على أية حال، و أيًا كان موقفك مما حدث في الخامس و العشرين من يناير الماضي، لا بد و أنك تعترف أنه غير الكثير في مصر، و أنه حرك الساكن الراكد فيها، بل أعاد تعريف الحركة أيضًا .. كيف إذن يمكن أن يتحول هذا من "ثورة" إلى "نكسة" ؟
لأكن دقيقًا، فالتعبير المناسب هو أنها ستتحول إلى "وكسة" و انتكاسة للشعب المصري، و المزعج في الأمر هو أن الشعب هو من سيحولها إلى هذا، بشكل غير مباشر ..
كيف هذا ؟
لنبدأ بأولى تصريحات محمود رضوان وزير المالية الجديد، الذي أعلن عن إنشاء صندوق لتعويض المتضررين من أعمال الشعب، قيمة محتوى هذا الصندوق خمسة مليارات جنيه .. هل تستطيع أن تذكر لي آخر مرة كانت الحكومة فيها بهذه الرقة و الوداعة و العطف ؟!
الملاحظة الثانية هي أسعار السلع الغذائية الآخذة في الانخفاض .. أنا أتحدث على الأقل عن الخضروات التي ألاحظ – و لاحظ كثيرون ممن أعرفهم – أن أسعارها تهبط، بعكس ما هو متوقع مع أزمة بحجم ما نحن فيه، أو كما يقول النظام .. هذه مجرد بداية ليس إلا، و المزيد من التخفيض في الطريق ..
الملاحظة الثالثة هي ما قاله شهود عيان عن أشخاص يتحدثون عن جمال النظام و حلاوة النظام و استقرار النظام، يندسون – حقًا هذه المرة – وسط الناس ليشيعوا نوعًا من الانهزامية في النفوس .. يضاف إلى هذا لغة الخطاب الأخير للرئيس، الذي تحدث إلى العواطف و نحى العقل جانبًا ..
ماذا تستنتجون ؟
حسنًا .. الأمر ببساطة أن الحكومة و النظام سيحاولون كسب الوقت .. عمر سليمان بارع في هذا براعة شديدة، و هو مفاوض لا يشق له غبار – على الأقل بالنسبة لشباب الثورة – و هو قادر على كسب الوقت إلى ما لا نهاية ..
في الوقت ذاته تبدأ الحكومة خطة "فخفخة الشعب" بالمعنى الحرفي للكلمة؛ تخفيض الأسعار .. تخفيض الضرائب و إلغاء البعض .. معاقبة رموز الفساد في الحكومة السابقة، و إصدار بعض الأحكام الثقيلة .. رفع الرواتب، و ربما تحديد حد أدنى للأجور .. باختصار، ستكون مصر جنة، و لكن بشرط: حسني مبارك لن يرحل الآن و لن يتنحى، ليحافظ على "الاستقرار" ..
بينما هذه الخطوات تجري على قدم و ساق تبدأ الخلايا النائمة و عملاء النظام في الانطلاق، و الترويج إلى أن هؤلاء المتظاهرين المحتجين في ميدان التحرير و غيره هم خونة ناكرون للجميل لا يعون شيئًا و لا يفقهون .. أليس هذا هو النظام الفاسد الذي يطالبون بإسقاطه، و هذا هو الرئيس الذي يطالبون بمحاكمته ؟ إنهم مأجورون عملاء، فكما ترون: "النظام زي الفل" ..
سيتم الترويج لأكذوبة أن الرئيس لا يعلم، و أن ما كان إنما هو من فساد معاونيه .. سيتم تجميل صورة مبارك الأب الحنون، الذي استجاب لمطالب الشعب و أصلح النظام و أقال الفاسدين ..
شيئًا فشيئًا سيجد أولئك الثوار أنفسهم محاصرين .. النظام من جانب، و جموع الشعب المغيّب المجهل المغسولة دماغه من جانب آخر .. سيحكمون فكي الكماشة في قسوة و ستُجهض الثورة و هي لا تزال في مهدها ..
لحظتها لن "تعود ريما لعادتها القديمة"، بل ستعود لما هو أسوأ من عادتها القديمة .. لا يهم أسيستمر مبارك لحظتها أم لا، فالنظام نفسه و زبانيته باقون، و ستعود قبضته أقوى و أقسى مما كانت ..
لا أقول إن هذا هو "ما سيحدث"، بل هو الذي "من الممكن أن يحدث" ..
أنا لا أخاف علينا – نحن المتعلمين – من هذه الخطة القذرة، التي لطالما استعملها النظام قبلاً في أوقات الانتخابات التشريعية؛ فأغلبنا يمتلك عقلية ناقدة يستطيع بها أن يفند ما يرى و يسمع، لكنني أخشى من نصف الشعب المصري .. خمسة و ثمانون مليونًا نصفهم جاهلون لا يعرفون – حرفيًا – "الألف من كوز الذرة"، و لو قال لهم النظام إن هؤلاء الثوار خونة عملاء يحملون أجندات أجنبية و يأكلون بدعم من الموساد و أمريكا فسيصدقون .. سيصدقون كما صدق البعض منهم خطاب مبارك الأخير، و مثلما هم مستمرون في تصديق تفاهات و خرافات التلفزيون المصري ..
رسالتي باختصار أن النظام يحاول الالتفاف حول الثورة ليقتلها قبل أن تولد فعليًا، فهي حتى الآن – إلى حد بعيد – ثورة الشباب المثقف .. يحاول أن يستعمل الجاهلين الذين صنعهم عبر تاريخه ليقتل الفئة المتعلمة الواعية، و يقضي على أي أمل لهذا الوطن في غد أفضل ..
رسالتي باختصار هي أن تلتفوا حول التفافه .. انتبهوا لهذه اللعبة البطيئة الخبيثة، التي سيفرم فيها النظام كل من ثاروا عليه فرمًا .. انتبهوا و اشرحوا للناس لماذا ستستمر المظاهرات و الاعتصامات و الاحتجاجات ..
اشرحوا للبسطاء الذين لم ينالوا حظهم من التعليم و التفتح على الدنيا، و الذين هم هدف النظام الحالي لوأد ثورتنا في مهدها .. اشرحوا لهم لماذا و كيف .. اشرحوا لهم من أجل مَن نفعل هذا .. اشرحوا لهم و اغسلوا ذلك العفن الذي عشش في عقولهم و السم الذي يسري في عروقهم، و اكسبوهم إلى صفنا لا إلى صفوفهم ..
لا تكونوا أقل ذكاء من النظام ..
و في الوقت نفسه لا توقفوا الاحتجاج .. لا تهدأوا .. لا تركنوا إلى الراحة .. اجعلوا كل شبر في مصر مصدر إزعاج لهم .. اضغطوا عليهم حتى يرضخوا .. إننا نحقق مكاسب متتالية، و نحرك الجبال الرواسخ من قديم الزمن، فلا تتوقفوا الآن ..
رسالتي باختصار: واصلوا، فالنصر حليف الحق، و نحن بإذن الله على حق ..
هناك تعليق واحد:
معاك في كل اللي قلته ، بس الالتفاف الحكومي متعدد المحاور أكتر من كده بكتير ، فهم اذا كانوا لا يملكون عاكل الوقت لتحقيق الزن ، ينوعون في أنواعه ، و الزن ع الودان .. انت عارف و كلنا عارفين .. سد ودانك و علي صوتك ، مش بقول يرحل .. بقول يحاكم و يقتل - و لو كان حلالا لمثل به - هو و جميع المسئولين .. فيعد أن رايت صور الشهداء بالأمس أدركت أن رحيله رحمة لا يستحقها هو و أمثاله
إرسال تعليق