12.1.11

قراءة في استراتيجيات الحروب الدراسية

أحب هذه العناوين التي تبدو عليها الأهمية و العمق، حتى إذا توغلت في القراءة وجدت الكاتب يهذي، و يتحدث بما لا يعقل أو يُعقل .. إلا أنني هذه المرة أعنيها تمامًا؛ " استراتيجيات الحروب الدراسية" ..

من المعلوم أن البشر يولدون جهلة لا يعرفون شيئًا و لا يفقهون حرفًا، ليس معهم إلا غريزة أودعها الله فيهم حتى لا يقضي عليهم الموت – إلا من قُدر له هذا – في مستهل حياتهم، ثم تبدأ جذوة الغريزة تخبو شيئًا فشئيًا، و تحل محلها شعلة العلم ..

يتعلم المرء كي يرتقي، و "يرفع بيوتًا لا عماد لها"، و طريق العلم و التعلم ليس مفروشًا بالورود، و لا حتى أوراق الشجر الذابلة، بل إن الشوك هو أبسط ما فيه، و أقله إثارة للألم .. طريق العلم طريق حرب متصلة مع النفس و شهواتها التي تجر المرء جرًا إلى الأسفل، و حرب متصلة مع الذين استسلموا لأنفسهم و شهواتهم فليس لهم همٌ إلا جرك إلى الأسفل دومًا، و حرب متصلة مع عمر قصير تكتشف مع الوقت أنه لا يكفيك، و أنك ستقضيه كله فلا تشعر أنك وصلت إلى ما تصبو إليه نفسك – إن كانت نفسًا طموحة ذات همة عالية ..
هو طريق حرب، لكن به من الحلفاء الكثير .. يعاونك أهلك كي تستمر، و يعاونك مدرسوك كي تعلو و ترتقي، و يعاونك من قبلهم إيمانك كي تنسى الألم، و من فوق كل هؤلاء و من حولهم توفيق الله و تسديده خطاك ..

لكننا في مصر لا بد و أن نختلف .. مصر دولة ذات خصوصية، و هذا شيء لم أعد أتعجب منه أيًا كان موقع هذه الخصوصية .. نحن نختلف عن الآخرون – و الآخرون بالواو مقصودة – في كل شيء، و كلما كان الاختلاف نحو الأسوأ كلما كان أكثر ثباتًا و تثبيتًا لنفسه، و كلما كان أشد رسوخًا من الحق في وضح النهار ..

نحن في مصر نختلف، فالحلفاء في طريق العلم ليسوا كُثُرًا .. هم نفسك التي ترقص على حبال الشك، و شيء من أهلك الذين أعيتهم الدنيا بما فيها و من فيها، و بعض من الإيمان الذي يتزعزع و يتزحزح تارة و تارة من فرط ما يرى صاحبه .. ليسوا كُثُرًا و ليسوا ينفعون وقت الحاجة، فأغلبهم يحتاج إلى من يعينه ..
و فوق هذا و ذاك، و كأنه ليس يكفي، تجد أن مدرسيك قد جعلوا منك عدوًا و هدفًا، و ناصبوك العداوة و البغضاء التي بدت من أفواه أغلبهم – و ليس كلهم كي لا نظلم – فأنفقوا الأيام و الليالي كي يتفننوا كيف يحيلون ما تبقى من حياتك جحيمًا يدفعك كي تتخلص منه فتصله بجحيم الآخرة ..

ربما تقرأ و تتعجب، و لربما ترميني بالتعدي و الغلو و التطرف، و لك الحق في ذلك و لست أنكره .. أنا نفسي ظللت أنكر و استنكر هذا عامين متصلين، ثم بدأت أتشكك فيه لعام آخر، ثم أؤمن به على وجل لعام آخر، حتى أعتنقته مذهبًا بعد خمسة أعوام قضيتها في كلية الطب، واجهت فيها الكثيرين ممن يحملون رسالة تعليم أجيال جديدة، و تخريجها إلى المجتمع أطباء أكفْاء يقومون بما يجب القيام به، لكنني اكتشفت أنهم حملوا الرسالة إلى بائع الخردة و استبدلوا بها أكوامًا من الأموال ألهتهم عنها، فأخذوا يجرون وراءها لا هم لهم إلاّها و لا دنيا تدور إلا حولها، و بعضهم – أعاذنا الله – اتخذ منها دينًا يمشي بفقهه بين الناس ..
تجد أن هؤلاء لا يقيمون لك وزنًا، فلا يأتي أبدًا في الموعد، و إن أتى فلكي يرحل سريعًا لأنه مشغول بعيادته الخاصة، أو محاضرة يلقيها هنا أو هناك، أو هو لا يرى فيك نفعًا من الأساس، و هو يرغب في الرحيل عنك بأسرع مما جاءك حتى إن كان خالي الوفاض ..

ثم إذ هو يلقي على مسامعك العلم، تجده يلقي إليك بفتات الكتب، و بقايا الدوريات و المجلات، و جيفة ما تركه العالم وراءه منذ زمن، باعتبار أن هذا هو قدرك من العلم، لكنه في الوقت ذاته يطلب منك أن تتعامل مع هذه الفتات كأنها الدر النفيس و الذهب البندقي الصافي، فلا تراجعها وراءه من كتاب، و لا تتثبت منها من مرجع، بل قوله الفصل، فهو العلامة الفهامة الذي بقر بطون الكتب و أتى على علوم الأولين و الآخرين، و ما ذاك الذي في الكتب إلا سقط متاع ..

ثم إذ أنت احتلت حتى تحصل على ذلك المصدر الجهنمي الذي يأتي منه بما يقول، تجده يتحدث في اعتداد كاذب بإن ما يقوله هو حصيلة قراءات كثيرة، و إن هذا هو مجهود السنين، و هو لن يسمح لأحد أن يأخذ مجهوده، لتكتشف في النهاية أن مصادره ليست إلا هشيم الكتب، و سقطات المؤلفين، و أنه لا ينتقي إلا ما يحرق دمك و يشعرك بالعجز ..

ثم إذ أنت رأيته في محفل علمي يضمه إلى جانب قامات عملاقة حقًا و صدقًا وجدته يرتجف كالفرخ المبتل لا يقوى على الحديث في حضورهم، يتلعثم في الحديث و تبدو عليه أمارات الجهل إذا ما سُلط عليه نور العلم و الحقيقة، مهين و لا يكاد يبين ..

ثم إذ أنت فعلت مثلي، و قررت أن الوقت قد حان كي تحصل على العلم كما ينبغي لك حتى تكون شيئًا ذا بال و قيمة، وجدته يناطحك و يناصبك العداء الصريح الواضح الذي لا لبس فيه و لا تورية، و تجد جملاً و عبارات لا تخرج إلا بين الأنداد و الأعداء تتهاوى على مسامعك لا تدري أأنت تسمعها أم يخيل لك ذلك أم أنك تهذي، تجد "ابقوا خلوا اللي بتعملوه ينفعكوا" و "حتشوفوا" و "و حياة أمي اللي حيدخل لي في الجزئية دي و ما يجاوبش لأكون مسقطه" و "أغبيا" و "الحشرة الحمرا اللي سايبة المحاضرة و ماشية ورا دي" و غيرها مما تحتاج لقائمة من المطاط كي تستوعبه ..

ثم إذ أنت أدرت الأمر في رأسك وجدت عجبًا؛ فلا هو أعطاك من العلم ما ينفعك، و لا أنت سلمت من لسانه إذ استسلمت لما يقول، فتهوي عليك عبارات السباب و التقريع و اللوم و توصف بالكسل و الخمول و الركون إلى "المعلومة التي تأتي بالملعقة"، و لا سلمت من تشكيكه إذا ما انطلقت في أمهات الكتب تبحث و تقرأ، فتسمعه يتحدث عن المرجع الفلاني بإنه ضعيف، و الكتاب الفلاني بإنه غير واضح و غير محدث و قديم، و لا أنت سلمت من لسان الناس إذ يجدونك على هذه الصورة المخزية من الجهل، أو الجهل الذي يرتدي ثوب العلم، و الذي – كي تزداد الأمور سوءًا فوق سوء – يبدو مضبوطًا عليك تمامًا، فينخدع الناس بك ..

تتعجب إذ ترى أن من يفترض فيهم أن العلم قد هذبهم قد استحالوا به لونًا من حثالة البشر لا مثيل له، فهو الوجيه الصعلوك، الذي تُحنى له الهامات و القامات، لكنه في نهاية الأمر لا يساوي جناح بعوضة، و هو في الوقت ذاته من يتحكم في مصيرك و مستقبلك، و بيده تلك الورقة الخرقاء البالية التي تقول إنك مشهود لك بدراسة الطب و يحق لك أن تمارسه على أجساد العباد، و هو في الوقت ذاته يناصبك العداء لسبب مجهول ..

و كثيرًا ما فكرت في هذه العداوة التي لا تبدو مبررة، و لا يظهر لها أي سبب مقنع أو حتى خوارقي، ثم ركنت بعد تفكير طويل إلى أن الله يبتلينا بمجموعة من العصابيين الذهانيين، مرضى النفوس و القلوب، المسلطين علينا، كي نتطهر مما أذنبنا في حق العباد و رب العباد، و بقدر ما أراحني هذا التفسير، إذ فيه في النهاية فائدة لي كي ألقى الله و قد تطهرت مما اقترفت في حياتي، إلا أنني أصبت بالرعب، إذ أدركت أنه وفقًا لهذا التفسير، فإنني لم أفعل حسنة واحدة في حياتي !

طريق العلم هو طريق حرب، لكنه في مصر طريق استشهاد !





هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

تدوينة رائعة ، بس اعتقد هتحتاج بعض التنقيح بعد ما تخلصوا روند الرينال :))

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar