20.2.11

الغباء الجمعي !


رغم اهتمامي بعلم النفس، و محاولاتي المستمرة للاستزادة منه، إلا أنني واجهت صعوبة في فهم مصطلحي "الوعي الجمعي" و "اللاوعي الجمعي"، اللذان وضعهما كارل يونج، كواحد من رواد علم النفس في التاريخ الحديث، بالإضافة إلى صديقيه سيجموند فرويد، و ألفريد أدلر ..

إلا أنني رغم هذا أمتلك صورة أظن أنها ضبابية بعض الشيء عن ماهية المصطلحين، لكنها تفي بغرض هذا المقال .. نستطيع تعريف الوعي الجمعي بإنه مجموع وعي أفراد المجتمع، و الذي يعني بدوره أنه مجموع طريقة الأفراد في فهم البيئة المحيطة و تقرير طرق التصرف حيال متغيراتها، أما اللاوعي الجمعي فهو مجموع الخبرات المختزنة في لاوعي الأفراد، و التي تتوارثها الأجيال جيلاً وراء جيلاً، مشكلّة موروثًا يحكم التصرفات الواعية للأفراد بصورة أو بأخرى، و يمكننا القول إن الموروث الثقافي هو إحدى صور اللاوعي الجمعي ..

أكتب هذا كي أقر حقيقة لا بد أن نعترف جميعًا بها، شئنا أم أبينا، و هي أن الحكام العرب قد أضافوا إلى علم النفس مصطلحًا جديدًا، هو الغباء الجمعي !

من المثير للدهشة و للفضول العلمي في آن هذا التشابه المزري في رد الفعل لدى الحكام العرب واحدًا تلو الآخر إزاء المظاهرات و الاحتجاجات و الثورات التي تجتاح الوطن العربي في تفاعل متسلسل يخلب الألباب و يسحرها .. تشابه يجعلك تقول بنفس راضية: تعددت الوجوه، و الغباء واحد ..

البداية كانت مع بن علي في تونس، الذي استلزم الأمر أربعة أسابيع متصلة من الاحتجاجات و الإضرابات و الاعتصامات حتى يفهم الشعب، و المضحك أن فهمه اقتصر على عدم ترشحه للرئاسة في 2014 .. الأكثر إضحاكًا أنه تصور أن هذا سيهدأ الشعب التونسي، و هو التصور الذي يملأ عقل كل طاغية طالت به السنون في سدة الحكم ..

حتى هنا فنحن لا نتحدث عن غباء جمعي، بل هو غباء سلطوي فردي ديكتاتوري لا شك فيه، لكن انتقال الاحتجاجات إلى مصر جعل الصورة تتضح أكثر .. في البداية أخذ النظام يتحدث بنفس اللهجة العجيبة، و هي أنه لا يخاف أحدًا لأن يده نظيفة، و "مفيش على راسه بطحة"، و استلزم الأمر ثلاثة أيام متصلة من الاحتجاجات و المظاهرات و الاعتصامات الحاشدة بحق، و انسحاب تام للشرطة (بأوامر عليا بالطبع)، و إطلاق سراح المسجونين و البلطجية (بأوامر عليا أيضًا)، و نزول الجيش و فرض حظر التجول على البلاد، و مئات القتلى و آلاف الجرحي .. استلزم الأمر كل هذا كي يخرج مبارك بعدها ليخطب في الناس قائلاً إنه قرر تنحية الوزارة لأنها لم تنفذ تعليماته !

الحق أن الأمر يجمع بين الغباء في قراءة المشهد و العناد و الكبر، لكن الشاهد في الأمر هو أن مبارك تصرف مثل بن علي تمامًا، و إن اختلفت الأزمان و المدة في الحالتين ..

قطع مبارك خدمات الإنترنت و الهاتف المحمول، و شوّش على قناة الجزيرة، و أزالها تمامًا من القمر المصري نايل سات .. و في السويس قطع عنهم الكهرباء و المياه، و كأنه يتعامل مع مجموعة من الخراف و النعاج، و هو تصرف غبي آخر، سنجد له مثيلاً بعد قليل عندما ننتقل للحديث عن باقي الدول العربية .. تصرف غبي لأنه ببساطة جعل الناس التي التزمت بيوتها تنضم إلى المتظاهرين .. شخص لا ضوء يهديه الطريق داخل منزله و لا مياه ليروي بها ظمأه، و لا إنترنت أو أي وسيلة اتصال أخرى، فما الذي يجعله يلتزم المنزل ؟!

و كأنما هي عدوى، انتقل مرض الغباء من مبارك إلى نائبه، فبدأ التحدث عن أجندات أجنبية تحرك المتظاهرين، و أن ما يطالبون به غريب عن الروح المصرية الأصيلة، و هو الشيء الذي يثير الضحك بقدر ما يثير الغيظ، فالجهة التي تستطيع أن تحرك هذه الملايين لهي جهة جديرة بالاحترام، و هي الأقدر على حكم البلاد و لا شك !

المثير للشفقة كان الإعلام الرسمي، الذي كان يتصبب غباء و بلاهة، عندما يصر على وصف الأجندات، و يفتح المجال لمن يقول إن المتظاهرين يتلقون وجبات كنتاكي مجانية من أجل التظاهر، و يترك الحديث لمن يقول إن ميدان التحرير هو "ماخور كبير"، و يركز على الأماكن الفارغة من الميدان، أو يجعل مشهد النيل الهادئ هو ما يملأ الشاشة، و كأن السمك هو مَن سيتظاهر !

ثم انتقلت روح التحرر و التحرير إلى بقية الوطن العربي بعد أن استطاع الشعب المصري إزاحة مبارك عن كرسي الرئاسة – و إن كانت أقاويل تؤكد أنه لم يتزحزح تمامًا – إلى باقي الوطن العربي، ليظهر مصطلح الغباء الجمعي واضحًا للجميع ..

بدأ الليبيون في الدعوة إلى مظاهرات حاشدة يوم 17 فبراير، فصرح القذافي أنه سيعتقل كل من يدخل فيسبوك، ثم قطع الخدمة لاحقًا بالإضافة لقطعه كافة صور الاتصال، و خدمات أخرى، و هو ذات الخطأ الغبي الذي ارتكبه مبارك، متصورًا أن الأمر كله ينحصر في فيسبوك و تويتر، و أن هذان هما أس البلاء ..

انطلقت المظاهرات في اليمن، فتحدث عبدالله صالح عن الأجندات الأجنبية التي تحرك المتظاهرين، و هو الأمر الذي دفع البعض للبحث عن مورّد الأجندات الذي لا ينضب هذا، بحيث استطاع الحصول على "توكيل" الوطن العربي بأكمله .. ذات الخطأ الغبي الذي ارتكبه نظام مبارك من قبل ..

انطلقت المظاهرات في البحرين، فنزل الجيش يفرق المظاهرات بالرصاص الحي، و هو ذات العنف غير المبرر الذي استعمله القذافي و لا يزال يستعمله لصد المظاهرات و تفريقها، لكن القذافي تفوق على الجميع و لا شك .. استخدام المدفعية الثقيلة و الدبابات و الرشاشات الثقيلة و ربما الطائرات أيضًا، و استقدام مرتزقة من أفريقيا لقتل المتظاهرين .. لا أصف كل هذا بالغباء، فالغباء في التعامل مهما بلغ لا يمكن أن يبلغ هذه المنزلة، و لا أجد وصفًا أدق و أبلغ من قول الله سبحانه و تعالى "فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" ..

المشهد يتكرر من بلد لآخر، و نفس التصريحات و طريقة التصرف تتكرر من حاكم لآخر، و كأن المعين الذي ينهلون منه كله واحد، و كأنهم جميعًا رضعوا من بقرة واحدة، مصابة على الأرجح بجنون البقر !

لقد أسس الحكام العرب لمصطلح الغباء الجمعي، بل جعلوه مذهبًا في الحكم، و هو أمر – أزعم – أنه سيغير الكثير من نظريات علم السياسة، و سيدفع علماء النفس لبحث هذا الأمر، و إيجاد تعريف دقيق له، لكن حتى ذلك الحين، يبقى الغباء الجمعي المحرك الأكبر لتصرفات الحكام العرب بلا منازع ..





ليست هناك تعليقات:

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar