23.9.09

بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل السادس / الجزء الثاني

الفصل السادس - دوائر متقاطعة

"الناس دي عايشة في ماء البطيخ المغلي .. انجزوا و ارحمونا بقى من الرغي ده"
لو خرج هذا الحديث من دائرة سريرة زكريا إلى لسانه، فهو الطرد و الفضيحة بلا ذرة انتظار .. كان اجتماعًا لمجلس القسم في الكلية، و رغم وجود عدد من الشباب في الجلسة، إلا أن سيطرة الكبار على مسار الحديث جعله مملاً جدًا .. هؤلاء القوم يمتهنون الملل لا الطب ..
- دكتور زكريا .. تحب تقول حاجة ؟
قالها رئيس القسم كأنها طوق النجاة .. إذن سينتهي هذا الملل ..
- أفتكر إنك كلمتني في حاجة بخصوص جهاز القسطرة ..
بدا السرور واضحًا جدًا على وجه زكريا، ربما بصورة ملفتة للنظر، و كأنه يقول بملء فيه "يا ولاد الـ .. صدعتوني .. أخيرًا حأخلص"، إلا أن تحدثه لم يجعل أحدًا يعطي هذه الملاحظة الاهتمام الكافي، إذ انطلق يتحدث:
- يا أفندم، أنا باعتبر دايمًا إننا أسرة واحدة .. يعني مفيش بينا زعل ما دمنا في حدود الأدب ..
صمت لحظة و قد بدأت لمحة من توتر تغزو الأجواء، ثم تابع:
- أنا حاسس إن في ناس مشغلة جهاز القسطرة لحسابها .. الجهاز و لا مؤاخذة حمار شغل .. مش معقولة كل يومين يعطل، و أفاجأ من كلام العمال إن الدكتور فلان أو فلان شغال عليه، رغم إني كل ما أقول حاحجز عليه عملية و لا اتنين يقولوا أصله عطلان .. في حاجة غلط يا افندم ..
- قصدك مين بفلان و فلان يا دكتور زكريا ؟
قالها أحد الأساتذة الجالسين بحدة، فرد زكريا بهدوء:
- مش عاوز اتهم حد يا دكتور محيي، لأن ممكن يكون كلام العمال مجرد كلام فاضي و إنهم بيضربوا أسافين و خلاص .. لكن موضوع الأعطال الكتيرة دي مش منطقي و مش طبيعي و لازم يتحقق فيه .. إذا كان الجهاز قدم يبقى نجيب واحد تاني، و بعدين ..
قطع كلامه أن هب محيي كالعاصفة في وجهه:
- لأ ما ينفعش الكلام ده .. أنت تقول إن في ناس بتشغل الجهاز لحسابها و تتهمهم و بعدين تقول ممكن يكون أسافين و خلاص ؟ .. أنت كده بتتهمنا كلنا بالسرقة و التربح من ورا المهنة بشكل غير مشروع و من غير دليل .. دا ..
هنا قاطعه رئيس القسم قائلاً:
- في إيه يا دكتور محيي .. لزومها إيه الثورة دي كلها ؟ .. دكتور زكريا ما قصدكش بحاجة ..
بدا عليه الارتباك لحظة لم يدر خلالها ما يقول قبل أن يندفع:
- أنا رافض أسلوب الاتهام الجماعي .. اللي يتكلم عن القسم بكلمة وحشة يبقى يقصدنا كلنا بما فيهم أنا ..
- و أنا ما اتهمتش القسم كله يا دكتور محيي .. أنا قلت مش عاوز أقول الأسماء اللي سمعتها إلا إذا اتفتح تحقيق رسمي، علشان ما ابقاش اتهمت حد بالباطل لو كل الكلام اللي سمعته مجرد أسافين و إشاعات و كدب من غير رجلين .. لكن الكلام فعلا لازم يتاخد على محمل الجد و إلا الله أعلم إيه اللي حيحصل بعد كده ..
كاد محيي أن يندفع في الحديث مرة أخرى فقال محسن الكيال رئيس القسم:
- خلاص .. انتهينا .. الموضوع ده أنا حاحقق فيه بنفسي، و اللي حيثبت بأي شكل من الأشكال إنه بيستفيد من الجهاز لحسابه الشخصي يبقى أحسن يدور له على مكان تاني يشتغل فيه ..
قال زكريا:
- لو سمحت يا أفندم في نقطة تانية .. في دكتور بأشرف على رسالة الدكتوراه بتاعته .. الرسالة في طرق تثبيت الدعامات في الشرايين التاجية و أفضل الوسائل المتبعة لتفادي فشل تركيبها .. هل من المعقول إنه ييجي يدخل أوضة القسطرة يتقال له مالكش دعوة بالأوضة دي ؟ .. ما تقربش منها ..
صمت هنيهة ثم أضاف:
- دكتور محيي شخصيًا قال له كده و في شاهد ..
اندفع محيي للمرة الثانية:
- قصدك إيـ ..
- دكتور محيي ..
خرجت صارمة من محسن الكيال فصمت محيي على مضض فيما قال هو:
- مش معقولة اتنين أساتذة في كلية طب يتناقشوا بالطريقة الهمجية دي .. الكلام دا حصل فعلا يا دكتور محيي ؟
- دا كلام ما عليهوش دليل، و لو ..
- حصل و لا لأ ؟
صمت محيي لحظة ثم قال:
- لأ طبعًا .. أقول له كلام زي ده ليه، و بعدين أنا مش محتاج أقوله لو كنت عاوز، لأن الجهاز عطلان و دخوله زي عدمه ..
- فين الشاهد يا دكتور زكريا ؟
أشار زكريا لإحدى الحاضرات و قال:
- دكتورة منال كانت واقفة ساعتها، و سمعت الكلام ده ..
- أيوه فعلا يا دكتور محسن .. دكتور محيي قال له بالنص: "و أنت حتعمل إيه بأوضة القسطرة ؟ .. آخر حاجة تفكر فيها تدخل الأوضة دي"
صمت الكيال واضعًا كفيه المعقودين أمام ذقنه ثم قال و هو يومئ برأسه:
- عظيم جدًا .. أنت متحول للتحقيق يا دكتور محيي ..
هب محيي واقفًا و بدا أنه على وشك أن يرغي و يزبد و يدافع عن نفسه، فقاطعه محسن مشيرًا بيده:
- آخر حاجة حاسمح بيها إن القسم يتحول لعزبة يا دكتور محيي ..
- بس دا كلام مالوش أساس من الصحة .. دا افترا ..
- حيبان من التحقيق .. البرئ ما بيخافش ..
كان قوله بمثابة اتهام خفي، إلا أنه لم يتوقف عنده كثيرًا، بل لملم الأوراق التي أمامه، و هو يقول:
- الاجتماع انتهي يا دكاترة .. كل واحد يتفضل على شغله ..
و فيما أخذ محيي "يبرطم" ببعض الأشياء المبهمة، أخذ الأساتذة الجالسون في القيام و بعضهم يهمهم ببعض الأشياء عما حدث و عما سيحدث .. وحده زكريا انسل من بين الجمع كأنه ملح ذاب في ماء، و انطلق لا يلوي على شيء، يريد أن يخرج من المكان و يغادر الكلية بأسرع ما يكون، كي يستطيع القيادة قبل الازدحام، فالساعة تقترب من الثانية .. توقيت مفيض البشر في مصر خروجًا من أعمالهم و التلاميذ من مدارسهم و الطلبة من كلياتهم و أي شخص من أي مكان ..
عادة يشعر بالضيق و الملل و السأم و كل شعور ينتمي لهذه الفئة من زحام هذه اللحظات، أخذ يلعن في سريرة نفسه هذا الاجتماع الأخرق الذي اضطر لحضوره و سماع غثاء هؤلاء، و كأنهم يستمتعون بإضاعة الوقت .. من العسير حقًا أن يصدق، لولا أنه ينتمي إليه بالفعل، أن هذا القسم يضم بين جنباته أساتذة في فرع دقيق من الطب كجراحة الصدر و القلب ..
"ماء بطيخ مغلي من غير بذر" .. تمتم بها و هو يحاول الخروج من هذا التشابك الرهيب للسيارات أمام بوابة الكلية .. سيارات أجرة، و حافلات، و سيارات خاصة، و موظفون، و أطفال، و شحاذون و .. و .. و .. أمم ..
أخذ يقلب فكره فيما جرى في هذا الاجتماع .. ليس طبعًا وصلات العزف المنفرد التي قام بها الأساتذة قبل أن يتحدث، بل في رد فعل محيي تجاه كلامه .. أغلق الزجاج، و شغّل المكيف و بعض الموسيقى الهادئة و أخذ يتحدث إلى نفسه بصوت عالٍ كعادته كلما أخذ يقلب أمرًا على وجوهه كلها:
- أنا مازادش شكي إلا لما سمعت عم إمبابي بيتكلم عنه، بس النهاردة .. لأ أكيد في حاجة .. مش معقولة هياجه دا كله علشان خاطر ننوس عين سمعة القسم .. دا أول واحد ما بيعتبش عتبة القسم إلا علشان القبض و العمليات هو بسلامته ده ..
ابتلع ريقه بصوت مسموع كنوع من الموسيقى التصويرية، و أكمل باسمًا:
- شكلها حتبقى أيام سُقع يا زيكا .. مزيكا يا زيكا .. مزيكا ..
أخذته الموسيقى بعيدًا، و إن لم ينصرف ذهنه تمامًا عما حدث .. محيي متورط، لكن الإثبات سيكون عسيرًا كالمعتاد ..وجود منال كشاهد لحظة أن قال لهذا الطبيب ما قال كانت ضربة موفقة، لم يكن له فضل فيها بالطبع، اللهم إلا أن الله ألهمه أن يبعث بمنال برفقة بهاء – الطبيب الذي تدور حوله كل هذه القصة – إلى محيي كي يتفقا على دخوله غرفة القسطرة و العمل بها، باعتبار محيي المسئول عنها هذا العام .. بعث بها معه، ليس كواسطة، بل كدرع يخفف من حدة محيي، فهذا الأخير ذو طريقة صادمة في الحديث، و لربما كان حديثه أسوأ من هذا الذي قال لولا وجود منال ..
يبقى عم إمبابي، لكن إقناعه بالحديث رسميًا سيكون أمرًا شاقًا .. الرجل يحمل النظرة المصرية العتيدة نحو كل ما هو حكومي، حتى لو حمل إليه مصلحته على طبق من ذهب: "ابعد عن الشر و غني له"، لكن ليس من سبيل لإحكام الاتهام سوى شهادته .. هناك أيضًا العمال المسئولون عن الجهاز نفسه و تشغيله .. سيحاول أن يقنعهم، و ليوفقه الله ..
انحرف بسيارته خارجًا من شارع البطالسة متجهًا إلي شارع فؤاد في طريقه إلى محطة مصر، كخطوة في طريقه الرئيس إلى كارفور ليبتاع احتياجات الأسبوع من الطعام و الشراب .. كلما تذكر أنه يبتاع ما يريد الآن من كارفور بعد أن كان يفعل الشيء نفسه من سوق زنانيري بكليوباترا يبتسم، لكنه في أحيان كثيرًا يضحك ملء فيه ..
كان معروفًا وسط إخوته بأنه "بتاع السوق" .. هو المسئول عن إحضار متطلبات المنزل من السوق، فهو يعرف الأسعار و يتابعها، و يعرف الباعة الجيدين و الباعة "النص نص"و يعرف الأماكن التي تبيع بأسعار أقل .. كان مساعدًا ممتازًا لوالدته يرحمها الله، أما الآن، فحتى يفعل الشيء نفسه، فعليه أن يتخلى عن سيارته في بداية السوق و ربما قبله، و أن يترجل و يخترق الزحام و يبدأ في "النقاوة" و الفصال و البحث و الفحص، و هو لم يعد يمتلك البال الرائق المستعد لكل هذا التعب و النصب، بالإضافة إلى عدة أمور، ربما أهمها أنه لا يستقر في منزله كثيرًا .. ما بين العيادة و الكلية و المستشفيات التي يجري فيها عملية هنا أو هناك .. غالبًا ما يأكل في أي مطعم، أو يبتاع بعض الشطائر يزدردها على عجل، و في بعض الأحيان يظل صائمًا لا يدخل جوفه سوى الماء .. الأهم من هذا كله هو أنه لا يحمل هم أسرة و أولاد و منزل، و لهذا يتصرف بحرية أكبر، ثم إن ما يبتاعه لا يشكل سوى النذر اليسير .. بعض الأشياء التي اعتاد طعمها و لا يجدها خارج هذا السوق العملاق ..
وضع سيارته بعد لأي و جهد على الطريق المؤدي إلى كارفور إنطلاقًا من محطة مصر و انطلق يمضي الوقت في الاندماج مع نسمات الأحلام المنبعثة من السماعات، ينقر مع النغم تارة و يصفر تارة، و يصمت تارة معيدًا التفكير فيما حدث اليوم ..
عندما هبط من سيارته بعد أن وجد لها موضعًا "بالعافية"، نظر حوله و صفر مندهشًا و قال:
- أمال مين اللي فضل في البيوت إذا كان كل دول هنا ؟
اتجه للداخل و هو يتوقع زحامًا أسطوريًا قياسًَا على عدد السيارات الواقفة بالخارج .. هناك بالطبع من أتوا في المواصلات العامة .. أخذ واحدة من عربات التسوق و انطلق يضع ما يريد .. كان يتحرك على مكث و كأنه يمتلك اليوم بطوله، رغم أن الساعة تشير إلى الثالثة و الثلث، و هو ما يعني أنه لو استمر على هذا المنوال فسيصل إلى بيته في الواحدة صباحًا من اليوم التالي .. هو بالطبع لا يحمل هم العيادة، فاليوم إجازة نظرًا لاضطراره إلى ذلك بسبب اجتماع مجلس القسم، لكن ليس هذا هو سبب تمهله .. هو بالفعل مستمتع للغاية بما هو فيه .. هذا الكم الضخم من المنتجات حوله، ينظر و يتفحص، و يرى ما لا يراه في محلات أخرى .. متعة أن تتعرف على الجديد، حتى لو كان مجرد بضاعة لن تتعامل معها أو تشتريها .. إنه الفضول ليس إلا ..
بينما هو في مشيه الهاديء هذا، إذ به يسمع صراخ طفل يشق سمعه كأنه طلقة مدفع، و هو الشعور نفسه الذي شعر به من كانوا حول الطفل .. الطفل لم يعط إنذارًَا من أي نوع، بل انفجر – حرفيًا – في البكاء على الفور دون مقدمات ..
دنا منه زكريا يسأله ما يبكيك، إذ وجده وحيدًا ليس حوله من يشعر المرء إنهم من عائلته، أو هو يعرفهم و يعرفونه، فقدر أنه فقدهم في هذا الزحام الشديد، و هو أمر متكرر الحدوث، إذ كثيرًا ما يسمع نداءات بهذا المعنى في السماعات الداخلية للسوق .. دنا منه و سأله برفق و قد وجد إلى جواره سيدة تحاول تهدئته:
- في إيه يا حبيبي .. ماما فين ؟
لم يكن الطفل يرد سوى بكلمة واحدة "بدّي أمي .." و بلهجة تمزج ما بين المصرية و الشامية، ما جعل زكريا يقول:
- و كمان مش من هنا .. حلاوتها أم حسن ..
ثم هبط إلى مستواه مرة أخرى و قال:
- طب تعالى يا حبيبي نروح ندوّر عليها ..
- أمي قالت لي ما تمشي مع حدا ما تعرفه .. بدّي أمي .. عاوز ماما ..
طفل عنيد، لكن من الواضح أنه تائه بإهمال الأم و ليس عن قصده هو، فحديثه يكتسي بمسحة من تعقل غريب على من هو في سنه .. ارتفع صراخ الطفل مرة أخرى و فشلت السيدة التي كانت إلى جواره في تهدئته، فقالت:
- في إيه يا أستاذ .. ما تشوف حل، و لا شوف حد من الأمن ..
كان يبحث بعينه علّه يلتقط هذه الأم الملتاعة التي تبحث عن طفلها، فيما اجتذب صراخ الطفل عددًا من رواد المكان، و فردًا من الأمن أو ربما هو أحد العمال ليس إلا .. قال:
- تايه ؟
- أيوه .. و دماغه ناشفة مش عاوز يتحرك غير مع أمه ..
لم يكد الرجل يهبط على ركبتيه ليتحدث إلى الطفل، إلا و فوجئ بالطفل ينطلق نحو سيدة من بعيد و هو يصرخ فرحًا، و هي بالمثل، فابتعد من التفوا إذ شعروا أن الأمر قد انتهى و أن الطفل قد وجد ضالته، و قد انتفت الإثارة التي توقعوها من الموقف .. حتى تلك الآنسة التي توقفت تحاول تهدئة الطفل رحلت هي الأخرى، في رد فعل تعجب له زكريا، إذ توقع أن تقف و تقابل الأم، و لو حتى لتوبخها على تركها طفلها في مثل هذا المزدحم – كعادة الإنسان منا، يسلخ أخاه كأنه معصوم من الخطأ – هذا إن لم تتحدث إليها مادحة نفسها و أنها وقفت إلى جواره و أنها حاولت تهدئته و .. و .. و .. لكن يبدو أنها لا تهتم بشيء من هذا ..
الوحيد الذي بقي هو زكريا، ليقوم بالدور الذي توقعه من تلك الآنسة التي رحلت .. بالشق الأول منه تحديدًا .. لكنه فوجئ بشيء ألجم لسانه تمامًا، حتى بدا التعبير المرتسم على وجهه شديد البلاهة، لكن الحق يقال بأن الموقف كان مدهشًا، بل لا نبالغ لو قلنا فوق حدود الدهشة نفسها ..
***





هناك تعليق واحد:

أبــــو ضـــيــاء يقول...

ههههههههههههههههههه
هي الست طلعت ملكة جمال الشام ولا ايه؟؟
ولا يمكن اخته من ام تانية

لا بجد عايز اعرف هو ليه الموقف كان غريب

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar