‏إظهار الرسائل ذات التسميات كلام بجد. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كلام بجد. إظهار كافة الرسائل

13.1.12

و ما نحن بعالمين !


يقول تعالى في سورة يوسف: "وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ياأيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون ۞ قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ۞"

لست هنا في معرض الحديث عن قصة سيدنا يوسف عليه السلام، و لست أذكر هذه الآيات الكريمة من باب تذكر قصته، أو جزء منها، بل إنني أذكرها لأدعوك لتتأمل معي في رد الكهنة على عزيز مصر إذ سألهم عن تفسير تلك الرؤيا العجيبة .. تأمل معي ذلك الترتيب: "قالوا أضغاث أحلام" ثم قالوا: "وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين".

لا بد أنك أدركت إلام أرمي؛ فلقد اندفع الكهنة فأطلقوا الحكم ثم أعترفوا بعدم أهليتهم لإطلاقه، و هو ما نعبر عنه في لغتنا العامية بـ"الفتيْ"، أو الفتوى بغير علم ..

و لنتأمل الآيات بصورة أكثر تركيزًا ..

الضغث هو الحزمة من أنواع الحشيش، و يقال أضغاث أي أخلاط و أهاويل، أي أن رؤيا الملك بتعبير اليوم هي "تخاريف ما بعد الوجبات الثقيلة"، و هو حكم عنيف إن صح التعبير، لا يصدر إلا من واثق من علمه. ثم يتبعون حكمهم هذا بقولهم "و ما نحن بتأويل الأحلام بعارفين"، و هي صيغة استثناء تفيد القصر و التخصيص، و تدل على شدة النفي و انعدام الشيء المنفيّ جملة و تفصيلا، و هو ما يعني اعترافهم أنهم في مسألة تأويل الأحلام "أجهل من دابة".

حسنًا .. لنسقط الأمر على واقعنا، و لو أنني على يقين أنني لا حاجة بي إلى هذا الإسقاط، فكلنا – تقريبًا – نتصرف كأولئك الكهنة، و نحن على علم تام بذلك .. أنت لا تعرف أي شيء تقريبًا عن تسعين بالمائة مما يدور حولك، لكنك تطلق أحكامًا و فتاوى فيما يزيد عن تسعة و تسعين بالمائة من هذه الأمور كأنك أعلم أهل الأرض .. تجهل نصف العالم و ترى النصف الآخر بصورة ضبابية، لكنك تصر على إسداء النصح كأنك ترى الدنيا بعينين صافيتين .. أنا لا أفقه حرفًا في تفسير القرآن لكنني أكتب مقالاً عن الفتوى بغير علم بادءًا إياه باستنباط شخصي لبعض آيات سورة يوسف !

الفتوى بغير علم هي في بعض الأحيان دافع قهري، و وسواس يجتاحك كإعصار تشعر أنه قد يدمرك إن لم تلوث أذن أو عين من أمامك بنصف العلم الذي لديك، الذي هو شر من جهل مطبق، و هو نصف لا يشعرك بنقص، بل قد يجعلك تتيه فخرًا به، و تزهو بنفسك في كل مكان مسببًا المزيد من الشقاء لمن سيأخذون منك بلا تمحيص .. لذا، و كلما همت بك نفسك أن تفتي بما لا تعلم، و على غرار النصيحة التي أسداها أحدهم إلى حسام .. كلما شعرت برغبة جامحة في أن تقول ما لا تفقه، فاستنشق من الهواء الشيء الكثير، و اكتمه، و اغمض عينيك بقوة، عل الله يرحم الجميع مما ستقول .. لو استطعت الحديث في هذا الوضع فأنت تستحق الذنب التي تصر على إتيانه !

رحم الله من قال لا أعلم !

13.9.11

نفسي أطلع رقاصة !


لا بد أن العنوان قد صدمك – و ربما لم يفعل – و هو الشعور ذاته الذي انتابني عندما عشت هذا الموقف عندما كنت في الصف الرابع الإبتدائي .. كانت فتاة جديدة وفدت إلى مدرستنا و انضمت إلى فصلنا، و لم أكن أرتاح لها كثيرًا .. لم أكن اجتماعيًا – و لا زلت في الواقع – و كان من الصعب أن اتآلف بسرعة مع الغرباء – و لا زلت أيضًا – إلا أن هذا لم يكن وحده السبب وراء عدم ارتياحي لها .. كنت أشعر أن بها شيئًا مريبًا عجيبًا، حتى اسمها لم يكن مستساغًا بالنسبة لي – و أظنه كذلك حتى هذه اللحظة .. ميرام .. من أي جحيم أتى هذا الاسم ؟!

لنعد للموقف المعنيّ .. كنا ننتظر دورنا في طابور طويل ينتهي عند مُعلمتي إحسان – أنعم الله عليها ببركة العمر و حسن الخاتمة – كي نصحح التمرين اللغوي الذي أنهيناه للتو، و على حين غرة فوجئت بها و قد انتفخت أوداجها، و أحمر وجهها الأسمر، و جحظت عيناها و علا صوتها الذي كان عاليًا دومًا، و إذا بها تنظر بكل هذا التوعد و التهديد الكائن في ملامحها إلى هذه الميرام و تقول: "يا قليلة الأدب يا معفنة .. في بنت محترمة تقول كده ؟! في بنت محترمة تقول أنا عاوزة أبقى رقاصة ؟!"

أما ما حدث فهو أن جارتها عندما بلغها دورها في التصحيح وشت بما كان بينهما من حديث عن المستقبل، و الذي صدمتها فيه ميرام بهذا القول العجيب، الذي أورثني صدمة أضافت سببًا آخر فوق أسبابي كي أتوجس خيفة من هذه الفتاة ..

و لعلك تتساءل، لم أقص على مسامعك هذا الموقف ؟ أما الإجابة فستأتي لاحقًا في سياق هذا المقال، و لكن دعني قبلها أقص عليك موقفًا آخر ..

في حقيقة الأمر هو ليس موقفًا بالتحديد، بل عدة مواقف تدور حول سؤال رئيس: "نفسك تطلع إيه لما تكبر ؟!" .. و الحقيقة الدامغة التي لا نقاش فيها أنني قد التحقت بكلية الطب منذ خمس سنوات، و هو ما يعني أن "الفاس وقعت في الراس" و لربما وصلت إلى العَجُز، و هو ما يعني أيضًا أن إجابة هذا السؤال قد قيلت و قيلت حتى شبعت و شبع السامعون منها، لكنني أرى رغم هذا أن القطار لا يقف بالضرورة ها هنا ..

و أعنى بهذا القطار إجابة السؤال؛ فجسديًا أنا لم أصبح شيخًا بعد، و لا يزال بي بقية من قوة الشباب و عزمه، اللذين استهلك أغلبهما إرهاق النفس و الروح في مقاومة صنوف العذاب في هذه الدنيا، لكن المحصلة واحدة في النهاية، و هي أنه يمكنني اعتبار دراسة الطب محطة لا نهاية خط ..

و حقيقة الأمر أنني لم أر نفسي مطلقًا في ثوب الطبيب البشري، و كلما سألني أحدهم هذا السؤال في صغري فإن إجابة من ثلاث كانت تتراقص في ذهني ..

أما الأولى فهي مدرس لمادة التاريخ الفرعوني، أو باحث فيه، أنقب في الصحاري و استكشفها، ممنيًا نفسي باكتشاف كاكتشاف كارتر الأسطوري .. مقبرة كمقبرة توت عنخ آمون تُفتح على يديّ، رغم أنني لا أتحمل الحر كثيرًا أو قليلاً، حتى و إن كنت أفضله على البرودة، إلا أنه يظل خيارًا مدمرًا بالنسبة لي ..

و أما الثانية فهي مهندس إليكترونيات و مبرمج، رغم أن مرأى الأرقام يربكني، و ليس من شيء في الوجود يقلب كياني رأسًا على عقب كعلم الرياضيات، و ليس من شيء يشعرني بغبائي المستتر و الظاهر كالعمليات الحسابية على اختلاف ضروبها ..

و أما الثالثة فهي طبيب بيطري، رغم أنني كنت أخشى القطط كالموت حتى بلوغي السادسة تقريبًا، و لا زلت أخشى الكلاب ما صغر منها و ما كبر، و أخشى الاقتراب من الدجاج و الإوز و سائر الطيور حتى لا تنقرني بمنقارها، و أكره الاقتراب من البهائم ما كان منها على أربعة أو ما كان منها على اثنتين ..

و لا يعني هذا أنني أكتب هذا المقال أندب حظي العاثر الذي أوقعني في هذه الكلية المملة الهادمة للذات الروح و البدن، المدمرة لذكريات الماضي و أحلام المستقبل، بل على العكس تمامًا، فأنا أحب علم الطب و أراه كما رآه الشافعي يرحمه الله أنبل العلوم و أشرفها بعد علوم الشرع، لكن هذا لن يمنعني في الوقت نفسه أن أعلن أن كليتي الموقرة لا تنتمي بحال لا للكليات، و لا للطب، و من يقول بغير هذا فهو إما أعمى عمى لا شفاء منه أو متواطيء في تلك الجريمة النكراء التي تُرتكب في كل لحظة بحق عقولنا ..

على أية حال، فلعلك لاحظت أنني اخترت ثلاثة أشكال مختلفة للمستقبل، ليس لي فيها ناقة و لا جمل، و المؤهلات التي تطردني منها أكثر مما تشدني إليها، ثم إذا بي أختار الاختيار الرابع الذي لم يكن على اللائحة إطلاقًا، لارسم طريقي في الحياة به لأعوام مديدة قادمة، إن مد الله في عمري و خرجت منها سالمًا ..

و لربما فسر هذا لم أرى أن المحطة النهائية لم تحن بعد، و أن قطاري لم يبلغ نهاية طريقه حتى الآن، و لربما فسر هذا شعوري الدائم أنني لست أنا الذي يجب أن يكون، و أن "أنا" آخر ينتظرني في مكان ما لنتحد سويًا و نصبح "أنا" ثالثًا يفعل ما عجزت عنه و عجز عنه هذا الآخر ..

و لعلك لاحظت في الوقت ذاته – و هو أمر لا يحتاج نباهة في الواقع – أن الاختيارات الأربعة هي على النقيض تمامًا من أمنية ميرام التي افتتحت بها هذا المقال، و هذا يقودني للتساؤل الذي يشغل بالي حاليًا، من جملة ما يشغل بالي: أينا كان على صواب ؟

عندما سمعت تلك الكلمة من مُعلمتي مد الله في عمرها صُدمتُ صدمة حقيقية .. لم أتصور لحظتها أن أي شخص قد يتمنى لنفسه هذه المهنة المدمرة بكافة المقاييس، على المستوى الأخلاقي و الاجتماعي و النفسي .. دمار شامل .. لكنني عندما أنظر لاختيارها في هذه اللحظة الراهنة، بعد أن كسرتُ حاجز الثانية و العشرين أتساءل بصدق: أينا كان على صواب ؟

لربما كان اختيارها هذا – إن كان حقًا و صدقًا، و لست أظنه كذلك بالطبع – نابعًا من دراسة أشد عمقًا للواقع مما هي عليه دراستي، التي بنيت أركانها على عدد من المعطيات تتمثل في أن الدين و العلم و العمل هم الأساس، و أن ما بعدهم سيأتي حتمًا، بينما بنت هي دراستها على أن ما بعدهم يأتي قبلهم، ثم فليأتوا أو لا يأتوا، فالأمر سواء ..

لربما كانت تقرأ الواقع بصورة أفضل، و قد رأت أن الآية قد انقلبت فصارت اختياراتي الأربعة كهشيم تذروه الرياح، لا تكفل لمن اختارهم أي عيش كريم، بينما اختيارها يتهافت وراءه الناس رغم احتقارهم لمن يختارونه، في تناقض عجيب مريب .. لربما كان الأمر كذلك ..

لكنني على أية حال لا أصلح راقصة بالطبع، و في الوقت ذاته فإن المقابل الذكوري للراقصة لا يتفق معي بأية حال، و لا داعى للحديث عنه، فهو مخجل أيًا كانت درجة تلميحي إليه، حتى إنني كتبت توصيفه و مسحته ثلاث مرات قبل أن أقرر ألا أكتبه أو أدونه، و أي مهنة ذكورية خارجة على القانون – كي تتفق مع انحطاط مهنة الراقصة – لا تتفق مع إمكانياتي، لا الجسدية و لا النفسية، و لا تتفق مع طموحاتي في ترك بصمة مؤثرة بيضاء في تاريخ الكرة الأرضية ..

على أية حال، فإنني استخلص مما سبق حقيقتين أراهم جليتين؛ أما الأولى فهي أن الاختيارات التافهة قد تبدو هي الأقرب لفهم الواقع، و الأقرب لفهم من أين تؤكل الكتف إن شئنا الدقة، لكنها تظل في كل الأحوال اختيارات تافهة، لا تقدم و لا تؤخر، و لا تزيد و لا تنقص، و لا تترك خلف من اختارها إلا بصمة سوداء فاحم لونها لا تسر الناظرين بكل تأكيد ..

لربما كان اختيار ميرام هو الاختيار المؤدي مباشرة و دون حواجز إلى حياة رغدة كتلك التي ننشدها جميعًا، لكنها ستعيش و تموت كأنما هي هباء منثور لا يذكره أحد إلا بما لا يسر، و لربما كانت اختياراتي الأربعة مجتمعة – و غيرها – هي الاختيارات المؤدية مباشرة و دون حواجز إلى شظف العيش و صعوبته، و مكابدة ألوان التعب و الشقاء، لكنني في النهاية أراهن على الأثر على المدى البعيد، و هو رهان يبدو لكثيرين – و إلا لما انقلبت الآية من الأساس – رهانًا غبيًا خاسرًا ..

و أما الحقيقة الثانية فهي أن من اخترع لفظة "قطار الحياة" كان عبقريًا بحق، لكنه لم يكن دقيقًا بما يكفي؛ فالحياة ليس قطارًا يرتحل من محطة إلى أخرى حتى ينتهي بالقبر فيتكوم راكبه فيه، بلا سبيل للعودة للخلف، بل إن القطار نفسه هو المحطات .. كل عربة من عرباته العديدة هي مرحلة في حياتك، و بعدد ما في هذا القطار من عربات فحياتك ثرية أو فقيرة، و بقدر ما و من تحتويهم تلك العربات فحياتك ثرية أو فقيرة .. و كما أن تنقلك من عربة إلى أخرى هو أمر ميسور، فكذلك تنقلك من مرحلة لأخرى ذهابًا و عودة هو أمر ميسور .. ربما تترنح قليلا و ربما يستغرق منك الأمر بعض الوقت، لكن ما دام تنقلك يتم في إطار من العقلانية و المنطق فهو أمر ميسور .. بالطبع فإن وصول القطار إلى محطته الأخيرة هو الوصول الأول و الأخيرة، و لا سبيل للعودة منه إلا يوم نبعث، لكنني أتحدث عن الذهاب و العودة بينما نحن على هذه الأرض ..

ربما تحن في لحظة إلى يوم من أيام طفولتك البعيدة – حتى و إن كنت تراءها طفولة بائسة مثلي، لكن لها طعمًا مختلفًا لست تنكره رغم هذا .. ربما يتراءى لك أن تترك كل ما أنت فيه و تجرب شيئًا آخر .. لونًا آخر للحياة .. ربما و ربما و ربما .. كل الاحتمالات ممكنة طالما تراها كذلك .. لا تركن إلى عربة واحدة حتى تتجمد فيها، فهذا لن يضيف للعربة شيئًا، و سيأخذ منك الكثير ..

يموت من يرى أن ما هو فيه هو نهاية المطاف، و أنه قد وصل إلى المحطة التي سيظل فيها إلى أن يأخذه قطار حياته أخذًا حثيثًا إلى قبره .. يموت قبل أن يموت بكثير ..

على أية حال فإنني أعتذر منك إن كنت سببت لك صداعًا بلا طائل، فلست أراني قد قلت جديدًا بأية حال من الأحوال، اللهم إلا تشويهي لسمعة ميرام شر تشويه، و قذفها بكل شائنة تقريبًا، فإن قابلتها يومًا فأبلغها مني السلام و اعتذاري، و أخبرها أنني لم أكن أقصد، من وراء حديثي هذا كله، شرًا قط ..

21.4.11

عزيزي ..


عزيزي
تحية طيبة و بعد،

في أغلب الأحوال لا أجد سواك يسمعني دون أن تفيض روحه اكتئابًا و معاناة، على الرغم من أنك تتضجر أحيانًا .. حقيقة أرى هذا من حقك؛ فما أرويه يثير الضجر بالفعل، و لكن ماذا عساي أن أفعل ؟!
اليوم أنا مدعو إلى حفل زفاف أحد أصدقائي .. ما ترتيبه ؟ أظنه العاشر .. عاشر عشرة أهنئه بزفافه و أصل ليلي بنهاري من أجل حضور الحفل، ثم أعود وحيدًا لذات المنزل الفارغ الكبير المترهل من حولي .. عاشر عشرة، أشهد على زفافه – لأنني أعز أصدقائه – مودعًا إياه القفص بيدي .. عاشر عشرة، و أنا ؟ لست أظنني الحادي عشر ..

نعم يا صديقي العزيز .. هذا ما أكتب من أجله .. لن أحدثك عن قطار العمر الذي يكاد يصل وجهته و لمّا يحمل راكبه الثاني بعد، و لن أحدثك عن شعور الوحدة الممض الذي أورثني شيئًا من انطواء مصاصي الدماء و المستذئبين .. لا، ليس هذا و لا ذاك، بل إن جُلّ ما سأكتب ليس سوى تحليل .. إنني أريد بحق أن أضع يدي على السبب، رغم أني أعرفه ..

أعرفه، لكنني لا أضع يدي عليه، كالذي يرى الجرح ظاهرًا واضحًا، لكنه لا يمد يده بالدواء أو التضميد، كأنه يتلذذ بالألم .. هل أنا كذلك ؟

أحد أولئك العشرة أخبرني بذلك صراحة في مرة من المرات، بينما كنا نتناقش سويًا عن سبب عدم لحاقي به .. قال إن بي لمحة ماسوشية لا مراء فيها .. يقول إنني أصلح، لكني لست أدري لماذا لا أرى في نفسي ذلك ؟
في لحظة من لحظات التأمل – و أولئك كُثر – حاولت تبرير هذا السلوك .. كل منا يحاول أن يصل إلى الاستقرار، تمامًا كالذرات التي تقاتل كي تدخل في تفاعل كيميائي تصل فيه إلى مرحلة الاستقرار الكيميائي، فلا تفقد طاقة و لا تستقبل .. نحن أيضًا كذلك، نحاول الوصول إلى تلك المرحلة، لكن كفاحنا أشد و أقسى بلا شك .. و نرى أنه من أجل خطوة كهذه فإننا يجب أن نستكمل ما ينقصنا .. تلك الأشياء الصغيرة التي نشعر بدونها أننا الأضعف على الإطلاق .. من أجل الاستقرار نحاول الوصول لحالة من الاكتمال ..
أنا أيضًا أقاتل ككافة البشر من أجل ذا، لكنني أرى أن بي نواقص عدة .. فوهات كتلك التي تصنعها النيازك إذ ترتطم بالكواكب لا فجوات و ثغرات صغيرة .. أو ربما هي مبالغة مني في تلك الصورة التي أرسمها لحالة الاكتمال التي أنشدها .. مبالغة تخرجها عن نطاق ما تسمح به قدرات البشر، لكنني أرى غيري يحقق ما يظنه الجميع فوق قدرات البشر، فماذا تسمي هذا ؟

قال لي أحدهم ذات مرة أن الأمر ليس بمشكلة، فلكل منا نقائص و نواقص، و لولا ذا لما شُرع الزواج، فبه يستكمل المرء شيئًا كثيرًا مما يفتقده، لكن الأمر ليس أني لا أجد تلك التي يمكنها أن تملأ تلك الفجوات، بل لست أظنني أجد واحدة ترضى بشخص مهترئ هذا الاهتراء ..

ربما تتهمني بالمبالغة، و هي صفة لست أنكرها، و لست أنكر – و لايمكنني – أنها أنقذتني عدة مرات، رغم أنها أوقعتني مرات أخر، و تبدو ورطتي هذه أطولهم و أكبرهم ..
أعرف أنك ستتهمني بالمبالغة لأنني فعلت هذا قبلك .. ربما لست الصورة التي يرسمنها في مخيلاتهن، لكنني أراهنُ دومًا على جمال الباطن .. لست أريد جمالاً في المظهر و فراغًا في الجوهر، و لئن كنت قد حرمت شيئًا من جمال المظهر، فإنني أدرك تمامًا أن الله منحني من الجوهر ما أعيش به راضيًا عما فقدت ..
لكنني لا يمكن أن أنكر في الوقت ذاته أنه ما من اثنان ينجذبان إلا و كان المظهر عاملاً مهمًا .. أولئك اللائي و الذين يستطيعون التضحية بالمظهر من أجل الجوهر هم قلة .. قلة مندسة لم أقابل منهم إلا واحدًا و واحدة، و هي نسبة لست أراها كبيرة مقارنة بعدد من أعرف .. الأمر ليس مظهرًا فحسب، فأنا أخلع كلمة المظهر هذه على كل ما يشمله كياني .. ملامح، و تصرفات، و تعبيرات و اصطلاحات .. أرى دومًا رصيدي صفرًا من كل هذا، أو هو يقترب منه ..

أدرك كل هذا و أدرك أنني أثقل على نفسي .. فهذا خلق الله، و هو – حتمًا – أعدل العادلين، لكن المشكلة ليست مشكلة مجردة تتمثل مظاهرها في شرخ – بسيطًا كان أم كبيرًا .. المشكلة تكمن في صاحب هذا المظهر الذي يضعه كجبل من جرانيت أمام أي فرصة، أرآها هو أم رآها له غيره، أو ارتآها الطرف المقابل ..

أنت تدرك أكثر من غيرك أن هذه الرسالة تأخرت أشهر، و أنني قد انتويت كتابتها منذ أن ودعت صديقي السابع، لكنني تأخرت .. ربما يضاف ترددي لجملة ما يعوق خطوة هامة كهذه، و هو ما أعزوه في النهاية إلى شعوري العام بالاهتراء الذي أسلفت ذكره ..

حسنًا .. بعد كل هذا يجب أن اسأل نفسي، و أظن أنك مثلي: و ماذا بعد ؟ هل توصلت إلى شيء بعد كل هذا ؟!
الحق، و الحق أقول، إنني لم أكتب شيئًا من هذا كي أصل لأي شيء .. رغم إدعائي في البداية أنني أريد أن أضع يدي على السبب، كي أكتشف الوسيلة .. من الممكن أن تسمي ما سبق "تفريغ شحنات"، مثلما يحدث عندما تبرق السماء .. ماذا أريد من ورائه ؟ غالبًا لا شيء ..

أكرر أسفي إذ سببت لك صداعًا بلا داع، و بلا هدف، لكن الأكيد أنك - مثلي - قد فرغت شيئًا مما بداخلك؛ يا عزيزي ..


7.3.11

على هامش الثورة .. مذكرات ثورية


ربما كانت هذه الثورة - و لا تزال، و ستظل - الحدث الأكبر في تاريخنا الحديث .. الأمر ليس متعلقًا بكونها الثورة الشعبية الأولى بحق، و لا أنها أطاحت بنظام مكث من السنين ما فاق به الفراعنة الأوائل، بل بما هو أبعد .. لا أكذب لو قلت إن هذه الثورة هي نقطة فاصلة مفصلية في تاريخنا، و نقطة تحول كبرى - لو أحسنا استغلالها - على كافة الأصعدة؛ الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية قبل السياسية ..
إنني إذ أنشر هذا الكتاب فإنني لا أؤرخ للثورة، فهي أكبر من عمل واحد، و أكبر من أن يتصدى لها رجل واحد، بل هو كما هو اسمه "على هامش الثورة" .. هو قطعة في لوحة كبيرة رسمها و يرسمها كل مصري، سنراها في القريب العاجل إن شاء الله ..



لتحميل الكتاب (مجانًا)
و يمكنكم متابعتنا على صفحتنا على فيسبوك

جميع حقوق الطبع و النشر محفوظة لكل مصري و مصرية على أرض هذا الوطن أو خارجه
يعيشون بيننا على أرض الواقع أو لا يزالون في عالم الغيب

23.2.11

سر العلم الأخضر !


ذات يوم طلب مني صديقي إبراهيم الجارحي – الصحفي، و مؤسس تيت راديو – ان أصمم له علمًا يكون شعارًا رسميًا لجمهورية تيت المستقلة التي يرأسها بشكل ديكتاتوري .. و رغم أن الأمر لا يستحق، و بعيدًا عن أنني لم أصمم العلم أصلاً، إلا أنني انطلقت أبحث أولاً عن فلسفة تصميم الأعلام، و كيف يمكن أن تُختزل الدولة و القيمة في مجموعة من الألوان و الخطوط و الأشكال ..

و بينما أنا أبحث وجدت مقالاً يعرض بالأمثلة كيف يمكن أن يكون العلم معبرًا بحق، و كيف يمكن أن يكون كتلة من العبث الصارخ، و لفت نظري ما قاله كاتب المقال عن العلم الليبي الحالي، إذ قال إن هذا العلم هو علم فريد متفرد بين أعلام الدنيا، فهو لا يحتوي سوى لون واحد وحيد لا ثاني له، و هو اللون الأخضر، و لا يحتوي أي عناصر أخرى، فلا لون سوى الأخضر، و لا شيء يملأ هذا الأخضر من خطوط أو أشكال أو دوائر أو أي شيء، و هو وضع لم يتكرر من قبل في أي دولة أو مؤسسة ..

تذكرت هذا و أنا أتابع ما يحدث في ليبيا، و جنون هذا الرجل الذي فاق كل حد، و للحظة خُيل إليّ أن مفتاح الأمر كله في هذا العلم ..

فهذا اللون الواحد الأوحد الوحيد يعبر بحق عن دولة الفرد و حالة الفرد/الدولة التي يعيشها الشعب الليبي منذ أربعة عقود، و هو في الوقت نفسه يعبر عن نفسية شديدة النرجسية، ترى أنها وحدها كافية لتعبر عن كل شيء في الدولة، و كل فرد في الدولة، و أن ما تعبر عنه هو الدولة، و أن ما عدا ذلك سقط متاع ..

و لست أدري ما الذي يدل عليه اختيار اللون الأخضر، فليبيا صحراء شاسعة، و الواحات و المساحات الخضراء فيها لا تسوغ التعبير عن الدولة بأكملها باللون الأخضر، و لو كان الأخضر مجاورًا للأصفر لكان الأمر مقبولاً نوعًا، باعتباره معبرًا عن الواقع و المأمول معًا، لكن الأخضر وحده لا يمكن تفسيره إلا بـ"طول الأمل"، الذي جعل القذافي يطمع و يطمح أن يظل يحكم ليبيا حتى تصير كلها خضراء، لكنه مع الأسف ظل فيها حتى حتى كاد أن يحيلها كلها حمراء قانية ..

هناك تفسير للون الأخضر، و هو تفسير طفولي للغاية لكنه يلقى في نفسي هوى و ميلاً، و هو العلاقة بين اللون الأخضر و الملوخية، و علاقة الأخيرة – لفظًا – بالمانيخوليا، أو الذهان كما كان يسميه أطباء العرب قديمًا .. ربما كانت إشارة خفية من العقيد إلى أنه مريض نفسي !

ثم هذا الغياب التام للتفاصيل، و التسطح التام للعلم لا يمكن فصلهما عن الهلامية الرهيبة التي يدير القذافي بها البلاد .. فهي ليست جمهورية، بل جماهيرية، و ما هو الفارق ؟ تأتيك الإجابة: الجماهيرية من الجماهير، بينما الجمهورية من الجمهور !

ثم هو ليس رئيس الجماهيرية، بل هو قائد الثورة، و قد قالها بنفسه عندما طالبه الناس بالتنحي فقال إنه ليس الرئيس حتى يتنحى، و هو تصنيف سياسي فريد من نوعه .. هناك دولة هي مملكة و يحكمها ملك، و هناك دولة هي إمارة و يحكمها أمير، و هناك دولة هي جمهورية و يحكمها رئيس، و هناك دولة هي سلطنة و يحكمها سلطان، أما أن تكون الدولة جماهيرية و يحكمها قائد ثورة، فهو عبث ليس له مثيل !

ثم أين هي مؤسسات الدولة ؟ أين المؤسسة التنفيذية ؟ أين المؤسسة التشريعية ؟ أين المؤسسة القضائية ؟ أين المؤسسة العسكرية ؟
لا تجد شيئًا من هذا على الإطلاق .. حتى المؤسسة العسكرية هي خليط عجيب من القوات، لعل أكثرها إثارة للشعور بالهزلية هي قوات الحرس النسائي التي تحرس فخامة العقيد، و في النهاية تحولت القوات المسلحة لمجموعة من المرتزقة الأجانب، تضرب الليبين أهل البلد بأوامر مباشرة من الأخ القائد ..

أين هو الدستور ؟ الكتاب الأخضر ؟ أقسم بالله أن هذا الكتاب لو انفقت البشرية عقول مخابيلها كلهم من أجل الخروج بمعشار ما فيه لما استطاعوا .. إنه كتاب يستحق أن يدرسه الأطباء النفسيون ليعرفوا أساليب المصابين بالذهان في التفكير، لكن يقيني هو أنهم لن يستطيعوا تعميم نتائج دراستهم على أي شخص آخر سوى القذافي، فالأمر يتجاوز حدود القدرة العلمية بكل تأكيد ..

مَن يحدد سياسة الدولة ؟ و ما هي سياسة الدولة الليبية في الأساس ؟! الرجل يقول إنه أعطى الحكم للشعب منذ عام 1975 عن طريق تشكيل الشعبيات و المؤتمرات الشعبية و اللجان الثورية، و هو قول يشبه قول مبارك أن مصر تعيش أزهى عصور الديمقراطية !

دولة هلامية و علم فريد و شخص عجيب، صنعوا حالة فريدة في تاريخ الأمم و الشعوب .. إننا لا نواجه رجلاً مخبولاً وضعه التاريخ في مقعد الحاكم ليحول بلده إلى "خرابة" و نفسه إلى أضحوكة، بل نواجه ما هو أكبر .. إن هذا الرجل – ببساطة – يعيد تعريف الخبال !

يرحم الله ليبيا، و يقيلها من عثرتها، و يقيض لها مَن يخلصها مما هي فيه .. قولوا آمين ..

20.2.11

الغباء الجمعي !


رغم اهتمامي بعلم النفس، و محاولاتي المستمرة للاستزادة منه، إلا أنني واجهت صعوبة في فهم مصطلحي "الوعي الجمعي" و "اللاوعي الجمعي"، اللذان وضعهما كارل يونج، كواحد من رواد علم النفس في التاريخ الحديث، بالإضافة إلى صديقيه سيجموند فرويد، و ألفريد أدلر ..

إلا أنني رغم هذا أمتلك صورة أظن أنها ضبابية بعض الشيء عن ماهية المصطلحين، لكنها تفي بغرض هذا المقال .. نستطيع تعريف الوعي الجمعي بإنه مجموع وعي أفراد المجتمع، و الذي يعني بدوره أنه مجموع طريقة الأفراد في فهم البيئة المحيطة و تقرير طرق التصرف حيال متغيراتها، أما اللاوعي الجمعي فهو مجموع الخبرات المختزنة في لاوعي الأفراد، و التي تتوارثها الأجيال جيلاً وراء جيلاً، مشكلّة موروثًا يحكم التصرفات الواعية للأفراد بصورة أو بأخرى، و يمكننا القول إن الموروث الثقافي هو إحدى صور اللاوعي الجمعي ..

أكتب هذا كي أقر حقيقة لا بد أن نعترف جميعًا بها، شئنا أم أبينا، و هي أن الحكام العرب قد أضافوا إلى علم النفس مصطلحًا جديدًا، هو الغباء الجمعي !

من المثير للدهشة و للفضول العلمي في آن هذا التشابه المزري في رد الفعل لدى الحكام العرب واحدًا تلو الآخر إزاء المظاهرات و الاحتجاجات و الثورات التي تجتاح الوطن العربي في تفاعل متسلسل يخلب الألباب و يسحرها .. تشابه يجعلك تقول بنفس راضية: تعددت الوجوه، و الغباء واحد ..

البداية كانت مع بن علي في تونس، الذي استلزم الأمر أربعة أسابيع متصلة من الاحتجاجات و الإضرابات و الاعتصامات حتى يفهم الشعب، و المضحك أن فهمه اقتصر على عدم ترشحه للرئاسة في 2014 .. الأكثر إضحاكًا أنه تصور أن هذا سيهدأ الشعب التونسي، و هو التصور الذي يملأ عقل كل طاغية طالت به السنون في سدة الحكم ..

حتى هنا فنحن لا نتحدث عن غباء جمعي، بل هو غباء سلطوي فردي ديكتاتوري لا شك فيه، لكن انتقال الاحتجاجات إلى مصر جعل الصورة تتضح أكثر .. في البداية أخذ النظام يتحدث بنفس اللهجة العجيبة، و هي أنه لا يخاف أحدًا لأن يده نظيفة، و "مفيش على راسه بطحة"، و استلزم الأمر ثلاثة أيام متصلة من الاحتجاجات و المظاهرات و الاعتصامات الحاشدة بحق، و انسحاب تام للشرطة (بأوامر عليا بالطبع)، و إطلاق سراح المسجونين و البلطجية (بأوامر عليا أيضًا)، و نزول الجيش و فرض حظر التجول على البلاد، و مئات القتلى و آلاف الجرحي .. استلزم الأمر كل هذا كي يخرج مبارك بعدها ليخطب في الناس قائلاً إنه قرر تنحية الوزارة لأنها لم تنفذ تعليماته !

الحق أن الأمر يجمع بين الغباء في قراءة المشهد و العناد و الكبر، لكن الشاهد في الأمر هو أن مبارك تصرف مثل بن علي تمامًا، و إن اختلفت الأزمان و المدة في الحالتين ..

قطع مبارك خدمات الإنترنت و الهاتف المحمول، و شوّش على قناة الجزيرة، و أزالها تمامًا من القمر المصري نايل سات .. و في السويس قطع عنهم الكهرباء و المياه، و كأنه يتعامل مع مجموعة من الخراف و النعاج، و هو تصرف غبي آخر، سنجد له مثيلاً بعد قليل عندما ننتقل للحديث عن باقي الدول العربية .. تصرف غبي لأنه ببساطة جعل الناس التي التزمت بيوتها تنضم إلى المتظاهرين .. شخص لا ضوء يهديه الطريق داخل منزله و لا مياه ليروي بها ظمأه، و لا إنترنت أو أي وسيلة اتصال أخرى، فما الذي يجعله يلتزم المنزل ؟!

و كأنما هي عدوى، انتقل مرض الغباء من مبارك إلى نائبه، فبدأ التحدث عن أجندات أجنبية تحرك المتظاهرين، و أن ما يطالبون به غريب عن الروح المصرية الأصيلة، و هو الشيء الذي يثير الضحك بقدر ما يثير الغيظ، فالجهة التي تستطيع أن تحرك هذه الملايين لهي جهة جديرة بالاحترام، و هي الأقدر على حكم البلاد و لا شك !

المثير للشفقة كان الإعلام الرسمي، الذي كان يتصبب غباء و بلاهة، عندما يصر على وصف الأجندات، و يفتح المجال لمن يقول إن المتظاهرين يتلقون وجبات كنتاكي مجانية من أجل التظاهر، و يترك الحديث لمن يقول إن ميدان التحرير هو "ماخور كبير"، و يركز على الأماكن الفارغة من الميدان، أو يجعل مشهد النيل الهادئ هو ما يملأ الشاشة، و كأن السمك هو مَن سيتظاهر !

ثم انتقلت روح التحرر و التحرير إلى بقية الوطن العربي بعد أن استطاع الشعب المصري إزاحة مبارك عن كرسي الرئاسة – و إن كانت أقاويل تؤكد أنه لم يتزحزح تمامًا – إلى باقي الوطن العربي، ليظهر مصطلح الغباء الجمعي واضحًا للجميع ..

بدأ الليبيون في الدعوة إلى مظاهرات حاشدة يوم 17 فبراير، فصرح القذافي أنه سيعتقل كل من يدخل فيسبوك، ثم قطع الخدمة لاحقًا بالإضافة لقطعه كافة صور الاتصال، و خدمات أخرى، و هو ذات الخطأ الغبي الذي ارتكبه مبارك، متصورًا أن الأمر كله ينحصر في فيسبوك و تويتر، و أن هذان هما أس البلاء ..

انطلقت المظاهرات في اليمن، فتحدث عبدالله صالح عن الأجندات الأجنبية التي تحرك المتظاهرين، و هو الأمر الذي دفع البعض للبحث عن مورّد الأجندات الذي لا ينضب هذا، بحيث استطاع الحصول على "توكيل" الوطن العربي بأكمله .. ذات الخطأ الغبي الذي ارتكبه نظام مبارك من قبل ..

انطلقت المظاهرات في البحرين، فنزل الجيش يفرق المظاهرات بالرصاص الحي، و هو ذات العنف غير المبرر الذي استعمله القذافي و لا يزال يستعمله لصد المظاهرات و تفريقها، لكن القذافي تفوق على الجميع و لا شك .. استخدام المدفعية الثقيلة و الدبابات و الرشاشات الثقيلة و ربما الطائرات أيضًا، و استقدام مرتزقة من أفريقيا لقتل المتظاهرين .. لا أصف كل هذا بالغباء، فالغباء في التعامل مهما بلغ لا يمكن أن يبلغ هذه المنزلة، و لا أجد وصفًا أدق و أبلغ من قول الله سبحانه و تعالى "فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" ..

المشهد يتكرر من بلد لآخر، و نفس التصريحات و طريقة التصرف تتكرر من حاكم لآخر، و كأن المعين الذي ينهلون منه كله واحد، و كأنهم جميعًا رضعوا من بقرة واحدة، مصابة على الأرجح بجنون البقر !

لقد أسس الحكام العرب لمصطلح الغباء الجمعي، بل جعلوه مذهبًا في الحكم، و هو أمر – أزعم – أنه سيغير الكثير من نظريات علم السياسة، و سيدفع علماء النفس لبحث هذا الأمر، و إيجاد تعريف دقيق له، لكن حتى ذلك الحين، يبقى الغباء الجمعي المحرك الأكبر لتصرفات الحكام العرب بلا منازع ..

8.2.11

كيف ستتحول ثورة 25 يناير من "ثورة" إلى "نكسة" ؟


ستجتذب تدوينتي هذه المؤمنين بنظرية المؤامرة و عشاقها، و سيجد الكافرون بها أسبابًا عديدة ليتشاجروا معي، لكنني على ثقة أنني أسوق أدلة مقنعة للطرفين .. أيًا كان الأمر، فإن حقيقة صغيرة يجب أن تكون واضحة قبل أن أكمل: لست أنا صاحب هذا التحليل و الرؤية – التي أراها صائبة – لما سيأتي، و لا يتعدى دوري دور الناقل الأمين ..

على أية حال، و أيًا كان موقفك مما حدث في الخامس و العشرين من يناير الماضي، لا بد و أنك تعترف أنه غير الكثير في مصر، و أنه حرك الساكن الراكد فيها، بل أعاد تعريف الحركة أيضًا .. كيف إذن يمكن أن يتحول هذا من "ثورة" إلى "نكسة" ؟

لأكن دقيقًا، فالتعبير المناسب هو أنها ستتحول إلى "وكسة" و انتكاسة للشعب المصري، و المزعج في الأمر هو أن الشعب هو من سيحولها إلى هذا، بشكل غير مباشر ..

كيف هذا ؟

لنبدأ بأولى تصريحات محمود رضوان وزير المالية الجديد، الذي أعلن عن إنشاء صندوق لتعويض المتضررين من أعمال الشعب، قيمة محتوى هذا الصندوق خمسة مليارات جنيه .. هل تستطيع أن تذكر لي آخر مرة كانت الحكومة فيها بهذه الرقة و الوداعة و العطف ؟!

الملاحظة الثانية هي أسعار السلع الغذائية الآخذة في الانخفاض .. أنا أتحدث على الأقل عن الخضروات التي ألاحظ – و لاحظ كثيرون ممن أعرفهم – أن أسعارها تهبط، بعكس ما هو متوقع مع أزمة بحجم ما نحن فيه، أو كما يقول النظام .. هذه مجرد بداية ليس إلا، و المزيد من التخفيض في الطريق ..

الملاحظة الثالثة هي ما قاله شهود عيان عن أشخاص يتحدثون عن جمال النظام و حلاوة النظام و استقرار النظام، يندسون – حقًا هذه المرة – وسط الناس ليشيعوا نوعًا من الانهزامية في النفوس .. يضاف إلى هذا لغة الخطاب الأخير للرئيس، الذي تحدث إلى العواطف و نحى العقل جانبًا ..

ماذا تستنتجون ؟

حسنًا .. الأمر ببساطة أن الحكومة و النظام سيحاولون كسب الوقت .. عمر سليمان بارع في هذا براعة شديدة، و هو مفاوض لا يشق له غبار – على الأقل بالنسبة لشباب الثورة – و هو قادر على كسب الوقت إلى ما لا نهاية ..

في الوقت ذاته تبدأ الحكومة خطة "فخفخة الشعب" بالمعنى الحرفي للكلمة؛ تخفيض الأسعار .. تخفيض الضرائب و إلغاء البعض .. معاقبة رموز الفساد في الحكومة السابقة، و إصدار بعض الأحكام الثقيلة .. رفع الرواتب، و ربما تحديد حد أدنى للأجور .. باختصار، ستكون مصر جنة، و لكن بشرط: حسني مبارك لن يرحل الآن و لن يتنحى، ليحافظ على "الاستقرار" ..

بينما هذه الخطوات تجري على قدم و ساق تبدأ الخلايا النائمة و عملاء النظام في الانطلاق، و الترويج إلى أن هؤلاء المتظاهرين المحتجين في ميدان التحرير و غيره هم خونة ناكرون للجميل لا يعون شيئًا و لا يفقهون .. أليس هذا هو النظام الفاسد الذي يطالبون بإسقاطه، و هذا هو الرئيس الذي يطالبون بمحاكمته ؟ إنهم مأجورون عملاء، فكما ترون: "النظام زي الفل" ..

سيتم الترويج لأكذوبة أن الرئيس لا يعلم، و أن ما كان إنما هو من فساد معاونيه .. سيتم تجميل صورة مبارك الأب الحنون، الذي استجاب لمطالب الشعب و أصلح النظام و أقال الفاسدين ..

شيئًا فشيئًا سيجد أولئك الثوار أنفسهم محاصرين .. النظام من جانب، و جموع الشعب المغيّب المجهل المغسولة دماغه من جانب آخر .. سيحكمون فكي الكماشة في قسوة و ستُجهض الثورة و هي لا تزال في مهدها ..

لحظتها لن "تعود ريما لعادتها القديمة"، بل ستعود لما هو أسوأ من عادتها القديمة .. لا يهم أسيستمر مبارك لحظتها أم لا، فالنظام نفسه و زبانيته باقون، و ستعود قبضته أقوى و أقسى مما كانت ..

لا أقول إن هذا هو "ما سيحدث"، بل هو الذي "من الممكن أن يحدث" ..

أنا لا أخاف علينا – نحن المتعلمين – من هذه الخطة القذرة، التي لطالما استعملها النظام قبلاً في أوقات الانتخابات التشريعية؛ فأغلبنا يمتلك عقلية ناقدة يستطيع بها أن يفند ما يرى و يسمع، لكنني أخشى من نصف الشعب المصري .. خمسة و ثمانون مليونًا نصفهم جاهلون لا يعرفون – حرفيًا – "الألف من كوز الذرة"، و لو قال لهم النظام إن هؤلاء الثوار خونة عملاء يحملون أجندات أجنبية و يأكلون بدعم من الموساد و أمريكا فسيصدقون .. سيصدقون كما صدق البعض منهم خطاب مبارك الأخير، و مثلما هم مستمرون في تصديق تفاهات و خرافات التلفزيون المصري ..

رسالتي باختصار أن النظام يحاول الالتفاف حول الثورة ليقتلها قبل أن تولد فعليًا، فهي حتى الآن – إلى حد بعيد – ثورة الشباب المثقف .. يحاول أن يستعمل الجاهلين الذين صنعهم عبر تاريخه ليقتل الفئة المتعلمة الواعية، و يقضي على أي أمل لهذا الوطن في غد أفضل ..

رسالتي باختصار هي أن تلتفوا حول التفافه .. انتبهوا لهذه اللعبة البطيئة الخبيثة، التي سيفرم فيها النظام كل من ثاروا عليه فرمًا .. انتبهوا و اشرحوا للناس لماذا ستستمر المظاهرات و الاعتصامات و الاحتجاجات ..

اشرحوا للبسطاء الذين لم ينالوا حظهم من التعليم و التفتح على الدنيا، و الذين هم هدف النظام الحالي لوأد ثورتنا في مهدها .. اشرحوا لهم لماذا و كيف .. اشرحوا لهم من أجل مَن نفعل هذا .. اشرحوا لهم و اغسلوا ذلك العفن الذي عشش في عقولهم و السم الذي يسري في عروقهم، و اكسبوهم إلى صفنا لا إلى صفوفهم ..

لا تكونوا أقل ذكاء من النظام ..

و في الوقت نفسه لا توقفوا الاحتجاج .. لا تهدأوا .. لا تركنوا إلى الراحة .. اجعلوا كل شبر في مصر مصدر إزعاج لهم .. اضغطوا عليهم حتى يرضخوا .. إننا نحقق مكاسب متتالية، و نحرك الجبال الرواسخ من قديم الزمن، فلا تتوقفوا الآن ..

رسالتي باختصار: واصلوا، فالنصر حليف الحق، و نحن بإذن الله على حق ..


18.1.11

مريم التي ذهبت ..


كنت أردد دائمًا، و ما زلت حتى وقت قريب أنني عشت طفولة معذبة، و كانت مبرراتي لهذا هي شعوري العام أنني لم أقض تلك الفترة في اللعب و التنزه و السفر، و زيارة الأقارب، أو قضاء الوقت كاملاً أمام التلفزيون أو الحاسب ألعب حتى أنام على لوحة المفاتيح، و قد كان الأمر كذلك بالفعل؛ فأغلب سنوات طفولتي قضيتها أشاهد عائلتي تتصارع على ما اكتشفت مؤخرًا أنه للجيفة أقرب، أو قضيتها مع والدي أدور في فلكه فلا ألتفت إلى ما يشبع حاجتي إلى الحياة، أو قضيتها أجتر بعضًا من نفسي التي أهترأت مما سبق محاولاً استعادة التوازن الذي لم أعرفه يومًا ..

لكنني كنت أدعي، بل كنت أكذب و أتمادى في الكذب؛ فكل ذا ليس طفولة معذبة أو حتى "غير سعيدة"، بل هي طفولة تزن من الفرح أطنانًا، إذا ما قورنت بما رأيت في الأسابيع التي مضت ..

وفقًا لجدول دراستي، فإنني الآن – و حتى أسابيع قادمة – أتدرب في مستشفى الشاطبي للأطفال .. كنت متخوفًا من هذه الفترة، إذ أعرف أن مهاراتي في التواصل الاجتماعي تقترب من الصفر، و أواجه مأساة عظمى – أو أنني أراها كذلك – في التواصل مع الكبار، فما بالي بالصغار ؟!

كنت متخوفًا، لكنني اكتشفت مع الوقت أن الأمر ليس بهذا السوء .. أنا أتعامل في الأساس مع أم خائفة على ولدها، و تراني كولدها في الوقت ذاته، ما يجعلها تخبرني بكل ما أريد، و في الوقت ذاته تخبرني بلطف و بنوع من التسامح و بصدر رحب، إن صح التعبير ..

و بالإضافة إلى هذا، فإن السعادة التي تغمرك و قد اطمأنت الأم أن ابنها بخير، و انطلقت الدعوات من فيها أن بارك الله فيك، أو و أنت ترى الطفل يجري و يلعب بعد أن كان جثة هامدة .. تلك السعادة ليس كمثلها في الدنيا سعادة ..

و رغم تلك السعادة التي غمرتني و تغمرني، و التي لا أنكرها على الإطلاق، حتى إنني قررت أن أخوض غمار حياتي الطبية كطبيب أطفال، إلا أن للحزن – أو الاكتئاب إن شئت الدقة – مكان لا ينازعه فيه أحد، و الذي لا أظنني كنت سأكتب شيئًا من هذا لولا أنه قد فاض بداخلي ..

تخيل أنك ترى طفلاً لم يتم عامه الأول بعد، و ترى أمه فرحة به، لكنك تدرك أن هذا الطفل سينشأ متخلفًا معاقًا ذهنيًا، و سيكون عبئًا على أهله، و سيجلب إليهم المشاكل و المتاعب .. تخيل أنك ترى طفلاً لم يتجاوز السادسة، تكتشف أنه مصاب بفيروس الالتهاب الكبدي سي، أو بالفشل الكلوي المزمن، و أنه سيظل طول عمره مريضًا عليلاً يتردد على وحدة الغسيل الكلوي، أو ينتظر تليف الكبد و سرطانه يأتيه بظله الكريه يومًا من الأيام .. تخيل أنك ترى طفلاً يعاني من مرض خلقي في القلب، يعاني بسببه من نقص الأكسجين في دمه، و تراه يغرق في زرقة كزرقة الموتى، و ليس في يدك شيء تفعله إلا أن تصبّر أهله و تدعو له بالرحمة أن يستطيع اللحاق بموعد العملية الجراحية ..

تخيل .. تخيل فحسب .. و تخيلني كيف أكون – أو كيف يكون أي طبيب – أمام كل هذا ؟!

تحدثت ذات مرة إلى صديق أمرُّ معه بعد انتهاء الدرس على المرضى، نسمع منهم – من الأمهات بالطبع – و ندرب أنفسنا كيف نصبح أطباء .. تحدثت معه ذات مرة و قلت إن من يقولون إن طبيب الأطفال لا يصاب بالاكتئاب لأنه يتعامل مع كائنات رقيقة تبعث البهجة أينما حلت هم قوم جهلة، لا يفقهون شيئًا و لا يعقلون، و لا يعلمون ..

لا يفقهون أن طبيب الأطفال لا يرى الطفل إلا حال مرضه – في أغلب الأوقات .. يرى البراءة و قد أُغتيلت، و المرض ينهشها شيئًا فشئيًا، و هو إما يرجو الشفاء، لكنه لا يملكه، بل يبذل في سبيله العلاج و الدواء، أما الشفاء فمن عند الله، أو هو يرجو رحمة الله، فيريح الطفل و أهله مما هو و هم فيه ..
و لا يعقلون أن من يرى هذا كل يوم إما أن ينتهي به الأمر إلى اكتئاب مزمن، أو أن يفقد إحساسه بالحياة و ما فيها و من فيها ..
و لا يعلمون أن الطفل لا يواجه المرض فحسب، و لو كانت كذلك لكان الأمر هينًا .. إنه يواجه المرض، و الفقر، و الجهل، و الأهم من ذلك: الإهمال ..

مريم التي ذهبت كانت براءة تبلغ من العمر أربع سنوات، و من المرض آلاف السنين .. أول مرة رأيتها فيها لم أقو على الاقتراب، فحالتها التي رأيتها عليها كانت تنذرني بألا أدنو، ففيها ما يكفيها، و أنا في النهاية لن أقدم لها الكثير – رغم أني اكتشفت خطأ ذلك كما سيتضح بعد قليل – فلا داعي أن أزعجها و أزعج أمها فوق ما فيهما ..

كان أول لقاء لي بها صدفة، لكننا – أنا و صديقي هذا – قررنا استغلالها، و معرفة تفاصيل التفاصيل، لنكتشف أنها كانت مزروعة في خندق من الإهمال و اللامبالاة القاتلة .. مزروعة إلى الدرجة التي أذهبت كل جهودنا هباء ..

كنا نطمئن عليها، و نتفقد نتائج تحليلاتها، و ننذر الأم إلى مواطن الخطر، و ننبه الأطباء إلى علامات الخطورة، لنكتشف عالمًا سفليًا بغيضًا، لست أتورع أن أصفه بأنه قذر أيضًا .. عالم من الإهمال الكل مشترك فيه، من الطبيب على قمة الهرم، إلى الممرضات في قاعدته، و المبدأ فيه "أنا و من بعدي الطوفان" ..

كانت الحالة تزداد سوءًا يومًا وراء يوم، و إهمال رعايتها يزداد يومًا بعد يوم .. كل ما يشغل بال الأطباء هو أنها "على قيد الحياة"، غير مكترثين لأن حالتها تسوء بالفعل .. كانت محتجزة عندهم لما يزيد عن أسبوعين، و لم يكتشفوا أنها مريضة بالسكر إلا بعد أن أصر صديقي على أن يتيقنوا من هذه النقطة، لأنها جزء أصيل من المتلازمة التي كانت مصابة بها .. و حتى هنا، تأجل الأمر يومين حتى اقتنعوا أنها مريضة بالفعل، ليبدأوا معها العلاج بإهمال أيضًا ..

كانت الحالة تزداد سوءًا يومًا وراء يوم، و إهمال رعايتها يزداد يومًا بعد يوم، و بعد أن كانت تظهر أعراض المتلازمة الأصلية، بدأت تظهر عليها مضاعفات مختلفة، ثم كان اليوم الذي أتاني صديقي هذا بالخبر الذي وقع عليّ كصاعقة من السماء .. لقد ماتت !

لقد ماتت !

لقد اصطدمت بالموت عدة مرات من قبل، لكنها المرة الأولى التي ينتابني فيها مثل هذا الشعور .. شعور الصدمة التي تجعلك ترفض الواقع .. ترفض أن تكون قد ماتت، أو ماتت بهذه البساطة ..

عندما رأيتها أول مرة أدركت أنها بائسة، لكنها ليست شديدة البؤس؛ فالمتلازمة التي كانت تعاني منها كان لها علاج ناجع، و تطور حالتها - في الظروف الطبيعية – يوصف بالـ"جيد تحت المراقبة"، أي أن المتابعة الجيدة للحالة تبقيها كأن ليس بها شيء، لا أن تؤدي متابعتها أن تفارق الحياة ..

تملكتني حيرة و أنا أعيد التفكير فيما حدث .. أهي ضحيتنا لأننا نبهناهم إلى مشكلة خطيرة، فعالجوها بإهمال ما جعلها تسوء أكثر؟ أم ضحية الأطباء الذين نظروا إلينا باستخفاف باعتبارنا طلبة، بينما هم العلامة الفهامة، فتجاهلوا ما قلنا؟ أم ضحية التمريض الذي يشعر أنه يتحمل دومًا أخطاء الجميع فيترك الجمل بما حمل "و إياكش تولع"؟

ذهبت مريم، و مثلها يذهبون كل يوم، فادعوا لهم بالرحمة، و ادعوا لنا أن يغفر الله ما نفعل في هؤلاء الأطفال .. اللهم آمين ..

12.1.11

قراءة في استراتيجيات الحروب الدراسية

أحب هذه العناوين التي تبدو عليها الأهمية و العمق، حتى إذا توغلت في القراءة وجدت الكاتب يهذي، و يتحدث بما لا يعقل أو يُعقل .. إلا أنني هذه المرة أعنيها تمامًا؛ " استراتيجيات الحروب الدراسية" ..

من المعلوم أن البشر يولدون جهلة لا يعرفون شيئًا و لا يفقهون حرفًا، ليس معهم إلا غريزة أودعها الله فيهم حتى لا يقضي عليهم الموت – إلا من قُدر له هذا – في مستهل حياتهم، ثم تبدأ جذوة الغريزة تخبو شيئًا فشئيًا، و تحل محلها شعلة العلم ..

يتعلم المرء كي يرتقي، و "يرفع بيوتًا لا عماد لها"، و طريق العلم و التعلم ليس مفروشًا بالورود، و لا حتى أوراق الشجر الذابلة، بل إن الشوك هو أبسط ما فيه، و أقله إثارة للألم .. طريق العلم طريق حرب متصلة مع النفس و شهواتها التي تجر المرء جرًا إلى الأسفل، و حرب متصلة مع الذين استسلموا لأنفسهم و شهواتهم فليس لهم همٌ إلا جرك إلى الأسفل دومًا، و حرب متصلة مع عمر قصير تكتشف مع الوقت أنه لا يكفيك، و أنك ستقضيه كله فلا تشعر أنك وصلت إلى ما تصبو إليه نفسك – إن كانت نفسًا طموحة ذات همة عالية ..
هو طريق حرب، لكن به من الحلفاء الكثير .. يعاونك أهلك كي تستمر، و يعاونك مدرسوك كي تعلو و ترتقي، و يعاونك من قبلهم إيمانك كي تنسى الألم، و من فوق كل هؤلاء و من حولهم توفيق الله و تسديده خطاك ..

لكننا في مصر لا بد و أن نختلف .. مصر دولة ذات خصوصية، و هذا شيء لم أعد أتعجب منه أيًا كان موقع هذه الخصوصية .. نحن نختلف عن الآخرون – و الآخرون بالواو مقصودة – في كل شيء، و كلما كان الاختلاف نحو الأسوأ كلما كان أكثر ثباتًا و تثبيتًا لنفسه، و كلما كان أشد رسوخًا من الحق في وضح النهار ..

نحن في مصر نختلف، فالحلفاء في طريق العلم ليسوا كُثُرًا .. هم نفسك التي ترقص على حبال الشك، و شيء من أهلك الذين أعيتهم الدنيا بما فيها و من فيها، و بعض من الإيمان الذي يتزعزع و يتزحزح تارة و تارة من فرط ما يرى صاحبه .. ليسوا كُثُرًا و ليسوا ينفعون وقت الحاجة، فأغلبهم يحتاج إلى من يعينه ..
و فوق هذا و ذاك، و كأنه ليس يكفي، تجد أن مدرسيك قد جعلوا منك عدوًا و هدفًا، و ناصبوك العداوة و البغضاء التي بدت من أفواه أغلبهم – و ليس كلهم كي لا نظلم – فأنفقوا الأيام و الليالي كي يتفننوا كيف يحيلون ما تبقى من حياتك جحيمًا يدفعك كي تتخلص منه فتصله بجحيم الآخرة ..

ربما تقرأ و تتعجب، و لربما ترميني بالتعدي و الغلو و التطرف، و لك الحق في ذلك و لست أنكره .. أنا نفسي ظللت أنكر و استنكر هذا عامين متصلين، ثم بدأت أتشكك فيه لعام آخر، ثم أؤمن به على وجل لعام آخر، حتى أعتنقته مذهبًا بعد خمسة أعوام قضيتها في كلية الطب، واجهت فيها الكثيرين ممن يحملون رسالة تعليم أجيال جديدة، و تخريجها إلى المجتمع أطباء أكفْاء يقومون بما يجب القيام به، لكنني اكتشفت أنهم حملوا الرسالة إلى بائع الخردة و استبدلوا بها أكوامًا من الأموال ألهتهم عنها، فأخذوا يجرون وراءها لا هم لهم إلاّها و لا دنيا تدور إلا حولها، و بعضهم – أعاذنا الله – اتخذ منها دينًا يمشي بفقهه بين الناس ..
تجد أن هؤلاء لا يقيمون لك وزنًا، فلا يأتي أبدًا في الموعد، و إن أتى فلكي يرحل سريعًا لأنه مشغول بعيادته الخاصة، أو محاضرة يلقيها هنا أو هناك، أو هو لا يرى فيك نفعًا من الأساس، و هو يرغب في الرحيل عنك بأسرع مما جاءك حتى إن كان خالي الوفاض ..

ثم إذ هو يلقي على مسامعك العلم، تجده يلقي إليك بفتات الكتب، و بقايا الدوريات و المجلات، و جيفة ما تركه العالم وراءه منذ زمن، باعتبار أن هذا هو قدرك من العلم، لكنه في الوقت ذاته يطلب منك أن تتعامل مع هذه الفتات كأنها الدر النفيس و الذهب البندقي الصافي، فلا تراجعها وراءه من كتاب، و لا تتثبت منها من مرجع، بل قوله الفصل، فهو العلامة الفهامة الذي بقر بطون الكتب و أتى على علوم الأولين و الآخرين، و ما ذاك الذي في الكتب إلا سقط متاع ..

ثم إذ أنت احتلت حتى تحصل على ذلك المصدر الجهنمي الذي يأتي منه بما يقول، تجده يتحدث في اعتداد كاذب بإن ما يقوله هو حصيلة قراءات كثيرة، و إن هذا هو مجهود السنين، و هو لن يسمح لأحد أن يأخذ مجهوده، لتكتشف في النهاية أن مصادره ليست إلا هشيم الكتب، و سقطات المؤلفين، و أنه لا ينتقي إلا ما يحرق دمك و يشعرك بالعجز ..

ثم إذ أنت رأيته في محفل علمي يضمه إلى جانب قامات عملاقة حقًا و صدقًا وجدته يرتجف كالفرخ المبتل لا يقوى على الحديث في حضورهم، يتلعثم في الحديث و تبدو عليه أمارات الجهل إذا ما سُلط عليه نور العلم و الحقيقة، مهين و لا يكاد يبين ..

ثم إذ أنت فعلت مثلي، و قررت أن الوقت قد حان كي تحصل على العلم كما ينبغي لك حتى تكون شيئًا ذا بال و قيمة، وجدته يناطحك و يناصبك العداء الصريح الواضح الذي لا لبس فيه و لا تورية، و تجد جملاً و عبارات لا تخرج إلا بين الأنداد و الأعداء تتهاوى على مسامعك لا تدري أأنت تسمعها أم يخيل لك ذلك أم أنك تهذي، تجد "ابقوا خلوا اللي بتعملوه ينفعكوا" و "حتشوفوا" و "و حياة أمي اللي حيدخل لي في الجزئية دي و ما يجاوبش لأكون مسقطه" و "أغبيا" و "الحشرة الحمرا اللي سايبة المحاضرة و ماشية ورا دي" و غيرها مما تحتاج لقائمة من المطاط كي تستوعبه ..

ثم إذ أنت أدرت الأمر في رأسك وجدت عجبًا؛ فلا هو أعطاك من العلم ما ينفعك، و لا أنت سلمت من لسانه إذ استسلمت لما يقول، فتهوي عليك عبارات السباب و التقريع و اللوم و توصف بالكسل و الخمول و الركون إلى "المعلومة التي تأتي بالملعقة"، و لا سلمت من تشكيكه إذا ما انطلقت في أمهات الكتب تبحث و تقرأ، فتسمعه يتحدث عن المرجع الفلاني بإنه ضعيف، و الكتاب الفلاني بإنه غير واضح و غير محدث و قديم، و لا أنت سلمت من لسان الناس إذ يجدونك على هذه الصورة المخزية من الجهل، أو الجهل الذي يرتدي ثوب العلم، و الذي – كي تزداد الأمور سوءًا فوق سوء – يبدو مضبوطًا عليك تمامًا، فينخدع الناس بك ..

تتعجب إذ ترى أن من يفترض فيهم أن العلم قد هذبهم قد استحالوا به لونًا من حثالة البشر لا مثيل له، فهو الوجيه الصعلوك، الذي تُحنى له الهامات و القامات، لكنه في نهاية الأمر لا يساوي جناح بعوضة، و هو في الوقت ذاته من يتحكم في مصيرك و مستقبلك، و بيده تلك الورقة الخرقاء البالية التي تقول إنك مشهود لك بدراسة الطب و يحق لك أن تمارسه على أجساد العباد، و هو في الوقت ذاته يناصبك العداء لسبب مجهول ..

و كثيرًا ما فكرت في هذه العداوة التي لا تبدو مبررة، و لا يظهر لها أي سبب مقنع أو حتى خوارقي، ثم ركنت بعد تفكير طويل إلى أن الله يبتلينا بمجموعة من العصابيين الذهانيين، مرضى النفوس و القلوب، المسلطين علينا، كي نتطهر مما أذنبنا في حق العباد و رب العباد، و بقدر ما أراحني هذا التفسير، إذ فيه في النهاية فائدة لي كي ألقى الله و قد تطهرت مما اقترفت في حياتي، إلا أنني أصبت بالرعب، إذ أدركت أنه وفقًا لهذا التفسير، فإنني لم أفعل حسنة واحدة في حياتي !

طريق العلم هو طريق حرب، لكنه في مصر طريق استشهاد !

3.1.11

الوصايا الألف .. العشر التاسعة

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الحادية و الثمانون: على الناس وزر ما جنت أيديهم، لا ما جنت يداك
الوصية الثانية و الثمانون: نصيحة سوء تقال بلطف، تغلب نصيحة حق تقال بفظاظة
الوصية الثالثة و الثمانون: كثرة التوهم تزيد الهم، و تجلب الغم، و لا تزيدك في الحق شيئًا
الوصية الرابعة و الثمانون: إذا سألت الله فلا تسأله المال الوفير، بل اسأله مالاً لا يتقاتل الناس من بعدك عليه
الوصية الخامسة و الثمانون: مَن أكثر اللوم تصيّد الناس هفواته
الوصية السادسة و الثمانون: توقع الأسوأ من الناس دومًا، و لن تجد سواه منهم
الوصية السابعة و الثمانون: لا يوجد مَن يَعدَمُ الوسيلة
الوصية الثامنة و الثمانون: ستكتشف مع الوقت أن الاعتراف بالخطأ ليس أقل أهمية من تفادي الوقوع فيه
الوصية التاسعة و الثمانون: أن تصر على أن يكون رأيك هو الرأي الأوحد، فذلك يصنع الأعداء أسرع من رصاصات البندقية
الوصية التسعون: أن تلاحظ فهذا نصف الطريق إلى الحقيقة .. النصف الآخر أن تعمل بما لاحظت

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

24.9.10

إحنا ع التلافزيون يا رجالة !

تحديث: الحلقة كاملة على Youtube



***

اضغط على الصورة من أجل مزيد من التفاصيل

رغم إن عدد مشاهدي القناة لا يتجاوز عدد معدي البرامج فيها بالإضافة إلى ضيوفها، إلا أن لذة الشعور بالظهور على الشاشة الفضية الصغيرة ليس لها مثيل .. ليس لدي الكثير لأقوله، اللهم إلا دعوتي إياكم أن تشاركونا هذه اللذة علّ هذا يجعلها أضعافًا مضاعفة ..

11.7.10

شيءٌ كالبكا ..


أذكر قصة قصيرة لكاتب يمني قرأتها منذ فترة، كانت تتحدث عن بكاء الرجال .. يروي المؤلف القصة على لسان بطله الذي يقول إنه ظل يُنهَر عن البكاء كلما هم به، بدعوى أن الرجال لا يبكون، و أن البكاء من شيم النساء، حتى إذا مات أبوه و أراد أن يبكي فراقه .. لم يستطع !
لم أكن يومًا من هواة قراءة القصص القصيرة، أو من هواة المغامرة بالقراءة لمؤلف لا أعرفه، خاصة لو سبق قصته نقد من عينة "إشكاليات الصراع" و "مضامين الحداثة" و "ازدواجية الأنا" و هذا الحديث المقعر الذي لا أدري من أي جحيم يأتي به هؤلاء النقاد، لكن القصة على أية حال جذبتني، و قرأتها حتى النهاية، لا لشيء إلا - ربما - لأنها مست شيئًا في قلبي ..

في البدء كنت أبكي .. لست أكذب لو قلت إنني كنت استشعر شيئًا عجيبًا كلما بكيت .. شعور بالهم ينزاح عن صدرك، أو كأن روحك تسمو فوق هذه المآسي التي تراها صغيرة، أو كأن دموعك - و التعبير ليس لي - تغسلك كلك جملة و تفصيلاً ..

في البدء كنت أبكي، ثم تحت ضغط هذه العبارة الجوفاء العرجاء الخرقاء - الرجل لا يبكي - أخذت القدرة على البكاء داخلي تتضاءل .. لم أعد أبكي إلا إذا كان الهم ثقيلاً جدًا جدًا، ثم لم أعد أبكي إلا لآلام الجسد، ثم لم تعد تبكيني إلا شرائح البصل !

أحيانًا أشعر أنني فقدت كنزًا عظيمًا .. أحيانًا تعتريني لحظات يقصم الهم فيها ظهري - و من منا لا يمر بتلكم اللحظات - و أشعر أنني أريد لدموعي ألا تقف، فلا أستطيع ..

أحيانًا أرى رؤى و أحلامًا لا أحتملها .. استرجع ذكريات لست أدري كيف طاب لنفسي أن تفقدها .. أمر بمواقف أحصر فيها حصرًا، و أرغب في أن أخفف عن نفسي شيئًا من كل هذا بالبكاء .. فلا أستطيع !

الحقيقة التي أيقنتها و أدركتها، أنك قد تجد ألف طريقة تفرغ بها ما بداخلك، لكن .. ليس شيءٌ كالبكا

7.7.10

الوصايا الألف .. العشرة الثامنة

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الحادية و السبعون: لا تكن رأسك رأس ثور لا يتقدم إلا ناطحًا، فمهما كانت رأسك صلبة فالدنيا أصلب، و أعلم أن الكثير قد تكسبه بالسياسة، و أن السياسة لا تعني دومًا المهادنة و التنازل عن الحق.
الوصية الثانية و السبعون: لا تجعل حرفتك في الدنيا دس أنفك في شئون الناس، فهي حرفة ليس لها راتب إلا السب و اللعن.
الوصية الثالثة و السبعون: من عاش يظلم الناس، مات يلعنونه.
الوصية الرابعة و السبعون: لا تبك على شيء فاتك، فلربما فاتك لتُرزق خيرًا منه.
الوصية الخامسة و السبعون: إذا تعلمت التقدم فتعلم التراجع؛ فتقدم بلا تراجع لهو أشد خطرًا من تراجع بلا تقدم.
الوصية السادسة و السبعون: اعلم أن الناس يرونك على الصورة التي ترسمها أنت في أذهانهم.
الوصية السابعة و السبعون: إذا عظمت الهمة، عظم البلاء .. فلا تبتأس.
الوصية الثامنة و السبعون: لا تعش أسير ماضيك، فهو سجّان لا يترك أسراه إلا جثة هامدة.
الوصية التاسعة و السبعون: لتكن خَجِلاً من الإصرار على الخطأ، لا من الوقوع فيه.
الوصية الثمانون: إذا كنت ممن هوايتهم إثارة المتاعب، فخير لك أن تعتزل الناس .. و حتى إن لم تفعل، فهم سيفعلون.

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

23.6.10

ربح مضمون، فهل أنت مستعد ؟

جميعنا تقريبًا سمع و يسمع كل يوم عن "الربح من خلال الإنترنت"، و كثير منا أيضًا تراوده أحلامه أن يكون ما يسمع حقيقة؛ أن أناسًا يربحون الآلاف و هم جلوس في منازلهم و كل ما يفعلونه هو بضع ضغطات هنا و هناك، لا أكثر و لا أقل ..
بالطبع راودني هذا الحلم، لكنني كنت دائمًا متشككًا بخصوصه .. المال السريع الذي لا تعب فيه هو ضرب من ضروب الخيال، و أولئك الذين يعدونك بالثراء السريع أغلبهم نصابون .. هذه حقيقة لا يمكن أن نتغافل عنها، و لكن ..
لكن الكثير من الأشياء تغيرت .. قررت أن أخوض تجربة بسيطة، لن تضر، لكنها قد تنفع كثيرًا، و قد جاءت بنتائج ممتازة، ترون أولاها في الصورة التي في بداية الموضوع ..
إنه إثبات تحويل النقود من موقع Neobux إلى حسابي على AlertPay .. دولاران فحسب، لكنه يثبت أنهم يدفعون، و هم من القلائل الذين يفعلون هذا حقًا ..
إذا أردت أن تشارك في الربح، فما عليك سوى الضغط هنا: http://tinyurl.com/35t49v3 و تأكد أن الأمر مضمون جدًا ..

إذا أردت أن تعرف المزيد فتفضل: http://ptc-investigation.com/NeoBux.aspx

حظًا سعيدًا، و ربحًا مباركًا :)

8.6.10

جهاز ضغط و سماعة - الحلقة الرابعة عشرة


لن أكتب ها هنا كما اعتدت، بل سأترك الصورة تتحدث، لأنها أبلغ من كل ما سأقول ..
الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به تلك العقلية المهترئة التي تجبر الجيل القادم من الأطباء أن يكره حياته - لا مهنته فحسب - من فرط ما تحشوها بتفاهات ليس لها معنى و لا فائدة ..

الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به تلك السادية العجيبة التي يتمتع بها أولئك المسمون زورًا - إلا قلة منهم - بأساتذة الجامعة .. حملة مشعل العلم في مصر، الذي يتضح مع الوقت أنه مطفأ، لأن الغاز يصدر إلى جارتنا الحبيبة الودودة الطيبة إسرائيل ..

الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به هذا الكم البشع من الهراء الذي لا يمكن أن يتحمله ابن آدم، لكننا - كطلبة نطلب العلم الذي مجد منه صدودًا مستمرًا - مجبرون على تحمله و تحمل كل ما يترتب عليه من أمراض قلما تجد طبيبًا خرج إلى الدنيا دونها .. يكفي الرجال سقوط شعرهم، و يكفي النساء ذهاب جمالهن ..

الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به تلك الكيفية و القدرة التي ليس لها حدود، و التي تدهشني يومًا بعد يوم، على إيجاد مبررات منطقية للهراء و العبث، بحيث يطرد طالب من لجنة الامتحان قبل تمام وقته، فيحصل على الدرجة النهائية، و التعليل: ابن دكتور ..

الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به ذلك الشعور المؤسف الذي أصبح ملازمًا لأغلبنا - طلبة و طالبات .. شعور بالاحباط و الاكتئاب و الرغبة في التخلص من الحياة، و ربما لا يمنعنا من هذا إلا شيء من الإيمان بالله، و نعمة أنعم الله بها علينا : الأصدقاء و رفقاء الكفاح ..

الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به كل ما يجري، لأن ما يجري لا يوصف .. لا تنتظروا من أطباء درسوا بهذه الطريقة أن يخرجوا إلى العالم يعالجون و يداوون، بل إن الطبيب الذي يصور مريضاته في أوضاع يندى لها الجبين يبدو هو المنتج الوحيد الذي يقبله العقل و المنطق لنظام تعليمي كهذا ..

لن أكتب كما اعتدت، فالصورة تتحدث أبلغ من كل ما سأقول ..

31.5.10

الحرية


عندما كتبت في هذا الموضع مقالاً عن الجدار الذي شيدته مصر لعزل و حصار غزة، بحجة إغلاق الأنفاق، ظللت اسأل نفسي: لم كل هذا الهياج من أجل جدار أقامه حفنة من الأوباش، بينما الكيان الصهيوني نفسه يدك غزة ليل نهار ؟!
و بعد شيء من التفكير وجدت أن الأمر لا يتعلق بالجدار في حد ذاته، و لا بالحصار و لا الدك و العجن و السحل الذي يلقاه إخواننا في غزة ..
فإذا العيب كان من أهله
فلا عيب و لا خجل
و هذا هو بيت القصيد؛ إذ من المفترض من مصر - الشقيقة الكبرى للعرب كما يدعي أولو الطول عندنا - أن تدعم، و تؤيد، و تساند لا أن تحاصر و تقتل ..
ما الجديد في ما يفعله الصهاينة ؟ .. لا شيء .. هم يفعلون الشيء نفسه منذ عام 1948 .. لكن الأمر ذاته يأخذ بعدًا مفجعًا عندما تقوم به مصر، أو أي دولة عربية أخرى من أولئك الذين أزعجونا ليل نهار بالحديث عن العروبة و الإسلام و القضية و الأرض التي لن تكون إلا لنا .. شيء يدعوك أن تغمس نفسك حتى النخاع في أنقى صور الشعور بالخزي و العار ..
و مع إنطلاق ذلك الأسطول البحري الذي تزعمت قيادته تركيا، شعرت بمزيد من الخزي أنني أنتمي - حسب الأوراق الرسمية، لا حسب قلبي و ما فيه - إلى هذا النظام الذي باع الأرض سحتًا و أكل ثمنها ..
البعض يقول إنْ هي إلا "حركات دعاية" يقوم بها النظام التركي، ليجمع حوله الأتباع .. هل عشرة آلاف طن من المواد الغذائية و المساعدات "حركات دعاية" ؟! .. لو كانت كذلك فمرحبًا بهذه الحركات ..
ما فعلته قوات الكيان الصهيوني من اعتداء ليس جديدًا، و لا يدعو لشيء من الدهشة أو الشعور بالغيظ، لكن موقفنا نحن - و نحن تشملنا نحن الشعوب التي تنعت نفسها بالمستضعفة المغلوبة على أمرها - هو الذي يستوجب أن نحرق أنفسنا أحياء، فأولئك الذين هم أبعد ما يكون عن خط النار و المواجهة - الأتراك - فعلوا ما لم نفكر فيه نحن، و نحن في المواجهة كأقرب ما يكون ..
قبل أن أنهي، تذكرت ما فعلنا بجورج جالاوي و قافلته شريان الحياة و المنع و الضرب و السحل .. ألا يذكركم هذا بشيء يحدث الآن في عرض البحر ؟

23.5.10

الوصايا الألف .. العشرة السابعة

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الواحدة و الستون: لا تكن مفرط الحساسية، فالحياة مليئة بالألم، و أمثالك لن يدوموا إلا لحظات
الوصية الثانية و الستون: من جد وجد .. المهم أن تجدّ
الوصية الثالثة و الستون: أن تعرف ماذا ستفعل فهذا أمر مهم، لكن كيفية فعله تظل أكثر أهمية
الوصية الرابعة و الستون: عش كما شئت، لكن لا تحزن إذا وجدت ما خلفته وراءك سوادًا حالكًا
الوصية الخامسة و الستون: إن لم تكن لديك القدرة - أو النية - لتغيير واقعك المزعج، فلا تبحث عن مواطن الإزعاج فيه .. لا أنت غيّرته، و لا أنت رحمت نفسك شر الاكتئاب
الوصية السادسة و الستون: يولد الفراغ لدى المرء حالة مزعجة من الرغبة في إزعاج الآخرين، لذا، اشغل نفسك بما ينفعك قبل أن تنشغل بالرد على سباب الآخرين
الوصية السابعة و الستون: إذا كانت لديك الطاقة كي تغضب، فلتكن لديك الطاقة كي تتحكم في غضبك
الوصية الثامنة و الستون: محّص نفسك إذا ما وجدت الجميع حولك يكرهونك، فهم حتمًا لم يولدوا كذلك
الوصية التاسعة و الستون: كل الطرق تفشل إذا ما فشل التحاور
الوصية السبعون: لا تضيّق الخناق على من حولك، فتستفزهم أن يخدعوك

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

11.4.10

الوصايا الألف .. العشرة السادسة

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الواحدة و الخمسون: بالخوف قد تحصد احترامهم، لكنك لن تحصل على محبتهم
الوصية الثانية و الخمسون: إن لم يكن لك من حب الخير نصيب، فكن محبًا لأهله، فإن لم ينفعك الخبر نفعك أهله
الوصية الثالثة و الخمسون: لا تجعل من حياتك حربًا متصلة، فحتى الجيوش الكبرى تستريح
الوصية الرابعة و الخمسون: ليست الحياة فوزًا دائمًا .. كن متأهبًا دائمًا للخسارة، فمن لا يتوقعها تقع من نفسه موقع الموت
الوصية الخامسة و الخمسون: لا تقض حياتك تشك في الكل، فتموت و قد كرهك الكل
الوصية السادسة و الخمسون: كن حذرًا في تعاملك مع الناس، فالبعض قد يتناسى، لكنه لا ينسى، و هذا الطراز -حتمًا- لا و لن يغفر
الوصية السابعة و الخمسون: إذا كنت قادرًا على إتيان الأفعال، فكن قادرًا على تحمل النتائج
الوصية الثامنة و الخمسون: لا تلق بعملك إلى الآخرين تكاسلا منك، ثم تلمهم على خذلانك
الوصية التاسعة و الخمسون: لا تلم الآخرين على ضعفك، فلو كان لهم في ذلك ذنب، فلك فيه ألف
الوصية الستون: لو أدرك الإنسان ما أدركه بعد فوات الأوان، لكان منه غير ما كان .. و لأن هذا لن يحدث، فانفض عن نفسك شبح الندم، فهو لن يتركك إلا جثة يائسة

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

25.2.10

الوصايا الألف .. العشرة الخامسة

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الواحدة و الأربعون: احم نفسك بحسن ظنك بالآخرين
الوصية الثانية و الأربعون: لا تجر وراء شي فاتك من متاع الدنيا، فهو بين أمرين .. إما أن يأتيك في وقته، و إما أنه ليس مقدرًا لك من الأصل
الوصية الثالثة و
الأربعون: لا تنظر إلى ما في يد غيرك، فتفقد ما في يديك
الوصية الرابعة و الأربعون: رحم الله رجلا عرف قدر نفسه، فلا هو كلفها ما لا تطيق، و لا أذلها بسفيه الأمور
الوصية الخامسة و الأربعون: إذا لم تستطع أن تتقن عملك، فخير للجميع ألا تزاوله
الوصية السادسة و الأربعون: كلما أفرطت في استخدام القوة، كلما ازداد يقين الناس أنك الأضعف
الوصية السابعة و الأربعون: رفقًا بنفسك، فكما تفعل في الناس يُفعل بك
الوصية الثامنة و الأربعون: لا تنه الناس عن شيء و تفعله، فإن كان باطلاً فالأحق أن تتركه، و إن كان حقًا فالأحق ألا يتركوه
الوصية التاسعة و الأربعون: من ارتدى جلد غيره فلا يأسفنّ إن صار عريانًا
الوصية الخمسون: ليس المهم أن تقول الشيء الصحيح، بل المهم أن تقوله بطريقة صحيحة و مناسبة

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

7.1.10

جدار الفولاذ و الدم و العار

"مصر إيه القصة..
احكوا يا مصريين..
بدكم تخنقونا..
نروح على مين..
غزة هالمقبورة والناس تعبانين..
بيكفي اليهود ..
ارحمونا يا مصريين ..

قالوا عن الجدار..
هذا أكبر إنجاز..
بدهم يحرمونا..
و عدوي ياخذ غاز..
عدوي ياخذ غاز .."
إسلام أيوب

عندما بدأ رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون بناء جدار الفصل العنصري في 2002 بطول الحدود مع الضفة الغربية، و بامتداد الخط الأخضر، لم تبلغ الدهشة و العجب و الاستنكار مبلغًا عظيمًا، فهذا الكيان في النهاية هو قوة احتلال، و لربما صنفنا هذا العمل على أنه من "أرق و ألطف" ما يفعله المحتلون بالشعب الفلسطيني، رغم أنه حوّل الجانبين إلى حيوانات في حديقة يُخشى هروبهم منها ..
لكن الأمر لم يكن كذلك بكل تأكيد، عندما ذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية يوم الجمعة، الحادي عشر من ديسمبر الماضي، أن السلطات المصرية تقيم جدارا فولاذيا على عمق ما بين عشرين وثلاثين مترا تحت الأرض لمنع التهريب عبر الأنفاق إلى قطاع غزة, وقالت الصحيفة إن الجدار يبلغ طوله عشرة كيلومترات، وإنه "سيستحيل اختراقه أو صهره".
اعتبر الكل الأمر نوعًا من الوقيعة يريدها العدو أن تقع بين المصريين و الفلسطينيين، و كان رد الفعل الأول هو الاستنكار و الإنكار، فمن غير المعقول أن تجعجع الحكومة المصرية بكل هذا الحديث عن مساندة الشعب الفلسطيني و القضية الفلسطينية، ثم تأتي بجدار يسد المنفذ الأخير الذي ابتدعه أهل غزة ليحصلوا على القوت، بعد أن سُدت المعابر في وجوههم بشكل رسمي، و لم تعد تفتح إلا "بشكل استثنائي"، و كأن الأصل فيها الإغلاق ..
لكن المثير للدهشة هو أن الحكومة المصرية و النظام المصري التزما الصمت .. رد الفعل المنطقي للمظلوم و لمن يُرمى ببهتان أن يسارع للدفاع عن نفسه، لكنه الصمت .. الصمت الرسمي، فيما ذكرت الصحيفة الإسرائيلية أن مصدرا مصريا – لم تسمه – أكد بحديث لها وجود خطة لبناء الحائط، لكنه لم يؤكد بدء الأعمال لإقامته, مشيرة إلى أنه "بعد إقامة هذا الحائط فإنه ليس هناك يقين بأن تتوقف عمليات التهريب تماما"، و أن قوات الأمن المصرية كثفت مؤخراً من نشاطاتها على امتداد الحدود مع قطاع غزة وتمكنت من ضبط العديد من الأنفاق، كما أنها استعانت بخبراء أميركيين لاكتشاف هذه الأنفاق بواسطة أجهزة استشعار متقدمة ..
حتى أولئك المعارضون دومًا المشككون دومًا أنكروا و استنكروا، لكن إزاء هذا الصمت، بدأ الكل يشك، و بدأ شيء من اليقين لدي الناس ينمو أن الحكومة المصرية تقوم ببناء هذا الجدار .. المضحك المبكي في الأمر أن العمل في هذا الجدار، وفق تصريحات مهندس مصري يعمل في الموقع، قد بدأ الإعداد له له منذ ما يزيد عن ستة أشهر، وأن عملية البناء الفعلي بدأت منذ ثلاثة أشهر وسط حراسة أمنية مشددة، أي أن الأمر كان سيستمر حتى نفاجيء به كأمر واقع لا نقاش فيه، لولا وشاية الصحيفة الإسرائيلية !
هذا الأمر ليس جديدًا على الحكومة المصرية .. أذكر في صغري أن اقتتالاً طائفيًا وقع في إحدى قرى الصعيد .. لست أذكر أين أو متى بالضبط، لكنني أذكر أن هذا كان قبل انتشار أطباق الاستقبال الفضائي بالصورة التي نراها الآن، أي في الوقت الذي كان فيه الإعلام الرسمي الحكومي هو الإعلام الوحيد و الرئيس .. المهم أن ما حدث من اقتتال في الصعيد تكتمت الحكومة أمره كأن لم يكن، و كانت فرصة أن يعرف أحد في ربوع مصر بهذا الأمر تكاد تكون معدومة، إذ لا توجد أي تغطية إعلامية من أي نوع، اللهم إلا التلفزيون المصري – الذي تكتم الأمر – و قناة الجزيرة التي نشرت الخبر، و إزاء نشرها الخبر، سارعت الحكومة المصرية إلى نفي الخبر و تكذيبه ثم تراجعت قليلاً إلى تهوينه و تبسيطه و نقل صورة أقل دموية مما حدث .. بعيدًا عن هذه القصة، فإن ما أريد أن أقول هو أن الحكومة لم تكن لتذكر شيئًا لولا أن أحدهم أشار إلى ما حدث، لكنها كانت ستعتم تمامًا و ستنكر تمامًا لو سكت الجميع .. تمامًا مثلما حدث و يحدث في مسألة الجدار هذا ..
و قبل أن أكمل، لا بد أن أجيب على سؤال سألته نفسي قبل هذا، و اكتشفت أن كثيرين قد انفعلوا للأمر دون أن يعرفوا إجابته: ما هو هذا الجدار بالضبط ؟
هو جدار من صفائح حديدية صلبة طول الواحدة منها 18مترًا وسمكها 50 سم مزود بمجسَّات تنبِّه إلى محاولات خرقه، تغرس على عمق يتراوح ما بين 20 و 30 مترًا، و إمعانًا في العزل، فهناك ماسورة رئيسية ضخمة تمتد من البحر غربًا بطول 10 كم باتجاه الشرق، تتفرع منها مواسير في باطن الأرض مثقبة باتجاه الجانب الفلسطيني يفصل بين الماسورة والأخرى 30 أو 40 مترًا؛ حيث تضخّ المياه في الماسورة الرئيسية من البحر مباشرة ومن ثم إلى المواسير الفرعية في باطن الأرض، وكون المواسير مثقبة باتجاه الجانب الفلسطيني؛ فإن المطلوب من هذه المواسير الفرعية إحداث تصدعات وانهيارات تؤثر في عمل الأنفاق على طول الحدود. و قد تم فعليًا الانتهاء من 5 كيلومترات من أصل 10 كيلومترات، هي طول الشريط الحدودي .. أي أن نصف المهمة قد انتهى، و النصف الثاني يقاتلون حتى ينهوه بأسرع وسيلة ممكنة .. أكد هذا المهندس نفسه صاحب التصريحات سالفة الذكر، الذي قال إن " عمليات الحفر والبناء مستمرة في الجدار ولم تتوقف في أي وقت، وإنها مستمرة حتى الآن ولا تلتفت لما يدور في وسائل الإعلام، و إن البناء هو قرار سيادي و سياسي لا نقاش فيه".
السبب وراء هذا الجدار لا يخفى على أحد: الأنفاق .. أكاد أجزم أن شعب غزة قد ابتدع علم حفر الأنفاق الخاص به بعد كل هذه الأنفاق التي حفرها، و التي لم يكن ليحفرها لولا أن الخناق قد ضيق عليه .. المعابر على الجانبين مغلقة، و المعبر الوحيد الذي يفتح "بشكل استثنائي" هو معبر رفح، و هو مخصص للأفراد و ليس للبضائع .. رسالة ضمنية غير مصرح بها تقول: موتوا ثم موتوا ثم تواروا بالتراب ..
لكن مشكلة الأنفاق ليست لأنها مصدر القوت الرئيس للفليسطينين في غزة، بل لأنها مصدر مهم للسلاح بالنسبة لفصائل المقاومة .. من السودان، أو صعيد مصر، مرورًا بالصحراء الشرقية عبر الجبال و وسط الرمال، ثم عبر سيناء فالأنفاق فغزة .. و هكذا يصبح في يد الأسير سلاح يقاتل به سجّانه، و لا بد لسجّانه أن يبحث كافة الوسائل التي يغلق بها هذا الطريق في وجه أسيره ..
هذا هو السبب الرئيس الذي يجعل من الأنفاق شوكة في حلق الكيان الصهيوني، و هو السبب الذي يجعله يضغط على الولايات المتحدة كي تضغط باستمرار على مصر – العميل الوفيّ بكل أسف – لتبحث عنها و تدمرها .. إلا أن الجهود المصرية كانت دائمة دون المستوى المطلوب، ما جعل الإدارة الأمريكية تقترح بناء هذا الجدار، و تمد الجانب المصري بالتقنية المطلوبة و المهندسين الأمريكيين، الذين يشرفون إشرافًا شبه كامل على سير العمل في المشروع .. من المنطقي طبعًا أن نفكر في الولايات المتحدة الأمريكية في مثل هذه الأمور، فهي غالبًا الشيطان الذي ينزغ صدر الأخ ليقتل أخاه ..
البعض ذهب إلى أن الهدف من الجدار ليس زيادة الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة فحسب، بل تبرير "الجدار العازل" الذي قامت بتشييده إسرائيل حول الأراضي الفلسطينية و أدانه المجتمع الدولي وجمعيات حقوق الإنسان وأطلق عليه جدار الفصل العنصري، و أنه تلبية لتوجيهات واشنطن و تل أبيب الراغبتين في تبرير الجدار الإسرائيلي بآخر عربي وإسقاط تسمية "الجدار العنصري" و تبرئة إسرائيل من هذه التهمة .. حقيقة لست استبعد شيئًا كهذا ..
و لأن تبرير هذا العمل بمثل هذا المبرر – منع تهريب السلاح إلى الجانب الفلسطيني المقاوم، أو تبرير بناء إسرائيل لجدارها العازل بآخر عربي – لن يلقى قبولاً لدي الشارع المصري، كان لا بد من التفكير في حجة "فخمة" تسكت ألسن المعارضين و تدكهم دكًا .. أمن مصر القومي !
"أكد د. مفيد شهاب، فى جلسة مجلس الشعب يوم الأحد الماضي، الثالث من يناير، أن الإدعاء بأن مصر تقيم جدارا فولاذيا عازلا على حدودنا مع غزة، هو أمر عار تماما عن الصحة، لأن ما تقوم به مصر هو من قبيل الأعمال السيادية المتعارف عليها فى إطار القانون الدولى المعاصر، و هذه الإنشاءات وسيلتنا المشروعة لحماية مصر، ليس من أهل غزة، فهم أخوة لنا، وإنما من محترفى تهريب السلاح وتصدير العنف والإرهاب.
و قال شهاب إن مبدأ قدسية الحدود وحرمتها قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولى، و يرتبط هذا المبدأ بمبدأ حسن الجوار الذى يقرره ميثاق الأمم المتحدة بهدف الحفاظ على ثبات الحدود و حمايتها و تجنب ادلاع النزاعات حولها.
و أشار الى بيان مجمع البحوث الإسلامية برئاسة شيخ الأزهر الذى يؤكد أن وضع الحواجز التى تمنع أضرار الأنفاق التى أقيمت تحت أرض رفح المصرية من الحقوق المشروعة لمصر، حيث يتم تهريب المخدرات و غيرها عن طريقها، الأمر الذى يهدد ويزعزع أمن وإستقرار مصر و مصالحها.
و ذكر أن البيان أوضح أن ما تقوم به مصر تأمر به شريعة الإسلام وأن الذين يعارضون بناء هذه المنشآت يخالفون بذلك ما أمرت به الشريعة الإسلامية."
سأعود لبيان مجمع البحوث الإسلامية لاحقًا، لكنني أسوق هذا الخبر لأوضح وجهة النظر الحكومية، فالأنفاق وسيلة لتهريب المخدرات و الأسلحة التي يستخدمها الإرهابيون في عملياتهم في مصر، و هي بهذا تهدد الأمن القومي و الاستقرار المصري ..
بداية، أنا لست مع الأنفاق، فهي حل مبتدع فرضته تحكمات عملاء العدو في الداخل قبل العدو نفسه، و ليس من المفترض أن أعارض بناء الجدار لأنني أرغب في استمرار الأنفاق .. أوافق أن تغلقوا الأنفاق و تهدموها فوق رؤوس من يستعملونها، لكن لا تفعلوا هذا و أنتم تغلقون المعابر .. هذا هو الجور بعينه ..
لا أوافق أن تفعلوا هذا و أنتم تغلقون المعابر، و تمنعون الشعب الفلسطيني من حقه الطبيعي في المقاومة، و تضيقون الخناق عليه، و تحولون وطنه إلى أكبر سجن عرفته البشرية .. هذا ظلم ليس بعده سوى ظلم الإنسان لنفسه بالكفر ..
أما الحديث عن الأمن القومي، و أعمال السيادة، و حماية الوطن من المخدرات، فمن الواضح أن د. مفيد كان يتحدث إلى شعب آخر عن دولة أخرى !
تجار المخدرات تعرفهم الشرطة بالاسم، و كل ضابط لديه عدد من الاتفاقات مع عدد من التجار كي يسلموا له كل فترة "ضبطية" مخدرات تتيح له الترقي .. ثم إن المخدرات ليست بحاجة إلى أنفاق كي تدخل، فهي لا تدخل أصلاً .. جبال سيناء تشهد أزهى عصور زراعة البانجو و القنب و الخشخاش، و لا عزاء لأي أحد ..
أما السيادة ! .. الواقع أنني لم أكن أدري بالضبط و أنا أقرأ الخبر ما هو نوع السيادة التي تمارسها الحكومة المصرية او النظام المصري على أرض مصر .. مناورات النجم الساطع التي تجريها القوات المسلحة كل عام بالاشتراك مع الجيش الأمريكي تستبيح أرضنا للأمريكين ليعرفوا كل كبيرة و صغيرة، و تستبيح جيشنا ليعرفوا آخر ما يتم فيه، و تتيح لهم فرصة مثالية عندما ينقضون علينا، هذا لو فعلوا، لأنهم ببساطة يعرفوننا كبطون كفوفهم ..
أعمال السيادة التي يتحدث عنها النظام المصري يضحك الواحد منا ملء فيه من المرارة التي سيشعر بها إذا قرأ مواد اتفاقية كامب ديفيد التي وقعها أنور السادات لتهدمها حجرًا حجرًا:
- لا يجوز لمصر أن تنشئ أى مطارات حربية في أرض سيناء
- لا يجوز لمصر أن تستعمل المطارات التي ستخليها إسرائيل فى أغراض حربية
- ولا يجوز لمصر أن تنشئ أية موانئ عسكرية فى أي موقع على شواطئ سيناء (على البحر الأبيض أو خليج السويس أو خليج العقبة) ولا أن يستخدم أسطولها الحربى الموانئ التى بها.
- ولا يجوز لمصر أن تحتفظ شرق قناة السويس وإلى مدى 58 كيلو مترا تقريبا بأكثر من فرقة مشاة ميكانيكية واحدة، لا يزيد مجمل أفرادها عن 22 ألفا، ولا تزيد أسلحتها عن 126 قطعة مدفعية، و126 مدفعا مضادا للطائرات عيار 37 مم، و230 دبابة، و48 عربة مدرعة من جميع الأنواع .
- ولا يجوز لهذه القوة المحددة العدد والسلاح أن تخطو خطوة واحدة ولو لإجراء مناورات تدريبية شرق الخط المحدد لها بين أرض وطنها وبقية أرض وطنها!!
- لا يجوز لمصر أن تكون لها شرق الخط المشار إليه أية قوة عسكرية مقاتلة أو مسلحة بأسلحة قتالية من أي نوع كان.
و يمكنك أن تتأكد من هذه النصوص بنفسك هنا ..
أين السيادة و أربعة أخماس سيناء منزوعة السلاح ؟! أين السيادة و الأرض التي قاتلنا من أجلها و دفع الكثيرون دماءهم ثمنًا لها يحرم علينا أن نفعل بها ما شاء، و كأنها أرضهم و ليست أرضنا ؟!
أين كانت السيادة مع الخائن العميل عزام عزام، وكيف أكرهت هذه السيادة على إطلاق سراحه .. أتكون السيادة بإغلاق معبر رفح لقطع الغذاء و الدواء و مستلزمات الحياة الرئيسية عن المستضعفين من أهل غزة في حين يغرق أصحاب السيادة في الفنادق ذات النجوم الخمس، أم تكون هذه السيادة بإطلاق خراطيم المياه على بعض الأطفال والنساء الجوعى و المنكوبين المعتصمين على بوابة المعبر، بعد أن أصبح العدو خلفهم طالبين بعض العون من مصر"أم الدنيا" التي كانت غزة قطعة من أراضيها يوما ما ..
أعمال السيادة أصبحت في نظر الحكومة المصرية هي تنفيذ أوامر الولايات المتحدة و من والاها، و هي الحجة الجاهزة لإسكات كل صوت يندد بما تفعل، و هي الذريعة التي تتحرك تحت غطاءها ..
الغريب و المستفز أنها لا تمارس شيئًا من هذه السيادة إذا استدعتها الضرورة لدرء ضرر عن مصر و شعبها .. أين كانت السيادة عندما دكت طائرات الكيان الصهيوني حدود رفح المصرية في حرب غزة الأخيرة و قتلت بعض الجنود و حرس الحدود المصريين ؟ .. رصاص جنود الاحتلال يصيب جنديًا أو ضابطًا من حرس الحدود المصري، فيكون أقصى ما تفعله الحكومة المصرية هو "المطالبة باعتذار رسمي"، و في بعض الأحيان لا تتحرك حتى من أجل هذا الإعتذار الهزيل .. أين إذًا الحديث عن السيادة و الأمن القومي و كل هذا الهراء الذي يتقيأونه ليل نهار ؟
أما الحجة الثالثة فهي تصدير العنف عبر الأنفاق .. الحكومة تتحدث كأنها عمياء عما تفعل، فسياستها "الرشيدة" في كافة المجالات، من تعليم و صحة و أمن و تمثيل دبلوماسي و اقتصاد .. كلها تخنق الناس و تولد يومًا بعد يوم المزيد و المزيد من الكبت، و الكبت ليس له إلا الانفجار، هذا إذا لم يفرّغ بصورة مفيدة و في شيء نافع، و هو ما لا تفعله الحكومة، اللهم إلا مباريات كرة القدم ..
العنف لدينا صناعة محلية بأيد مصرية .. من هذا الأبله الذي سيقطع كل هذه المسافة من فلسطين إلى القاهرة ليفجر قنبلة بدائية، لن تحقق شيئًا سوى مصرعه ؟ .. من الأكثر بلاهة حتى يصدق أنه صار من اللازم أن تنضم لتنظيم إرهابي حتى تفجر نفسك و تقتل ؟
العنف لدينا صناعة محلية بأيد مصرية و لا يحتاج لاستيراد .. و كلما زادت الحكومة من ضغطها زادت فرص الانفجار ..
الحق أنني أتعجب لهذه الحكومة و لهذا النظام الذي أوتي من قلة ماء الوجه ما يجعله قادرًا على مواجهة كل هذه المواقف بثبات، رغم كذبه الواضح و ضعف موقفه الذي لا مراء فيهما .. قدرة مدهشة على تلفيق الحجج و الأدلة بحيث تنطلي على ذوي العقول البسيطة الذين لا يفقهون الكثير مما يدور حولهم، و يتعاملون بمبدأ عادل إمام في مسرحية الزعيم "أنا اللي يحكمني أسقف له و أدعي له"، لكن الملفت للنظر هذه المرة أنه أراد أن "يسبك" الحجج أكثر و أكثر، فلعب على الوتر الأكثر حساسية عند المصريين .. الدين ..
" في هذه الأثناء، كشف الموقع الالكتروني لصحيفة "الاسبوع" المستقلة عن سر قيام مجمع البحوث الإسلامية بسرعة إصدار بيانه الخاص بشرعية الجدار الفولاذي، و قال إن فتوى رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور يوسف القرضاوي بحرمة بناء الجدار، أثارت ردود أفعال واسعة واستفزت النظام والحكومة المصرية وهو ما دفع شيخ الازهر الدكتور محمد سيد طنطاوي والشيخ علي عبد الباقي امين عام مجمع البحوث الاسلامية الي اعداد فتوي مضادة تمت صياغتها في صورة بيان صادر عن مجمع البحوث الاسلامية، و ذلك رغم تباين آراء الأعضاء و اختلافهم حول مدي شرعية بناء الجدار ما بين مؤيد و معارض، إلا إن شيخ الأزهر أعد هذه الفتوي قبل الاجتماع الشهري للمجمع والذي كان موعده يوم الخميس الماضي و كان مقررا فيه مناقشة موعد و موضوع المؤتمر الرابع عشر للمجمع عن الصحابة، كما حرص علي ان يقوم التلفزيون المصري بتصوير و إذاعة البيان الذي كان مطبوعا سلفًا قبل الاجتماع، كما وصل الي بعض الصحف قبل انعقاد الجلسة، و أكد البيان علي تأييد بناء الجدار وأن ذلك من الحقوق الشرعية لمصر و لحماية أمنها و حدودها و أن هذه الأنفاق المقامة تحت ارض رفح المصرية يتم من خلالها تهريب المخدرات وغيرها وهو ما يهدد أمن مصر ومصالحها، وان بناء الجدار عمل تأمر به الشريعة التي كفلت لكل دولة حقوقها وامنها.
ولم يكتف البيان بهذا، بل شن هجوما علي المعارضين لانشاء الجدار و وصفهم بانهم يخالفون ما أمرت به شريعة الاسلام. و اكتفي البيان المقتضب بذلك دون أن يشير من قريب او بعيد الي حقوق الفلسطينين أو ضرورة مساعدتهم و تخفيف الحصار عنهم.
و تعليقا علي هذا اشار الشيخ علي عبد الباقي امين عام المجمع الي ان البيان جاء مختصرا حتي لا يتم فتح جبهة للتناحر بين العلماء، وان الفتاوي المضادة تخدم اجندات سياسية للهجوم علي مصر، مضيفا انه كان الاولي بالمعارضين ان يوجهوا لومهم للفلسطينيين اصحاب القضية حتي يوحدوا كلمتهم متسائلا "أليس هؤلاء هم من افتوا بان الضابط المصرى الذى استشهد على الحدود ليس شهيدا؟"..
جدير بالذكر ان راديو اسرائيل اشاد ببيان مجمع البحوث الاسلامية فور صدوره وان عددا من اعضاء المجمع ابدوا اعتراضاتهم علي هذا البيان وعلي صياغته التي ركزت علي جانب واحد ولم تلتفت الي الجوانب الاخري الخاصة بنصرة الاخوة الفلسطينيين."
لكن عددا من علماء الأزهر، بينهم أعضاء في مجمع البحوث، أدانوا قرار بناء الجدار، معتبرين أن "هذا الجدار حرام شرعا لما يهدف إليه من حصار الأشقاء في قطاع غزة وسد كل المنافذ أمام القطاع للخروج من الحصار الإسرائيلي المفروض عليه منذ 3 سنوات من خلال إغلاق المعابر، بحيث منعت عنه أسباب الحياة من الغذاء والدواء والوقود وهو ما يعد نوعا من الضغط عليه لإلغاء المقاومة والقضاء على حماس".
وطالب العلماء، في بيان موقّع الحكومة المصرية بوقف بناء الجدار والاعتذار الرسمي لشعب غزة المحاصر.
ومن أبرز العلماء الموقعين على البيان العالم الأزهري محمد عبد الله الخطيب، و عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين و أستاذ الحديث بجامعة الأزهر عبد الرحمن البر، و أستاذ التفسير بجامعة الأزهر عبد الحي الفرماوي، و الأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية سابقًا و عضو مجلس الشعب المصري السيد عسكر، و عضو مجمع البحوث الإسلامية الشيخ محمد الراوي، و رئيس جبهة علماء الأزهر السابق الدكتور عبد المنعم البري، و عضو مجمع البحوث الإسلامية الدكتور مصطفى الشكعة ..
و هكذا تحول الأزهر و مجمع البحوث الإسلامية إلى "عزبة" يديرها فضيلة الإمام، فلا علماء المجمع استشيروا في البيان الذي صدر باسمهم، و لا هو راعى حرمة المسلم التي ينتهكها هذا الجدار، بتضييقه و خنقه لآخر أنفاس الحياة فيه، و مساعدة العدو ضده، و لا هو اتقى الله و قال كلمة الحق، بل كلمة السلطان ..
قالها كما قالها قبل ثمانمائة عام الفقيه الشافعي شهاب الدين إبراهيم المعروف بابن أبي الدم للملك الكامل محمد حفيد صلاح الدين الأيوبي، عندما أفتى له بجواز تسليم القدس للصليبين قائلاً: " فإن الإمام يجوز له تسليم بلد من البلاد الإسلامية إلى الكفار، إذا رأى في ترك التسليم لهم ضررا ظاهرا لا يمكن تلافيه" و العجيب أن الضرر "الذي لا يمكن تلافيه" هذا لم يكن إلا وهم يعشش بعقل صاحبه و سلطان صاحبه، فحملة الامبراطور فريدريك الثاني، المقصود بهذا الحديث، و المعروف في التاريخ الغربي بلقب "أعجوبة الدنيا" كانت أعجوبة بالفعل، إذ لم تتجاوز ستمائة فارس، لكنه اعتمادًا على خيانة الملك "الناقص" و فتوى ابن أبي الدم أخذ بيت المقدس دون قطرة دم .. حقًا، ما أشبه اليوم بالبارحة !
و يومًا بعد يوم يفقد الأزهر تلك المكانة التي جعلت منه قبلة الدارسين، و منارة من منارات العلم، ليتحول إلى بوق من أبواق السلطان .. بالطبع ليس منكم من ليس يذكر مصافحة شيخ الأزهر لإيهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل بحرارة و حميمية في الولايات المتحدة الأمريكية، و كأنهما أصدقاء قدامى، ثم اعتذاره عن هذا بحجة بلهاء؛ أنه لم يكن يعرف الرجل معرفة دقيقة !
أطرف ما قرأت تعليقًا على هذا البيان ما قاله أحدهم على أحد المواقع التي نقلت الخبر: " سؤال لشيخ الازهر: حضرتك رفضت تفتي بالمقاطعة و قلت اسالو وزير الاقتصاد ورفضت تفتي بالعدوان على غزة وقلت اسالو وزير الخارجية ورفضت تفتي وبالنسبة لغلاء الاسعار قلت اسالو وزير التموين .. اجيت عند الجدار وافتيت طيب ما تسال وزير التخطيط" !
و تعليقًا على هذا البيان، و تحت عنوان "عن لعب السياسة بالدين" قال أ/ فهمي هويدي: "على الهاتف قال لي المستشار أحمد مكي نائب رئيس محكمة النقض إن البيان نموذج لتلبيس الحق بالباطل، ذلك أن دفاعه عن إقامة الجدار يعني في ذات الوقت الدفاع عن تجويع الشعب الفلسطيني. وتلك جريمة لا يقرها شرع أو قانون أو عقل. وأضاف أن شيخ الأزهر وأعضاء مجمع البحوث يعرفون أكثر من غيرهم الحديث النبوي الذي ذكر أن امرأة دخلت النار في هرة (قطة) حبستها وجوعتها، الأمر الذي يطرح سؤالا كبيرا عن جزاء الذين يقومون بحصار وتجويع مليون ونصف المليون فلسطيني في غزة. وهو يختم قال إن بعض الممارسات التي تتم في البلد أصبحت تجعل الإنسان يخجل من انتمائه إلى مصر. وإزاء مثل هذا التلاعب بالمؤسسات والقيم الدينية يخشى أن يدفع البعض منا إلى الخجل من انتمائهم الديني."
و رغم قسوة الموقف، إلا أنني أنظر إليه كحادث الإفك؛ لا تحسبوه شرًا لكم بل خيرٌ لكم .. كما كشفت حادثة الإفك عن المنافقين، و نفر من المسلمين لا يتورعون عن رمي الرسول صلى الله عليه و سلم في عرضه، يزيل هذا الجدار ورقة التوت عن الكثيرين ..
يزيلها عن نظامنا الحاكم الميمون، و يكشف تورطه و تواطؤه، كما كشفته مواقف عدة قبل ذلك، و كيف أنه يسير بنا كي نصبح الولاية الثالثة و الخمسين من الولايات المتحدة الأمريكية ..
يزيلها عن أعضاء مجلس الشعب، الذي من المفترض فيهم أنهم الصفوة يمثلون الشعب في مجلسه، فإذا هم حفنة من الأوغاد الذين تحركهم الأوامر من أعلى، فيوافقون و يؤيدون و يصفقون للجدار، و يسبون من يعترض بأبيه و أمه و بدينه، رغم معارضة القاصي و الداني من الشعب الذي يمثلونه لهذا العار .. فليذهب الشعب إلى الدرك الأسفل من الجحيم ..
يزيلها عنا نحن أيضًا .. نحن من صمتنا و نصمت، و سنظل نصمت على كل هذا ..
الجدار سيكتمل .. هذا أمر ليس بمقدور أحد أن ينكره، فطالما كانت الولايات المتحدة هي من تقف وراءه، فكل اعتراضات العالم لن توقفهم .. إنه منطق القوة الذي يحكم عالمنا ..
لكن هذا لا يمنع أن نتكلم .. أن نتحرك .. تمامًا كما حدث مع أصحاب السبت، فرغم إيمان المؤمنين أن الله سيعذبهم، إلا أنهم واصلوا دعوتهم إلى الحق حتى يبرئوا ذمتهم و ساحتهم من ذنب السكوت على الباطل .. وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ..
الجدار سيكتمل، لكن هذا ليس بالتأكيد نهاية القصة ..

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar