1.5.12

دفء

القطار هو أحد تلك الأماكن القليلة التي يحب التواجد بها ولا يملها ، كان قد أخبر صديقا له هذه الجملة من قبل فوافقه هذا الصديق مخبرا إياه كيف أنه يعشق النظر خلال نافذة القطار ليرى الأشياء تقترب ببطء من بعيد ، تتزايد السرعة التي تقترب بها ، حتى إذا كانت كأنها في يدك اختفت ، أخبره صديقه أيضا أن هذا المشهد بالنسبة له أشبه بتأمل روحاني يذكره كيف أننا في حياتنا نتطلع للحصول على أشياء مختلفة ، و نرقبها بتلهف ، حتى إذا تملكناها سئمناها بسرعة ، و أخذنا نتطلع إلى شيء جديد نتلهف للحصول عليه ، و كأن الشيء الذي نبحث عنه في الأمل هو الرغبة في تحققه و ليس تحققه في حد ذاته .. يذكر أنه وافق صديقه و أعجبته تلك الفكرة ، لكنه يعرف داخله أن المتعة التي يجدها في القطارات و وجدوده بداخلها من نوع آخر ، فالقطار كمكان يمتلأ بالغرباء عنه ، لا - و في أغلب الظن لن - يعرفهم على صعيد شخصي ، و هو ما يناسب تماما تلك العادة لديه التي لم يحدث بها أحدا من قبل ، و كيف يتسنى له أن يقول أنه يحب أن يراقب الناس ، يحللهم و يصنفهم طبقا لما يراه من خفي أفعالهم و صغير تعبيراتٍ ارتسمت على استحياء إذا تحدثوا ، توافق أحيانا ما حاولوا إظهاره ، و تخالفه في أحيان أخرى .. و القطار يناسب عادته تلك لأنه يستطيع الحكم على أناس لا يعرفهم ، فلا يتأثر حكمه بما قد يعرفه عنهم من معاملاتهم وجها لوجه أو ما قد بلغه من أحدهم ، و هو أيضا لن يعرفهم ، فلن يؤثر حكمه على تعاملاته لاحقا ..
هكذا شرد فكره للحظات ثم أفاق ليتابع ممارسة تلك العادة ، لكن شيئا ما لفت انتباهه ، تلك المجموعة من الركاب .. كان قد حللهم سابقا كعادته ، لكن شيئا غريبا يحدث أمامه الآن ، لقد تغير تصنيفهم تماما ، بدوا أكثر حيوية ، أكثر سعادة .. لا ، ليست هذه الكلمة التي يبحث عنها وا التصنيف الذي يجب أن يدرجهم به .. أكثر دفئا .. نعم ، هذه هي الكلمة التي يبحث عنها ، و لكن الدفء دوما له مصدر .. نبهته تلك الجملة الأخيرة إذ ترددت في ذهنه أن هناك فردا قد زاد في المجموعة ، فتاة في أوائل العقد الثالث من عمرها .. هذا كل ما يتذكره عنها ، الشيء الآخر الذي يذكره هو أنه بمجرد أن وقعت عيناه عليها شعر بذات الدفء ، كأنه لقي شخصا يعرفه منذ زمن بعيد ، شخص مقرب إليه ، بل شخص انتظره وقتا طويلا ثم لقيه .. لا ، ليس أيا من هذا ، شعور بالدفء لم يعهده من قبل ولا يستطيع تفسيره ، كأنه أشعة الشمس لها أذرع تضمه ، تنسيه كل شيء يعرفه ، و تمحو كل مشاعره ، الجيد منها و السيئ لتذره كأنما ولد طفلا من جديد لا يعرف سوى هذا الدفء ..
اعتاد هذا الدفء بسرعة ، و بسرعة أكبر مضى الوقت ، أو هكذا شعر و الفتاة تغادر القطار مع تلك المجموعة لتأخذ معها ذلك الدفء ، تاركة خلفها قليلا منه بداخله ، لكنه - على قلته - كاف ليغير ذلك السبب الذي لأجله يحب ركوب القطار ، و الذي يجعله يقلب نظره بين ركابه ، فهو يبحث عن هذا الشعور الذي يفتقده ، يريد أن يحياه مرة أخرى ، يريد أن يستكمل ذلك القليل بداخله.

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar