت نظره إلى ذلك الواقف بالباب، و لم يلبث أن انفجر ضاحكًا و هو يقول:
- يخرب بيت طاستك يا أخي .. اقفل الباب و اتنيّل ادخل ..
أغلق عبد الواحد الباب و تقدم، فيما أكمل فاروق:
- يعني أسود فحمة، و داخل قفش، و بتصرخ، و سلم نفسك و الإنكار و مش الإنكار .. هو إيه يا بني، حد قال إني عاوز أموت بالسكتة القلبية ؟
تعانقا يضحكان، و أكمل فاروق:
- يعني لولا إن السكرتيرة عارفة إننا صحاب الروح بالروح كانت قالت الدكتور فاروق مصاحب مجانين ..
- يا عمي فك شوية من النشا اللي أنت عايش فيه ده .. عاوز أعرف يعني فيها إيه لو الدكتور يعيش فريش كده ..
- هو اللي بتعمله ده بتسميه "فريش" .. و بعدين طب ما أنا عايش أهه، وفل الفل، بس لازم شوية وقار، على الأقل احترامًا للمهنة اللي أنا بامارسها .. أنا باتعامل مع أقدس حاجة خلقها ربنا .. روح البني آدم ..
بدأت علامات الضحك و الابتسام تخفت شيئًا فشيئًا، و قال عبد الواحد:
- المهم، أنت عامل إيه ؟
- الحمد لله على كل حال .. ماشية و لسه عايشين ..
- تخيل بقى قابلت مين من يومين كده ؟
- مين ؟ .. جورج بوش ؟
- لا يا عم، باتكلم بجد ..
صمت فاروق للحظة مفكرًا، ثم قال:
- مين يعني ؟ .. حد من قرايبك في السودان ؟
- و دول حأعمل عليهم نشرة، كفاية السحابة السودا اللي هما جايين فيها ..
ضحك فاروق و سأله:
- مين بقى ؟
- بندر ..
- بندر ؟ .. بندر مين ؟
- بندر القطرنجي .. تعرف حد بالاسم ده غيره ؟
ظهرت على وجه فاروق علامات تذكر ذكرى بعيدة، و قال:
- يااااااه .. ده عمر تاني يا بني .. و ده عترت عليه فين ده ؟
- تخيل فين ؟ .. كنت حأدوسه بالعربية !
- و حصل إيه ؟
- لا خير الحمد لله .. أنا كنت باسوق و أنا سرحان و فقت، و هو كان ماشي و هو سرحان و فاق .. خبطة نونو كده بس ما حصلش منها حاجة الحمد لله ..
بدت علامات الاهتمام على فاروق، و انحنى للأمام مستندًا إلى مكتبه، و سأل:
- و الواد ده عامل إيه دلوقتي، و إيه اللي جابه مصر أصلاً ..
- تقريبًا مشاكل والده ف سوريا ..
- هو قال لك كده ؟ و لا تخمين ..
- تخمين، بس هو اتضايق لما سألته .. على كل هو حيقعد ف مصر رسمي خلاص ..
- يآنس و يشرف .. هو سكن و لا لسه ..
- من زماااان .. دا بقى له حاجة بتاع تلات شهور هنا ..
- و لا آلو و لا إزيكوا و لا أي حاجة كده ..
- أنت عارف الواد ده موعود بالمصايب .. بيصعب عليا قوي ..
- طب معاك نمرة تليفونه ؟
- أكيد ..
و أخرج هاتفه المحمول يمليه الرقم، و فاروق يتساءل:
- ألا عملت إيه بخصوص الأرض ؟
أعاد عبد الواحد هاتفه إلى جيبه و هو يسأل فاروقًا:
- ألا قول لي الأول .. أنا معطلك عن حاجة ؟
- لا لا أبدًا .. أنا بأحب آجي بدري شوية علشان لو فيه حاجة متأخرة أخلصها، بس مفيش ..
- طب حلو .. بص يا سيدي ..
و اعتدل في جلسته، و تابع:
- عملت الشكوى اللي طلبها سيادة العقيد محسن، و قدمتها له النهاردة و قال لي إنه حيتابع الموضوع بنفسه و يتصل بي يقول لي إيه آخر التطورات .. على فكرة ..
صمت لحظة ثم تابع، فيما قطع فاروق تساؤله الذي كان على طرف لسانه:
- الراجل ده ذوق جدًا .. نادرًا ما بألاقي حد من الشرطة بالنضافة دي ..
- الطيور على أشكالها تقع .. أنت لو ما كانش قلبك أبيض، كنت وقعت في حيص بيص ..
- آه و الله .. تخيل ..
مد عبد الواحد ساقه و انزلق قليلاً في مقعده عاقدًا يديه فوق رأسه، و قال:
- تخيل بقى لو ما كنتش أنا أعرفك و أنت ما تعرفش العقيد محسن .. كنت اتسورت .. بلد علشان تاخد فيها حقك .. حقك، مش حق غيرك .. علشان تاخده لازم كوسة و وسايط !
- ده بيفكرني بكلمة قالها لي أبو واحد زميلي أيام الثانوي .. قال لي البلد دي مش ماشية براسها، دي ماشية بـ"و لا مؤاخذة" اللي في الناحية التانية من الجسم ..
- المقعدة ؟
- طبعًا هو استخدم اللفظ الصريح، بس معاه حق .. مفيش بلد في الدنيا فيها اللي بيحصل عندنا ده ..
التفتا إلى الباب إثر طرق خفيف من السكرتيرة التي فتحت الباب بعد الطرق و قالت:
- أستاذ ممدوح وصل يا دكتور ..
- طب ثواني و دخليه ..
ثم التفت إلى عبد الواحد و قال:
- أول عيان وصل يا باشا .. اتكل أنت بقى ..
- ماشي يا سيدي .. ألا قول لي ..
ثم أكمل و هو يقوم عن مقعده:
- أخبار الحاج عبد الغفار إيه ؟
- هو جيمي قال لك ؟
- اتصلت بيه علشان نتفق ع المصيف، فاعتذر و حكى لي ع الموضوع ..
- حاجة بسيطة، و عملية أبسط، بس دقيقة شوية .. يوم في المستشفى، و يوم كمان يستريح، و بعد كده خروج، و يقعد بقى تلات شهور لغاية ما كل حاجة تتحسن و يرجع يمشي على رجليه تاني ..
- إن شاء الله .. بس شكلها فركش السنة دي م المصيف .. أنا حتى حاسس إني ما ليش نفس .. الواد خميس كان ..
و احتبست الكلمات في حلقه، فقال محاولاً الإفلات من الموقف:
- المهم استأذن أنا، و أسيبك للعيانين .. بركة إنك بخير .. سلام ..
شيعه فاروق بنظراته، التي لم ير عبد الواحد أن طبقة رقيقة من الدمع قد كستها:
- و مين له نفس يا عُبد .. مين له نفس ..
***
تمطأ إسماعيل بقوة كقط استيقظ لتوه، و تثاءب و هو يفرك عينيه اللتين أضناهما كثرة النظر إلى الأوراق و المكاتبات و المذكرات و الإعلانات، ثم حك رأسه يحاول أن يزيل الشحنات الساكنة التي تراكمت بين خصلات شعره الأكرت من كثرة التفكير، و إثر طرق خفيف على باب حجرة مكتبه قال:
- اتفضل يا حسين ..
دخل ابنه مبتسمًا، فتابع:
- عاوز تنزل طبعًا ؟
- ميزتك يا باب إنك قاريني .. ما بأحتاجش أطوّل في الكلام و أكتر ..
ابتسم إسماعيل و قال:
- يا بني أنا بنقرا جيناتي أنا .. المهم، حتروح فين ؟
- أنا اتفقت مع إيهاب و طلعت إننا نطلع سينما، بس مستني الموافقة الملكية ..
و اتبعها بابتسامة تزلف و تملق ابتسم لها إسماعيل، و قال:
- حتدخلوا فيلم إيه ؟
- الفيلم بتاع أحمد حلمي الجديد ..
- آسف ع الإزعاج ؟
فرقع حسين بأصابعه و قال:
- يا حلاوتك يا سمعة يا بتاع السيما أنت ..
- احترم نفسك يا ولد .. الحكاية كلها إن الواد دا داخل دماغي ..
- يعني موافق ؟
- بس المهم تدخلوا الفيلم دا فعلاً، مش تشوفوا حتة بت مقلوظة على بوستر بتاع فيلم أجنبي تقوموا تدخلوه علشان اللحمة .. فاهم ياض ؟
- عيب يا بابا .. و دا كلام ..
- دا كلام و نص يا روح بابا ..
ثم قام عن مكتبه و توجه إليه و قال:
- المهم بس ما تتأخرش .. يعني حداشر بالكتير تكون هنا، و طبعًا ما تنساش إن في اختراع اسمه التليفون ممكن أجيبك من قفاك بيه ..
- عارف يا بابا ..
قالها بشيء من الضيق فرد إسماعيل:
- حبيت أفكرك بس، رغم إني لغاية دلوقتي ما استعملتش الميزة دي في الموبايل ..
ثم دفعه برفق و قال:
- يا لا يا بطل .. بالسلامة، و ابقى خليك فاكر تجيب معاك لبن و أنت جاي .. عارف لو نسيت ..
- لا مش حأنسي .. سلام ..
و انطلق فيما نادى إسماعيل زوجه:
- لو قاعدة ف الإنتريه خليكي .. أنا جاي لك ..
و اتجه إلى حجرة المعيشة يثني ظهره و ركبتيه و جذعه محاولاً الخروج من حالة التيبس التي أصابته من كثرة الجلوس إلى المكتب يراجع ما تم في شأن جهاز الأشعة المحترق، و الجفت الجراحي الغير مطابق للمواصفات ..
- وصلت لإيه يا إسماعيل ؟
- مسخرة .. دا أنا كنت قاعد على خازوق مش كرسي رئيس مجلس إدارة ..
- يا ستار يا رب .. ليه يعني ؟
- بصي يا ستي ..
ملأ صدره بالهواء و قال:
- الأول بس ابعدي البصل دا عن عيني، مش ناقصة تدميع .. و بعدين مش تخلصي البتاعة دي ف المطبخ ..
- يا خويا تعبت من كرسي المطبخ المأتب ده .. فوّت يا راجل، ما أنا اللي بانضف ..
- نهايته .. بصي يا ستي ..
ملأ صدره بالهواء مرة أخري و غاص في الأريكة الوثيرة و تابع:
- الجزمة ابن الكلب الأولاني بتاع الصيانة .. جزمة و ابن كلب و يستاهل ضرب الجزم .. الواد بتاع الأشعة قدم ييجي ميت طلب إنهم يشوفوا صرفة في جهاز التكييف اللي بايظ، و هو يصلبت فيه، و يا ريته بيصلبت فيه بذمة .. السلك المستخدم أرفع م المطلوب، و الجهاز يشتغل يوم و هوب .. ووووووش، يوّلع، و الجهاز بتاع الأشعة وووش معاه .. ابن كلب واطي .. مش عارف ليه يعني قلة الأدب دي ..
- يكون عاوز يكهن الجهاز و يجيب واحد من شركة له فيها معرفة و يسلك له قرشين ؟
- أنا قلت كده برضك، بس لزومها إيه قلت الأدب دي .. كان يقول إن الجهاز لا يصلح و إنه لازم يتكهن، و ما كانش حد حيعارضه، لأن الجهاز قديم فعلاً ..
- و الموضوع حيخلص على إيه بعد ده كله ؟
- دي كده فيها خيانة أمانة .. الواد العبيط مش واخد باله إنه ماضي على نفسه عقد، فيه بند إنه مسئول عن كل أجهزة المستشفى، ما لم يذكر اسم مختص آخر، فيما يتعلق بمسألة الصيانة، و إن إخلاله بمسئوليته فيما يتعلق صيانة أي جهاز تحت إيده يعتبر خيانة للأمانة، و يقاضى بموجب مواد القانون فيما يختص بخيانة الأمانة .. و ديني لأكون مربيه و موديه ف داهية ..
- يا خويا هدي أعصابك .. بلاش التنشنة دي ..
أنهت ما بيدها من أصابع محشي الكوسة، و نفّضت ما علق بيديها من بقايا خليط الأرز و الخضرة و البصل، و حملت الصينية و الأوعية ذاهبة للمطبخ و زوجها يشيعها بكلماته:
- خليكي أنت في المحشي بتاعك ده بالبصل و عينك المدمعة و سيبيني أنا أفش غلي شوية .. أنا حانفجر ..
و بينما هي في المطبخ تفرغ مما بيدها من صوان و أوعية، تذكر ما كان بينه و بين مسئول قسم المشتريات، فضحك بملء فيه، بل لا نكذب لو قلنا قهقه، ما جعل زوجه تسأله و هي ما زالت في مطبخها:
- بتضحك على إيه يا إسماعيل ؟
- دا البأف التاني بتاع المشتريات .. تعالي بس أنت الأول و بعدين أحكي لك ..
الحق أن ما فعله مع مسئول قسم المشتريات كان يستحق التصوير و التسجيل .. حتى هو نفسه لا يزال غير مصدق أنه فعل ما فعل ..
- طبعًا الواد دلوقتي مفتوح معاه تحقيق رسمي و شكله حيلبس قضية اختلاس وش يعني .. بس أنا جبته على جنب و حبيت أعرف منه و امشيها ودي في الأول، لأنه أصلاً معرفة من زمان قوي .. ماحبتش أفتح على بوابة جهنم من أولها، قلت يمكن ييجي بالذوق .. لقيته بيبقبق و يتهته و يلغبط في الكلام، و بعدين شويتين لقيته بيقول كلام تاني خالص و شايط و أنت بتكلمني كده ليه، و أنا عملت اللي فيه المصلحة و مش عارف إيه و أبصر إيه .. لقيتني مرة واحدة هبيت فيه، قلت له بص ياض .. أنا دكتور آه، رئيس مجلس إدارة مستشفى قد الدنيا ماشي، لكن أنا أصلا من القباري و أمي من كرموز ..
- يا خبر أبيض ..
- صبرك بالله .. قلت حتبق معايا و مش حتيجي بالذوق، حأكون مفرج عليك اللي يسوى و اللي ما يسواش و أخليهم يبيعوا منك الكيلو بقرش .. فاهم ؟
- و عمل إيه ؟
- و الله أنا مش عارف أنا قلت الكلمتين دول إزاي أصلاً، بس الواد بلّم و تنّح و قر بكل حاجة .. ابن الرفضي جاب الجفت من شركة شغال فيها واحد قريبه، و سجل الفاتورة بسعر، و دفع سعر أقل، و الباقي في جيبه .. و الدكتور التاني رئيس قسم العمليات استلم و الحجة اللي اتقالت له إن ده الجفت المتوفر في السوق حاليًا، و إن العمليات ممكن تأخر أكتر من كده، لو انتظرنا وصول الرسايل اللي حيكون فيها الجفت اللي إحنا عاوزينه ..
- بس أنت شلقت له خالص يعني .. كان في حد حاضر ؟
- لا .. ما أنا مش حبعبع بكل ده و في ناس نضيفة قاعدة .. اسمي برضه دكتور و رئيس مجلس إدارة .. المهم في الآخر حولته تحقيق رسمي .. ما دام هي قلة أدب، يبقى يتربى أحسن .. نومة البورش حتعلمه، هو و الدغف التاني بتاع الصيانة ..
- طب أشرب الينسون و روّق دمك .. كفاية حرقة أعصاب ..
- أنا ما حارق دمي غير إن الاتنين بياخدوا مرتب يتحسدوا عليه .. بيعضوا الإيد اللي اتمدت لهم ليه ؟ .. ليه النتانة و قلة الأدب دي ..
- في ناس طبعها كده .. تحسن لها بس هيا في الآخر واطية .. الحمد لله إن ربنا كشفهم و خلّصك منهم ..
- بأقولك إيه ..
و ضغط زر تشغيل التلفزيون و أخذ يستعرض المحطات المختلفة و تابع:
- أنا بأقول نتفرج على حاجة أحسن من السيرة النكد دي ..
- طب اربط هنا .. خلي الفيلم ده جميل ..
و رغم أنه كان – ظاهريًا – يتابع الفيلم معها، إلا أن ذهنه كان في واد آخر ..
***

24.11.09

بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل السابع / الجزء الأول

الفصل السابع – أوراق حكومية

من المعروف عن زكريا أنه يستطيع التحكم في تعبيرات وجهه إلى الحد الذي يجعله يتخبط في بحر متلاطم من المشاعر، لكن وجهه يبدو للناظر كمن ارتدى قناعًا، فلا يفصح عن شيء، و الموقف الذي يفقده هذه السيطرة على تعبيرات هو موقف يستحق التسجيل .. حدث قبلاً مع سارة، و ها هو الأمر يتكرر مع هذه السيدة التي ارتمى الطفل في أحضانها ..
وقف لحظات ينظر إليها بينما هي مشغولة تمامًا بطفلها تقبله و تحتضنه بطريقة تحطم أضلعه .. ينظر إليها بذات النظرة المندهشة، و عندما رفعت رأسها لتنظر إلى صاحب هذا الجسد الواقف إلى جوارها لم يتحرك منذ دقيقة كاملة، كانت الدهشة من نصيبها هي ..
- مش معقولة .. يا نهار أبيض .. زكريا ؟
- أنا ..
لم يستطع أن يقول غيرها ردًا عليها فيما اندفعت هي، من فرط دهشتها هي الأخرى، تتحدث كأنما لسانها كان في عقال و خرج:
- مش معقولة بجد .. يا نهار من غير ألوان .. إيه ده ؟ .. إزيك و فينك و عامل إيه ؟
و أمام تحديقه الغريب فيها قالت:
- في إيه يا بني ؟ .. مالك متنح كده ؟
- لا .. بس المفاجأة قوية جدًا .. دول تلاتين سنة يا إسراء .. دا لو كان فيلم كنت قلت المخرج بيستعبطنا ..
ضحكت من تعليقه و سألها:
- بس دا أنتي اتغيرتي خالص .. الملامح الأساسية زي ما هي، بس .. يا نهار .. و الولد كمان ..
- دا شمس ..
- شمس ؟
- شمس الدين ..
نظر إليها نظرة ظاهرها الطيبة و باطنها الخبث، مع ابتسامة تحمل المعنى ذاته و هو يقول:
- أحب أنا الأسماء المميزة ..
و فيما تضرجت وجنتاها بحمرة خفيفة تابع هو بجدية:
- بس شكل أبوه شامي ..
- سوري ..
- دا أنت سافرتي كمان ؟
كادت أن تجيب فقاطعها متسائلاً:
- و لا اتجوزتوا هنا ؟
- دي قصة طويلة .. دا أنا اتجوزت و اتطلقت و سافرت و قعدت حاجة بتاع خمس سنين لغاية ما قابلت أبو شمس ..
و أشارت لولدها فهبط إليه زكريا قائلاً:
- عارف أحلى حاجة عملتها النهاردة إيه يا بطل ؟
- شو ؟
- إنك ما رضتش تيجي معايا لما قلت لك يا لا نروح ندور على ماما .. جدع ..
انتفخت أوداج شمس فخرًا بنفسه، فيما سألته:
- و أنت بقى بقيت فين ؟
- ممكن تقول لي دكتور زكريا ..
- أيوه يا عم ..ما هو طول عمرك دحّيح .. مش غريبة عليك يعني ..
قالتها و ضحكت، فرد مبتسمًا:
- أعوذ بالله .. ما كفاية قر بقى .. من أيام الإبتدائي و أنتي بتقرّي .. ارحمي نفسك شوية ..
ثم استأذنها لحظة ليأتي بعربته، ثم قال و هو يدفعها أمامه:
- أنتي خلصتي التسويقة و لا لسه ؟
- أنا لسه جاية أصلاً ..
و بدآ المسير ثم تابعت:
- لسه ما بقاليش نص ساعة .. باشتري شوية أدوات منزلية كده ..
- إيه ده ؟ .. أنتوا نازلين إجازة و لا إيه ؟
- لا .. نازلين خالص .. حنستقر هنا .. أبو شمس صفّى شغله هناك في سوريا ..
- و لو فيها تطفل يعني .. بس معلش، حد يسيب الجنة اللي هناك و ييجي يقعد في اللحوسة اللي هنا دي ؟
- كل واحد له ظروفه ..
كان ردها من نوعية "عفوًا، هذه المنطقة محظورة"، و هو ما جعله يغير مسار الحديث لأشياء أخرى كثيرة من تلك التي يسألها الناس عندما يلتقون بعد غيبة طويلة ..
- ما دمتم نازلين إقامة، يبقنا حنشوف بعض كتير إن شاء الله ..
- إحنا نازلين في شقة في شارع سوريا ع البحر ..
توقف فيما استمرت هي بضع خطوات ثم توقفت مندهشة و سألته:
- في حاجة ؟
- حاجة ؟ .. دول حاجات يا ماما .. أصل أنا ساكن في المعسكر الروماني ..
- طب عظيم جدًا .. بقينا جيران يا أستاذ كمان أهو ..
- بس كمية المصادفات دي فوق الوصف بجد ..
و أخذ يعد على أصابعه:
- أولاً أنا ما بأجيش كارفور الوقت ده .. عادة بآجي أول ما يفتح و هو لسه رايق، أخلص و أطلع ع العيادة .. النهاردة اضطريت ألغي العيادة علشان اجتماع مجلس القسم اللي أخرني .. و بعدين اتأخرت كمان مرة علشان الزحمة .. و بعدين دخلت من باب غير اللي بأدخل منه كل مرة، فبدأت بقسم الأطعمة بدل الإلكترونيات زي كل مرة .. و بعدين تيجي و تقول لي إن إحنا بقينا جيران كمان، رغم إن من ساعة ما أخدنا الابتدائية إحنا الاتنين فص ملح و داب .. بصراحة شيء لا يصدكه عكل ..
لم تكن تملك جوابًا .. كل هذا الكم من المصادفات لا يصح أن نسميه مجرد مصادفات، إنها ترتيبات القدر .. هي لا تؤمن بكلمة مصادفة أصلاً، فهي تعبر عن العشوائية، بينما كل شيء في هذا الكون يسير وفق نظام من العسير أن نقول بوجود مكان للعشوائية فيه .. لكن تصاريف القدر هذه، لأي غرض و لأي هدف ؟ .. لا تستطيع أن تخمن هي أو هو، لكنها حتمًا لغرض عظيم ..
انتهيا مما كان فيه، و قد صادق زكريا شمسًا و أخذ يستعيد مع إسراء ذكريات بعيدة .. بعيدة للغاية، لكنها بالقطع لا يمكن أن تذهب أدراج الرياح .. و في سيارته أخذته الذكريات مرة أخرى في غياباتها تقذفه يمينًا و يسارًا، و هو لا يدري أنه على وشك إضافة المزيد إلى هذا المعين الذي لا ينضب من ذكرياته ..

***
هبط جمال و فارس من سيارة الأول أمام نقطة شرطة باب شرقي، و توجها مباشرة إلى مأمور النقطة، الذي ابتدر جمال بالحديث، بعد عبارات المجاملة و الشكر المعتادة:
- محمود باشا كلمني و لو أني مش محتاج وصاية .. تحبوا تشربوا إيه ؟
- شكرًا جزيلاً .. لو كوباية مياه ساقعة أكون شاكر جدًا ..
بعد أن أدى التحية قال المأمور للجندي:
- اتنين حاجة ساقعة و إزازة مياه مشبّرة .. بسرعة يالا ..
ثم التفت إلى جمال و فارس و قال:
- يا أهلاً و سهلاً .. تاخدوا واجبكم و يكون الكاتب و واحد من الظباط تحت أمركم ..
و فيما أخذ جمال يرشف من زجاجة المياة الغازية، كان فارس يحاول ترتيب ما سيقوله في المحضر، حسب توجيهات جمال، في رأسه .. كان متوترًا و يريد أي شيء يفرغ فيه هذه الشحنة الهائلة من الغضب و التوتر الذي يستعر بداخله، و لو لم يكن بكامل قواه العقلية لحطم هذا المكتب على رأس من فيه، و لو أنه لا يكفيه هذا لإفراغ ما بداخله ..
الأمر كله قد يكون عبثًا، و لو صح هذا فهو عبث ثقيل .. اتصل به أحدهم على هاتفه المحمول و لم يظهر له سوى هذه العبارة المستفزة "Private Number" .. ضغط زر الإجابة بتلقائية:
- آلو ؟
- أستاذ فارس بدر ؟
- أيوه ..
- اللي بيلعب بالنار يا أستاذ بتلسعه .. لو لعب بيها أكتر .. بتحرقه ..
- مين معايا ؟
كانت صوتًا رزينًا وقورًا جدًا، و كانت إجابة سؤاله الأخير هي الصمت المطبق و الخط الذي أُغلق دون كلمة زائدة .. جلس للحظات كالمذهول، ثم انتبه إلى أنه يمتلك برنامجًا صغيرًا يعمل تلقائيًا عند بدء أي مكالمة فيسجلها .. استمع لها ثانية علّه يهذي، فوجد أنه – للأسف – لا يهذي ..
أنهى ما في يده و رجع إلى منزله، يضرب أخماسًا لأسداس .. طريقة الحديث توحي بتهديد خفي، و هو تهديد بالقتل ما لم يكن قد خسر ذكاؤه مع توازنه النفسي الذي تبعثر بعد هذه المكالمة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: منذ متى كان له أعداء بلغوا من الجرأة مبلغًا حتى يهددوه بالقتل ؟ .. ثم، و هذا هو الأهم، إلى أي مدى هم جادون في هذا ؟ ..
حاول أن يبدو طبيعيًا لكن والدته كانت أكثر شحوبًا من المعتاد، و رجفات يديها كانت أقوى من المعتاد، و كما توقع تمامًا:
- في واحد اتصل و قال لي دا منزل أستاذ فارس بدر، قلت له أيوه، قال لي قول لي لابنك يا حاجة إن اللي بيلعب بالنار بتلسعه، لو لعب بيها أكتر بتحرقه .. قصده إيه يا بني الراجل ده كفى الله الشر ؟
لم تكن بالطبع تجهل ما يعني، و حاول هو أن يطمأنها بكلمات من عينة:
- لا .. دا شكله بيهزر، أو بيعاكس .. ما أنت عارفة رخامة البني آدميين دلوقتي ..
و توارى عن عينيها في حجرته، شاعرًا أن الدنيا قد انقلبت من حوله رأسًا على عقب، ثم انتبه لما قاله لوالدته منذ لحظة .. لم لا تكون فعلاً معاكسة ليس إلا ؟ .. ربما هو أحد هؤلاء المخابيل الذين يسمع عنهم كثيرًا، فيهدد فلانًا أو فلانًا كي يشتهر، لكن أي شهرة يبتغيها هذا المأفون من وراءه ؟
قضى بقية يومه كمن يسير على شوك .. الجملة لا تحمل أكثر من معناها، لكن طريقة إلقائها تحمل المعنى كله ..
ربما هو واحد ممن فضحهم فيما سبق ؟ .. جائز، لكنه – لو لم تخنه الذاكرة – قد دفع ثمن هذا من عمره ستة عشر شهرًا في المعتقل "ينعم بحياة فاخرة"، و كان هذا بعد مقال فضح فيه أحد قادة الحزب الحاكم .. فمن يكون هذا يا ترى، لو هو واحد منهم ؟
قاده هذا الاحتمال أن يكون هذا الوكيل، عادل عبد الحليم، الذي يشير إليه من طرف خفي في مقالاته، هو السبب، لكن ما كتبه حتى الآن لا يعدو كونه كلامًا دون نشر أسماء، فمن أين له هذا التأكد ؟ .. السؤال ليس من أين له هذا التأكد، بل من أين له هذه الجرأة، أو لنكن أدق، هذه "الصفاقة" حتى يهدده بالقتل مباشرة ؟
شعر برأسه تدور و تدور، و الاحتمالات تكاد تقضي عليه، ففعل الشيء الوحيد الذي رآه صالحًا في مثل هذا الموقف .. اتصل بجمال، و شرح له كل ما حدث، و كان الحل الذي طرحه جمال – حتى هذه اللحظة – هو إثبات تلك الواقعة بمحضر رسمي، و تتبع هاتفه لمعرفة من المتصل، هذا إن اتصل مرة أخرى، و السعي لترخيص سلاح ناري ..
- حضرتك ما بتشكش في حد معين ؟
- مع الآسف لأ .. الاحتمالات كتير، و مش عاوز اتهم حد أو احطه في دايرة الشكوك لمجرد الظن ..
أنهى المحضر، و حصل على رقمه، و خرجا يشيعهما المأمور بكلماته و تحياته، و عند السيارة قال جمال:
- لو عاوز رأيي .. هو وكيل الوزارة ده ..
- أنا بأقول كده .. بس ما توصلش لدرجة القتل .. ما عنده المعتقل زي ما الزفت التاني دا عمل .. عنده مليون طريقة، بس المرة دي طريقته مرعبة جدًا ..
استقرا بالداخل ثم تابع فارس:
- أنا مش قلقان عليّ أنا .. أنا قلقان على الست الوالدة .. أمي مش حمل بهدلة، و الموضوع دا عاملها قلق ما قولكش .. بتلف و تدور حوالين نفسها زي أيام المعتقل الله لا يرجعها ..
- إن شاء الله خير .. بس المهم هدّي أنت اللعب في الجرنان شوية .. واضح إنه راجل بيحب يخلص م الآخر، و الجحر اللي يطلع منه التعبان .. بيقتل التعبان و يسد جحره ..
قالها جمال، ليغرقا بعدها في صمت مطبق ..
***
أغلقت سارة مفكرتها الصغيرة و وضعت القلم جانبًا و توجهت إلى أحب مكان لديها في حجرتها الصغيرة .. الشرفة .. جلست تستمتع بنسمات العصر الرقيقة مغمضة عينيها مفكرة فيما كتبت منذ لحظات ..
كانت زيارتها برفقة والدتها لطبيب القلب هذا منذ أسبوع، و قد دهشت بالفعل من هذه المصادفة .. هذا الذي كاد يفرغ مثانته من فرط الحرج، و تلعثم متأسفًا فلم يبن شيئًا من كلامه هو "أستاذ دكتور" و في تخصص كهذا، و الأدهى هو أنه صديق لزوج بنت خالها، و عما قريب سيكون الطبيب المعالج لوالدتها و من سيجري لها عملية جراحية دقيقة تتعلق بها حياتها أو ما تبقى منها ..
غريبة هذه الدنيا .. حادث تافه لم تعره اهتمامًا على الإطلاق، و نسفته نسفًا من ذاكرتها، تجد أنه أصبح مركز أحداث الأيام القادمة .. لو قال لها أي شخص هذا لحسبته أبلهًا يتخرص لا يعي ما يقول !
لكنها، رغم نسيانها بالفعل لما حدث في هذه اللحظة، شعرت أنه تفاعل مع وجودها مع والدتها بنفس الصورة .. شعرت أنه تشتت و خرجت بعض الكلمات من فيه تحتاج لترجمة و تفسير .. ترى هل كان يتوقع أن تتعامل معه باستنكار، باعتبار أن أستاذًا جامعيًا ليس من المفترض أن يتصرف بهذا الحمق ؟ .. أم أن صمتها المطبق دون صوت كأنها غير حاضرة هذه الجلسة جعله يقع في حيرة فلا يعرف أهو صمت أم استنكار ؟
لكن الحقيقة هي أنها – في كل وقت و حين – صموتة كالقبر، و ربما عاد هذا لدماها المختلطة .. أب مصري و أم من جد إنجليزي منحها ذلك البرود الفطري الإنجليزي الذي اكتسبه أهله عبر قرون من الحياة في هذه البقعة الباردة الضبابية من الكرة الأرضية ..
لكنها ليست صموتة من باب العادة و الوراثة فحسب .. هي تتأمل .. تحاول أن تسبر أغوار ما و من ترى .. و ربما للسبب نفسه درست علم النفس البشرية، و اختارت أن تدرّسه في الجامعة، رغم ضعف العائد المادي، لكن ما تبحث عنه أكثر من مجرد أموال تنفقها، و ما تملكه يجعلها في غنى عن كل هذا ..
غدًا تذهب إليه حاملة نتائج الفحوص و التحاليل و الأشعة التي أجرتها والدتها طوال أسبوع، و ترى هل كانت على حق، أم أنه كان متوترًا لأمر آخر، و أسقطت هي هذا التوتر على ما حدث بينهما، و توهمت أنه توتر لمرآها ؟ .. غدًا تعرف، لكن غدًا هو يوم آخر ..
***

23.9.09

بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل السادس / الجزء الثاني

الفصل السادس - دوائر متقاطعة

"الناس دي عايشة في ماء البطيخ المغلي .. انجزوا و ارحمونا بقى من الرغي ده"
لو خرج هذا الحديث من دائرة سريرة زكريا إلى لسانه، فهو الطرد و الفضيحة بلا ذرة انتظار .. كان اجتماعًا لمجلس القسم في الكلية، و رغم وجود عدد من الشباب في الجلسة، إلا أن سيطرة الكبار على مسار الحديث جعله مملاً جدًا .. هؤلاء القوم يمتهنون الملل لا الطب ..
- دكتور زكريا .. تحب تقول حاجة ؟
قالها رئيس القسم كأنها طوق النجاة .. إذن سينتهي هذا الملل ..
- أفتكر إنك كلمتني في حاجة بخصوص جهاز القسطرة ..
بدا السرور واضحًا جدًا على وجه زكريا، ربما بصورة ملفتة للنظر، و كأنه يقول بملء فيه "يا ولاد الـ .. صدعتوني .. أخيرًا حأخلص"، إلا أن تحدثه لم يجعل أحدًا يعطي هذه الملاحظة الاهتمام الكافي، إذ انطلق يتحدث:
- يا أفندم، أنا باعتبر دايمًا إننا أسرة واحدة .. يعني مفيش بينا زعل ما دمنا في حدود الأدب ..
صمت لحظة و قد بدأت لمحة من توتر تغزو الأجواء، ثم تابع:
- أنا حاسس إن في ناس مشغلة جهاز القسطرة لحسابها .. الجهاز و لا مؤاخذة حمار شغل .. مش معقولة كل يومين يعطل، و أفاجأ من كلام العمال إن الدكتور فلان أو فلان شغال عليه، رغم إني كل ما أقول حاحجز عليه عملية و لا اتنين يقولوا أصله عطلان .. في حاجة غلط يا افندم ..
- قصدك مين بفلان و فلان يا دكتور زكريا ؟
قالها أحد الأساتذة الجالسين بحدة، فرد زكريا بهدوء:
- مش عاوز اتهم حد يا دكتور محيي، لأن ممكن يكون كلام العمال مجرد كلام فاضي و إنهم بيضربوا أسافين و خلاص .. لكن موضوع الأعطال الكتيرة دي مش منطقي و مش طبيعي و لازم يتحقق فيه .. إذا كان الجهاز قدم يبقى نجيب واحد تاني، و بعدين ..
قطع كلامه أن هب محيي كالعاصفة في وجهه:
- لأ ما ينفعش الكلام ده .. أنت تقول إن في ناس بتشغل الجهاز لحسابها و تتهمهم و بعدين تقول ممكن يكون أسافين و خلاص ؟ .. أنت كده بتتهمنا كلنا بالسرقة و التربح من ورا المهنة بشكل غير مشروع و من غير دليل .. دا ..
هنا قاطعه رئيس القسم قائلاً:
- في إيه يا دكتور محيي .. لزومها إيه الثورة دي كلها ؟ .. دكتور زكريا ما قصدكش بحاجة ..
بدا عليه الارتباك لحظة لم يدر خلالها ما يقول قبل أن يندفع:
- أنا رافض أسلوب الاتهام الجماعي .. اللي يتكلم عن القسم بكلمة وحشة يبقى يقصدنا كلنا بما فيهم أنا ..
- و أنا ما اتهمتش القسم كله يا دكتور محيي .. أنا قلت مش عاوز أقول الأسماء اللي سمعتها إلا إذا اتفتح تحقيق رسمي، علشان ما ابقاش اتهمت حد بالباطل لو كل الكلام اللي سمعته مجرد أسافين و إشاعات و كدب من غير رجلين .. لكن الكلام فعلا لازم يتاخد على محمل الجد و إلا الله أعلم إيه اللي حيحصل بعد كده ..
كاد محيي أن يندفع في الحديث مرة أخرى فقال محسن الكيال رئيس القسم:
- خلاص .. انتهينا .. الموضوع ده أنا حاحقق فيه بنفسي، و اللي حيثبت بأي شكل من الأشكال إنه بيستفيد من الجهاز لحسابه الشخصي يبقى أحسن يدور له على مكان تاني يشتغل فيه ..
قال زكريا:
- لو سمحت يا أفندم في نقطة تانية .. في دكتور بأشرف على رسالة الدكتوراه بتاعته .. الرسالة في طرق تثبيت الدعامات في الشرايين التاجية و أفضل الوسائل المتبعة لتفادي فشل تركيبها .. هل من المعقول إنه ييجي يدخل أوضة القسطرة يتقال له مالكش دعوة بالأوضة دي ؟ .. ما تقربش منها ..
صمت هنيهة ثم أضاف:
- دكتور محيي شخصيًا قال له كده و في شاهد ..
اندفع محيي للمرة الثانية:
- قصدك إيـ ..
- دكتور محيي ..
خرجت صارمة من محسن الكيال فصمت محيي على مضض فيما قال هو:
- مش معقولة اتنين أساتذة في كلية طب يتناقشوا بالطريقة الهمجية دي .. الكلام دا حصل فعلا يا دكتور محيي ؟
- دا كلام ما عليهوش دليل، و لو ..
- حصل و لا لأ ؟
صمت محيي لحظة ثم قال:
- لأ طبعًا .. أقول له كلام زي ده ليه، و بعدين أنا مش محتاج أقوله لو كنت عاوز، لأن الجهاز عطلان و دخوله زي عدمه ..
- فين الشاهد يا دكتور زكريا ؟
أشار زكريا لإحدى الحاضرات و قال:
- دكتورة منال كانت واقفة ساعتها، و سمعت الكلام ده ..
- أيوه فعلا يا دكتور محسن .. دكتور محيي قال له بالنص: "و أنت حتعمل إيه بأوضة القسطرة ؟ .. آخر حاجة تفكر فيها تدخل الأوضة دي"
صمت الكيال واضعًا كفيه المعقودين أمام ذقنه ثم قال و هو يومئ برأسه:
- عظيم جدًا .. أنت متحول للتحقيق يا دكتور محيي ..
هب محيي واقفًا و بدا أنه على وشك أن يرغي و يزبد و يدافع عن نفسه، فقاطعه محسن مشيرًا بيده:
- آخر حاجة حاسمح بيها إن القسم يتحول لعزبة يا دكتور محيي ..
- بس دا كلام مالوش أساس من الصحة .. دا افترا ..
- حيبان من التحقيق .. البرئ ما بيخافش ..
كان قوله بمثابة اتهام خفي، إلا أنه لم يتوقف عنده كثيرًا، بل لملم الأوراق التي أمامه، و هو يقول:
- الاجتماع انتهي يا دكاترة .. كل واحد يتفضل على شغله ..
و فيما أخذ محيي "يبرطم" ببعض الأشياء المبهمة، أخذ الأساتذة الجالسون في القيام و بعضهم يهمهم ببعض الأشياء عما حدث و عما سيحدث .. وحده زكريا انسل من بين الجمع كأنه ملح ذاب في ماء، و انطلق لا يلوي على شيء، يريد أن يخرج من المكان و يغادر الكلية بأسرع ما يكون، كي يستطيع القيادة قبل الازدحام، فالساعة تقترب من الثانية .. توقيت مفيض البشر في مصر خروجًا من أعمالهم و التلاميذ من مدارسهم و الطلبة من كلياتهم و أي شخص من أي مكان ..
عادة يشعر بالضيق و الملل و السأم و كل شعور ينتمي لهذه الفئة من زحام هذه اللحظات، أخذ يلعن في سريرة نفسه هذا الاجتماع الأخرق الذي اضطر لحضوره و سماع غثاء هؤلاء، و كأنهم يستمتعون بإضاعة الوقت .. من العسير حقًا أن يصدق، لولا أنه ينتمي إليه بالفعل، أن هذا القسم يضم بين جنباته أساتذة في فرع دقيق من الطب كجراحة الصدر و القلب ..
"ماء بطيخ مغلي من غير بذر" .. تمتم بها و هو يحاول الخروج من هذا التشابك الرهيب للسيارات أمام بوابة الكلية .. سيارات أجرة، و حافلات، و سيارات خاصة، و موظفون، و أطفال، و شحاذون و .. و .. و .. أمم ..
أخذ يقلب فكره فيما جرى في هذا الاجتماع .. ليس طبعًا وصلات العزف المنفرد التي قام بها الأساتذة قبل أن يتحدث، بل في رد فعل محيي تجاه كلامه .. أغلق الزجاج، و شغّل المكيف و بعض الموسيقى الهادئة و أخذ يتحدث إلى نفسه بصوت عالٍ كعادته كلما أخذ يقلب أمرًا على وجوهه كلها:
- أنا مازادش شكي إلا لما سمعت عم إمبابي بيتكلم عنه، بس النهاردة .. لأ أكيد في حاجة .. مش معقولة هياجه دا كله علشان خاطر ننوس عين سمعة القسم .. دا أول واحد ما بيعتبش عتبة القسم إلا علشان القبض و العمليات هو بسلامته ده ..
ابتلع ريقه بصوت مسموع كنوع من الموسيقى التصويرية، و أكمل باسمًا:
- شكلها حتبقى أيام سُقع يا زيكا .. مزيكا يا زيكا .. مزيكا ..
أخذته الموسيقى بعيدًا، و إن لم ينصرف ذهنه تمامًا عما حدث .. محيي متورط، لكن الإثبات سيكون عسيرًا كالمعتاد ..وجود منال كشاهد لحظة أن قال لهذا الطبيب ما قال كانت ضربة موفقة، لم يكن له فضل فيها بالطبع، اللهم إلا أن الله ألهمه أن يبعث بمنال برفقة بهاء – الطبيب الذي تدور حوله كل هذه القصة – إلى محيي كي يتفقا على دخوله غرفة القسطرة و العمل بها، باعتبار محيي المسئول عنها هذا العام .. بعث بها معه، ليس كواسطة، بل كدرع يخفف من حدة محيي، فهذا الأخير ذو طريقة صادمة في الحديث، و لربما كان حديثه أسوأ من هذا الذي قال لولا وجود منال ..
يبقى عم إمبابي، لكن إقناعه بالحديث رسميًا سيكون أمرًا شاقًا .. الرجل يحمل النظرة المصرية العتيدة نحو كل ما هو حكومي، حتى لو حمل إليه مصلحته على طبق من ذهب: "ابعد عن الشر و غني له"، لكن ليس من سبيل لإحكام الاتهام سوى شهادته .. هناك أيضًا العمال المسئولون عن الجهاز نفسه و تشغيله .. سيحاول أن يقنعهم، و ليوفقه الله ..
انحرف بسيارته خارجًا من شارع البطالسة متجهًا إلي شارع فؤاد في طريقه إلى محطة مصر، كخطوة في طريقه الرئيس إلى كارفور ليبتاع احتياجات الأسبوع من الطعام و الشراب .. كلما تذكر أنه يبتاع ما يريد الآن من كارفور بعد أن كان يفعل الشيء نفسه من سوق زنانيري بكليوباترا يبتسم، لكنه في أحيان كثيرًا يضحك ملء فيه ..
كان معروفًا وسط إخوته بأنه "بتاع السوق" .. هو المسئول عن إحضار متطلبات المنزل من السوق، فهو يعرف الأسعار و يتابعها، و يعرف الباعة الجيدين و الباعة "النص نص"و يعرف الأماكن التي تبيع بأسعار أقل .. كان مساعدًا ممتازًا لوالدته يرحمها الله، أما الآن، فحتى يفعل الشيء نفسه، فعليه أن يتخلى عن سيارته في بداية السوق و ربما قبله، و أن يترجل و يخترق الزحام و يبدأ في "النقاوة" و الفصال و البحث و الفحص، و هو لم يعد يمتلك البال الرائق المستعد لكل هذا التعب و النصب، بالإضافة إلى عدة أمور، ربما أهمها أنه لا يستقر في منزله كثيرًا .. ما بين العيادة و الكلية و المستشفيات التي يجري فيها عملية هنا أو هناك .. غالبًا ما يأكل في أي مطعم، أو يبتاع بعض الشطائر يزدردها على عجل، و في بعض الأحيان يظل صائمًا لا يدخل جوفه سوى الماء .. الأهم من هذا كله هو أنه لا يحمل هم أسرة و أولاد و منزل، و لهذا يتصرف بحرية أكبر، ثم إن ما يبتاعه لا يشكل سوى النذر اليسير .. بعض الأشياء التي اعتاد طعمها و لا يجدها خارج هذا السوق العملاق ..
وضع سيارته بعد لأي و جهد على الطريق المؤدي إلى كارفور إنطلاقًا من محطة مصر و انطلق يمضي الوقت في الاندماج مع نسمات الأحلام المنبعثة من السماعات، ينقر مع النغم تارة و يصفر تارة، و يصمت تارة معيدًا التفكير فيما حدث اليوم ..
عندما هبط من سيارته بعد أن وجد لها موضعًا "بالعافية"، نظر حوله و صفر مندهشًا و قال:
- أمال مين اللي فضل في البيوت إذا كان كل دول هنا ؟
اتجه للداخل و هو يتوقع زحامًا أسطوريًا قياسًَا على عدد السيارات الواقفة بالخارج .. هناك بالطبع من أتوا في المواصلات العامة .. أخذ واحدة من عربات التسوق و انطلق يضع ما يريد .. كان يتحرك على مكث و كأنه يمتلك اليوم بطوله، رغم أن الساعة تشير إلى الثالثة و الثلث، و هو ما يعني أنه لو استمر على هذا المنوال فسيصل إلى بيته في الواحدة صباحًا من اليوم التالي .. هو بالطبع لا يحمل هم العيادة، فاليوم إجازة نظرًا لاضطراره إلى ذلك بسبب اجتماع مجلس القسم، لكن ليس هذا هو سبب تمهله .. هو بالفعل مستمتع للغاية بما هو فيه .. هذا الكم الضخم من المنتجات حوله، ينظر و يتفحص، و يرى ما لا يراه في محلات أخرى .. متعة أن تتعرف على الجديد، حتى لو كان مجرد بضاعة لن تتعامل معها أو تشتريها .. إنه الفضول ليس إلا ..
بينما هو في مشيه الهاديء هذا، إذ به يسمع صراخ طفل يشق سمعه كأنه طلقة مدفع، و هو الشعور نفسه الذي شعر به من كانوا حول الطفل .. الطفل لم يعط إنذارًَا من أي نوع، بل انفجر – حرفيًا – في البكاء على الفور دون مقدمات ..
دنا منه زكريا يسأله ما يبكيك، إذ وجده وحيدًا ليس حوله من يشعر المرء إنهم من عائلته، أو هو يعرفهم و يعرفونه، فقدر أنه فقدهم في هذا الزحام الشديد، و هو أمر متكرر الحدوث، إذ كثيرًا ما يسمع نداءات بهذا المعنى في السماعات الداخلية للسوق .. دنا منه و سأله برفق و قد وجد إلى جواره سيدة تحاول تهدئته:
- في إيه يا حبيبي .. ماما فين ؟
لم يكن الطفل يرد سوى بكلمة واحدة "بدّي أمي .." و بلهجة تمزج ما بين المصرية و الشامية، ما جعل زكريا يقول:
- و كمان مش من هنا .. حلاوتها أم حسن ..
ثم هبط إلى مستواه مرة أخرى و قال:
- طب تعالى يا حبيبي نروح ندوّر عليها ..
- أمي قالت لي ما تمشي مع حدا ما تعرفه .. بدّي أمي .. عاوز ماما ..
طفل عنيد، لكن من الواضح أنه تائه بإهمال الأم و ليس عن قصده هو، فحديثه يكتسي بمسحة من تعقل غريب على من هو في سنه .. ارتفع صراخ الطفل مرة أخرى و فشلت السيدة التي كانت إلى جواره في تهدئته، فقالت:
- في إيه يا أستاذ .. ما تشوف حل، و لا شوف حد من الأمن ..
كان يبحث بعينه علّه يلتقط هذه الأم الملتاعة التي تبحث عن طفلها، فيما اجتذب صراخ الطفل عددًا من رواد المكان، و فردًا من الأمن أو ربما هو أحد العمال ليس إلا .. قال:
- تايه ؟
- أيوه .. و دماغه ناشفة مش عاوز يتحرك غير مع أمه ..
لم يكد الرجل يهبط على ركبتيه ليتحدث إلى الطفل، إلا و فوجئ بالطفل ينطلق نحو سيدة من بعيد و هو يصرخ فرحًا، و هي بالمثل، فابتعد من التفوا إذ شعروا أن الأمر قد انتهى و أن الطفل قد وجد ضالته، و قد انتفت الإثارة التي توقعوها من الموقف .. حتى تلك الآنسة التي توقفت تحاول تهدئة الطفل رحلت هي الأخرى، في رد فعل تعجب له زكريا، إذ توقع أن تقف و تقابل الأم، و لو حتى لتوبخها على تركها طفلها في مثل هذا المزدحم – كعادة الإنسان منا، يسلخ أخاه كأنه معصوم من الخطأ – هذا إن لم تتحدث إليها مادحة نفسها و أنها وقفت إلى جواره و أنها حاولت تهدئته و .. و .. و .. لكن يبدو أنها لا تهتم بشيء من هذا ..
الوحيد الذي بقي هو زكريا، ليقوم بالدور الذي توقعه من تلك الآنسة التي رحلت .. بالشق الأول منه تحديدًا .. لكنه فوجئ بشيء ألجم لسانه تمامًا، حتى بدا التعبير المرتسم على وجهه شديد البلاهة، لكن الحق يقال بأن الموقف كان مدهشًا، بل لا نبالغ لو قلنا فوق حدود الدهشة نفسها ..
***

21.9.09

بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل السادس / الجزء الأول

الفصل السادس – دوائر متقاطعة

أغمض جمال عينيه في إرهاق واضح، و فرك زاويتي عينيه بعد أن خلع نظارته الطبية، و حاول الاسترخاء بعد أن أرهقه هذا العميل المستفز و كاد يورطه في جنحة سب و قذف، رغم ما يمتاز به من هدوء فطري، تمتاز به عائلته كلها، بالإضافة لما أسبغته عليه مهنة المحاماة من برود أعصاب ..
أرخي ظهره على المقعد العملاق الذي ابتاعه خصيصًا لمثل هذه المواقف، و هو يستمع لضربات حسان على لوحة المفاتيح صانعًا معزوفة شنيعة ناشزة، لكنه يحبها رغم كل هذا، فهي السبيل الوحيد لكتابة مذكراته القانونية ..
اعتدل فجأة و أمسك سماعة الهاتف و طلب رقم فاروق، و انتظر حتى أتاه صوت السكرتيرة الحسناء – دائمًا هن حسناوات، هو وحده اختار حسان بصلعته المثيرة للانتباه لأنه يريد "حمار شغل" أولاً و قبل كل شيء .. قالت:
- عيادة د. فاروق صبحي .. مين معايا يا أفندم ؟
- د. فاروق موجود ؟
- أقول له مين ؟
- قولي له جمال .. جمال المحامي ..
غابت دقائق استمع بعدها لصوت فاروق:
- يا هلا يا جيمي .. إيه الدخلة الرسمي دي ؟
- إزيك يا فاروق .. عاوزني أقول لها إيه يعني ؟ .. جيمي ؟
ضحك فاروق ثم قال:
- أنت أخبارك إيه ؟ .. لسه ماناوتش ؟
- علشان كده باتصل بيك .. مش حينفع نروح أول سبتمر زي كل سنة .. رمضان بقى ..
- و هو كذلك .. تحب ..
قطع حديثه قول جمال:
- معلش دقيقة واحدة .. هناء بتتصل ..
ثم كتم السماعة بيده، و استدار يجيب على هاتفه المحمول الذي باغته برنته تلك:
- السلام عليكم .. إزيك يا هناء ؟
- بخير .. قول لي .. أنت فين دلوقتي ؟
شيء ما في لهجتها أشعره بالقلق .. رد:
- في المكتب .. في حاجة ؟
- طب ممكن تجيلي على مستشفى السلامة الجديدة .. في الأزاريطة ..
ازداد شعوره بالقلق .. قال:
- إيه .. حمدي حصل له حاجة ؟
- لا لا لا .. حمدي بخير .. بابا هو اللي بعافية شوية ..
- خير ؟
- خير إن شاء الله .. بس هو ..
أخذت نفسًا قصيرًا كأنما تستجمع شجاعتها لتلقي له بالخبر دفعة واحدة:
- بابا عمل حادثة ..
شعر كأن قلبه يتواثب .. حادثة في السادسة و الستين .. فليدعُ الله أن يخرج أباه منها قطعة واحدة ..
قال:
- أنا جاي حالاً .. مسافة السكة ..
ثم انتقل لفاروق و قال:
- فاروق .. أنت وراك حاجة دلوقتى ؟
سمع ضحكته مع قوله:
- حنطلع ع المصيف و لا إيه ؟
- كنت عاوزك معايا في مستشفى السلامة الجديدة ..
زال الضحك من صوت فاروق و قال:
- خير ؟
- والدي عمل حادثة و لسه هناء مبلغاني دلوقتي .. حتلاقيني هناك ..
- قدامي حالتين حأخلصهم و أكون عندك ..
- بس أوعك تكلفتهم .. مالهاش لزوم السربعة ..
رغمًا عنه ضحك فاروق، و قال:
- لا، اطمّن .. اتكل أنت و أنا حأحصلك ..
وضع جمال السماعة في مكانها و استجمع شتات أمره، ثم أخرج مفاتيح حجرته و وضع هاتفه المحمول باستعجال في جيبه، ثم خرج مغلقها وراءه، و انطلق نحو الباب مباشرة، إلا أنه تذكر حسان الذي يجلس يكتب المذكرات القانونية في حجرته، فعاد و قال:
- خلص، و قفّل، و امشي ..
ثلاث كلمات قالها لخصت كل ما أراد، و الحق أنها ليست بلاغة، بل هو الموقف وحده .. لغته العربية ليست في الحضيض، لكنها من ذلك النوع الذي تضعضع من كثرة كتابة المذكرات القانونية بلغتها الملتوية ..
اعتاد كثيرًا أن يصدر مثل هذه الأوامر إلى حسان، و ربما اختاره لأنه من ذلك النوع الذي لا يسأل كثيرًا .. بالطبع لم يفته أن يغلق باب حجرته جيدًا، لأنه رغم ثقته في حسان – و إلا ما ائتمنه على أسرار مكتبه و عملائه و على مكتبه كله – لا يزال ماثلاً في ذهنه قصة صديق له، صيدلاني، سرق أحد العاملين في صيدليته أوراقًا و كشوفًا مالية، من تلك الفئة التي لا تقدم للضرائب، و الذي يعني وقوعها في أيديهم قضية تهرب ضريبي تسد عين الشمس .. المهم أن هذا الشخص سرق المستندات، من مكتب صديقه داخل الصيدلية، لأنه – صديقه – كان يتصرف بسذاجة، باعتبار أن "الدار أمان"، فإذا به يجد هذه الكارثة، و التي تبعتها أخرى في صورة محاولة ابتزاز صريحة .. الأوراق مقابل مائة ألف جنيه عدًا و نقدًا ..
كان يأخذ جانب الحذر تجاه حسان، و أصبح بعد سماع هذا أكثر حيطة .. لا يريد بعد كل هذا العمر أن يتهمه أحد العملاء بخيانة الأمانة أو ما شابه .. هو لا يريد، و لا يقبل، و سيفري كل من يتسبب في هذا ..
لم يكن هذا ما يفكر فيه عندما انطلق بسيارته المنضغطة في بعضها البعض، أو بتعبير زكريا "وشها ف قفاها مش باين لها راس من رجل" .. هيونداي جيتز صغيرة صفراء فاقع لونها لا تناسب سنه و مهنته، لكنها تناسب طبيعته الملول فيما يتعلق بالبحث عن مكان كبير مناسب للسيارة كل صباح و مساء .. على كل هناك واحدة عندما يرتحل هو و الأسرة .. هيونداي أيضًا من الطراز العائلي التي تسع الجميع ..
لم يكن يفكر لا في حسان و لا الأوراق و لا أي شيء من هذا .. كان كل تفكيره منصبًا على الإجراءات القانونية التي سيتخذها و المسارات التي سيتبعها، و الاحتمالات المتوقعة و .. و .. و ..
كان يلقب في مستهل عمله كمحام أنه "يلعب بالبيضة و الحجر" .. بيضة و حجر ؟ لو أردنا الدقة لقلنا مزرعة بيض نعام و جبالاً من الحجارة .. كان في بعض الأحيان يقول مازحًا إنه لولا الحياء و مخافة أن تشطبه النقابة من سجلاتها، لكتب على لافتة مكتبه "أخصائي تخليص تجار المخدارت، و مسجلي الخطر" .. كان لا يتورع عن استخدام أي وسيلة ممكنة للوصول للهدف، و لم يكن يرفض أي شخص يتقدم له .. ربما كان قدوته في هذا هو أستاذه الذي شرب منه المهنة، و الذي كان في الوقت نفسه – و يا للعجب – سبب عدوله عن كل هذا الضلال ..
كان حادثًا مروريًا عاديًا، و كان المصاب هو أستاذه .. سيارة مسرعة يقودها شاب مستهتر في طريق هادئ في بقعة أهدأ، و الشاهد الوحيد هو رجل عجوز لم يختر الله وجوده في هذه اللحظة وحده دون كل خلقه إلا ليثبت لذلك الثعلب القانوني أنه يمهل و لا يهمل .. كان الشاهد الوحيد هو الرجل الذي جرده هذا المحامي من أهليته للشهادة في قضية انقضى عليها سنة، و حكم فيها بالبراءة لموكله المذنب، و كان هذا الرجل العجوز هو شاهد الإدانة الوحيد، و بلعبة قانونية و ببعض من التزوير، أصبح هذا الشخص المسكين، الذي لم يرد إلا أن يفي بالقسم و ألا يكون ممن كتم الشهادة "و لا تكتموا الشهادة و من يكتمها فهو آثم قلبه"، غير أهل للشهادة .. ها قد أصبح هذا الرجل ذاته .. بشحمه و لحمه و عظمه و شيبته التي حفرتها السنون .. أصبح هو الشاهد الوحيد على هذا الحادث، و هو الوحيد الذي يستطيع أن يذكر أرقام السيارة، لكنه و بكل بساطة لا يصلح .. !
كأنما زلزله ما سمعه من أستاذه، فأمضى أسبوعًا كاملاً صامتًا .. يتحدث القليل، و يأكل القليل، إلى أن اتخذ قراره أن يدمر كل البيض، و ينثر كل الحجارة، و أن يجلعها نظيفة حياته، فهؤلاء لا يأخذ منهم أتعابًا، بل جمرًا من نار ..
أخذ يفكر في كل ما يتعلق بحادثة والده، محاولاً إبعاد ذهنه عن والده ذاته .. والده في السادسة و الستين، و لن يتحمل .. لا يريد أن يقضي تلك اللحظات حتى يصل للمستشفى في هلع لا مبرر له عندما يجد أن الأمر أبسط مما صوره خياله، و لا يريد أن يضرب أخماسًا لأسداس و يذهب به الشيطان كل مذهب .. فليبقه بعيدًا حتى يراه رأي العين، و بعدها فليختر الانفعال الأصوب ..
غارقًا في أفكاره، و ماذا فعلت هناء و حمدي، و إلى أي مدى سارت إجراءات الشرطة، لم يستمع إلى رنين هاتفه المحمول إلا عندما بلغ مقطعًا عالي الصوت في نغمة الرنين .. انتبه إليه و ظنها أخته تارةً أخرى تطلعه على تطور مفاجيء، فإذا به يجد المتصل هو فارس، فانعقد عقله و لسانه معًا من الدهشة، إذ لم تكن من عادة فارس على الإطلاق أن يتصل به مباشرة على هاتفه المحمول، إلا إذا كان الأمر جد خطير ..
- آلو .. السلام عليكم .. أيوه يا فارس ..
- و عليكم السلام .. أنت في المكتب ؟ .. و لا شكلك في الشارع ..
- في العربية .. عندي مشوار كده في الأزاريطة ..
لم يشأ أن يزعجه بمسألة والده، إذ استشعر في صوته قلقًا خفيًا، من ذلك النوع الذي تتحسسه في صوت الشخص و نظرات عينيه، لكنك لن تجد ما هو أبعد من هذا من التعبير ..
- فين في الأزاريطة ؟ .. لازم أشوفك ضروري و دلوقتي ..
تمامًا كما قدر ..
- في مستشفى السلامة الجديدة ..
- يا ستار .. خير ؟
- والدي بعافية حبتين و رايح أزوره ..
- أنا آسف يا جمال .. بس فعلاً الموضوع ما يتأخرش .. مسافة السكة أكون عندك ..
و أغلق الخط، ليشعر أن الهدوء الذي كان يمني نفسه به قد انقلب رأسًا على عقب و في أقل من ساعة ..
***
في خطوات واسعة قطع فاروق المسافة من باب المستشفى إلى حيث قالوا إن السيد/ عبدالغفار جمال يرقد، في انتظار تقرير الأشعة المقطعية، و فيما هو يبحث بعينيه عن رقم الحجرة وجد جمالاً يقف مع أحد أطباء المستشفى و بجواره أخته هناء و زوجها حمدي، و قد بدا عليهم الاهتمام الشديد، و بالتفاتة عفوية التقطه جمال فقطع حديثه مع الطبيب و مضى إليه و هو ما زال في بداية الممر، فيما أكمل الطبيب شرحه لأخته ..
- ها طمنّي .. إيه الأخبار ؟
- أبويا شكله كويس .. مفيش ارتجاج الحمد لله .. شوية رضوض و كسر في القصبة ..
بدا الاهتمام على وجه فاروق، ما دفع جمال ليقول في قلق:
- إيه .. في إيه ؟ .. مالك كشّرت ليه ؟
أشار فاروق إلى الطبيب الذي كان جمال يقف إلى جواره:
- دا دكتور العظام ؟
- طبيب الطوارئ .. كان بيقولنا إيه اللي حصل بالظبط ..
اتجها إليه و فاروق يسأل:
- و قال إيه ؟
- شكله كلام ما يطمنش .. حاجة عن كسر في القصبة من فوق و المفصل و مش المفصل .. الصراحة أنا مشتت مش قادر أركز و أفهم منه كويس ..
بلغا الطبيب الذي كان يجيب على بعض أسئلة هناء، فالتفت إليهما و جمال يعرفهما بعضهما البعض:
- دكتور فاروق صبحي، استشاري جراحة العظام .. دكتور عبد التواب يوسف، طبيب الطوارئ هنا ..
لا يدري فاروق أقصد جمال هذا أم لا، لكن ذكر كلمة الاستشاري تعفي فاروق من الحرج الذي يتمثل في أن طبيبًا يأتي من الخارج و يتولى الحالة، كأن طبيب المستشفى "طرطور" أو غير أهل للثقة .. فارق الخبرة يمنحه هذا دون حساسيات، أو بأقل ما يجب منها ..
- أهلا و سهلاً ..
قالها فاروق و أخذ عبد التواب جانبًا و بدأ يستفسر عن الحالة و ماذا حدث و الأشعة و و و، و فيما هم في ذلك وصل تقرير الأشعة المقطعية، فالتقطه فاروق يقرأه باهتمام ثم قال:
- تشخيصك مظبوط جدًا يا دكتور .. مع الأسف مظبوط جدًا ..
أخذ عبد التواب التقرير يقرأه سريعًا ثم قال:
- على كل أظن إن العمليات دي بقت أبسط دلوقتي .. المهم أهل العيّان و رد فعلهم ..
- شكرًا جزيلاً يا دكتور .. أظن إني حأتولى مهمة أهل العيّان دي ..
انصرف عبد التواب إلى حجرة عبد الغفار يعطي بعض التعليمات للممرضة، فيما شهق فاروق بعمق قبل أن يتحدث إلى الثلاثة محاولاً شرح ما حدث:
- ببساطة و دون الدخول في تفاصيل طبية مرهقة .. عضمة القصبة فيها من فوق كلكوعتين فيهم مسطحات بتعمل مع ما يقابلها في عضمة الفخذ مفصل الركبة .. الكلكوعة الخارجية انفصلت نتيجة الكسر، و دا معناه حاجتين .. أولاً إننا لا زم نعمل عملية تثبيت بمسامير، ثانيًا إن المفصل دخل في اللعبة، و كل ما نخلص أسرع، كل ما النتايج تكون أحسن ..
- طبعًا يا دكتور .. لو تقدر تعمل العملية إمبارح يكون أفضل ..
قالتها هناء فابتسم و أكمل:
- إن شاء الله .. بس على كل أحب أطمنكوا .. العملية بسيطة جدًا .. دقيقة بس بسيطة .. مع التقدم دلوقتي نتايجها بقت ممتازة ..
- آمين ..
جذبه جمال من يده خفية فانسحبا ليسأله جمال:
- الكلام دا بجد و لا بتطمّن أختي و خلاص ؟
- على فكرة أختك أعصابها أنشف منك، حتستحمل الحقيقة حتى لو مُرّة يعني .. و بعدين أنا مش من أنصار إني أخبّي أي حاجة عن العيّان أو أهله ... العملية فعلاً بسيطة ..
ثم ابتسم و هو يضيف:
- بس محتاجة واحد علاّمة يعملها ..
و غمز لجمال بعينه فقال:
- يا روقة يا خويا يعني هو أنا جبتك ليه ؟ .. تبيع فجل ؟
- طب يالا نشوف الحاج و اطمن عليه ..
- السلام عليكم ..
كانت من فارس الذي وصل من خلفهما فاندهش فاروق فيما استقبله جمال قلقًا قائلاً:
- و عليكم السلام .. خير ؟
- والدك أنت عامل إيه الأول ؟
- والدي بمب .. طلعت بسيطة الحمد لله ..
- هو أصلا إيه اللي حصل ؟
هنا تدخل فاروق:
- حادثة و كسر بسيط كده ..
اندهش فارس لحيظات ثم لم يلبث أن قال:
- ما قلتش ليه يا جمال ؟ .. بتقولي بعافية شويتين ؟
- ما حبتش أقلقك .. شكلك قلقان أصلاً ..
- يعني أنت عارف إن فارس جاي ؟
- اتصل بيّا و قال عاوزك في حاجة ما تتأجلش .. خير ؟
زفر فارس زفرة حارة و قال:
- ا ..
ثم كتم ما أراد ثم تابع:
- الأول نطمن ع الحاج بعد كده نتكلم ..
دخل الثلاثة حجرة والد جمال، الذي بدا أفضل حالا منه عندما جاء منذ ساعتين .. مع سنه المتقدمه تصبح الهمسة كارثة، فمال بالك بحادث سيارة، و هو أصلاً على شفير هشاشة عظام ؟
تبادلوا كلمات الاطمئنان و الاطمئنان المضاد و بعض الدعاء بالصحة و تمام الشفاء ثم صمتوا ليتحدث عبد الغفار لابنته قائلاً:
- خلصتي موضوع المحضر يا هناء ؟
- لأ .. و معلش يا بابا، مش حتتنازل ..
- يا بنتي ..
قالها متنهدًا كأنما يقول "أنا مش حمل مناهدة .. اعملي اللي باقولك عليه"، فتدخل جمال في الحوار:
- بص يا بابا .. أنا عارف إنك مش عاوزها تتبهدل و أنها ست و العيال و الكلام ده كله .. بس لازم تتأدب ..
- آه .. لازم .. دي وليّة بجحة .. راجعة بضهرها إذ فجأة و عاوزة تلبّسنا الغلط .. و بتغالط تلات شهود يسدوا عين الشمس .. و بعدين لسانها طويل و أبيحة يعني .. دي مستفزة ..
تحدثت هناء كأنها "ما صدقت" .. فتابع جمال:
- أنا حاسيبها الليلة دي .. تتقلب ع الجنبين في الحجز وسط الستات القبحا بجد، علشان تعرف تغلط إزاي بعد كده .. و بكره أتنازل عن المحضر ..
- و لزومها إيه البهدلة دي بس يا ابني ..
- قرص ودن يا بابا .. مجرد قرص ودن ..
تنهد عبد الغفار مرة أخرى و كأنما أتعبه كل هذا، فقال فاروق:
- ريّح نفسك أنت يا حاج .. ابنك محامي عُقر و حيخلص الموضوع كما ينبغي .. المهم راحتك أنت ..
- راحة ؟ .. هما عاوزين يريحوني ..
لم يرد أي منهم، إذ واصل عبد الغفار:
- يا ابني أنا رجل جوه و رجل بره .. مش عاوز في آخر دنيتي أطلع منها و أنا مبهدل حد ..
- هي بهدلة بالضلال .. غلطت يبقى تاخد جزاتها، و بعدين قلت لحضرتك .. بكرة الصبح حاتنازل .. العوض على الله مش عاوزين منها حاجة ..
أشاح عبد الغفار بيده ما معنا: "اعملوا اللي أنتول عاوزينه .. تعبتوني"، ثم استأذن جمال ليخرج مع فارس و فاروق فيما بقيت إلى جواره هناء و زوجها ..
قال جمال:
- ها طمّني يا فارس .. خير ؟
- إن شاء الله خير .. و لو إني ما أظنش ..
و ألقى إليهما بما لديه، و كان مفجعًا بحق ..
***

18.7.09

بلد الدخان الهابطإلى أسفل - الفصل الخامس

ملحوظة صغيرة قبل البدء: نظرًا لأنني لا أكتب هذه القصة بانتظام، يمكنكم دومًا الرجوع للفصول السابقة بالضغط على "بلد الدخان الهابط إلي أسفل" الموجود إلى جوار مقسمة هياسيًا مع في نهاية كل تدوينة .. أتمنى لكم قراءة ممتعة، و أتمنى منكم التماس العذر لي، فالإلهام ليس بيدي ..


الفصل الخامس – القطرنجي

وقف عبد الواحد أمام المرآة ليصفف شعره، و قد بدا مظهره في تلك البزة البيضاء غريبًا، لتناقضها الصارخ مع سواده النوبي، أو لنقل السوداني، الذي ينم عن أصوله ..
كان أبوه سودانيًا أبًا عن جد، و إن كان هذا الجد قد عاش في مصر، قادمًا مع أحد حملات الخديوي إسماعيل لتحرير إفريقيا .. أتي مع عائلته كاملة، إذ استشعر حلاوة و رغد العيش في مصر، مقارنة بحال السودان وقتها، لكنه لم يختلط، أو لنقل يتزوج، من المصريات، بل استمر النسل سودانيًا حتي أتي والد عبد الواحد، هازم الشيخي، ليقرر أن التي أحبها لا بد أن يتزوجها، حتي و لو كانت من المريخ ..
و كانت قصة زواج والديه عجيبة حقًا، لا تختلف في شيء عن تلك القصص الرومانسية الكلاسيكية، فرغم أن الشيخي كان رجلاً متفتحًا، إلا أنه ورث عن أبيه مسألة الحفاظ علي النسل السوداني، و كأنهم آخر السودانين علي الأرض، لكنه في النهاية رضخ لمطلب ابنه، خاصة بعدما لمس نبل من أحب ..
ضبط ياقة المعطف بعد أن رضي عن مظهره العام، و ذهب متعجلاً ابنته التي غابت منذ نصف ساعة لترتدي ملابسها، و هو ما يعني أن نصف ساعة أخري قد بقيت قبل أن تنتهي ..
- يا ست علياء أبوس إيدك .. إحنا كده حنتسحر مش حنتعشي ..
- خلاص يا بابا ..
- خلاص ؟ .. يعني لسه قدامك كمان تلات ساعات كده ؟
فوجيء بها و هو ينهي كلامه تخرج من حجرتها و قد انتهت من ارتداء ملابسها، فتراجع مندهشًا من انتهائها مبكرًا علي غير العادة، و قال:
- غريبة .. أنت متأكدة إنك مش عيانة .. أنت خلصتي بسرعة يعني ..
- يعني هو أنا اتاخر مش عاجب .. بدري برضه مش عاجب ..
- ربنا يديم عليك نعمة السرعة .. يالاّ يا ستي ..
قال جملته الأخيرة و هو يرتدي حذاءه، و وقف أمام المرآة للمرة الأخيرة منتظرًا إياها، و إن هي إلا ثوانٍ حتي كانت علي أهبة الاستعداد، فتأبط ذراعها و قال و هما يتوجهان نحو الباب:
- اللي يشوفنا دلوقتي يقول الراجل اتلحس في مخه و اتجوز تاني ..
- ليه يا بابا .. هو حضرتك معتبر قرار جوازك من ماما كان لحسان في المخ ؟
انطلقت ضحكته تدوي في فراغ سلم البناية، بينما ابتسمت هي في خبث طفولي .. امسك نفسه "بالعافية" ليقول:
- يخرب عقلك .. حتوديني ف داهية بكلامك ده ..
ثم تمالك نفسه قليلاً ثم أكمل:
- يعني أنا بغازلك و بقول كلمتين حلوين، تقومي تقولي كده ؟ .. ماشي يا ستي ..
استدعى المصعد، و سرعان ما استقرا في سيارة عبد الواحد البيجو 307 التي – و لا تفتح فاهك اندهاشًا – جاءته كهدية من أحد عملائه، لكنه يعتبرها دومًا جزءًا من أتعابه عن العملية التي أنجزها لهذا العميل .. ربما ترى الأمر مبالغًا فيه، لكن مليارديرَ يتعامل في ثلاثة مليارات كأموال سائلة تحت يده، بالإضافة للأصول التي تقدر بمليارات أخرى، لن تمثل سيارة هامر 1 مشكلة بالنسبة له، فما بالك ببيجو 307 ؟
كانا متوجهين لأحد المطاعم للاحتفال بتخرجها .. "العفريتة الصغيرة" كبرت و تخرجت من كلية الفنون الجميلة، قسم ديكور داخلي .. يا لله ! لقد مضى العمر كأنه فرس عربي يسابق الزمن نفسه !
كان ينظر إليها من وقت لآخر و هو يقود السيارة، و هي تنظر إليه متعجبة .. لم تكن تدري أنه يتذكر أيام طفولتها و صباها .. أول مرة تجري في المنزل، و لهذا سماها "العفريتة" .. "ألا يا أخي كل الأطفال يبدأوا يمشوا .. دي بدأت تجري .. عجايب !" ..
كان يتذكر عندما حصلت على الشهادة الإبتدائية، و كيف كانت سعادتها، رغم أنها كانت ستنتقل للمرحلة الإعدادية في مجمع المدارس الذي تنتسب إليه .. عندما حصلت على الإعدادية كانت كارثة بيئية .. لثلاثة أيام لم يأكلوا شيئًا سوى المعجنات: كعك، فطائر، مكرونة، و تقريبًَا كل ما يمكن أن يصنع من الدقيق .. لقد سعدت بها و قررت أن تطبخ كما لم تطبخ من قبل، و أن يأكلوا من صنع يديها .. لم يكن الطعام سيئًا، لكنه كان كثيرًا، لدرجةٍ جعلتهم يكرهون أن تفرح ثانية ..
كاد الأمر أن يتكرر مع الثانوية العامة .. عنـ ..
"بابا .. خلي بالك"
صرخت علياء مخرجة عبد الواحد من صومعة ذكرياته، لتنبهه إلى كارثة كانت على وشك الوقوع .. ضغطة قوية على المكابح، و جهد عظيم من السيارة حالا دون وقوع حادثة سير لذلك الوسيم الأشقر، الذي يبدو هو الآخر كالغارق في الذكريات ..
الحق أن الخطأ لم يكن خطأ عبد الواحد وحده .. الرجل أيضًا لم يكن على الأرض .. كان تائهًا في ماضيه يغوص و يسترجع شيئًا من ذكرياته التي تبدو مؤلمة مقبضة، فتعابير وجهه لا تنبأ إلا بذلك ..
صرير العجلات على الطريق و صراخ الناس جعل الرجل يتنبه إلى أن شيئًا ما يحدث، و إن هي إلا ثوان حتى أدرك أن هذا الشيء هو أنه كاد أن يدهس دون أن يدري .. كانت دهشته عظيمة، و كأنه يتعجب من نفسه كيف يكون غارقًا في الخيال لهذا الحد، و إن هي إلا ثوان حتى كان لدهشته سبب آخر ..
سبب بزغ عندما تلاقت عيناه و عينا عبد الواحد الذي نزل ليطمأن، فإذا بعينيه تحمل دهشة لا لهفة و رغبة في الاطمئنان، و إذا بالرجل يصرخ:
- مين .. عبد الواحد ؟
- بندر ؟
و تعانق الاثنان ..

***
رغم الموقف المتفجر الذي وقعت أحداثه منذ دقائق، إلا أن الهدوء هو الذي خيم على سيارة عبد الواحد، و بندر يستقر بجواره، فيما جلست علياء على الأريكة الخلفية تنظر إلى الاثنين اللذين لم يتبادلا كلمة واحدة - رغم أن عناقهما ينبئ بمعرفة سابقة طويلة و حميمة - و لا حتى كلمة ترحاب أو استرجاع ذكرى، حتى إن والدها لم يعرفها به أو يعرفه بها ..
لم تكن تعرف أن الاثنين يتذكران أحداث مضت دونها تسعة عشر عامًا .. كان عبد الواحد حينذاك قد تخرج لتوه من كلية الهندسة، و ما زال بندر في عامه الأخير، يحاول أن يخرج بأقل الخسائر، عندما حلّت "الطامة الكبرى" ببندر، و لكن قبل هذه الطامة الكبرى، حلّت به طامة صغرى، و كأنه موعود بهن، و كانت السبب في أن يتعرف بندر بعبد الواحد ..
هو بندر الحسن القطرنجي، من حلب في سوريا، و يدرس في مصر، و لأن مصر هي دومًا بلد السهولة المفرطة، كان لزامًا عليه أن يحصل على شهادة تفيد بإنه رضع لبن العصفور مخلوطًا بمح بيضة الديك ليستطيع الالتحاق بكلية الهندسة بجامعة الإسكندرية .. كان لزامًا عليه أن يدفع رشوة هنا و هناك لتسير أموره بسرعة و سلام، رغم أن المفروض أن تمر كنسمة الصباح، لكن كونه عربيًا أجنبيًا أعطى موظفي الجامعة و الكلية حقًا مكذوبًا في ابتزازه، و هو لا يعلم و لا يدري، و يظن أوراقه بالفعل ناقصة، من فرط ما أوهموه به ..
بينما كان عبد الواحد ينهي أوراقه لينتقل للفرقة الأولى بعد أن أنهى السنة الإعدادية، وجد زميلاً له قد أتى معه للغرض نفسه يصافح بندر و يعانقه، و يقدمه له ثم يسأله:
- و أخبار الورق إيه ؟
- هيك مصاري بتندفع ما شفت بحياتي .. يا خي لو بأريد أدرس بأمريكا بأدفع أقل من هيك ..
تعجب عبد الواحد، و أحب أن يعرف ما الأمر، فأخبره بندر .. طمأنه، و طلب منه بياناته، و لم يكن هذا إلا لأن خال عبد الواحد، منصور هاشم، يعمل في إدارة الجامعة، و يستطيع أن ينظر الأمر عن كثب، و قد كان ..
و عندما ذهب بندر بعد يومين، بناء على مكالمة من عبد الواحد يخبره أن يذهب و ينهي أوراقه، وجد أن الطاقم الإداري، أغلبه، قد تغير و أن أوراقه قد أخذت دورتها بسلاسة منقطعة النظير، و انتهى كل شيء ..
توطدت علاقتهما أكثر فأكثر، و ظل بندر يذكر هذا المعروف لعبد الواحد حتى أتى الوقت الذي زوّج فيه هذا المعروف بأخ له .. كان هذا في العام الرابع و الأخير من الدراسة الهندسية .. مشروع التخرج هو البوتقة التي يصهر فيها كل طالب خلاصة فكره .. تعبه و عرقه و سهره و عصير مخه، كل هذا يخرج في هذا المشروع ..
الحق أن بندر و مجموعته أتوا بمجهود جبار .. أن تخرج للنور سيارة تعمل بالتحكم عن بعد، ليس بأجهزة و لكن بصوتك، في مصر و في نهاية الثمانينات، فهذا هو الإعجاز بعينه، إذا وضعنا في الاعتبار أنك مجرد طالب، و لست باحثًا في أحد المراكز البحثية .. الحق أيضًا أن الفضل بعد الله سبحانه و تعالى يعود و لا شك لبندر، الذي استطاع أن يحضر القطعة الرئيسة في العمل بواسطة عمه الذي يعيش في الولايات المتحدة، و لهذا كان ألمه عظيمًا ..
أتته مكالمة بندر في ساعة متأخرة:
- أيوه يا بندر .. خير ..
- مو خير .. مو خير بنوب ..
- يا ستار يا رب .. احكي لي يا بني ..
- لازم أشوفك ..
و رغم أن الوقت يقترب من منتصف الليل، قابله عبد الواحد مفجوعًا و مفجوءًا في أحد المطاعم، ليجد عينه منتفخة من أثر السهر أو ربما البكاء، و عندما تحدث إليه بندر أدرك السبب ..
مشروع تخرجه سُرق .. الأستاذ الدكتور المبجل نسبه لنفسه في أحد الدوريات العلمية، قبل أن يتقدموا به رسميًا، ما جعلهم يبدون كمن أخذوه منه لا العكس .. سهر الليالي ضاع هباءً منثورًا ..
- ما ضاعش يا بندر .. استنى مني تليفون ..
و انصرفا، عبد الواحد لمنزله يفكر، و بندر لمنزله يجتر همّه .. بعد أربعة أيام، اتصل عبد الواحد ببندر يخبره أن الأستاذ منصور هاشم في إدارة جامعة الإسكندرية يطلبه بشكل شخصي ليروي له ما حدث .. كان بندر يائسًا، لكنه أدرك أن عبد الواحد يساعده بصدق، و لم يشأ أن يضيع فرصه، علّ فيها الخروج ..
ذهب إليه و شرح له الأمر بالتفصيل:
- معاك دليل ؟
- التصميمات، و البروفات، و ورق استلام هالقطعة .. ها اللي جبتا من عمي بأميركا .. كل شي معانا ..
- قدم لي شكوى رسمي، و سيب الباقي على الله ثم عليّ ..
نظر إليه بشك، و إن كان قد شعر في لهجته بصدق .. مر أسبوع، و إذا بعبد الواحد يتصل:
- أبشر يا سي بندر .. فُرجت ..
- عن جد ؟
أخبره أن شكواه كانت القشة التي قضمت ظهر البعير .. هذا الأستاذ الجامعي "سوابق" إن صح التعبير، و قد ضُجت إدارة الكلية من كثرة شكوى الطلبة منه، و أتت شكواه لتنهيه بالقاضية ..
- و الله ما أنا عارف كيف باتشكر لك .. أي شي بيكون أقل من هيك خدمة ..
- كفاية الفرحة في عنيك .. إحنا صحاب ياجدع ..
ربت عبد الواحد مبتسمًا على فخذ بندر الجالس إلى جواره و قال:
- و الله بعودة الأيام يا بندر ..
و ركن السيارة في موقعها المعهود كلما أتى هذا المطعم، و هبط الثلاثة ممنين أنفسهم بسهرة ليس لمتعتها حدود ..
***
- لسه قاعد لوحده ؟
- لسه .. قاعد لوحده و بالعافية بياكل .. أنا ..
سكتت سامية لحظة ثم أضافت بانزعاج:
- أنا قلقانة عليه قوي .. ساعات باعدي أسمعه بيتكلم، أفتكره بينادي عليّ .. أدخل ألاقيه بيكلم ماما، و يسكت كأنه بيسمع الرد منها ..
- برضه مابيقولش إيه اللي حصل ؟
- و لا كلمة .. كل ما أكلمه يقول لي الإشارة جت و مش باقي غير دقتين ..
- إشارة إيه بس و دق إيه ..
قالها محمود و هو يضرب كفًا بكف منزعجًا و قلقًا مما وصل إليه حال حميه، و قعد إلى جوارها بعد أن خلع نعليه، و قال:
- أكيد شاف منام .. شاف حاجة تربط ما بين حامد و حاجة وحشة هو خايف منها .. بس إيه اللي يخليه مصدق و عايش دور الاكتئاب دا قوي كده ؟
كادت أن ترد لكنه سبقها بالكلام:
- هو نام ؟
- ما أظنش ..
- طب أنا داخل له ..
توجه إلى حجرته يغير ملابسه قبل أن يتوجه إلى حجرة حميه، فيما جلست سامية تكمل ما بيدها من أشغال إبرة ..
- السلام عليكم يا عمي .. إزيك دلوقتي ؟
نظر إليه سعد هائمًا كأنما هو في عالم آخر .. تحركت شفتاه ثقيلتان متمتمًا بكلام لم يسمع منه محمود حرفًا، فقال:
- لغاية إمتى يا عمي ؟
جلس إلى جواره و أكمل:
- لغاية إمتى الحالة دي ؟ بس لو تقول لي فيه إيه، يمكن نقدر نحل الأمر سوا ..
تحركت شفتا سعد بالكاد ليخرج صوته مبحوحًا من صمت طويل:
- ماحدش يقدر يعمل حاجة .. دا قضا ربنا ..
- و نعم بالله .. طب حتى نفهم .. يمكن نساعد حتى بكلمة .. يا عمي إحنا مش قادرين نفرح حتى بحامد اللي لسه ما بقى لوش غير أربع أيام بس على وش الدنيا ..
- حامد ..
خرجت الكلمة من بين شفتيه كأنها نار محرقة، فانقبض قلب محمود و سأل:
- ماله ؟
أغمض سعد عينيه و بدأ يحكي بصوت خافت:
- كانت لابسة نفس هدومها في آخر يوم .. الجلباب الأخضر و الطرحة البني .. قلتلها قومي اعملي الشاي يا زينب قالت لي سلامة الشوف .. أنت مش واخد بالك إنك نايم .. قلت طب إزاي باكلمك و أنا نايم، قالت لي لأنك جاي كمان دقة و كمان دقة .. بنتك بتولد يا سعد و ولد ولدك عليه بطشة حمرا .. وحمة حمرا على كتفه اليمين كيف الدم .. لو انولد ولد حتقابلني بعد دقتين، و لو بنت يبقى دقة .. أنت مش بتخطرف يا خويا .. قوم شوف بنتك .. قلت لها بنت مين و ولد مين .. أنت فين يا زينب .. و راحت ..
كان محمود يستمع إليه شاعرًا بالقلق، و إن خالطه شعور بالفخر لصحة استنتاجه، لكن طرح هذا جانبًا إذ أكمل سعد:
- يا محمود أنا خلاص .. دقة و اتنين و مش حابقى معاكم .. عارف يعني إيه تعرف إنك حتموت قريب ؟
وجد محمود مدخلاً مناسبًا ليخرجه من هذه الحالة، فقال:
- خلاص يا حاج أنت قلتها .. دقة و اتنين .. فرضًا كان الكلام ده صح، أنت عارف الدقة دي قد إيه ؟ .. يمكن أسبوع .. يمكن شهر .. يمكن سنة .. حتعيش سنتين بحالهم في الاكتئاب ده ؟ و بعدين اللي عارف إنه خلاص حيموت، و لو إن ربنا بيقول في كتابه "و ما تدري نفس ماذا تكسب غدًا، و ما تدري نفس بأي أرض تموت" .. اللي عارف إنه خلاص حيموت كمان شوية يقعد في الحالة اللي أنت فيها دي ؟
أخذ نفسًا عميقًا، و قال:
- أنت يا عمي راجل بتصلي و حجيت قبل كده و اعتمرت، و أحسبك عند الله من المؤمنين .. المؤمن يعني مؤمن بقضا ربنا و بحكمه، و أنت كده و العياذ بالله كأنك بتعترض .. حزنك كأنك بتقول ليه يا رب خلتني أموت دلوقتي ؟ .. لو فرضنا صحة الكلام ده، مش الأحسن إنك تقرب من ربنا أكتر .. تصلي أكتر .. تصوم أكتر .. يمكن يكون ربنا بيحبك بعت لك إشارة علشان تبقى آخر أيامك في طاعته، بدل ما يفاجأك الموت و أنت غافل .. و بعدين ممكن يكون كل ده وهم .. ممكن تكون من الشيطان ..
- و الوحمة ؟
- يا عمي .. لا يسمّعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ..
كان محمود يشعر مع كل كلمة يقولها أن حماه يلين شيئًا فشيئًا .. و إن هي إلا لحظات حتى كانت سامية تسمع صوت أبيها يقول مجلجلاً:
- يا سامية .. جهز لي ميّه اتوضا، و كلمي درية تيجي هي و شعبان ..
و لم تتمالك إلا أن تزغرد معلنة انتهاء غمة كادت – دون مبالغة – أن تعصف بهم شر عِصفة ..
***
كانت الكلمات تخرج من فمه، في أحسن الأحوال، بذيئة بذاءة فاحشة .. قال:
- بص ابن الـ ... دا يا إما تلموه يا إما حالمكوا يا ابن الـ .. أنت و هو .. أنا مش ناقص كلام و تلسين .. اللي فيّ مكفيني و زيادة، مش ناقص .. زي ده يطلع لي كل يوم و التاني في الجرنان الـ .. ده و يلقّح بالكلام .. فاهم يا شردي ؟
خرجت الكلمات مبحوحة بعض الشيء من حلقه و قال:
- ماشي يا باشا .. أوامرك ..
جفف شردي عرقه بعد أن أغلق الخط بكثير من "مع السلامة يا باشا" و "في رعاية الله يا باشا" و "ربنا يديم عليك نعيمه يا باشا" .. يا باشا يا باشا .. الباشا وكيل وزارة الإسكان، و لو أن طبيعة عمله تحولت إلى اللاإسكان، و تحول إلى وكيل نفسه لا وكيل الوزارة ..
الغريب أن طبيعة عمله و منصبه لا يكفلان له هذا النفوذ، بحيث يسعى شردي المسكين إلى استعطافه و منحه الباشاوية في الذهاب و العودة، لكن الحقيقة أن نفوذه يتخطى منصبه بكثير .. علاقات واسعة، و صلات الخطوة التالية فيها هي صلة الدم و الرحم، مع الكثيرين و الكثيرين من أصحاب النفوذ و الكلمة المسموعة النافذ في هذا البلد ..
كان عادل عبد الحليم منخرطًا حتى قمة رأسه في معظم القضايا التي أخرجت محمد إبراهيم سليمان من الوزارة .. أخرجته من الوزارة ؟ هذه الجملة غير دقيقة، فهي تعني زوال النفوذ، و أمثال هؤلاء لا يزول نفوذهم .. موقعه فحسب هو الذي يزول و يتغير، أما النفوذ فلا ..
أيًا كان الأمر، كان هو الوسيط في أغلب الصفقات التي تمت، و التي خرج منها مجمعة بمبالغ مريحة جدًا، لكنه نجح ببراعة أن يستل نفسه من القضية دون أن تمسه كلمة، فأصدقائه من أصحاب النفوذ ما زالوا يحفظون له قطع الأراضي التي سهل لهم الحصول عليها بثمن بخس يكاد يقترب من اللاشيء ..
الآن يأتي هذا الصحفي المشاكس العنيد ليفتح الملف من جديد، رغم أن جهاز الكسب غير المشروع برأ ساحة الوزير و أغلق هذا الباب، لكن من الواضح أنه من عشاق تكسير العظام، و رجاله سيتكفلون بهذا بشكل أو بآخر ..
شردي، خادمه الأمين كالكلب، سيتكفل بهذا، فهو عمله الذي يتقاضى عنه راتبًا ضخمًا، بالإضافة لراتبه الأساسي كرئيس لأمن شركة الخدمات البترولية .. بعد هذا الدرس، لن يجسر أن يفكر في أن يفتح فمه ..
- الكلب ابن الـ ..
قالها محاولاً نسيان كل شيء، في سبيل الحصول على ذهن صاف لحفل الليلة ..
***

23.11.08

بلد الدخان الهابط إلي أسفل - الفصل الرابع/الجزء الثاني


الفصل الرابع - عسل و علقم

تمطأ محمود متثاءبًا بعنف، فليلته كانت مرهقة رغم كل ما فيها .. نظر بجانبه فلم يجد سامية .. أطلق أنفه فاشتمت رائحة بيض يُقلي، فقال و قد بدا الضيق علي وجهه:
- ليه كده يا سمسم .. قلت لك بحبه مسلوق ..
تمطأ مرة ثانية و هو يقوم عن السرير مرتديًا "الشبشب أبو وردة"، الذي اشتراه هكذا خصيصًا ليذكره بوالده، الذي لطالما صنع لوحات مميزة بهذا الشبشب في أماكن متفرقة من جسده يعتبر قفاه أخفها وطأة و أكثرها مناسبة للذكر، و رغم هذا فلم يكنّ له إلا كل الحب، بالرغم من عنفه الذي يقول عنه دومًا "العنف الحنون"، الذي كان بالفعل يعبر عن عاطفة ليس لها حدود ..
فرك عيناه محاولاً استيضاح ملامح الحجرة التي كانت تموج في ضباب النوم و الصباح و عماص عينه الذي يكفي لصنع تمثال بالحجم الطبيعي لفيل إفريقي ! .. وصل إلي المطبخ قائلاً وسط تثاؤبه:
- صباح الخير يا سامية .. إزيك ؟
التفت إليه التفاتة سريعة عادت بعدها إلي صينية "حلاوة الدقيق" التي كانت تصنعها قبل أن ترد:
- صباح النور يا حبيبي .. نمت كويس ؟
قطعت تثاؤبه ضحكة خرجت كأنها طلقة من مسدسه الميري، و قال:
- بمب .. ما نمتش أحسن من كده من اتنين و أربعين سنة ..
ظهرت علي وجهها حمرة الخجل، و غيرت الموضوع بسرعة قائلة:
- تحب الشاي علي طول و لا بعد الفطار ؟
- لا بعد الفطار .. النهار ده نوبتجيتي بليل .. الوقت معانا براح ..
تركها و دخل الحمام ليتوضأ ثم يصلي، بينما ركزت انتباهها كله في إعداد الإفطار، و إن لم تستطع أن تحول فكرها عما حدث في الفترة السابقة .. هي تعلم أن زواجها لم و لن يكون عاديًا، فهي تشعر دومًا أنها تزوجت بقتل خميس .. تشعر أنها تزوجت محمود لتقتل به خميس، رغم أنه لا أحد من حقه أن يحاسبها علي طموحاتها في أن تتزوج من شخص تشعر معه أنها تشرفت بالزواج منه .. ثم إن عيد زواجها ارتبط للأبد بوفاته .. حتي و هو يموت لم يشأ أن يتركها .. يا للأقدار !
بدأت في تحويل الأطباق إلي طاولة الطعام شاعرة بوقع أقدام محمود خلفها، الذي جلس علي المائدة في انتظارها، ليبدأ في وضع أول لقمة في فيه بعد أن جلست، لكنها كانت لقمة لم تكتب له، إذ رن جرس الهاتف قاطعًا الصمت و الشاعرية بصورة مزعجة جعلته يتأفف و هو يقوم ليرد علي الهاتف، و قد منع سامية من أن ترد عليه، إذ شعر بالخطورة من وراءه، واضعًا في ذهنه أن مصيبة قد حدثت في العمل، و هو و إن أصاب في أنها مصيبة، لكنه أخطأ في المكان ..
لم يكد يرفع السماعة حتي أتته صرخة انتفض لها، و انتفضت لانتفاضته سامية، قبل أن يستجمع نفسه و يتكلم:
- مين معايا ؟
- محمود .. الحقني يا محمود ..
و أكملت المتحدثة الصراخ قبل أن يسألها:
- فيه إيه يا درية ؟ إنتي بتولدي ..
- الواد حينزل .. شعبان في الشغل و قافل الموبايل .. آه ..
- أنا جاي حالاً .. امسكي نفسك ..
وضع السماعة متجهًا كالطلقة إلي حجرته ليرتدي ملابسه قائلاً:
- أختك بتولد .. البسي بسرعة ..
تراجعت سامية كأنما صدمها الخبر الذي جاء علي حين غرة، إذ كانت درية في منتصف الشهر السابع، لذا كانت ولادتها مفاجئة بحق، لكنها انتشلت نفسها من صدمتها و ذهبت من فورها لترتدي ملابسها علي عجل في حين كان محمود قد انتهي من ارتداء حذائه، و لما وجدها ستأخره قال:
- ابقي حصليني .. البنية بتتقطع هناك ..
و انطلق من فوره ناهبًا درجات السلم فيما تعجلت هي في ارتداء ملابسها لتلحق به و تركب معه السيارة، التي كان التعبير الأدق لوصفها هو أنها "تطير طيرانًا منخفضًا" ..
و رغم أن منزله يقع في الشاطبي، و منزل درية في سبورتنج، إلا إنه استطاع - ربما لأن الوقت كان مبكرًا بما يكفي - أن يصل في عشر دقائق لم تتخط بالتأكيد حاجز الخمسة عشر .. كان يلهث من فرط الانفعال، إذ جاءه صراخ درية مريعًا ينبئ عن آلام شديدة لا تحتمل، لذا كان يتحرك كأنما وصل بمولد كهربي، و لذا استطاع أن ينزل بها من شقتها في الطابق السادس إلي سيارته التي ترك سامية فيها في أقل من عشر دقائق لينطلق مرة أخري إلي الشاطبي حيث مستشفي الأطفال الأشهر في الإسكندرية ..
و خلال الطريق لم تكف سامية عن طلب شعبان علي الهاتف المحمول الذي كأنما يتعمد توريطهم فيصر علي أن يظل مغلقًا، لكنه تفضل بعد عذاب و سُعُر أن يدوي بجرس لم يطل ليأتي بعده صوت شعبان:
- السلام عليكم ..
- و عليكم السلام .. سيب اللي في إيدك و حصلنا علي الشاطبي .. درية بتولد ..
جاءه صراخ درية الأسطوري ليجعله ينتبه إلي أن الأمر أخطر من مجرد ولادة مبكرة، إذ تبدو مبكرة و متعسرة تعسر رجال الأعمال في سداد ديونهم للبنوك، و هو ما جعله يرد باقتضاب لا يخلو من توتر:
- أنا جاي حالاً .. كلموا الدكتور عبد الفتاح ..
لم يكن هناك جدوي فعلية من هذه التوصية، إذ قام محمود بالفعل بالاتصال بالدكتور عبد الفتاح صالح طبيب أمراض النساء و التوليد و الذي يعمل في مستشفي الشاطبي، و هو الذي خرج محمود و محمد شعبان للنور علي يديه، و قد تولدت ألفة و ما يشبه الصداقة بينه و بين شعبان و درية، ما جعله أول من يتبادر إلي ذهنه - شعبان - عندما علم أن زوجته ستلد و أنها في طريقها لمستشفي الشاطبي ..
عبر محمود بوابة المستشفي و قد أغلق الخط مع عبد الفتاح لتوه، و الذي أخبره أنه متواجد في العيادة الخارجية، لكنه سيأتي حالاً لعنبر الولادة ليري درية، التي لم تكف عن الصراخ لحظة، و كأن الطفل علي عنق الرحم أو قد خرج بالفعل ..
فيما هي داخلة راقدة علي "التروللي" قابل محمود و سامية سعد، والدها، و رغم أن الموقف لا يحتمل التوقف للدهشة، إلا أنهما بالفعل لم يتمالكا نفسيهما، خصوصًا و أنه لا درية قد اتصلت به تخبره بأنها تلد، و لا شعبان قد فعل، لكنهما تجاوزا هذه النقطة سريعًا عندما رأيا عبد الفتاح مرتديًا زي العمليات منتظرًا درية التي كانت هي الأخري تطير طيرانًا منخفضًا ..
- أهلاً و سهلاً يا عمي .. أخبارك إيه ..
- طمني يا بني الأول .. درية كويسة ..
- إن شاء الله حتبقي كويسة يا بابا .. دكتور عبد الفتاح هو اللي حيولدها ..
لم يجب والدها أو يرد بشيء، بل نظر بشيء من القلق - الغريب بالنسبة لثالث ولادة - نحو الباب الزجاجي الكبير "وحدة العمليات .. ممنوع الدخول لغير العاملين" ..
- بس غريبة يا عمي إنك جيت مع إن ما حدش قال لك ..
- إيش أدراك ..
جاء رده غريبًا ساهمًا و نظرة شرود تصبغ عينيه، فلم يشأ محمود أو سامية أن يعاودا الحديث - رغم قلقهما - منتظرين خروج درية بالسلامة، أو خروج الطبيب مبتسمًا تلك الابتسامة العذبة التي تجعلك تطمئن له من أول نظرة ..
و بينما الترقب و القلق كأنهما رداءان قد كسوا ثلاثتهم من أعلاهم لأسفلهم، إذا بصرخة تشق طول الوحدة، كأنها تصدر من حلق شاب في العشرين لا من طفل في أول ثلاثين ثانية من حياته .. !
و كأنما هو جبل كان علي صدر سعد، تنفس والدها الصعداء و هو يري عبد الفتاح يخرج كأن البدر قد أضاء وجهه، و هو يقول:
- أنتوا أكلتوا عليّ حلاوة القمرين اللي فاتوا .. بس القمر ده مش حاسيب حقي فيه .. مبارك عليكم جميعًا ..
- و درية ؟
- بمب .. بسم الله ما شاء الله يا حاج بنتك حمالة قسيّة .. رغم إن الولادة متعسرة و قبل ميعادها لكن الحمد لله قدرنا نخلصها كلها طبيعي من غير فتح ..
و استئذن في الانصراف لكنه رجع ليقول:
- بالمناسبة .. طبعًا الولد ابن ستة و نص، لذا لازم حيقعد في الحضّانة شوية ..نصيحة شوفوا له مكان تاني لأن المستشفي هنا ما تسرش لا عدو و لا حبيب .. و بالمناسبة، تقدروا تشوفوا مدام درية لما يبلغوكوا إنها وصلت العنبر ..
- إن شاء الله يا دكتور .. ألف شكر ..
و انصرف، فيما توجه الثلاثة نحو شعبان الذي أتي جريًا فيما يبدو من لهاثه و كان أول سؤال:
- إيه الأخبار ؟ .. طمنوني ..
- التالتة تابتة يا حلو ..
قالها محمود و هو يشد علي يد شعبان الذي اتسعت ابتسامته، و ما هي إلا قمة جبل الثلج الذي يرقص في داخله سعادة و فرحة، لكنه سرعان ما ارتسمت علي وجهه علامات القلق و هو يسأل:
- و درية ؟ .. دول ست شهور و نص ..
- دكتور عبد الفتاح بيقول إنها كويسة، و كلها شوية التعب بتاع الولادة و تبقي كويسة .. لما يبلغونا إنها وصلت العنبر نقدر نشوفها ..
أتاهم سعد الذي كان يسأل عن وحدة المبتسرين، و التي قادهم إليها ليروا الطفل الذي أخذ شهرين و نصف علاوة علي عمره بمجيئه المبكر هذا !
بينما هم في الطريق همس محمود في أذن سامية:
- أبوكي ماله ؟ .. في حاجة مش طبيعية ..
- مش عارفة، بس أكيد حنعرف .. أبويا ما بيعرفشي يخبي كتير ..
في الوقت نفسه كان حديث هامس بين سعد و شعبان:
- بص يا بني .. عاوز تشوف لي الولد علي كتفه اليمين من ورا وحمة حمرا و لا لأ ..
- هو علي ضهره وحمة ؟
- علمي علمك .. أنا أصلاً ما شفتوش .. بس بص عليه و قل لي، يطمن قلبك ربنا ..
لم يرد، لكنه هز كتفه بمعني "عجبًا"، لكن "عجبا" الحقيقة ارتسمت علي وجهه عندما خرج من وحدة المبتسرين ليطمأنهم ..
قال:
- عرفت منين يا عمي ؟
- يعني موجودة ..
- أيوه .. بس مادام ما شفتوش، عرفت منين ؟
- هو إيه ده اللي عرفه منين ؟ .. ما تفكوا الألغاز دية ..
قالتها سامية و هي محتارة فيما يقوله كلاهما، لكن حيرتها تلاشت مع تعبير الهلع الذي ارتسم علي وجهها و هي تري والدها يقع مغشيًا عليه بين يديها ..
***
يمكنك أن تعرف أين زكريا إذا عرفت في أي يوم من أيام الأسبوع أنت و في أي ساعة، لأنه يسير علي جدول دقيق كأنه التزام عسكري بالنسبة له، و ما دام اليوم هو الاثنين و الوقت ظهرًا، لذا يمكننا التخمين بأنه آت من "العامود" بعد أن زار والدته و ذاهب إلي عيادته في كفر عبده ..
كان يزورها كل اثنين في تلك الأيام الخوالي التي كانت فيها بيننا علي الأرض، و عندما اختارها الله لينتهي أجلها منذ ثلاث سنوات ظل محافظًا علي نفس الموعد من كل أسبوع، لكن مع تغيير مكان الزيارة ليس إلا .. و رغم أنها سنوات ثلاث، إلا أنك تستطيع أن تكتشف بسهولة أنه لم ينسها و لن ينساها .. هناك دومًا هذه الدمعة التي تجري و تفر بالرغم منه كلما زار قبرها، و التي تجبره أن يرتدي نظارة شمسية حتي لا يري أحد ما يجري، لأنه في النهاية خجل يمشي علي قدمين، أو لنكن أدق انطواء يمشي علي قدمين ..
شق صدور المئات، و حاضر أمام الآلاف، و سافر بلدانًا لم يعد يحصي أسماءها من كثرتها، لكنك ببساطة تستطيع أن تؤكد أنه منطوٍ، لا يحب الحديث كثيرًا عما بداخله، بل لا يحبه إطلاقًا إلا في أضيق الحدود، و إذا تحدث فبأعقد ألفاظ الضاد و أشد تراكيبها غموضًا .. عندما كان شابًا في بداية حياته الجامعية و مع انبهاره باللغة اللاتينية قرر أن يتعلمها، و قد فعلها و أصبح يحمل شهادة معتمدة بإجادته لللاتينية .. الغريب أنه لم يفعل هذا لشيء إلا لـ "يبعبع" بما في جوفه - علي حد تعبيره - دون أن يفهمه أحد ..
ركن سيارته بسهولة، فهو لا يخشي ألا يجد مكانًا، لأنه محفوظ في هذا المرأب أسفل البناية التي فيها عيادته .. أغلق كل شيء، بما فيه لطيفة التي كانت تصدح "حبك عادي" و صعد و ما زال اللحن يتردد في أذنه مع صفيره المنتظم .. هو و محمود مشهود لهما بالأذن التي تعشق الموسيقي، فهو بمفرده يمتلك مكتبة من الموسيقي الصافية التي قلما تجدها عند أي أحد، و ليس ينافسه في هذا سوي محمود، الذي وجد معه في الشبكة العنكبوتية كنزًا عملاقًا بكل ما تحمله الكلمة من معني ..
صعد الدرجات القليلة إلي الطابق الخامس بخفة متحمسة، و دخل مباشرة إلي حجرته من باب جانبي يوصله بها دون أن يمر بالمرضي و ازدحامهم، كي يظل حتي أول مريض صافي الذهن، ما لم يعكر صفوه شيء من البداية قبل أن يأتي العيادة، و حتي في هذه الحالة، فهو يقلل احتمالية زيادة توتره بابتعاده عن الاحتكاك معهم قبل أن يبدأ العمل .. خلع معطفه و وضعه في مكانه فيما امتدت يسراه لتضغط زرًا في المكتب أتي حنفي علي إثره فبادره قائلاً:
- السلام عليكم يا رئيس باشتمرجية إسكندرية .. ها، إيه الأخبار ؟
- و عليكم السلام .. نحمده يا دكتور ..
- في حد بره ؟
- لسه الحجوزات ما جتش .. بس في مدام كبيرة و آنسة صغيرة بيقولوا إنهم واخدين ميعاد من حضرتك بس مش لاقي اسمهم في الأجندة عندي ..
- اسمها إيه ؟
- مدام إنعام يا فندم ..
قطّب حاجبيه محاولاً تذكر الاسم، فبادره حنفي ببقيته:
- مدام إنعام السويركي ..
قال و كأنما يتذكر الاسم من مجاهل كالهاري:
- يااه .. دخلها طبعًا ..
تحدثت إليه في لحظة منسية من عمره و هو يوشك أن يدخل في سبات عميق، لذلك لم يكن غريبًا أن يطير الاسم من رأسه، و ربما لولا "السويركي" هذه لما تذكرها أصلاً، هذا بالإضافة إلي أنها اتصلت يوم الخميس، و قد مر يومي السبت و الأحد دون أن تأتي، و هذا ما أطارها فعليًا من رأسه ..
دخلا بينما كان منهمكًا في بعض الأوراق الخاصة بالجامعة، و عندما نطقا التحية رفع رأسه كي يرد:
- و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته .. اتفضلوا ..
لكنه في الواقع استغرق وقتًا أطول من اللازم كي يفيق من الصدمة التي تلقاها لتوه عندما نظر إليهما، فقد وجد سيدة في الخمسين أو هي تقترب من الستين من عمرها، وقور و تبدو عليها سمات الارستقراطية، و وجد أن الآنسة الصغيرة هي بعينها سارة ! ..
استغرق وقتًا جعل حملقته تثير الدهشة و الشك، و لولا أنه تمالك نفسه و عاود النظر إلي الأوراق قائلاً:
- ثواني و أكون معاكم ..
لوقع في مأزق حقيقي ..
كان ما تبادر إلي ذهنه لحظتها هو هل تتذكر هي شيئًا، و إن تذكرت، فكيف ستكون المعاملة ؟ .. أنهي ما في يده من أوراق، و إن كان لم يضع فيها نقطة حبر، بل اتخذها ذريعة ليستعيد رباطة جأشه التي انحلت و تبعثر معها توازنه، ففي النهاية لم يتوقع أن يصطدم بها بعد هذه الفترة البسيطة، بل لم يتوقع أن يصطدم بها علي الإطلاق ..
تنحنح ثم قال:
- آسف علي الانتظار، بس شوية أوراق لازم تخلص قبل ما أنساها .. أهلا بيكي يا افندم ..
- الله يخليك، و آسفة علي إزعاجي لحضرتك يوم الخميس، بس كنت فاكراك إجازة زي كل الدكاترة ..
- و لا يهمك، لو محتاجاني في أي وقت .. علي الرحب و السعة دايمًا ..
- الله يخليك ..
أزاح الأوراق جانبًا و أخرج مفكرة صغيرة، أتي فيها علي أول صفحة بيضاء و كتب التاريخ و الاسم بسرعة فيما سألها:
- ها، قول لي يا ستي .. خير إن شاء الله ؟
- حكم السن بقي يا دكتور ..
- ما تقوليش كده .. أنتي لسه شباب ..
كان يحاول جاهدًا أن يركز في ما تقوله حتي يعطي تشخيصًا صحيحًا، رغم أن سارة الجالسة أمامه كانت كالمواد الكاوية، تجعله في حالة عدم استقرار، و كلما التقط كلمة مفتاحية في التشخيص ليكتبها في مفكرته إذا بها تطير منه، و بالكاد استطاع أن يجمع ما يستطيع به أن يعطي تشخيصًا سليمًا، و هو بالطبع يوقن أنه فقط الكثير أثناء شروده و عدم تركيزه هذا ..
كانت تعاني من ضيق كلاسيكي في الشرايين التاجية، و حسب وصفها، فإن الحل الأمثل لها هو جراحة ترقيع للشريان المصاب، و الذي ضُج بالشكوي التي طالت ..
قال:
- حضرتك استشرتي دكتور قبل كده، أو دخلتي مستشفي نتيجة نوبة من نوبات التعب الشديدة دي قبل كده ؟
- لا .. هي في الفترة الأخير بقت عنيفة، و ما بقتشي أقدر أعمل مجهود زي ربع الأول حتي، لكن قبل كده .. لا، ما رحتش لحد .. هي الحالة خطيرة و لا إيه ؟
تراجع في مقعده استعدادًا لشرح قد يطول:
- لا لا، بسيطة إن شاء الله .. حضرتك عارفة طبعًا إن الـ ..
و بدأ في إلقاء محاضرة مصغرة عن القلب و الشرايين التاجية، و كيف أن أحد الشرايين نتيجة الضغط المرتفع أو مرض السكر المصابة بهما قد ضاق تجويفه و لم يعد يمد القلب بما يكفي من غذاء، ما يجعله لا يتحمل أي مجهود زائد، و كلما تقدم الأمر زاد الضيق، و قد يصل للإنغلاق الكامل الذي قد يتسبب في النهاية في ذبحة صدرية و موت جزء من عضلة القلب ..
- و علشان نتأكد، حاطلب من حضرتك فحوصات بسيطة و أشعة تعمليها، و علي أساسها نقرر حنعمل إيه إن شاء المولي ..
- و لازم آجي ؟
- بالتحاليل ؟ ... لا لا، ممكن أي حد يجيبهم .. لكن ممكن طبعًا أطلبك مرة تانية اتآنس بيكي و افحصك بناءً علي اللي النتايج و نقرر حنعمل إيه إن شاء الله ..
- ألف شكر يا دكتور .. و آسفة علي تعبك ..
- أنتوا جايين من عند الحبايب .. محمود ده عشرة عمر .. ابقي وصلي له السلام ..
- إن شاء الله .. استئذن أنا ..
- اتفضلي ..
و فيما هما خارجتان شعر بالدهشة، إذ لم تتفوه سارة بكلمة، بل كانت تنتقل بنظراتها بين والدتها و بينه و تومئ هنا و هناك، أو تحملق فيه و هو يتحدث كأنها تحاول التركيز، لكنها لم تتفوه بكلمة، و لا حتي التحية، دخولاً أو خروجًا، لكن دهشته لم تكن بالتأكيد هي الشعور الوحيد الذي اكتنفه ..
شعر بالحيرة أمام تخبطه و صدمته، و لماذا فعل فيه مرآها كل هذا رغم أنه موقف عابر و مخجل لو أردنا التعبير الأوقع و الأصدق .. هل أحبها ؟ لا، دعونا لا نبالغ، لنقل هل أعجب بها ؟ .. و ما هو هذا الموقف الذي حدث حتي يشعل فتيل مثل هذا الشعور ؟
وصل تفكيره لهذه النقطة فابتسم ابتسامة ساخرة و قال:
- منك لله يا سمعة .. كله منك .. ما كنت دخلت الحمام التاني علي طول .. لازم الخوتة يعني ؟
دخل حنفي ليخبره أن المرضي بدأوا في التوافد، ففرقع رقبته و قال:
- يالا يا وحش .. استعنا ع الشقا بالله ..
و بدأ يومًا آخر من أيامه التي يتصل فيها الكشف حتي يقضم ظهره ..
***


19.10.08

بلد الدخان الهابط إلي أسفل - الفصل الرابع/ الجزء الأول

الفصل الرابع – عسلٌ و علقم


انطلق جرس الباب معلنًا عن قدوم زائر جديد، فنهض حسين ليفتح الباب، في اللحظة التي انطلق فيها إسماعيل ليفعل الشيء نفسه، قائلاً:
- خليك أنت يا حسين .. أنا اللي حافتح ..
تراجع حسين علي الفور معاودًا مشاهدة التلفزيون، الذي لم يرفع عينه عنه أصلاً، حتي و هو ذاهب إلي الباب الذي يفصله عن حجرة المعيشة ممر ليس بالقصير ..
" عيل عفريت .. ما صدق" .. قالها قبل أن يتنحنح فاتحًا الباب بابتسامة عريضة مستقبلاً جمال الذي ابتدأه قائلاً:
- السلام عليكم أهل الدار .. كيف الحال ؟
شد علي يده و أدخله ائلاً:
- أنت داخل فيلم فجر الإسلام ؟ .. و عليكم السلام يا سيدي ..
- لأ حلوة دي ..
ثم نظر حوله قائلاً:
- علي فين العزم ؟
- علي أوضة المكتب .. تعال من هنا ..
و أخذه عبره ممر طويل، لا يكشف شيئًا من المنزل، يقود الزائر مباشرة إلي حجرة المكتب ..
- عاجبني قوي الممر ده .. بيفكرني بالسراديب بتاعة العصور الوسطي ..
- ما أنت عارف .. الزوار للشغل كتير و ما أحبش أنهم يكشفوا البيت طالع داخل ..

و صلا حجرة المكتب، فأشار إلي جمال بالجلوس، فيما ذهب هو ليخبر زوجته ببعض الأشياء، تاركًا جمال يتأمل قليلاً في اللوحات المعلقة علي حوائط حجرة المكتب، و التي كان إسماعيل يجمعها من مختلف المعارض و المزادات، و كانت – بجانب هوايته الأثيرة لجمع الطوابع – تشكل ورمًا في دماغه، كما كان يسميها، لا يرجي برؤه .. لم تكن لوحات لكبار الرسامين، بل إن أغلبها غير موقع، لكنها كانت كلها عن الطبيعة، ما يجعل حوائط الحجرة كتلة من الشاعرية ..
- يا هلا .. منور يا جيمي ..
- دا نورك يا إسماعيل .. أخبارك إيه ؟
- الحمد لله الذي لا يحمد علي مكروه سواه ..
- كنت سامعك متنرفز خالص النهار ده في التليفون ..
و كأنما استعاد إسماعيل كل غليانه في الصباح، فانطلق يتحدث:
- ولاد الهرمة .. حاسس إني بتقلب في المستشفي دي و الله .. تخيل يا جمال لما مستشفي زي "عناية" يبوظ فيها جهاز أشعة علشان التكييف عطلان .. ده تسميه إيه ؟
- عطلان ؟ .. يعني إيه عطلان ؟
- يعني مش شغال .. Not Working .. لا يعمل ..
- ما أنا عارف .. شايفني ساقط ثانوية عامة ..
زفر إسماعيل، و كأنما لم يكفه كل ما من الوقت ليصفو، ثم تابع:
- ما هو من غلبي .. قال إيه، مدير الصيانة كل شوية يقول الجهاز يعمل بكفاءة و يصلبت الجهاز و الجهاز يرجع يبوظ و يعطل .. أنت عارف .. اتصلوا بي الساعة تلاتة الفجر و لا ما عارف كام قالوا لي الجهاز بتاع الـ X-Ray بيولع ..
اعتدل جمال في جلسته مفجوعًا و شبه صرخ:
- بيولع ؟ .. بيولع بيولع يعني و لا ..
- لأ بيولع .. رحت لقيت الجهاز محروق .. مهبب بأسود .. و ديني لأنا خارب بيته ابن الرفضي ده ..
صمتا قليلاً، ثم تابع إسماعيل:
- و بعدين ألاقي مدير العمليات بيقولي عاوزين نشتري زفت جفت تاني لجهاز المنظار الجراحي .. لسه متغير من كام شهر .. أتاري بسلامته بتاع المشتريات ورد جفت تاني ضارب و متنيل علي عينه، و مدير العمليات استلم و شغل و ادفعي يا مستشفي .. أنا حاسس إني باتقلب .. باتسرق ..
- حولتهم للتحقيق و لا حتتعامل ؟
- كلهم ع التحيقيق .. لما نشوف آخرتها إيه ..
لحظتها دخل حسين حاملاً أكواب الشاي، فاعتدل جمال مرحبًا:
- يا أهلاً يا حسين يا أهلاً ..
- أهلاً يا عمو .. إزيّ حضرتك ؟
- بخير الحمد لله .. عامل إيه في الإجازة ..
- بالحق لي فيها يومين قبل الدراسة ..
- هما خلاص رسمي ناوين يخلوها 20 سبتمبر ..
هنا دخل إسماعيل في الحوار:
- حاجة عبط يا أخي .. مش عارف إيه الحاجة اللوذعية الذرية اللي خلاص الدنيا حتبوظ من غيرها لو مادخلوش يوم 20 .. ماله بعد العيد .. الدنيا قفلت يعني ؟
- بكمالة الأوضاع المقلوبة .. كبر الـ .. كبر الإيه ؟ .. اسمها إيه يا حسين بتاعة مرجان دي ؟
قال حسين و هو يبتسم:
- كبر الجي و روق الدي يا عمو ..
- آيوه .. هو كده ..
- الجي طرشقت و الدي فرقع يا جيمي ..
هنا وضع حسين الشاي عن يديه و استأذن في الانصراف، فيما قدم إسماعيل الشاي لجمال و معه نسخة من جريدة الدستور التقطها من علي مكتبه، و قال:
- قريت اللي كاتبه فارس النهار ده ..
- و كان لسه فيك دماغ تقرا ..
و أمسك الجريدة و شرع يقرأ ما كتبه فارس تحت عنوان "يا بلاش" في إحدي الصفحات الداخلية .. رشف رشفتين من شايه و هو يعدو بعينه فوق كلمات المقال الألف، و التي لم تتجاوزها أبدًا مقالات فارس، و إن هي إلا دقيقتان حتي أنهي قراءة المقال بنظرة في الفراغ، قبل أن يتجه ببصره إلي إسماعيل قائلاً:
- الكلام دا صحيح ؟
- عرفت عن فارس قبل كده إنه بيبكّش في حاجات زي دي ؟
- فارس بكاش كبير .. بس ..
صمت غير مصدق ما قرأه من لحظات عن أحد فضائح بيع أراضي الدولة الجديدة، و التي أصبحت كتحية الصباح، عادية كأنها الشيء الطبيعي، و ما دونها هو شواذ القاعدة ..
- بس المرة دي العملية بقت بجاحة خالص ..
- بجاحة ؟ .. دي كل حاجة منيلة بنيلة .. عارف يعني إيه متر الأرض بخمسة و سبعين قرش ؟ .. يعني الفدان بتلاتلاف جنيه .. إيه ده يعني ؟ .. فدان أرض بتلاتلاف جنيه، و زكريا و إخواته لما باعوا حتة الأرض بتاعتهم في العجمي باعوها بـ 2 مليون و هي يا دوب ألف متر ..
- الفكرة إنه حياخد الأرض ببلاش و يسقع و بيع .. سقع و بيع .. و الخمسة و سبعين قرش دول حيبقوا سبعتلاف و سبعتلاف و نص كمان ..
صمت جمال مفكرًا بحسرة في ما وصل إليه المآل قبل أن يكمل:
- البلد دي الواحد كل ما يقعد فيها بيحس إنه قاعد وسط عصابة مش بني آدميين .. نهايته ..
وضع إسماعيل كوبه، الذي شربه دفعة واحدة بعد أن برد تمامًا، في الصينية و قام ليأخذ عن جمال كوبه، الذي قال:
- مش عارف يا أخي أنت بتشرب الشاي إزاي كده .. هو بيبس ؟
- يا عمي ..
ثم جلس سائلاً:
- ألا قول لي بقي .. كنت عاوزني في إيه لما اتصلت ؟
- اتصلت ؟
ثم هز رأسه متذكرًا:
- آه .. معلش، الكلام نساني اللي كنت جاي علشانه .. عندي لك خبرين .. واحد حلو، و التاني وحش ..
بدا الامتعاض علي وجه إسماعيل و هو يقول:
- يا ستار .. خلينا نحلي بالحلو في الآخر .. ابتدي بالأنيل ..
اعتدل جمال في جلسته و قال:
- قضية خالك .. التطورات بتاعتها مش في صالحه خالص ..
- إزاي ؟
- دلوقتي الراجل جاره لهف منه ربع فدان ضمها لأرضه و بني عليها، بس خالك معهوش حاجة تثبت إن الربع فدان ده تبعه ..
اعتدل جمال في جلسته صم تابع:
- العقد بتاع خالك مش مسجل في الشهر العقاري، و أنا قلت له أكتر من مرة آخره لما جه باركي علي يارا من اتناشر سنة .. قلت يا حاج سجل الأرض باسمك و ادفع لك إن شالله مليون جنيه، بس حتحمي أرضك ليك و لولادك، بس هو اللي ما سمعش كلامي ..
ظهر الامتعاض و الضيق علي وجه إسماعيل، و تمتم بشيء عن "دماغه الناشفة" ثم نظر في الفراغ قليلاً، ثم التفت إلي جمال قائلاً:
- و الحل ؟
- الحل إنه يسجل .. من هنا لغاية يوم 25 أكتوبر يكون خلص كل حاجة .. و قل له المرة دي حياة أو موت .. يا يسجل يا إما مش حيلاقي الربع فدان و يا عالم إيه بعده ..
أخذ إسماعيل شهيقًا عميقًا و فرك وجهه بيده، ثم قال:
- سيبك م الغم ده .. قلت له أكتر من مرة يسمع كلامك .. قلت له ده كلام محامي مش بياع روبابيكيا .. بس يالاّ، اللي ياكل علي ضرسه بقي ..
- نيجي للخبر الحلو ..
- قول يا شيخ فرحني .. إيه ؟ مصر طلعت أول رائد فضاء و أنا ماعرفش ؟
ايتسم جمال و قال:
- تقريبًا حتطلعه قريب .. الأخبار المرة دي جاية من فرنسا ..
- مجدي ؟
- الله ينور عليك ..
بدا الانشراح علي وجه إسماعيل، فقال:
- الوله ده فين .. بحاول ألقطه بقالي أسبوعين لا بيعد علي شات و لا علي ميل و لا أي حاجة في أي حته .. إيه الحكاية ؟
- أنا لقطته بالصدفة البحتة .. كان صوته نايم، و هو كان فعلا داخل ينام .. بسأله فينك يا راجل، قال لي استني قنبلة حتنفجر في الكام شهر اللي جايين ..
- بتتكلم بجد ؟
- الأدهي إن صوته كان ملعلع .. قصدي يعني كان فيه نبرة سعادة من الصعب تخطئها ..
اتسعت ابتسامة إسماعيل و قال:
- بالك لو الواد ده عملها .. يا نهار أبيض ! .. ربنا يوفقه ..
قال جمال و هو ينظر إلي ساعته:
- آمين يا رب العالمين ..
ثم عدل من جلسته و هو يقول:
- يدوب أنا بقي يا إسماعيل .. عندي شوية مشاوير تانية عاوز أخلصها ..
- يا راجل ما تخليك قاعد شوية .. لسه بدري ..
- عارف إنه لسه بدري بس مضطر .. أشوفك علي خير ..
ودعه علي باب العمارة، و أفكار شتي تتضارب في رأسه، لكن الأكيد أنه لن يبيت ليلته نائمًا ..
***
... تابع بقية الفصل الرابع في البوست القادم
ملحوظة خارج النص: أخبرني بعض المهيسين أن المعدل الذي أكتب به - أو أنشر به - القصة بطيء للغاية و يكاد يكون فصل كل سنة، لكن القصة كما ترون معقدة و طويلة، و هاهو الفصل الرابع ابتلع المشهد الأول منه "بوست" كامل، كما أنني أكتب هذه القصة مباشرة علي المدونة دون إعداد مسبق، بمعني أن القصة ليست مكتوبة علي الورق و أقوم بكتابتها علي المدونة كل فترة، بل هي كلية علي المدونة دون أي نسخ مادية .. أكتبها فصلاً بفصل بعد ترتيب أحداثه في رأسي - و هو ما يستغرق فترة الأسبوع أو اثنين بين كل فصل و الثاني .. كل ما أردت أن أقوله هو صبرًا، و مادمتم تنتظرون القصة بهذه الصورة فهذا يسعدني، لكني اسألكم مزيدًا من الصبر .. و لكم الشكر

7.10.08

بلد الدخان الهابط إلي أسفل - الفصل الثالث

الفصل الثالث - و يفضلها البعض حمراء
أغلق عبد الواحد باب السيارة فيما جلس فاروق أمام المقود في انتظار لحظة الانطلاق، و ما أن تأكد أن عبد الواحد قد استقر مكانه حتي أدار المفتاح منطلقًا من أمام مبني الرقابة الإدارية، بينما قال عبد الواحد:
- تُشكر يا روقة .. الواحد مش عارف يودي جمايلك فين ..
ربت علي ساقه وقال:
- جمايل مين بس يا عُبد .. دا واجب .. بس أنا مستغرب، إزاي أنت سايب الأرض لغاية ما وصلت للمرحلة دي ..
- و حياتك يا فاروق أنا ما عرفتش إلا من أسبوع واحد بس .. الغفير ابن الـ .. و لا بلاش شتيمة بظهر الغيب .. المهم البني آدم ده ما إدانيش خبر إلا من أسبوع .. أنا إيه اللي حيوديني برج العرب في الحر ده ..
- بس ما تخافش .. ما دام محسن باشا قالك الموضوع حيخلص، يبقي إن شاء الله حيخلص .. بس أنت اعمل الورق اللي قالك عليه ..
- يعني أنت مالي إيدك م الراجل ده ؟
- اللي بيني و بينه زي اللي بيني و بينك بالظبط ..
- إيه .. فتيس العربية يعني ؟
و فيما انطلق عبد الواحد يضحك، اعتصر فاروق يده الحرة في غيظ قائلاً:
- يا ربي .. هو إحنا كل شلتنا كده .. دمها شربات خفة قوي كده ..
- ما هو لازم علشان نفك م اللي إحنا فيه ده ..
دار بالسيارة ليرجع إلي اتجاه فيكتوريا - الاتجاه الأصلي الذي يجب أن يسير فيه - قائلاً:
- المهم أنت أخبارك إيه ؟
- الحمد لله ..
- و الشغل ؟
- أنا واخد إجازة النهار ده .. بس الشغل ماشي كويس ..
- إجازة ؟! .. يعني مش حطلعك ع المكتب ؟
- أنا أصلا متقريف م الموضوع ده، و بعدين الموظفين من تلات شهور تقريبًا ما إديتهومش منحة كده زي ما أنا متعود .. قلت أريحهم النهار ده شوية .. أنا بهد حيلهم بجد ..
- يا خويا اللهم لا حسد .. بس الشغل عندك نار ..
- الحمد لله، بس يا ريته جايب همه .. الواحد بيخلص في الشغل .. بيتهلك، و تلاقي في الآخر يدوب مكفي نفسه و العيال بالعافية ..
- آدي حالك و آدي حال البلد .. تعرف تغيره ؟
- نفسي ..
اقتربت السيارة من مصطفي كامل فقال فاروق:
- أنت حتنزل عند البيت .. صح ؟
- آه .. نفسي أأجظ خالص النهارده .. و لا حتي فسحة ..
- ماشي .. يا سيدي ..
و عند مدرسة عبد الله النديم انحرف فاروق مخترقًا شارعها لينزل عبد الواحد قبل نفق مصطفي كامل، لينطلق هو بعدها إلي المستشفي الألماني ليجهز نفسه لعملية تغيير مفصل ركبة "ع الماشي" .. تذكر أول عملية تثبيت بالمسامير أجراها في حياته، و كيف رآها نهاية الكون بدون منازع، لكنها اليوم بالنسبة له كأنها تقليم أظافره ..
- دنيا ..
قالها و يشغل الراديو علي إذاعة الموسيقي طلبُا لبعض الهدوء بعد حرق الدم الذي عاشه منذ ساعة مع عبد الواحد بسبب أرضه - ملكه - التي تكاد تضيع بسبب بعض الحثالة البشرية التي لا تنفك تفسد في الأرض ..
و الحكاية أن عبد الواحد كان قد اشتري قطعة أرض في منطقة برج العرب من أحد أحفاد رجل يوناني يحمل اسمًا يونانيًا معقدًا علي غرار خريستوفليس ديستروتيفيس، و كان هذا الرجل قد اشتري الأرض من هيئة استصلاح الأراضي بعد استيفاء كافة الأوراق و منها، و أهمها هنا و التي هي سبب المشكلة، بيان من هيئة الآثار أن الأرض خالية من الآثار بكافة الصور و أنها لا تخضع لقانون حماية الآثار و إلخ إلخ إلخ ..
اشتري عبد الواحد الأرض بعد التأكد من صحة كافة الأوراق، و سجل الأرض باسمه و انهي كافة الإجراءات بصورة قانونية تمامًا ليفاجأ منذ أسبوع بالحارس الذي عينه علي الأرض يخبره أن عددًا من الأشخاص قد جاءوا بمعدات هدم و هدموا السور الذي أحاط به الأفدنة الأربعة و أحالوه ترابًا و أخذوا عداد المياه و الكهرباء، قائلين أن الأرض تابعة لهيئة الآثار و أن إجراءاتها غير قانونية و .. و ..
زفر ضيقًا و هو يتذكر كل هذا، بينما ينجرف بسيارته في ذلك الشارع الجانبي خلف المستشفي مباشرة "ليركن" السيارة قبل أن ينطلق إلي المستشفي محاولاً تصفية ذهنه كيلا تنتهي العملية بكارثة ..
***
جلست مدام إنعام السويركي علي مقعدها المفضل في الشرفة تتنسم قليلاً من هواء المساء في مثل هذا الجو الحار .. هي تكره الهواء المعلب الخارج من جهاز المكيف .. تراه أشنع اختراع في تاريخ البشرية، إذ يجعل الإنسان كالطعام الذي نخشي فساده فنضعه في الثلاجة، و تفضل عنه - و لو جاء كقذائف اللهب - النسيم الطبيعي ..
جلست ممسكة بهاتفها المحمول تدير أرقامه حتي وصلت لبغيتها، فأخذت شهيقًا عميقًا و هي تتصل بالرقم الذي أرادته قبل أن تزفر و هي تضعه علي أذنها في انتظار الرد ..
- آلو .. مساء الخير ..
- مساء النور .. مين معايا ؟
- أنا مدام إنعام عمة سامية ..
- آسف .. مش واخد بالي ..
- سامية مرات محمود صاحبك .. لحقت تنساهم يا دكتور زكريا و لا إيه ..
- يا أهلاً و سهلاً .. شرفتينا يا أفندم .. آسف جدًا علي عدم الانتباه، بس ضغط الشغل كان جامد شوية النهار ده ..
- أرجو ما أكونش أزعجتك ..
- لا أبدًا .. أأمري ..
- أنا كنت عاوزة استشير حضرتك استشارة طبية .. أقدر آجي العيادة امتي ؟
- الوقت اللي يناسب حضرتك .. العيادة شغالة من الساعة واحدة للساعة خمسة .. بس يفضل حضرتك تيجي علي الساعة اتناشر اتناشر و نص، قبل الزحمة، حاكون في انتظارك ..
- إن شاء الله أكون عندك بكره ..
- تشرفي يا أفندم، و ألف سلامة عليكي ..
- الله يسلمك .. مع السلامة ..
- مع السلامة .. في رعاية الله ..
و أنهي الاتصال و هو لا يكاد يري أزرار الهاتف .. زفر زفرة طويلة من شدة تعبه و هو يستلقي علي ذلك السرير الذي أعده خصيصًا لتلك الأيام المرهقة ..
عندما أخذ هذه الشقة ليجعلها عيادة له ألحق بحجرة الكشف حجرة صغيرة، و جعل بابها مبهمًا كجزء من ديكور الحجرة الرئيسة، و جعل فيها سريرًا و ثلاجة و بعض الأشياء الصغيرة علي هذه الشاكلة ليقضي فيها لياليه التي يفرمه فيها الإرهاق فلا يقوي علي التحرك قيد أنملة، و لو حتي ليذهب لبيته .. علي أية حال هو يحيا وحيدًا، و ليس من أحد في المنزل كي يقلق لغيابه .. قديمًا كانت والدته، أما الآن فلا والده و لا والدته و لا حتي أحد من إخوته يسكن معه .. فقط هو، و هو لن يقلق عليه إذا تغيب خارج المنزل ..
كثيرًا ما فعلها و بات ليلته في العيادة، و قد اعتاد حنفي - السكرتير - علي هذا، و أصبح يتصرف من تلقاء نفسه، إذا وجد اليوم مرهقًا، فيغلق العيادة كأن ليس فيها أحد، إذ يعلم أن زكريا سيبيت ليلته فيها ..
أسلم جفنيه للنوم اللذيذ الذي أخرجته منه مدام إنعام و هو يمني نفسه بليلة حافلة بالهلاوس كعادته كلما نام مرهقًا ..
***
تثاءب إسماعيل و هو ينظر إلي ورقة النتيجة الموضوعة أمامه علي مكتبه .. الرابع عشر من أغسطس .. عيد ميلاده الثالث و الخمسين .. ياه .. لقد خطط لهذا اليوم كثيرًا من بداية الشهر، لأنه يعتبر اجتياز عقبة الثاني و الخمسين من العمر انجازًا، و لم يخبر أحد أبدأ لم هذا .. هو نفسه ليس يدري .. مجرد شعور يجتاحه أنه حقق انجازًا بوصوله سالمًا إلي هذا السن ..
خطط كثيرًا لهذا اليوم، لكن جملة الأحداث التي وقعت منذ يوم الاثنين الماضي - الحادي عشر - دمرت كل شيء .. ما بين فرح محمود الذي أصر أن يكون في يوم ميلاده - يفصله عن إسماعيل سنة و يومان بالسلب - رغم أنه يوم اثنين علي غير العادة ..
" حد يعمل فرحه يوم الاتنين " قالها متعجبًا، و إن كان قد بلع عجبه و دهشته لمعرفته بصلابة و صلادة رأس محمود .. ثم جاء ما حدث في نهاية الليلة لخميس، فلم يدر أحد ماذا يقول لمحمود في الصباحية .. هل يقولون "صباحية مباركة" أم "البقاء لله" ؟!
ثم جاءت الطامة الكبري عندما اتصلوا به في الثالثة فجرًا ليأت المستشفي "علي ملا وشه" لأن جهاز الأشعة السينية - ببساطة - يحترق !
منذ أن جاء و هو يرغي و يزبد و يطيح في الكل .. فني قسم الأشعة يقول أن الأجهزة تسخن بشكل مريع، و أن أجهزة التكييف لا تعمل، و أنه أرسل أكثر من مرة إلي قسم الصيانة ثم قسم المشتريات فيما بعد و لا مجيب .. كل مرة "يصلبتوه" و انتهي الأمر ..
- هو إيه ؟ .. أنا شغال في مستشفي في الصومال أنا علشان تقولي مفيش تكييف .. و الزفت ده بتاع الصيانة و الزفت التاني بتاع المشتريات فين .. هاتوهم من قفاهم إن شالله يكونوا في المريخ ..
هو الآن منهك .. بالكاد كان يسيطر علي نفسه رغم أن الله سلّم و لم تأت الخسائر فادحة .. جهاز واحد فقط من ضمن ثلاثة أجهزة هو الذي أُصيب، و المستشفي بالفعل كانت في طريقها إلي تكهينه و شراء جديد .. الآن أصبح الأمر ضرورة ..
- اتفضل ..
قالها إثر الطرق الرقيق لسكرتيرته مستأذنة في الدخول .. رقيقة هي كنسيم البحر، و عاصف هو كإعصار كاترينا، و ليس يدري كيف يتجاور الاثنان، و لا كيف يطيقها بطبيعته النارية تلك .. و لربما لأنها تمثل الجانب الذي طالما أراده في نفسه، لهذا أحبها و أحب استمرارها معه في العمل ..
- البوستة يا أفندم ..
نظر إلي البريد ... كمية محترمة من البريد الدعائي، تزعجه لكنها مهمة بالنسبة له كمستشفي، لأنها قد تحمل عروضًا يصعب الإمساك بها في مرات قادمة .. لم يكن صافي الذهن لحظتها ليرد و ينظر في كل هذا، فحملهم "لوكشة واحدة" إلي جيبه لينظر فيهم بتمعن عندما يصفو ذهنه ..
- حاجة تانية ؟
- مدير المشتريات يا أفندم مقدم الطلب ده ..
نظر إلي الطلب .. طلب شراء جفت ميرلاند لجهاز المنظار الجراحي ..
- نهار أبوهم مش فايت .. ولاد الكلب دول فاكرينها قتّة محلولة و لا زريبة هي و لا إيه .. مش الزفت ده لسه متغير من ست شهور علشان القديم استهلك .. لحق يبوظ ..
- رئيس العمليات بيقول إن الجفت القديم مش مطابق للمواصفات ..
- نعم ؟ ..
- اتفضل يا فندم ..
و أعطته مذكرة رفعها رئيس العمليات يقول فيها أن الجفت الميرلاند الذي تم شراؤه غير سليم و ليس مطابقًا للمواصفات و به بعض العيوب الفنية التي تجعله غير صالح للاستعمال المتكرر بالشكل الذي يؤهله لمواجهة ضغط العمل في المستشفي ..
- ميرلاند .. ميرلاند مين ؟ .. مش الجفت كان أوليمبس ؟
- اللي اتورد كان ميرلاند يا أفندم ..
صمت لحظة و قد كاد أن ينفجر .. هناك عملية "تهليب و تقليب" واضحة للمستشفي، و هو لن يسمح أن يُسب في نهاية حياته بفضيحة مالية ..
انفجر في وجهها قائلاً:
- مدير المشتريات و مدير الصيانة و رئيس العمليات .. كل دول ع التحقيق .. لما نشوف ولاد الهرمة دول عاوزين إيه ..
- تمام يا أفندم ..
و انسحبت لتكمل عملها فاستوقفها قائلاً:
- اجتما ..
و قطع كلامه رنين هاتفه فصمت لترد هي:
- مستشفي عناية ..
و إن هي إلا ثوان حتي أعطت السماعة لإسماعيل قائلة:
- أستاذ جمال عبد الغفار ..
أمسك السماعة متذمرًا:
- أيوه يا جيمي ..
- إيه الدخلة الشمال ..
- قصّر .. أنا مش فايق .. حابقي أحكي لك بعدين ..
- عاوز أشوفك النهار ده ..
- ستة بليل كويس ..
- خليها سبعة ..
- عندك و لا عندي ؟
- عندك .. أنا عندي ضيوف و مش حينفع ..
- تمام .. أشوفك سبعة .. سلام ..
و أغلق الخط دون حتي أن ينتظر جمال حتي يغلقه، ثم أكمل ما بدأه:
- اجتماع مجلس الإدارة مفروض النهار ده ..
- الساعة تلاتة و نص ..
- خلي دكتور حسين فايق هو اللي يحضر .. أنا جبت آخري خلاص و مش حاقدر أحضر ..
ثم قام عن مكتبه و هو يفرك عينيه، و أكمل:
- و ألغي لي كل مواعيد النهار ده .. لو قالولك واحد عاوزني علشان بيموت قولي له يستني لبكرة ..
و انصرف لا يلوي علي شيء ..

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar