30.9.09

الذهب الأحمــر - تابع الفصل الثاني

" غريب أنني أتشوق لهذه الزيارة ، منذ مدة ليست بقصيرة و أنا أتذكرهم بضحكاتهم ، بنظراتهم ، بذلك الشيء العجيب الذي يربطهم ، قد لا يعرفون بعضهم البعض و لكنهم يتعاملون و كأنهم أصدقاء أحماء يربت أحدهم على كتف الاخر و يمازحه ، كأن الغوغائية صلة قرابة تجمعهم ، مالا أدركه عنهم كثير ، لكني سأحاول التعرف عليه شيئا فشيئا .. لقد قال لي المعلم موار يوما ان الملك الذي لا يعرف شعبا يحكمه كالحداد الذي لا يعرف كيف يوقد نارا أو يطرق ، و لست أنوي أن أكون هذا الحداد .. أريد أن أكون ملكا عظيما كوالدي "
نحى دواته و قلمه جانبا ، و قرأ ما كتب و ابتسامة طفيفة تعلو وجهه ، أحس كأنه يقرأ في أحد الكتب التي اعتاد أن يقرأها في المكتبة الملكية ، أعادته تلك الافكار الى مقابلته مع أرنوك ، تعجب كيف أنه لا يعرف الكثير عما حدث لمعلمه .. كان طفلا عندئذ و لم يخبروه شيئا لشدة ما أحب موار ، و لم يتجرأ أن يسأل عندما كبر خوفا من أن يثير الاما قديمة ، تعجب من بعض كلام أرنوك و كيف لم يفهم معناه ، و تعجب من اصرار أرنوك ألا يراه الملك و لا يعرف باللقاء الذي تم .. قطع سيل تساؤلاته صوت طرق على باب حجرته ، أغلق مذكراته و فتح درجا يبقيها فيه و أغلقه و أدخل المفتاح في جيب سترته ثم أذن لمن بالباب بالدخول.
***
-بالله عليك يا رجل ، يندر الحصول على غزال في مثل حجم هذا .. تعرف جيدا أنك لو بعته لأحد النبلاء فلن تأخذ فيه أقل من عشرة أضعاف ما تعرضه علي..
-ان لم يعجبك ما أعرضه عليك ، فبعه بنفسك لأحد النبلاء ..
-ليكن ما تريد يا رجل .. قالها على مضض ليعطيه الرجل ما كان قد عرضه سلفا من كرونكات قليلة لا تتناسب اطلاقا مع حجم و سمنة هذا الغزال ، ليمضي أرنوك مبتعدا الى حيث المكان الوحيد الذي يقصده عندما يزور المدينة

-لو كنت أحد رجال الملك ، لكنت الان في ورطة
التفت بالرين لصاحب الصوت ضاحكا و قد ميز صوته : قل لي انك لست من رجاله ، ثم ألقى ذلك الصندوق الذي أفرغ مختوياته على جانب الطريق باهمال و هو يتمتم ببعض كلمات ، ثم احتضن أرنوك قائلا في تساؤل : مبكرا جئت هذه المرة
-حظيت بصيد جيد ، كما أن هناك ما يجب أن أخبرك به
-كلي اذان مصغية
- أفضل أن تكون غاريتا موجودة معنا. قالها بجدية أقلقت بالرين الذي قال : ماذا هنالك يا روك؟
- لا شيء يدعو للقلق ..
***
- نارزا ، اشتقت اليك. قالها را و هو ينهض لاستقبال مربيته التي قالت : و أنا أيضا يا بني ، ارجو أن تكون رحلتك قد اتت ثمارها
- بعض الثمار و بعض ، دعك من تلك الأمور الملكية ، أوتعرفين ماذا كان يشغل بالي معظم الوقت؟
- لست أدري ، ربما فتاة تركتها خلفك هنا ؟ قالت ممازحة اياه
- اه نارزا ، انت تعرفين أنني لن أتزوج الان ، أقله ليس كما يرغبون بتزويجي .. ما شغل بالي خقا هم الغوغاء..
-ماذا عنهم ؟
- أريد أن أعرف الكثير عنهم ، هناك شيء ما لست أدركه ، كما أنني لست أرغب أن أكون هذا الحداد ..
- أي حداد ؟؟
- لا عليك ، انه شيء ما أخبرني به موار
- موار-هن ، لقد كان رجلا حكيما ، نعم الصديق و الوزير
- نعم .. أتذكرين ما حدث بينه و بين أبي حقا يا نارزا ؟ لا أستطيع أن أصدق قصة السم و الخيانة تلك
ارتبكت نارزا قليلا و شردت بعينيها تتذكر
- نارزا.. ؟ نادى عليها را يخرجها من ذكرياتها سائلا مرة أخرى عما حدث حينها
- أنا حقا لا أذكر الكثير يا بني ، و أنت تعرف ، نارزا لا تتدخل أبدا في شئون الحكم .. و لكن ما ذكرك به ، أقصد موار؟
- لقد رأيت .. بعض الكتب التي كنت أقرأها عليه
- أنس الماض بني ، و ان كنت تريد خقا تشريفه فاعمل بما علمك
- و هذا ما أنوي فعله.
***
- حسنا يا روك ، ماذا هناك ؟ أقلقتنا
- لا تقلقي غاريتا ، لقد قابلت را اليوم
- أ ي را تقصد
- و هل نعرف را سواه ، الامير را-هيمين
- ماذا ، يالله ، و هل عرف بنا ؟
- لا يا روك ، لقد أمسكني حرسه بينما كنت اصطاد ، فعرفني بينما عرضوني عليه
- و الان يجب علينا أن نفر مجددا .. قالها بالرين في قلق و حزن
- لا ، رين .. لقد أخبرته أنني الوحيد الذي نجا منا ، و ..
- أصدق هذا ؟
- نعم ، و لكني أحببت أن ابلغكما كي تأخذان حذركما ، لربما أبلغ أباه بالأمر ، و هذا ما رجوته ألا يفعل
- لا زلت أرى أن نختفي لبعض الوقت . قالها بالرين و قد بدا الخوف يتملكه
- لا رين ، انه لا يعرف عنكما شيئا ، و ما كان را ليعرفني لو لم أكن اشبه أبي الى هذه الدرجة .. كما أننا استغرقنا و قتا كي نصل لما نحن عليه الان ، فجميع عيون الملك يعرفونكم كغوفائي و زوجته يديرون خانة ، و يعرفونني كصياد ازوركم للطعام و النساء ، كما أنني لاحظت شيئا عليه ، كأنه لا يعرف ما جرى أو يجري ، كأنه كان سعيدا حقا لرؤياي
- و أن كان يا روك ، فقد كان والده يسعد لرؤيانا و أبانا كثيرا ، و لم يحل هذا بينه و بين ما فعل
- أدرك هذا ، لذلك أردت أن أخبركم ، و الان هل لي ببعض الطعام يا سادة؟ قالها ضاحكا مخاولا أن يهديء من روعهما.
***
دفع را-هيمين باب الحانة بيده و دلف الى هذا العالم الصاخب ليتجه الى ركن جلس فيه مراقبا ما يجري خوله كأنه طفل يتعلم ، قطع تركيزه صوت خشن : مضى زمن منذ رأيناك هنا أيها القط ؟
التفت الى هذا الصوت ليرى الرجل الضخم الذي تشاجر معه المرة السابقة فأجاب قائلا محاولا أن ينطقها كما يفعل الغوغاء : نعم ، مر و قت ليس بقليل
- لا بد أنك اشتقت اليهن
- هن ؟
- النساء ..
- بالطبع ، و لكني اشتقت الى الطعام الجيد أكثر
- اذن فعليك بحساء الخضروات ، فامرأة صاحب الخانة لا يضاريها في طهوه أحد
- و ماذا عنك ؟
- لقد تناولت طعامي للتو ، و لكني سأشرب معك حتى تنهي طعامك ثم نشرب سويا
نادى الضخم على النادلة و طلب زجاجة شراب و صحنا من الحساء ، سرعان ما عادت النادلة بالشراب و أخبرتهم أن الطعام سيستغرق بعض الوقت
ملأ الضخم الكأس و ناولها لرا قائلا : حتى يأتيك طعامك
- لست في مزاج للشرب حقا ..
رمقه الرجل بنظرة قلق ، و قال : أنت لا تشرب أبدا و لا تأتي هنا لأجلهن ، فلم تأتي اذا ؟ يا الهي .. أنت من رجاله
- رجال من ؟
- الملك ، انه رجل عظيم ، صدقني يا سيدي أنا لست على علاقة بأي مما يحدث من شغب
تعجب را من تصرف الرجل ، و كأن رجل والده ، و ان كان لا يفهم من هؤلاء ، يخيفون الغوغاء ، و لكنه قال للرجل : لا يا صديقي، و لكني أمتنع عن الشراب و النساء لسبب
- اي سبب هذا الذي يمنع شابا مثلك عنهما ؟!
- انها قصة طويلة ، لا أريد أن أشغل بالك بها
- و هل نملك شيئا الا الوقت أيها القط .. قالها و ابتلع ما كان قد صبه في الكوب دفعة واحدة ليكمل : احك لي ...

23.9.09

بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل السادس / الجزء الثاني

الفصل السادس - دوائر متقاطعة

"الناس دي عايشة في ماء البطيخ المغلي .. انجزوا و ارحمونا بقى من الرغي ده"
لو خرج هذا الحديث من دائرة سريرة زكريا إلى لسانه، فهو الطرد و الفضيحة بلا ذرة انتظار .. كان اجتماعًا لمجلس القسم في الكلية، و رغم وجود عدد من الشباب في الجلسة، إلا أن سيطرة الكبار على مسار الحديث جعله مملاً جدًا .. هؤلاء القوم يمتهنون الملل لا الطب ..
- دكتور زكريا .. تحب تقول حاجة ؟
قالها رئيس القسم كأنها طوق النجاة .. إذن سينتهي هذا الملل ..
- أفتكر إنك كلمتني في حاجة بخصوص جهاز القسطرة ..
بدا السرور واضحًا جدًا على وجه زكريا، ربما بصورة ملفتة للنظر، و كأنه يقول بملء فيه "يا ولاد الـ .. صدعتوني .. أخيرًا حأخلص"، إلا أن تحدثه لم يجعل أحدًا يعطي هذه الملاحظة الاهتمام الكافي، إذ انطلق يتحدث:
- يا أفندم، أنا باعتبر دايمًا إننا أسرة واحدة .. يعني مفيش بينا زعل ما دمنا في حدود الأدب ..
صمت لحظة و قد بدأت لمحة من توتر تغزو الأجواء، ثم تابع:
- أنا حاسس إن في ناس مشغلة جهاز القسطرة لحسابها .. الجهاز و لا مؤاخذة حمار شغل .. مش معقولة كل يومين يعطل، و أفاجأ من كلام العمال إن الدكتور فلان أو فلان شغال عليه، رغم إني كل ما أقول حاحجز عليه عملية و لا اتنين يقولوا أصله عطلان .. في حاجة غلط يا افندم ..
- قصدك مين بفلان و فلان يا دكتور زكريا ؟
قالها أحد الأساتذة الجالسين بحدة، فرد زكريا بهدوء:
- مش عاوز اتهم حد يا دكتور محيي، لأن ممكن يكون كلام العمال مجرد كلام فاضي و إنهم بيضربوا أسافين و خلاص .. لكن موضوع الأعطال الكتيرة دي مش منطقي و مش طبيعي و لازم يتحقق فيه .. إذا كان الجهاز قدم يبقى نجيب واحد تاني، و بعدين ..
قطع كلامه أن هب محيي كالعاصفة في وجهه:
- لأ ما ينفعش الكلام ده .. أنت تقول إن في ناس بتشغل الجهاز لحسابها و تتهمهم و بعدين تقول ممكن يكون أسافين و خلاص ؟ .. أنت كده بتتهمنا كلنا بالسرقة و التربح من ورا المهنة بشكل غير مشروع و من غير دليل .. دا ..
هنا قاطعه رئيس القسم قائلاً:
- في إيه يا دكتور محيي .. لزومها إيه الثورة دي كلها ؟ .. دكتور زكريا ما قصدكش بحاجة ..
بدا عليه الارتباك لحظة لم يدر خلالها ما يقول قبل أن يندفع:
- أنا رافض أسلوب الاتهام الجماعي .. اللي يتكلم عن القسم بكلمة وحشة يبقى يقصدنا كلنا بما فيهم أنا ..
- و أنا ما اتهمتش القسم كله يا دكتور محيي .. أنا قلت مش عاوز أقول الأسماء اللي سمعتها إلا إذا اتفتح تحقيق رسمي، علشان ما ابقاش اتهمت حد بالباطل لو كل الكلام اللي سمعته مجرد أسافين و إشاعات و كدب من غير رجلين .. لكن الكلام فعلا لازم يتاخد على محمل الجد و إلا الله أعلم إيه اللي حيحصل بعد كده ..
كاد محيي أن يندفع في الحديث مرة أخرى فقال محسن الكيال رئيس القسم:
- خلاص .. انتهينا .. الموضوع ده أنا حاحقق فيه بنفسي، و اللي حيثبت بأي شكل من الأشكال إنه بيستفيد من الجهاز لحسابه الشخصي يبقى أحسن يدور له على مكان تاني يشتغل فيه ..
قال زكريا:
- لو سمحت يا أفندم في نقطة تانية .. في دكتور بأشرف على رسالة الدكتوراه بتاعته .. الرسالة في طرق تثبيت الدعامات في الشرايين التاجية و أفضل الوسائل المتبعة لتفادي فشل تركيبها .. هل من المعقول إنه ييجي يدخل أوضة القسطرة يتقال له مالكش دعوة بالأوضة دي ؟ .. ما تقربش منها ..
صمت هنيهة ثم أضاف:
- دكتور محيي شخصيًا قال له كده و في شاهد ..
اندفع محيي للمرة الثانية:
- قصدك إيـ ..
- دكتور محيي ..
خرجت صارمة من محسن الكيال فصمت محيي على مضض فيما قال هو:
- مش معقولة اتنين أساتذة في كلية طب يتناقشوا بالطريقة الهمجية دي .. الكلام دا حصل فعلا يا دكتور محيي ؟
- دا كلام ما عليهوش دليل، و لو ..
- حصل و لا لأ ؟
صمت محيي لحظة ثم قال:
- لأ طبعًا .. أقول له كلام زي ده ليه، و بعدين أنا مش محتاج أقوله لو كنت عاوز، لأن الجهاز عطلان و دخوله زي عدمه ..
- فين الشاهد يا دكتور زكريا ؟
أشار زكريا لإحدى الحاضرات و قال:
- دكتورة منال كانت واقفة ساعتها، و سمعت الكلام ده ..
- أيوه فعلا يا دكتور محسن .. دكتور محيي قال له بالنص: "و أنت حتعمل إيه بأوضة القسطرة ؟ .. آخر حاجة تفكر فيها تدخل الأوضة دي"
صمت الكيال واضعًا كفيه المعقودين أمام ذقنه ثم قال و هو يومئ برأسه:
- عظيم جدًا .. أنت متحول للتحقيق يا دكتور محيي ..
هب محيي واقفًا و بدا أنه على وشك أن يرغي و يزبد و يدافع عن نفسه، فقاطعه محسن مشيرًا بيده:
- آخر حاجة حاسمح بيها إن القسم يتحول لعزبة يا دكتور محيي ..
- بس دا كلام مالوش أساس من الصحة .. دا افترا ..
- حيبان من التحقيق .. البرئ ما بيخافش ..
كان قوله بمثابة اتهام خفي، إلا أنه لم يتوقف عنده كثيرًا، بل لملم الأوراق التي أمامه، و هو يقول:
- الاجتماع انتهي يا دكاترة .. كل واحد يتفضل على شغله ..
و فيما أخذ محيي "يبرطم" ببعض الأشياء المبهمة، أخذ الأساتذة الجالسون في القيام و بعضهم يهمهم ببعض الأشياء عما حدث و عما سيحدث .. وحده زكريا انسل من بين الجمع كأنه ملح ذاب في ماء، و انطلق لا يلوي على شيء، يريد أن يخرج من المكان و يغادر الكلية بأسرع ما يكون، كي يستطيع القيادة قبل الازدحام، فالساعة تقترب من الثانية .. توقيت مفيض البشر في مصر خروجًا من أعمالهم و التلاميذ من مدارسهم و الطلبة من كلياتهم و أي شخص من أي مكان ..
عادة يشعر بالضيق و الملل و السأم و كل شعور ينتمي لهذه الفئة من زحام هذه اللحظات، أخذ يلعن في سريرة نفسه هذا الاجتماع الأخرق الذي اضطر لحضوره و سماع غثاء هؤلاء، و كأنهم يستمتعون بإضاعة الوقت .. من العسير حقًا أن يصدق، لولا أنه ينتمي إليه بالفعل، أن هذا القسم يضم بين جنباته أساتذة في فرع دقيق من الطب كجراحة الصدر و القلب ..
"ماء بطيخ مغلي من غير بذر" .. تمتم بها و هو يحاول الخروج من هذا التشابك الرهيب للسيارات أمام بوابة الكلية .. سيارات أجرة، و حافلات، و سيارات خاصة، و موظفون، و أطفال، و شحاذون و .. و .. و .. أمم ..
أخذ يقلب فكره فيما جرى في هذا الاجتماع .. ليس طبعًا وصلات العزف المنفرد التي قام بها الأساتذة قبل أن يتحدث، بل في رد فعل محيي تجاه كلامه .. أغلق الزجاج، و شغّل المكيف و بعض الموسيقى الهادئة و أخذ يتحدث إلى نفسه بصوت عالٍ كعادته كلما أخذ يقلب أمرًا على وجوهه كلها:
- أنا مازادش شكي إلا لما سمعت عم إمبابي بيتكلم عنه، بس النهاردة .. لأ أكيد في حاجة .. مش معقولة هياجه دا كله علشان خاطر ننوس عين سمعة القسم .. دا أول واحد ما بيعتبش عتبة القسم إلا علشان القبض و العمليات هو بسلامته ده ..
ابتلع ريقه بصوت مسموع كنوع من الموسيقى التصويرية، و أكمل باسمًا:
- شكلها حتبقى أيام سُقع يا زيكا .. مزيكا يا زيكا .. مزيكا ..
أخذته الموسيقى بعيدًا، و إن لم ينصرف ذهنه تمامًا عما حدث .. محيي متورط، لكن الإثبات سيكون عسيرًا كالمعتاد ..وجود منال كشاهد لحظة أن قال لهذا الطبيب ما قال كانت ضربة موفقة، لم يكن له فضل فيها بالطبع، اللهم إلا أن الله ألهمه أن يبعث بمنال برفقة بهاء – الطبيب الذي تدور حوله كل هذه القصة – إلى محيي كي يتفقا على دخوله غرفة القسطرة و العمل بها، باعتبار محيي المسئول عنها هذا العام .. بعث بها معه، ليس كواسطة، بل كدرع يخفف من حدة محيي، فهذا الأخير ذو طريقة صادمة في الحديث، و لربما كان حديثه أسوأ من هذا الذي قال لولا وجود منال ..
يبقى عم إمبابي، لكن إقناعه بالحديث رسميًا سيكون أمرًا شاقًا .. الرجل يحمل النظرة المصرية العتيدة نحو كل ما هو حكومي، حتى لو حمل إليه مصلحته على طبق من ذهب: "ابعد عن الشر و غني له"، لكن ليس من سبيل لإحكام الاتهام سوى شهادته .. هناك أيضًا العمال المسئولون عن الجهاز نفسه و تشغيله .. سيحاول أن يقنعهم، و ليوفقه الله ..
انحرف بسيارته خارجًا من شارع البطالسة متجهًا إلي شارع فؤاد في طريقه إلى محطة مصر، كخطوة في طريقه الرئيس إلى كارفور ليبتاع احتياجات الأسبوع من الطعام و الشراب .. كلما تذكر أنه يبتاع ما يريد الآن من كارفور بعد أن كان يفعل الشيء نفسه من سوق زنانيري بكليوباترا يبتسم، لكنه في أحيان كثيرًا يضحك ملء فيه ..
كان معروفًا وسط إخوته بأنه "بتاع السوق" .. هو المسئول عن إحضار متطلبات المنزل من السوق، فهو يعرف الأسعار و يتابعها، و يعرف الباعة الجيدين و الباعة "النص نص"و يعرف الأماكن التي تبيع بأسعار أقل .. كان مساعدًا ممتازًا لوالدته يرحمها الله، أما الآن، فحتى يفعل الشيء نفسه، فعليه أن يتخلى عن سيارته في بداية السوق و ربما قبله، و أن يترجل و يخترق الزحام و يبدأ في "النقاوة" و الفصال و البحث و الفحص، و هو لم يعد يمتلك البال الرائق المستعد لكل هذا التعب و النصب، بالإضافة إلى عدة أمور، ربما أهمها أنه لا يستقر في منزله كثيرًا .. ما بين العيادة و الكلية و المستشفيات التي يجري فيها عملية هنا أو هناك .. غالبًا ما يأكل في أي مطعم، أو يبتاع بعض الشطائر يزدردها على عجل، و في بعض الأحيان يظل صائمًا لا يدخل جوفه سوى الماء .. الأهم من هذا كله هو أنه لا يحمل هم أسرة و أولاد و منزل، و لهذا يتصرف بحرية أكبر، ثم إن ما يبتاعه لا يشكل سوى النذر اليسير .. بعض الأشياء التي اعتاد طعمها و لا يجدها خارج هذا السوق العملاق ..
وضع سيارته بعد لأي و جهد على الطريق المؤدي إلى كارفور إنطلاقًا من محطة مصر و انطلق يمضي الوقت في الاندماج مع نسمات الأحلام المنبعثة من السماعات، ينقر مع النغم تارة و يصفر تارة، و يصمت تارة معيدًا التفكير فيما حدث اليوم ..
عندما هبط من سيارته بعد أن وجد لها موضعًا "بالعافية"، نظر حوله و صفر مندهشًا و قال:
- أمال مين اللي فضل في البيوت إذا كان كل دول هنا ؟
اتجه للداخل و هو يتوقع زحامًا أسطوريًا قياسًَا على عدد السيارات الواقفة بالخارج .. هناك بالطبع من أتوا في المواصلات العامة .. أخذ واحدة من عربات التسوق و انطلق يضع ما يريد .. كان يتحرك على مكث و كأنه يمتلك اليوم بطوله، رغم أن الساعة تشير إلى الثالثة و الثلث، و هو ما يعني أنه لو استمر على هذا المنوال فسيصل إلى بيته في الواحدة صباحًا من اليوم التالي .. هو بالطبع لا يحمل هم العيادة، فاليوم إجازة نظرًا لاضطراره إلى ذلك بسبب اجتماع مجلس القسم، لكن ليس هذا هو سبب تمهله .. هو بالفعل مستمتع للغاية بما هو فيه .. هذا الكم الضخم من المنتجات حوله، ينظر و يتفحص، و يرى ما لا يراه في محلات أخرى .. متعة أن تتعرف على الجديد، حتى لو كان مجرد بضاعة لن تتعامل معها أو تشتريها .. إنه الفضول ليس إلا ..
بينما هو في مشيه الهاديء هذا، إذ به يسمع صراخ طفل يشق سمعه كأنه طلقة مدفع، و هو الشعور نفسه الذي شعر به من كانوا حول الطفل .. الطفل لم يعط إنذارًَا من أي نوع، بل انفجر – حرفيًا – في البكاء على الفور دون مقدمات ..
دنا منه زكريا يسأله ما يبكيك، إذ وجده وحيدًا ليس حوله من يشعر المرء إنهم من عائلته، أو هو يعرفهم و يعرفونه، فقدر أنه فقدهم في هذا الزحام الشديد، و هو أمر متكرر الحدوث، إذ كثيرًا ما يسمع نداءات بهذا المعنى في السماعات الداخلية للسوق .. دنا منه و سأله برفق و قد وجد إلى جواره سيدة تحاول تهدئته:
- في إيه يا حبيبي .. ماما فين ؟
لم يكن الطفل يرد سوى بكلمة واحدة "بدّي أمي .." و بلهجة تمزج ما بين المصرية و الشامية، ما جعل زكريا يقول:
- و كمان مش من هنا .. حلاوتها أم حسن ..
ثم هبط إلى مستواه مرة أخرى و قال:
- طب تعالى يا حبيبي نروح ندوّر عليها ..
- أمي قالت لي ما تمشي مع حدا ما تعرفه .. بدّي أمي .. عاوز ماما ..
طفل عنيد، لكن من الواضح أنه تائه بإهمال الأم و ليس عن قصده هو، فحديثه يكتسي بمسحة من تعقل غريب على من هو في سنه .. ارتفع صراخ الطفل مرة أخرى و فشلت السيدة التي كانت إلى جواره في تهدئته، فقالت:
- في إيه يا أستاذ .. ما تشوف حل، و لا شوف حد من الأمن ..
كان يبحث بعينه علّه يلتقط هذه الأم الملتاعة التي تبحث عن طفلها، فيما اجتذب صراخ الطفل عددًا من رواد المكان، و فردًا من الأمن أو ربما هو أحد العمال ليس إلا .. قال:
- تايه ؟
- أيوه .. و دماغه ناشفة مش عاوز يتحرك غير مع أمه ..
لم يكد الرجل يهبط على ركبتيه ليتحدث إلى الطفل، إلا و فوجئ بالطفل ينطلق نحو سيدة من بعيد و هو يصرخ فرحًا، و هي بالمثل، فابتعد من التفوا إذ شعروا أن الأمر قد انتهى و أن الطفل قد وجد ضالته، و قد انتفت الإثارة التي توقعوها من الموقف .. حتى تلك الآنسة التي توقفت تحاول تهدئة الطفل رحلت هي الأخرى، في رد فعل تعجب له زكريا، إذ توقع أن تقف و تقابل الأم، و لو حتى لتوبخها على تركها طفلها في مثل هذا المزدحم – كعادة الإنسان منا، يسلخ أخاه كأنه معصوم من الخطأ – هذا إن لم تتحدث إليها مادحة نفسها و أنها وقفت إلى جواره و أنها حاولت تهدئته و .. و .. و .. لكن يبدو أنها لا تهتم بشيء من هذا ..
الوحيد الذي بقي هو زكريا، ليقوم بالدور الذي توقعه من تلك الآنسة التي رحلت .. بالشق الأول منه تحديدًا .. لكنه فوجئ بشيء ألجم لسانه تمامًا، حتى بدا التعبير المرتسم على وجهه شديد البلاهة، لكن الحق يقال بأن الموقف كان مدهشًا، بل لا نبالغ لو قلنا فوق حدود الدهشة نفسها ..
***

21.9.09

بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل السادس / الجزء الأول

الفصل السادس – دوائر متقاطعة

أغمض جمال عينيه في إرهاق واضح، و فرك زاويتي عينيه بعد أن خلع نظارته الطبية، و حاول الاسترخاء بعد أن أرهقه هذا العميل المستفز و كاد يورطه في جنحة سب و قذف، رغم ما يمتاز به من هدوء فطري، تمتاز به عائلته كلها، بالإضافة لما أسبغته عليه مهنة المحاماة من برود أعصاب ..
أرخي ظهره على المقعد العملاق الذي ابتاعه خصيصًا لمثل هذه المواقف، و هو يستمع لضربات حسان على لوحة المفاتيح صانعًا معزوفة شنيعة ناشزة، لكنه يحبها رغم كل هذا، فهي السبيل الوحيد لكتابة مذكراته القانونية ..
اعتدل فجأة و أمسك سماعة الهاتف و طلب رقم فاروق، و انتظر حتى أتاه صوت السكرتيرة الحسناء – دائمًا هن حسناوات، هو وحده اختار حسان بصلعته المثيرة للانتباه لأنه يريد "حمار شغل" أولاً و قبل كل شيء .. قالت:
- عيادة د. فاروق صبحي .. مين معايا يا أفندم ؟
- د. فاروق موجود ؟
- أقول له مين ؟
- قولي له جمال .. جمال المحامي ..
غابت دقائق استمع بعدها لصوت فاروق:
- يا هلا يا جيمي .. إيه الدخلة الرسمي دي ؟
- إزيك يا فاروق .. عاوزني أقول لها إيه يعني ؟ .. جيمي ؟
ضحك فاروق ثم قال:
- أنت أخبارك إيه ؟ .. لسه ماناوتش ؟
- علشان كده باتصل بيك .. مش حينفع نروح أول سبتمر زي كل سنة .. رمضان بقى ..
- و هو كذلك .. تحب ..
قطع حديثه قول جمال:
- معلش دقيقة واحدة .. هناء بتتصل ..
ثم كتم السماعة بيده، و استدار يجيب على هاتفه المحمول الذي باغته برنته تلك:
- السلام عليكم .. إزيك يا هناء ؟
- بخير .. قول لي .. أنت فين دلوقتي ؟
شيء ما في لهجتها أشعره بالقلق .. رد:
- في المكتب .. في حاجة ؟
- طب ممكن تجيلي على مستشفى السلامة الجديدة .. في الأزاريطة ..
ازداد شعوره بالقلق .. قال:
- إيه .. حمدي حصل له حاجة ؟
- لا لا لا .. حمدي بخير .. بابا هو اللي بعافية شوية ..
- خير ؟
- خير إن شاء الله .. بس هو ..
أخذت نفسًا قصيرًا كأنما تستجمع شجاعتها لتلقي له بالخبر دفعة واحدة:
- بابا عمل حادثة ..
شعر كأن قلبه يتواثب .. حادثة في السادسة و الستين .. فليدعُ الله أن يخرج أباه منها قطعة واحدة ..
قال:
- أنا جاي حالاً .. مسافة السكة ..
ثم انتقل لفاروق و قال:
- فاروق .. أنت وراك حاجة دلوقتى ؟
سمع ضحكته مع قوله:
- حنطلع ع المصيف و لا إيه ؟
- كنت عاوزك معايا في مستشفى السلامة الجديدة ..
زال الضحك من صوت فاروق و قال:
- خير ؟
- والدي عمل حادثة و لسه هناء مبلغاني دلوقتي .. حتلاقيني هناك ..
- قدامي حالتين حأخلصهم و أكون عندك ..
- بس أوعك تكلفتهم .. مالهاش لزوم السربعة ..
رغمًا عنه ضحك فاروق، و قال:
- لا، اطمّن .. اتكل أنت و أنا حأحصلك ..
وضع جمال السماعة في مكانها و استجمع شتات أمره، ثم أخرج مفاتيح حجرته و وضع هاتفه المحمول باستعجال في جيبه، ثم خرج مغلقها وراءه، و انطلق نحو الباب مباشرة، إلا أنه تذكر حسان الذي يجلس يكتب المذكرات القانونية في حجرته، فعاد و قال:
- خلص، و قفّل، و امشي ..
ثلاث كلمات قالها لخصت كل ما أراد، و الحق أنها ليست بلاغة، بل هو الموقف وحده .. لغته العربية ليست في الحضيض، لكنها من ذلك النوع الذي تضعضع من كثرة كتابة المذكرات القانونية بلغتها الملتوية ..
اعتاد كثيرًا أن يصدر مثل هذه الأوامر إلى حسان، و ربما اختاره لأنه من ذلك النوع الذي لا يسأل كثيرًا .. بالطبع لم يفته أن يغلق باب حجرته جيدًا، لأنه رغم ثقته في حسان – و إلا ما ائتمنه على أسرار مكتبه و عملائه و على مكتبه كله – لا يزال ماثلاً في ذهنه قصة صديق له، صيدلاني، سرق أحد العاملين في صيدليته أوراقًا و كشوفًا مالية، من تلك الفئة التي لا تقدم للضرائب، و الذي يعني وقوعها في أيديهم قضية تهرب ضريبي تسد عين الشمس .. المهم أن هذا الشخص سرق المستندات، من مكتب صديقه داخل الصيدلية، لأنه – صديقه – كان يتصرف بسذاجة، باعتبار أن "الدار أمان"، فإذا به يجد هذه الكارثة، و التي تبعتها أخرى في صورة محاولة ابتزاز صريحة .. الأوراق مقابل مائة ألف جنيه عدًا و نقدًا ..
كان يأخذ جانب الحذر تجاه حسان، و أصبح بعد سماع هذا أكثر حيطة .. لا يريد بعد كل هذا العمر أن يتهمه أحد العملاء بخيانة الأمانة أو ما شابه .. هو لا يريد، و لا يقبل، و سيفري كل من يتسبب في هذا ..
لم يكن هذا ما يفكر فيه عندما انطلق بسيارته المنضغطة في بعضها البعض، أو بتعبير زكريا "وشها ف قفاها مش باين لها راس من رجل" .. هيونداي جيتز صغيرة صفراء فاقع لونها لا تناسب سنه و مهنته، لكنها تناسب طبيعته الملول فيما يتعلق بالبحث عن مكان كبير مناسب للسيارة كل صباح و مساء .. على كل هناك واحدة عندما يرتحل هو و الأسرة .. هيونداي أيضًا من الطراز العائلي التي تسع الجميع ..
لم يكن يفكر لا في حسان و لا الأوراق و لا أي شيء من هذا .. كان كل تفكيره منصبًا على الإجراءات القانونية التي سيتخذها و المسارات التي سيتبعها، و الاحتمالات المتوقعة و .. و .. و ..
كان يلقب في مستهل عمله كمحام أنه "يلعب بالبيضة و الحجر" .. بيضة و حجر ؟ لو أردنا الدقة لقلنا مزرعة بيض نعام و جبالاً من الحجارة .. كان في بعض الأحيان يقول مازحًا إنه لولا الحياء و مخافة أن تشطبه النقابة من سجلاتها، لكتب على لافتة مكتبه "أخصائي تخليص تجار المخدارت، و مسجلي الخطر" .. كان لا يتورع عن استخدام أي وسيلة ممكنة للوصول للهدف، و لم يكن يرفض أي شخص يتقدم له .. ربما كان قدوته في هذا هو أستاذه الذي شرب منه المهنة، و الذي كان في الوقت نفسه – و يا للعجب – سبب عدوله عن كل هذا الضلال ..
كان حادثًا مروريًا عاديًا، و كان المصاب هو أستاذه .. سيارة مسرعة يقودها شاب مستهتر في طريق هادئ في بقعة أهدأ، و الشاهد الوحيد هو رجل عجوز لم يختر الله وجوده في هذه اللحظة وحده دون كل خلقه إلا ليثبت لذلك الثعلب القانوني أنه يمهل و لا يهمل .. كان الشاهد الوحيد هو الرجل الذي جرده هذا المحامي من أهليته للشهادة في قضية انقضى عليها سنة، و حكم فيها بالبراءة لموكله المذنب، و كان هذا الرجل العجوز هو شاهد الإدانة الوحيد، و بلعبة قانونية و ببعض من التزوير، أصبح هذا الشخص المسكين، الذي لم يرد إلا أن يفي بالقسم و ألا يكون ممن كتم الشهادة "و لا تكتموا الشهادة و من يكتمها فهو آثم قلبه"، غير أهل للشهادة .. ها قد أصبح هذا الرجل ذاته .. بشحمه و لحمه و عظمه و شيبته التي حفرتها السنون .. أصبح هو الشاهد الوحيد على هذا الحادث، و هو الوحيد الذي يستطيع أن يذكر أرقام السيارة، لكنه و بكل بساطة لا يصلح .. !
كأنما زلزله ما سمعه من أستاذه، فأمضى أسبوعًا كاملاً صامتًا .. يتحدث القليل، و يأكل القليل، إلى أن اتخذ قراره أن يدمر كل البيض، و ينثر كل الحجارة، و أن يجلعها نظيفة حياته، فهؤلاء لا يأخذ منهم أتعابًا، بل جمرًا من نار ..
أخذ يفكر في كل ما يتعلق بحادثة والده، محاولاً إبعاد ذهنه عن والده ذاته .. والده في السادسة و الستين، و لن يتحمل .. لا يريد أن يقضي تلك اللحظات حتى يصل للمستشفى في هلع لا مبرر له عندما يجد أن الأمر أبسط مما صوره خياله، و لا يريد أن يضرب أخماسًا لأسداس و يذهب به الشيطان كل مذهب .. فليبقه بعيدًا حتى يراه رأي العين، و بعدها فليختر الانفعال الأصوب ..
غارقًا في أفكاره، و ماذا فعلت هناء و حمدي، و إلى أي مدى سارت إجراءات الشرطة، لم يستمع إلى رنين هاتفه المحمول إلا عندما بلغ مقطعًا عالي الصوت في نغمة الرنين .. انتبه إليه و ظنها أخته تارةً أخرى تطلعه على تطور مفاجيء، فإذا به يجد المتصل هو فارس، فانعقد عقله و لسانه معًا من الدهشة، إذ لم تكن من عادة فارس على الإطلاق أن يتصل به مباشرة على هاتفه المحمول، إلا إذا كان الأمر جد خطير ..
- آلو .. السلام عليكم .. أيوه يا فارس ..
- و عليكم السلام .. أنت في المكتب ؟ .. و لا شكلك في الشارع ..
- في العربية .. عندي مشوار كده في الأزاريطة ..
لم يشأ أن يزعجه بمسألة والده، إذ استشعر في صوته قلقًا خفيًا، من ذلك النوع الذي تتحسسه في صوت الشخص و نظرات عينيه، لكنك لن تجد ما هو أبعد من هذا من التعبير ..
- فين في الأزاريطة ؟ .. لازم أشوفك ضروري و دلوقتي ..
تمامًا كما قدر ..
- في مستشفى السلامة الجديدة ..
- يا ستار .. خير ؟
- والدي بعافية حبتين و رايح أزوره ..
- أنا آسف يا جمال .. بس فعلاً الموضوع ما يتأخرش .. مسافة السكة أكون عندك ..
و أغلق الخط، ليشعر أن الهدوء الذي كان يمني نفسه به قد انقلب رأسًا على عقب و في أقل من ساعة ..
***
في خطوات واسعة قطع فاروق المسافة من باب المستشفى إلى حيث قالوا إن السيد/ عبدالغفار جمال يرقد، في انتظار تقرير الأشعة المقطعية، و فيما هو يبحث بعينيه عن رقم الحجرة وجد جمالاً يقف مع أحد أطباء المستشفى و بجواره أخته هناء و زوجها حمدي، و قد بدا عليهم الاهتمام الشديد، و بالتفاتة عفوية التقطه جمال فقطع حديثه مع الطبيب و مضى إليه و هو ما زال في بداية الممر، فيما أكمل الطبيب شرحه لأخته ..
- ها طمنّي .. إيه الأخبار ؟
- أبويا شكله كويس .. مفيش ارتجاج الحمد لله .. شوية رضوض و كسر في القصبة ..
بدا الاهتمام على وجه فاروق، ما دفع جمال ليقول في قلق:
- إيه .. في إيه ؟ .. مالك كشّرت ليه ؟
أشار فاروق إلى الطبيب الذي كان جمال يقف إلى جواره:
- دا دكتور العظام ؟
- طبيب الطوارئ .. كان بيقولنا إيه اللي حصل بالظبط ..
اتجها إليه و فاروق يسأل:
- و قال إيه ؟
- شكله كلام ما يطمنش .. حاجة عن كسر في القصبة من فوق و المفصل و مش المفصل .. الصراحة أنا مشتت مش قادر أركز و أفهم منه كويس ..
بلغا الطبيب الذي كان يجيب على بعض أسئلة هناء، فالتفت إليهما و جمال يعرفهما بعضهما البعض:
- دكتور فاروق صبحي، استشاري جراحة العظام .. دكتور عبد التواب يوسف، طبيب الطوارئ هنا ..
لا يدري فاروق أقصد جمال هذا أم لا، لكن ذكر كلمة الاستشاري تعفي فاروق من الحرج الذي يتمثل في أن طبيبًا يأتي من الخارج و يتولى الحالة، كأن طبيب المستشفى "طرطور" أو غير أهل للثقة .. فارق الخبرة يمنحه هذا دون حساسيات، أو بأقل ما يجب منها ..
- أهلا و سهلاً ..
قالها فاروق و أخذ عبد التواب جانبًا و بدأ يستفسر عن الحالة و ماذا حدث و الأشعة و و و، و فيما هم في ذلك وصل تقرير الأشعة المقطعية، فالتقطه فاروق يقرأه باهتمام ثم قال:
- تشخيصك مظبوط جدًا يا دكتور .. مع الأسف مظبوط جدًا ..
أخذ عبد التواب التقرير يقرأه سريعًا ثم قال:
- على كل أظن إن العمليات دي بقت أبسط دلوقتي .. المهم أهل العيّان و رد فعلهم ..
- شكرًا جزيلاً يا دكتور .. أظن إني حأتولى مهمة أهل العيّان دي ..
انصرف عبد التواب إلى حجرة عبد الغفار يعطي بعض التعليمات للممرضة، فيما شهق فاروق بعمق قبل أن يتحدث إلى الثلاثة محاولاً شرح ما حدث:
- ببساطة و دون الدخول في تفاصيل طبية مرهقة .. عضمة القصبة فيها من فوق كلكوعتين فيهم مسطحات بتعمل مع ما يقابلها في عضمة الفخذ مفصل الركبة .. الكلكوعة الخارجية انفصلت نتيجة الكسر، و دا معناه حاجتين .. أولاً إننا لا زم نعمل عملية تثبيت بمسامير، ثانيًا إن المفصل دخل في اللعبة، و كل ما نخلص أسرع، كل ما النتايج تكون أحسن ..
- طبعًا يا دكتور .. لو تقدر تعمل العملية إمبارح يكون أفضل ..
قالتها هناء فابتسم و أكمل:
- إن شاء الله .. بس على كل أحب أطمنكوا .. العملية بسيطة جدًا .. دقيقة بس بسيطة .. مع التقدم دلوقتي نتايجها بقت ممتازة ..
- آمين ..
جذبه جمال من يده خفية فانسحبا ليسأله جمال:
- الكلام دا بجد و لا بتطمّن أختي و خلاص ؟
- على فكرة أختك أعصابها أنشف منك، حتستحمل الحقيقة حتى لو مُرّة يعني .. و بعدين أنا مش من أنصار إني أخبّي أي حاجة عن العيّان أو أهله ... العملية فعلاً بسيطة ..
ثم ابتسم و هو يضيف:
- بس محتاجة واحد علاّمة يعملها ..
و غمز لجمال بعينه فقال:
- يا روقة يا خويا يعني هو أنا جبتك ليه ؟ .. تبيع فجل ؟
- طب يالا نشوف الحاج و اطمن عليه ..
- السلام عليكم ..
كانت من فارس الذي وصل من خلفهما فاندهش فاروق فيما استقبله جمال قلقًا قائلاً:
- و عليكم السلام .. خير ؟
- والدك أنت عامل إيه الأول ؟
- والدي بمب .. طلعت بسيطة الحمد لله ..
- هو أصلا إيه اللي حصل ؟
هنا تدخل فاروق:
- حادثة و كسر بسيط كده ..
اندهش فارس لحيظات ثم لم يلبث أن قال:
- ما قلتش ليه يا جمال ؟ .. بتقولي بعافية شويتين ؟
- ما حبتش أقلقك .. شكلك قلقان أصلاً ..
- يعني أنت عارف إن فارس جاي ؟
- اتصل بيّا و قال عاوزك في حاجة ما تتأجلش .. خير ؟
زفر فارس زفرة حارة و قال:
- ا ..
ثم كتم ما أراد ثم تابع:
- الأول نطمن ع الحاج بعد كده نتكلم ..
دخل الثلاثة حجرة والد جمال، الذي بدا أفضل حالا منه عندما جاء منذ ساعتين .. مع سنه المتقدمه تصبح الهمسة كارثة، فمال بالك بحادث سيارة، و هو أصلاً على شفير هشاشة عظام ؟
تبادلوا كلمات الاطمئنان و الاطمئنان المضاد و بعض الدعاء بالصحة و تمام الشفاء ثم صمتوا ليتحدث عبد الغفار لابنته قائلاً:
- خلصتي موضوع المحضر يا هناء ؟
- لأ .. و معلش يا بابا، مش حتتنازل ..
- يا بنتي ..
قالها متنهدًا كأنما يقول "أنا مش حمل مناهدة .. اعملي اللي باقولك عليه"، فتدخل جمال في الحوار:
- بص يا بابا .. أنا عارف إنك مش عاوزها تتبهدل و أنها ست و العيال و الكلام ده كله .. بس لازم تتأدب ..
- آه .. لازم .. دي وليّة بجحة .. راجعة بضهرها إذ فجأة و عاوزة تلبّسنا الغلط .. و بتغالط تلات شهود يسدوا عين الشمس .. و بعدين لسانها طويل و أبيحة يعني .. دي مستفزة ..
تحدثت هناء كأنها "ما صدقت" .. فتابع جمال:
- أنا حاسيبها الليلة دي .. تتقلب ع الجنبين في الحجز وسط الستات القبحا بجد، علشان تعرف تغلط إزاي بعد كده .. و بكره أتنازل عن المحضر ..
- و لزومها إيه البهدلة دي بس يا ابني ..
- قرص ودن يا بابا .. مجرد قرص ودن ..
تنهد عبد الغفار مرة أخرى و كأنما أتعبه كل هذا، فقال فاروق:
- ريّح نفسك أنت يا حاج .. ابنك محامي عُقر و حيخلص الموضوع كما ينبغي .. المهم راحتك أنت ..
- راحة ؟ .. هما عاوزين يريحوني ..
لم يرد أي منهم، إذ واصل عبد الغفار:
- يا ابني أنا رجل جوه و رجل بره .. مش عاوز في آخر دنيتي أطلع منها و أنا مبهدل حد ..
- هي بهدلة بالضلال .. غلطت يبقى تاخد جزاتها، و بعدين قلت لحضرتك .. بكرة الصبح حاتنازل .. العوض على الله مش عاوزين منها حاجة ..
أشاح عبد الغفار بيده ما معنا: "اعملوا اللي أنتول عاوزينه .. تعبتوني"، ثم استأذن جمال ليخرج مع فارس و فاروق فيما بقيت إلى جواره هناء و زوجها ..
قال جمال:
- ها طمّني يا فارس .. خير ؟
- إن شاء الله خير .. و لو إني ما أظنش ..
و ألقى إليهما بما لديه، و كان مفجعًا بحق ..
***

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar