21.7.10

الذهب الأحمر - تابع الفصل الثالث

حاولت غاريتا أن تبقى ذهنها صافيًا لكنها لم تفلح .. حديث روك منذ يومين عن را الذي عاد، و الذي تعرف عليه ما زال يرن في أذنها، و تسمع له – مدفوعة بقلقها و خوفها – صوتًا كصليل السيوف ..
السيوف، و الدم، و أرواحهم التي قد يخسرونها في أية لحظة .. ربما يتشكك روك أو رين في را، لكنها لا يمكن أن تفعل .. هي معجبة به، و لا تنكر هذا، لكن الإعجاب ليس السبب الوحيد لدفع الشك تجاه را عن نفسها ..
غالب الأمر أنه إحساس الأنثى .. مجرد إحساس أن را يحمل لهم لا عليهم، و أن شيئًا عظيمًا سيجنونه من ورائه، و أن هذا الشيء لهم فيه خير عظيم ..
إحساس الأنثى الذي أبقاهم على قيد الحياة اثني عشرة عامًا، عندما أشارت على رين أن يشتريا هذه الحانة بما تبقى لهم من كرونكات تركها لهم والدهم – قبل أن يرحل و يفروا – و أن يستقرا فيها متخفين، فأفضل مكان للاختباء – كما تقول دومًا – هو أبرز الأماكن و أقربها لعدوك ..
نادت فتاة المطعم كي تأخذ طبق الحساء للزبائن، و لم تكد تنهي نداءها، حتى فوجئت برين يأتيها قلقًا، و التوجس و الخوف يرسمان خطوطًا عميقة على وجهه، و انتقل لها خوفه و توجسه فبادرته بالسؤال:
- أي مصيبة حفرت نفسها في وجهك يا رين ؟
أجاب و هو يفرك يديه كعادته كلما استبد به القلق:
- حملة جديدة ..
ألقى الكلمة كالحجر في بئر، فأجفلت منها و قالت و الكلمات تخرج من فمها تجر بعضها جرًا:
- أي حملة .. و لأي سبب ؟
- يقولون إن أحدهم اقتحم القصر و فر، و هم يبحثون عنه ..
- تبًا لأولئك الأشقياء ..
قالتها واضعة يدها على جبهتها من صداع مفاجئ ألم بها ثم أكملت:
- و ماذا ستفعل ؟
- كالمعتاد .. لقد سأمت هذا، لكن لا حل أمامنا سواه ..
لفت جسدها بهذا الثوب المهلهل الذي اصطلحت أن تسميه معطفًا، و غطت رأسها بما اتصل بالمعطف من غطاء للرأس، ثم توجهت بصحبة رين إلى الحانة كي ينهوا الأمر كما اعتادوا دومًا: بعض الدلال الأنثوي و قليل من الكرونكات، و ينتهي كل شيء ..
إلا أن كل شيء كان قد حدث قبل أن يصلا إلى باحة الحانة، ليفاجآ بالضجة تملأ الأجواء و تصم الآذان و حارسان يقتادان واحدًا من الرواد تحت وابل من الشتائم و الصفعات و الركلات، فيما عقدت المفاجأة لسان غاريتا و رين، فهذه هي المرة الأولى – تقريبًا – التي يتطور فيها الأمر إلى اعتقال أحد الزبائن .. لقد جن جنون القصر حقًا ..
سأل رين أقرب الجالسين:
- ماذا فعل ابن الغبية هذا ؟
هز الرجل رأسه أسفًا و أشار بيده بحركة تحمل المعنى ذاته، قبل أن يجيب:
- سب الملك علنًا .. قال إن أموره الخاصة لا تعنينا في شيء، و إنه يجب أن يكون أكثر حرصًا عن أن يكون أكثر نفيرًا ..
أشار رين إلى غاريتا أن تدخل، ففعلت، بينما ظل هو ساهم ينظر إلى الأرض نظرة ملؤها الفراغ، و عقله يعمل بكل طاقته كي يجد تفسيرًا واحدًا مقنعًا لهذه الجملة التي لم يسبق أن فكر أحد في أن يفكر فيها .. ثمة شيء غير عادي دار برأس هذا المأفون فقال ما قال، لكنها بالطبع ليست الخمر .. الجعة تفعل الأفاعيل برأس البشر، لكنها لا تحيلهم أغبياء ..
زفر في ضيق، ثم تبع أخته إلى الداخل، فيما أعاد صبية الحانة ترتيب المكان ..
***
أجابت نارزا نداء الملكة بسرعة، و هي على أية حال لم تكن في حاجة إلى هذا؛ فالملكة على عكس جلالته، صبورة ودودة، ما يجعل التعامل معها ألطف قليلاً من التعامل مع الملك .. أنحنت تحية لها ثم جلست إلى الأرض إثر إشارة منها، و انتظرت سؤالها:
- أريدك أن تخبريني الحقيقة يا نارزا .. أنت من ربيتي را، و لربما تقضين معه من الوقت أكثر مما أقضي .. أصدقيني الحديث ..
- بالطبع يا مولاتي .. سلي ما شئتي، فأنا رهن بنانك ..
- أقسمي أن تقولي الحق ..
و دون مقدمات استحال قلب نارزا قلب عدّاء قطع ما بين السدين الأعظمين دون راحة، حتى شعرت بدقاته تدوي في أذنيها كالطبول، قبل أن تجيب:
- أقسم أن أقول الحق و لا شيء إلا الحق يا مولاتي ..
استبد بها الرعب أن تكون جلالتها قد كشفت شيئًا عن نزول را إلى الغوغاء، لكن الملكة قالت:
- أيحب را إحداهن ؟ .. هل هنالك فتاة تشغل باله ؟
لو كان باستطاعتها، لزفرت و أراحت جسدها و أبدت كل ما يبديه المرء من علامات للارتياح، لكنها خشيت أن تشك فيها الملكة، فقالت دون إبطاء:
- لم يصارحني بشيء كهذا، و لم ألاحظ عليه التفكير في واحدة بعينها ..
أومأت الملكة برأسها دون أن تجيب، ما دفع نارزا أن تسألها:
- لو أذنت لي مولاتي أن أعرف سبب السؤال ..
واصلت الملكة صمتها للحظة قبل أن تجيب:
- يبدو مشغول البال دومًا .. ليس صافي الذهن كما كان .. ليس حاضر البديهة كما كان .. هنالك خطب ما قد ألمّ به ..
- لعلها شئون الحكم يا مولاتي .. سمو الأمير قد عاد لتوه من رحلة هامة خارج البلاد، و لعله مشغول بما فيها ..
- لقد بدأ الأمر قبل الرحلة بفترة قصيرة .. ليس هذا هو الأمر ..
بالطبع ليس هذا هو الأمر .. فرا مشغول بالغوغاء حتى النخاع .. عالم جديد يستكشفه للمرة الأولى، و يبدو أنه سيكون استكشافًا حتى الأعماق ..
همت نارزا أن تقول شيئًا، لكنها لم تستطع؛ إذ سمعت طرقًا على الباب أعقبه دخول را قائلاً:
- أأنت هنا ؟ .. لقد بحثت عنك طويلاً يا نانا ..
- إنما طلبتني جلالتها، و ليس لي إلا الإجابة ..
- فهل تأذن مولاتي أن آخذ مربيتي حتى أتحدث إليها ؟
قامت الملكة عن مجلسها و هي تقول:
- لم نكد نغلق ما بدأنا بشأنك ..
- بشأني ؟ .. علّه خير يا أماه ..
- أتمنى هذا ..
صدمته كلمتها .. أتمنى ؟! .. لقد أفلت بأعجوبة مما حدث بشأن تسلله إلى القصر، و أمه تتحدث عن شيء بشأنه "تتمنى" أن يكون خيرًا ؟!
- فهل لي أن أعرف، علّي أثلج صدرك ..
- ستراوغ ..
- أنت من علمتيني المراوغة، و لست أظنني سأتفوق عليك في هذا المضمار ..
- إذن ..
ثم صمتت قليلاً كأنما ترتب الكلمات في رأسها، ثم قالت:
- أتحب يا را ؟
هم بإطلاق ضحكة عالية مجلجلة، لكنه كتمها و كتم أنفاسه عندما تابعت سؤالها:
- أم أن زياراتك للغوغاء هي التي تشغل فكرك ؟
و هوى قولها على را و نارزا كألف صاعقة ..
***
حقًا ألجمت لسانه، و بصعوبة بالغة استطاع أن ينطق بكلمتين فحسب:
- كيف عرفت ؟
كان قوله يتضمن اعترافًا بالزيارة، لكنه علم أنها تعلم حقًا، فالفكرة في حد ذاته غير قابلة للتخمين ما لم تطلقها من عقالها أدلة مادية محسوسة و دامغة ..
قالت:
- أنت مهمل بعض الشيء، و أنا أصاب بالأرق أحيانًا .. شاهدتك، ثم تأكدت من تلك الأسمال التي تهبط بها إليهم، و الآن أنت تعترف .. و لكن ..
ثم صمتت صمتًا انخلع له قلبيهما، قبل أن تكمل:
- لكنني بالطبع لم و لن أخبر أباك ..
- حقًا ؟
- هل اعتدت مني الكذب ؟
ثم أشارت إليهما و قالت بينما سبابتها اليمنى تتنقل بينهما:
- لكن الحذر واجب يا ولدي .. أعلم أنك تفعل هذا لأنهم شعبك الذي يجب أن تعرفهم، و لن تعرفهم و أنت خلف هذه الأسوار المقيتة .. أبوك نسيهم من قلة رؤياهم، و إن رآهم فلا يراهم إلا عبيدًا يدفعون الضرائب، أو قتلى في جيوشه يحاربون الهوبوز، و لست أرضى لك هذا يا ولدي ..
ارتاح را كأنما جبل ثقيل قد انزاح عن صدره، و لم يكن شعور نارزا بأقل من هذا، حتى بعد أن توجهت إليه الملكة بالحديث قائلة:
- و لكنك تغامرين يا نارزا .. أستطيع حماية را، فهو في النهاية ولي العهد، و لن يمسه سوء .. أما أنت، فالملك بكل أسف لا يرحم ..
كانت تتحدث بالحق بكل أسف، لكن نارزا لم يعد أمامها خيار إلا المواصلة .. الملك لا يرحم، و هي لن تتراجع حتى تجعل ممن ربته في صغره ملكًا عظيمًا يحب شعبه و يحبه ..
- أخبرني إذن عما رأيت بالأسفل ..
- إنه عالم مختلف تمام الاختلاف يا أماه .. هؤلاء الناس لا يعيشون، بل يتعايشون ..
- نعم .. أعلم هذا ..
قالتها بمرارة ثم وضعت يدها على كتف ابنها و أخذته إلى الشرفة، حتى إذا أصبحا ينظران إلى الأفق الممتد قالت و هي تشير إلى الأفق:
- في يوم من الأيام سيثور هؤلاء كما ثاروا من مائة عام و عشرين .. إن هذا اليوم يقترب بسرعة البرق، و إنني أكاد أراه ..
ثم نظرت لابنها و قالت:
- لا أريدك كأبيك، فإن شهوة السلطة و الغنى قد أعميا قلبه ..
- لم أعلم يا أماه أنك تهتمين بشئون الحكم إلى هذا الحد ..
قالها مبتسمًا فأجابت:
- النساء محرم عليهم التدخل في شئون الحكم، لكن هذا لا ينطبق على الاهتمام بها ..
ثم نظرت للأفق الرحب في صمت شاركها فيه را، لكنه لم يشاركها ما كان يدور بخلدها، و ما كانت تراه أمام عينيها من ماض بعيد، يوشك أن يكرر نفسه ..
***
مضى أسبوع على مجيء را، قبل أن يجلس با-هيب إلى رأس المائدة الضخمة التي التف حولها أعضاء مجلس المشورة الملكية، و إلى الجانب الآخر جلس رئيس مجلس المشورة الملكية، را، الذي افتتح الجلسة قائلاً:
- جلالة الملك، أعضاء مجلس المشورة الملكية الموقرين، فلتفتتح الجلسة السادسة بعد المائة الخامسة من جلسات هذا المجلس الكريم لنناقش عرض الملك تارام، ملك إقليم الشمال ..
ثم أشار للكاتب أن يقرأ نص العرض الرسمي الذي تقدم به تارام، و عاد به را:
"جلالة الملك المعظم با-هيب، ملك أرض النازوم
تحيات معطرة، و أمنيات بالسعادة لا حدود لها .. فقد وصلني رسولك، الأمير را-هيمين، و أبلغني عرضك، الذي ينص على دمج فيلق من جيش جلالتكم و فيلق من جيشنا بقيادة مشتركة و تمويل مشترك .. و عرض تجاري متمثل في توفير الأخشاب من مملكتم بثلاثمائة كرونك للكانو ..
و قد درسنا عرضكم الكريم، لكننا رأينا أن عرضًا أفضل منه يمكن أن يخرج للنور، و أن عُرى الأخوة و المحبة بين المملكتين يمكنها أن تتوثق أكثر لو تخللها زواج ولي العهد، سمو الأمير را-هيمين، بكريمتنا كارين، و لتكن بعدها جيوشنا واحدة، ما دامت الدماء ستصير واحدة، و ليكن عرضي بديلاً لعرضكم، و محل النقاش ..
حليفكم، تارام"
أنهى الكاتب قراءة الرسالة التي بدا التصنع واضحًا يقطر من كلماتها؛ فكل كلمات المودة و الاحترام لم تكن حقيقية بحال، لما بين المملكتين من صراع خفيّ بسبب مقاطعة التاشاما الغربية الغنية بالمعادن، و التي ظلت محل نزاع طويل، حتى استولى عليها إقليم الشمال في لحظة من لحظات ضعف مملكة النازوم، ليظل الصراع بينهما متأججًا يرقد بخبث تحت السطح، منتظرًا شررًا يشعله مرة أخرى ..
- فما رأي الأفاضل النبلاء ؟
تنحنح شاولي-هيم، و هو نبيل من الطبقة الرابعة، و حامل مفاتح الخزائن، و قال:
- ما بيننا و بينهم لا يخفى على أحد، و عرضه مثير للريبة و لا شك، لكن الأمر يحتاج للتفكير من زاوية أخرى .. زاوية احتياجنا لهم في المرحلة الحالية، هل هي حاجة يمكن لها أن تبرر قبول مثل هذا العرض ؟
- جيوشنا تستنزف، و ليس لدينا أمل في هزيمة هؤلاء الهوبوز الملاعين دون مساعدة خارجية .. لم يبق في المملكة أحد يقدر على الحرب إلا و أخذ إلى ساحة النزال، حتى لم يبق إلا الشيوخ و الأطفال و النساء ..
قالها سيما-زي، المستشار الملكي لشئون الحرب و الاستطلاع، فرد شاولي:
- أنا أعني تحديدًا قبول عرض الزواج .. لا أنكر أننا بحاجة للمدد، فخزائن الدولة بالإضافة إلى جنودها يفنون شيئًا فشيئًا، لكننا لسنا بحاجة إلى إدخال غريب إلى القصر الملكي تحت مسمى الزواج، خاصة لو كان من إقليم الشمال ..
قال كانوزا، مستشار الملك لشئون التجارة:
- يبدو أن جلالة الملك تارام ليس مقتنعًا بالعرض الذي قدمناه، و لهذا ارتأى هذا العرض البديل، لذا اقترح أن نضاعف العرض، أو أن نعرض منتجًا آخر .. الكتان على سبيل المثال ..
لم يبد على وجوه أغلب الأعضاء الستة عشر الارتياح لهذا العرض، ما دفع مياز، مستشار الملك لشئون الأمن الداخلي، أن يقول:
- حقيقة لست أرى بأسًا في هذا الزواج .. أعلم أن قوانينا تمنعنا أن نراقب زوج الأمير أو أن نضعها تحت رقابة دائرة الأمن، خاصة الأجنبيات، لكننا مَنْ نضع القوانين، و لن يرغمنا أحد أن نحتفظ بالقانون كما هو .. لسنا حتى مضطرين لتطبيقه لو لم نرد له تعديلاً ..
ظل الملك و را طوال هذه المناقشات صامتين، حتى كسر با-هيب صمته قائلاً:
- مياز قال اقتراحًا ممتازًا، لكنه يعتمد على موافقتنا من الأساس على هذا الزواج .. لا أريد لنسلي أن يكون في دمه شيء من دماء هذا المأفون، فإن العرق دساس ..
- ليس كل الأبناء كآبائهم يا جلالة الملك ..
قالها را مبتسمًا، و لم يفطن إلى أنه – حتى و إن لم يقصد – يعنيه هو أيضًا، و هو ما ظهر على وجه والده الذي زال شيء من انبساطه، لكنه تابع رغم ذلك:
- أنا لا أريد هذا الزواج بحال .. أنتم ترونه مصلحة المملكة، لكنني أراه مأساة شخصية، لكنني في الوقت نفسه أرى أننا يجب ألا نخسر حليفًا ممتازًا كتارام، حتى و إن كنا نكرهه .. حلفاؤنا الآخرون ليس منهم من يريد الاستمرار، و حججهم قوية بهذا الصدد .. كاما ملك الأرض البيضاء لديه نزاعاته الداخلية و ليس يرغب في إبقاء الجيش بعيدًا عن مملكته، و نيورجا يوشك أن يعلن إفلاسه و إفلاس مملكته، فمن يبقى بعد هذا ؟
- و الرأي ؟
- لو أذن لي جلالة الملك و سمو الأمير ..
تنحنح مركاسو، حافظ سجلات الأنساب الملكية و وثائق الزواج و الطلاق للطبقة الحاكمة، قبل أن يكمل:
- إنني أرى أن كل زواج ليس بالضرورة يجلب الولد .. نستطيع أن نقبل العرض و الزواج، حتى نحقق غايتنا، ثم نفتعل أي حجة لإفشال الأمر، و لربما استعنا بماريناس كي يصرف الأميرة كارين عن سمو الأمير، فيبدو الأمر طبيعيًا لا شك فيه ..
- لكن الأمر ليس في الولد فحسب .. غريب في القصر الملكي يعني وجود جاسوس إلى أن يثبت العكس ..
قالها با-هيب و قد تملكه الغضب و أكمل:
- إنني أرى ألا نوافق على هذا العرض، و لنخض جولة جديدة من المفاوضات مع هذا المأفون ..
- لا يبدو أنه في استطاعتنا يا مولاي ..
- كيف يا سيما ؟ .. كل شيء ممكن ..
- لا أعني أنه مستحيل، بل أقول إن الظروف قد لا تسمح؛ ففرق الاستطلاع تقول إن رسولاً من قِبل كومار ملك البلخاي قد وفد إلى تارام بالأمس، و أخشى ما أخشاه يا مولاي أن يكون هذا بداية تحالف بينهما، و لحظتها لن يبقى من مملكتنا ما ندافع عنه ..
- لكن ما بينهما حرب ضروس لا أول لها و لا آخر ..
- و ما بيننا و بين تارام صراع طويل طوى تحت صفحته أجيالاً، لكن الخلافات قد تتوارى جانبًا إذا اقتضت المصلحة، و مصلحة كومار أن نزول من على وجه الأرض ..
أطرق با-هيب و قد شعر أنه قد وضع في مأزق .. كومار بمفرده كابوس مطبق، فما باله لو انضم إليه تارام، كابوس حياته الآخر ؟
- فما رأيك يا والي مجلس المشورة ؟
- أرى ..
ثم صمت لحظات داعب خلالها ذقنه ثم قال:
- أرى أننا قد حوصرنا، فحلف بين تارام و كومار فيه الهلاك المحقق .. اثنان من أكثر من يبغضوننا على وجه الأرض يتحالفان، إذن هي الطامة .. لهذا أقترح بعضًا من هذا و قليلاً من ذاك .. سأفاوضه على التحالف بدون الزواج، فإذا أُحصرت قبلت و ليس لي حيلة ..
- فلنصوت ..
قالها با-هيب و لم يكن لها ضرورة، لكنه العرف و التقاليد، و انفض المجلس و قد وقع با-هيب في الفخ المرسوم .. وقع وقوعًا بلا رجعة ..
***

14.7.10

أحلام الفتى الدائخ - الحلم الخامس


الحلم الخامس - مملكة يارا و التنين المائي، أشياء أخرى ..

لسبب ما فإن أول ما طرأ إلى ذهني في بداية هذا الحلم - أو عندما تذكرته فور استيقاظي - هو قصة جول فيرن الشهيرة "عشرون ألف فرسخ تحت الماء" .. على أية حال، ليس للقصة من قريب أو بعيد أي علاقة بما حدث ..

أراني واقفًا على شاطيء صخري أعتلي إحدى صخوره، أنظر إلى الأفق و البحر الصاخب، و السماء ملبدة بالغيوم، و ذلك اللون الرمادي الذي أكره الشتاء بسببه، و على البعد توجد بحيرة صغيرة تتصل بالبحر عن طريق فتحة ضيقة - بوغاز لو أردت الدقة .. عند هذه البحيرة يرقد تنين مائي ضخم، يذكرك فور رؤيته بذلك التنين الذي صمموه في فيلم The Seventh Voyage of Sinbad لكن لونه مائل للزرقة، و بجواره يرقد العفريت الذي يقوده .. عفريت من الجن أخضر اللون يشبه الغوريللا على رأسه خوذة لها اللون نفسه، أو ربما هي جزء من تكوين رأسه لا أكثر ..

أراقب المشهد، لأجد أن التنين نائم لكن صوت شخيره مزعج للغاية، و يوّلد أثناء نومه الكثير من الرذاذ، ما يثير غضب العفريت، فيتشاجران، لكن الواضح أنه شجار الأحبة؛ مزاح ليس إلا .. مزاح ينقلب على حين غرة إلى مأساة حينما ينزلق التنين إلى بركة من الطين الأخضر، الذي اكتشف إنه مسحور يقتل بمجرد الملامسة، و يصيب الضحية بالاختناق التدريجي، بينما تنزلق كما ينزلق المرء في الرمال المتحركة .. في البداية سقط التنين في البركة، فهب العفريت لإنقاذه ليسقط بدوره بينما نجا التنين، و في النهاية أنقذ أنا العفريت من بركة الطين القاتلة تلك ..

نسيت أن أخبركم أنني كنت في رحلة برفقة اثنين من الإغريق، نبحث عن شيء ما لست أذكر كنهه تحديدًا، لكنه كان شيئًا مقدسًا فُقد من أحد المعابد اليونانية، و كان هذا التنين هو وسيلة السفر و التنقل ..

بعد أن أخرجت العفريت من البركة، أتى أحد رفاقي، و أمسك بقطعة من طين أخضر، لكنه أدكن من الطين القاتل - ما يعني أنه ليس بخطر - و وضع قدر غمسة إصبع من الطين القاتل في الطين الآمن و أعطانيها قائلاً إنها قد تحميني في يوم من الأيام ..

انطلقنا نحن الثلاثة نستشرف الأفق، لأفاجئ بالمشهد يتغير كلية، و رفيقاي الإغريقيان يتحولان إلى اثنين من زملائي في الكلية، و الشاطيء الذي كنا عليه وجدته قد استحال شاطيء الشاطبي المواجه لمكتبة الإسكندرية .. انطلقنا نسير، و ننظر إلى اللافتات التي ملأت المكان حولنا، و على الجانب الآخر من الشاطيء، لنجد أننا لسنا في الإسكندرية، بل في مملكة يارا - التي تتحدث العربية - التابعة لمملكة تايلاند ..

نحاول تدبير طريقة للعودة إلى الديار، لنقابل أستاذًا جامعيًا إنجليزيًا من المهتمين بالشأن الداخلي المصري، يخبرنا إنه قادم من أجل مؤتمر أو لقاء عن مصر، يقام هنا في مملكة يارا، و إنه يستطيع تدبير طريقة للعودة إلى مصر بعد انتهاء المؤتمر، و يدعونا للحضور فنوافق، على أمل أن تنتهي هذه المشكلة ..

سرنا معه و قد فوجئنا أن المؤتمر مقام في أحد الأسواق الشعبية، التي اتخذت مسحة جنوب-شرق آسيوية بامتياز، بأولئك الباعة المتراصين تحت أقمشة تظلل عليهم مشدودة بين أربعة قوائم .. وصلنا المكان المنشود، الذي لم يكن سوى "شادر" كهذه الشوادر التي يقيمها المرشحون في الانتخابات، و قد اصطفت المقاعد الخشبية في صفوف أمام منصة بدائية يجلس إليها المتحدثون في هذا المؤتمر الذي اكتشفنا أنه عن انجازات وزارة التعليم العالي في مائة عام ..

جلست في المقدمة، بينما جلس رفيقاي في الصفوف الخلفية - كعادتهما في الحياة الواقعية - و بدأت الكلمة الافتتاحية بفيلم قصير يستعرض هذه الإنجازات، التي لا اذكر منها سوى إدخال رقم الجلوس لأول مرة في مصر عام 1889 - على وجه التقريب ..

تشوشٌ في الإرسال، و تشوهٌ في الصورة، لينتهي الحلم باستيقاظي مندهشًا من كل هذا ..

11.7.10

شيءٌ كالبكا ..


أذكر قصة قصيرة لكاتب يمني قرأتها منذ فترة، كانت تتحدث عن بكاء الرجال .. يروي المؤلف القصة على لسان بطله الذي يقول إنه ظل يُنهَر عن البكاء كلما هم به، بدعوى أن الرجال لا يبكون، و أن البكاء من شيم النساء، حتى إذا مات أبوه و أراد أن يبكي فراقه .. لم يستطع !
لم أكن يومًا من هواة قراءة القصص القصيرة، أو من هواة المغامرة بالقراءة لمؤلف لا أعرفه، خاصة لو سبق قصته نقد من عينة "إشكاليات الصراع" و "مضامين الحداثة" و "ازدواجية الأنا" و هذا الحديث المقعر الذي لا أدري من أي جحيم يأتي به هؤلاء النقاد، لكن القصة على أية حال جذبتني، و قرأتها حتى النهاية، لا لشيء إلا - ربما - لأنها مست شيئًا في قلبي ..

في البدء كنت أبكي .. لست أكذب لو قلت إنني كنت استشعر شيئًا عجيبًا كلما بكيت .. شعور بالهم ينزاح عن صدرك، أو كأن روحك تسمو فوق هذه المآسي التي تراها صغيرة، أو كأن دموعك - و التعبير ليس لي - تغسلك كلك جملة و تفصيلاً ..

في البدء كنت أبكي، ثم تحت ضغط هذه العبارة الجوفاء العرجاء الخرقاء - الرجل لا يبكي - أخذت القدرة على البكاء داخلي تتضاءل .. لم أعد أبكي إلا إذا كان الهم ثقيلاً جدًا جدًا، ثم لم أعد أبكي إلا لآلام الجسد، ثم لم تعد تبكيني إلا شرائح البصل !

أحيانًا أشعر أنني فقدت كنزًا عظيمًا .. أحيانًا تعتريني لحظات يقصم الهم فيها ظهري - و من منا لا يمر بتلكم اللحظات - و أشعر أنني أريد لدموعي ألا تقف، فلا أستطيع ..

أحيانًا أرى رؤى و أحلامًا لا أحتملها .. استرجع ذكريات لست أدري كيف طاب لنفسي أن تفقدها .. أمر بمواقف أحصر فيها حصرًا، و أرغب في أن أخفف عن نفسي شيئًا من كل هذا بالبكاء .. فلا أستطيع !

الحقيقة التي أيقنتها و أدركتها، أنك قد تجد ألف طريقة تفرغ بها ما بداخلك، لكن .. ليس شيءٌ كالبكا

7.7.10

الوصايا الألف .. العشرة الثامنة

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الحادية و السبعون: لا تكن رأسك رأس ثور لا يتقدم إلا ناطحًا، فمهما كانت رأسك صلبة فالدنيا أصلب، و أعلم أن الكثير قد تكسبه بالسياسة، و أن السياسة لا تعني دومًا المهادنة و التنازل عن الحق.
الوصية الثانية و السبعون: لا تجعل حرفتك في الدنيا دس أنفك في شئون الناس، فهي حرفة ليس لها راتب إلا السب و اللعن.
الوصية الثالثة و السبعون: من عاش يظلم الناس، مات يلعنونه.
الوصية الرابعة و السبعون: لا تبك على شيء فاتك، فلربما فاتك لتُرزق خيرًا منه.
الوصية الخامسة و السبعون: إذا تعلمت التقدم فتعلم التراجع؛ فتقدم بلا تراجع لهو أشد خطرًا من تراجع بلا تقدم.
الوصية السادسة و السبعون: اعلم أن الناس يرونك على الصورة التي ترسمها أنت في أذهانهم.
الوصية السابعة و السبعون: إذا عظمت الهمة، عظم البلاء .. فلا تبتأس.
الوصية الثامنة و السبعون: لا تعش أسير ماضيك، فهو سجّان لا يترك أسراه إلا جثة هامدة.
الوصية التاسعة و السبعون: لتكن خَجِلاً من الإصرار على الخطأ، لا من الوقوع فيه.
الوصية الثمانون: إذا كنت ممن هوايتهم إثارة المتاعب، فخير لك أن تعتزل الناس .. و حتى إن لم تفعل، فهم سيفعلون.

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar