الفصل الرابع – عسلٌ و علقم
انطلق جرس الباب معلنًا عن قدوم زائر جديد، فنهض حسين ليفتح الباب، في اللحظة التي انطلق فيها إسماعيل ليفعل الشيء نفسه، قائلاً:
- خليك أنت يا حسين .. أنا اللي حافتح ..
تراجع حسين علي الفور معاودًا مشاهدة التلفزيون، الذي لم يرفع عينه عنه أصلاً، حتي و هو ذاهب إلي الباب الذي يفصله عن حجرة المعيشة ممر ليس بالقصير ..
" عيل عفريت .. ما صدق" .. قالها قبل أن يتنحنح فاتحًا الباب بابتسامة عريضة مستقبلاً جمال الذي ابتدأه قائلاً:
- السلام عليكم أهل الدار .. كيف الحال ؟
شد علي يده و أدخله ائلاً:
- أنت داخل فيلم فجر الإسلام ؟ .. و عليكم السلام يا سيدي ..
- لأ حلوة دي ..
ثم نظر حوله قائلاً:
- علي فين العزم ؟
- علي أوضة المكتب .. تعال من هنا ..
و أخذه عبره ممر طويل، لا يكشف شيئًا من المنزل، يقود الزائر مباشرة إلي حجرة المكتب ..
- عاجبني قوي الممر ده .. بيفكرني بالسراديب بتاعة العصور الوسطي ..
- ما أنت عارف .. الزوار للشغل كتير و ما أحبش أنهم يكشفوا البيت طالع داخل ..
و صلا حجرة المكتب، فأشار إلي جمال بالجلوس، فيما ذهب هو ليخبر زوجته ببعض الأشياء، تاركًا جمال يتأمل قليلاً في اللوحات المعلقة علي حوائط حجرة المكتب، و التي كان إسماعيل يجمعها من مختلف المعارض و المزادات، و كانت – بجانب هوايته الأثيرة لجمع الطوابع – تشكل ورمًا في دماغه، كما كان يسميها، لا يرجي برؤه .. لم تكن لوحات لكبار الرسامين، بل إن أغلبها غير موقع، لكنها كانت كلها عن الطبيعة، ما يجعل حوائط الحجرة كتلة من الشاعرية ..
- يا هلا .. منور يا جيمي ..
- دا نورك يا إسماعيل .. أخبارك إيه ؟
- الحمد لله الذي لا يحمد علي مكروه سواه ..
- كنت سامعك متنرفز خالص النهار ده في التليفون ..
و كأنما استعاد إسماعيل كل غليانه في الصباح، فانطلق يتحدث:
- ولاد الهرمة .. حاسس إني بتقلب في المستشفي دي و الله .. تخيل يا جمال لما مستشفي زي "عناية" يبوظ فيها جهاز أشعة علشان التكييف عطلان .. ده تسميه إيه ؟
- عطلان ؟ .. يعني إيه عطلان ؟
- يعني مش شغال .. Not Working .. لا يعمل ..
- ما أنا عارف .. شايفني ساقط ثانوية عامة ..
زفر إسماعيل، و كأنما لم يكفه كل ما من الوقت ليصفو، ثم تابع:
- ما هو من غلبي .. قال إيه، مدير الصيانة كل شوية يقول الجهاز يعمل بكفاءة و يصلبت الجهاز و الجهاز يرجع يبوظ و يعطل .. أنت عارف .. اتصلوا بي الساعة تلاتة الفجر و لا ما عارف كام قالوا لي الجهاز بتاع الـ X-Ray بيولع ..
اعتدل جمال في جلسته مفجوعًا و شبه صرخ:
- بيولع ؟ .. بيولع بيولع يعني و لا ..
- لأ بيولع .. رحت لقيت الجهاز محروق .. مهبب بأسود .. و ديني لأنا خارب بيته ابن الرفضي ده ..
صمتا قليلاً، ثم تابع إسماعيل:
- و بعدين ألاقي مدير العمليات بيقولي عاوزين نشتري زفت جفت تاني لجهاز المنظار الجراحي .. لسه متغير من كام شهر .. أتاري بسلامته بتاع المشتريات ورد جفت تاني ضارب و متنيل علي عينه، و مدير العمليات استلم و شغل و ادفعي يا مستشفي .. أنا حاسس إني باتقلب .. باتسرق ..
- حولتهم للتحقيق و لا حتتعامل ؟
- كلهم ع التحيقيق .. لما نشوف آخرتها إيه ..
لحظتها دخل حسين حاملاً أكواب الشاي، فاعتدل جمال مرحبًا:
- يا أهلاً يا حسين يا أهلاً ..
- أهلاً يا عمو .. إزيّ حضرتك ؟
- بخير الحمد لله .. عامل إيه في الإجازة ..
- بالحق لي فيها يومين قبل الدراسة ..
- هما خلاص رسمي ناوين يخلوها 20 سبتمبر ..
هنا دخل إسماعيل في الحوار:
- حاجة عبط يا أخي .. مش عارف إيه الحاجة اللوذعية الذرية اللي خلاص الدنيا حتبوظ من غيرها لو مادخلوش يوم 20 .. ماله بعد العيد .. الدنيا قفلت يعني ؟
- بكمالة الأوضاع المقلوبة .. كبر الـ .. كبر الإيه ؟ .. اسمها إيه يا حسين بتاعة مرجان دي ؟
قال حسين و هو يبتسم:
- كبر الجي و روق الدي يا عمو ..
- آيوه .. هو كده ..
- الجي طرشقت و الدي فرقع يا جيمي ..
هنا وضع حسين الشاي عن يديه و استأذن في الانصراف، فيما قدم إسماعيل الشاي لجمال و معه نسخة من جريدة الدستور التقطها من علي مكتبه، و قال:
- قريت اللي كاتبه فارس النهار ده ..
- و كان لسه فيك دماغ تقرا ..
و أمسك الجريدة و شرع يقرأ ما كتبه فارس تحت عنوان "يا بلاش" في إحدي الصفحات الداخلية .. رشف رشفتين من شايه و هو يعدو بعينه فوق كلمات المقال الألف، و التي لم تتجاوزها أبدًا مقالات فارس، و إن هي إلا دقيقتان حتي أنهي قراءة المقال بنظرة في الفراغ، قبل أن يتجه ببصره إلي إسماعيل قائلاً:
- الكلام دا صحيح ؟
- عرفت عن فارس قبل كده إنه بيبكّش في حاجات زي دي ؟
- فارس بكاش كبير .. بس ..
صمت غير مصدق ما قرأه من لحظات عن أحد فضائح بيع أراضي الدولة الجديدة، و التي أصبحت كتحية الصباح، عادية كأنها الشيء الطبيعي، و ما دونها هو شواذ القاعدة ..
- بس المرة دي العملية بقت بجاحة خالص ..
- بجاحة ؟ .. دي كل حاجة منيلة بنيلة .. عارف يعني إيه متر الأرض بخمسة و سبعين قرش ؟ .. يعني الفدان بتلاتلاف جنيه .. إيه ده يعني ؟ .. فدان أرض بتلاتلاف جنيه، و زكريا و إخواته لما باعوا حتة الأرض بتاعتهم في العجمي باعوها بـ 2 مليون و هي يا دوب ألف متر ..
- الفكرة إنه حياخد الأرض ببلاش و يسقع و بيع .. سقع و بيع .. و الخمسة و سبعين قرش دول حيبقوا سبعتلاف و سبعتلاف و نص كمان ..
صمت جمال مفكرًا بحسرة في ما وصل إليه المآل قبل أن يكمل:
- البلد دي الواحد كل ما يقعد فيها بيحس إنه قاعد وسط عصابة مش بني آدميين .. نهايته ..
وضع إسماعيل كوبه، الذي شربه دفعة واحدة بعد أن برد تمامًا، في الصينية و قام ليأخذ عن جمال كوبه، الذي قال:
- مش عارف يا أخي أنت بتشرب الشاي إزاي كده .. هو بيبس ؟
- يا عمي ..
ثم جلس سائلاً:
- ألا قول لي بقي .. كنت عاوزني في إيه لما اتصلت ؟
- اتصلت ؟
ثم هز رأسه متذكرًا:
- آه .. معلش، الكلام نساني اللي كنت جاي علشانه .. عندي لك خبرين .. واحد حلو، و التاني وحش ..
بدا الامتعاض علي وجه إسماعيل و هو يقول:
- يا ستار .. خلينا نحلي بالحلو في الآخر .. ابتدي بالأنيل ..
اعتدل جمال في جلسته و قال:
- قضية خالك .. التطورات بتاعتها مش في صالحه خالص ..
- إزاي ؟
- دلوقتي الراجل جاره لهف منه ربع فدان ضمها لأرضه و بني عليها، بس خالك معهوش حاجة تثبت إن الربع فدان ده تبعه ..
اعتدل جمال في جلسته صم تابع:
- العقد بتاع خالك مش مسجل في الشهر العقاري، و أنا قلت له أكتر من مرة آخره لما جه باركي علي يارا من اتناشر سنة .. قلت يا حاج سجل الأرض باسمك و ادفع لك إن شالله مليون جنيه، بس حتحمي أرضك ليك و لولادك، بس هو اللي ما سمعش كلامي ..
ظهر الامتعاض و الضيق علي وجه إسماعيل، و تمتم بشيء عن "دماغه الناشفة" ثم نظر في الفراغ قليلاً، ثم التفت إلي جمال قائلاً:
- و الحل ؟
- الحل إنه يسجل .. من هنا لغاية يوم 25 أكتوبر يكون خلص كل حاجة .. و قل له المرة دي حياة أو موت .. يا يسجل يا إما مش حيلاقي الربع فدان و يا عالم إيه بعده ..
أخذ إسماعيل شهيقًا عميقًا و فرك وجهه بيده، ثم قال:
- سيبك م الغم ده .. قلت له أكتر من مرة يسمع كلامك .. قلت له ده كلام محامي مش بياع روبابيكيا .. بس يالاّ، اللي ياكل علي ضرسه بقي ..
- نيجي للخبر الحلو ..
- قول يا شيخ فرحني .. إيه ؟ مصر طلعت أول رائد فضاء و أنا ماعرفش ؟
ايتسم جمال و قال:
- تقريبًا حتطلعه قريب .. الأخبار المرة دي جاية من فرنسا ..
- مجدي ؟
- الله ينور عليك ..
بدا الانشراح علي وجه إسماعيل، فقال:
- الوله ده فين .. بحاول ألقطه بقالي أسبوعين لا بيعد علي شات و لا علي ميل و لا أي حاجة في أي حته .. إيه الحكاية ؟
- أنا لقطته بالصدفة البحتة .. كان صوته نايم، و هو كان فعلا داخل ينام .. بسأله فينك يا راجل، قال لي استني قنبلة حتنفجر في الكام شهر اللي جايين ..
- بتتكلم بجد ؟
- الأدهي إن صوته كان ملعلع .. قصدي يعني كان فيه نبرة سعادة من الصعب تخطئها ..
اتسعت ابتسامة إسماعيل و قال:
- بالك لو الواد ده عملها .. يا نهار أبيض ! .. ربنا يوفقه ..
قال جمال و هو ينظر إلي ساعته:
- آمين يا رب العالمين ..
ثم عدل من جلسته و هو يقول:
- يدوب أنا بقي يا إسماعيل .. عندي شوية مشاوير تانية عاوز أخلصها ..
- يا راجل ما تخليك قاعد شوية .. لسه بدري ..
- عارف إنه لسه بدري بس مضطر .. أشوفك علي خير ..
ودعه علي باب العمارة، و أفكار شتي تتضارب في رأسه، لكن الأكيد أنه لن يبيت ليلته نائمًا ..
ملحوظة خارج النص: أخبرني بعض المهيسين أن المعدل الذي أكتب به - أو أنشر به - القصة بطيء للغاية و يكاد يكون فصل كل سنة، لكن القصة كما ترون معقدة و طويلة، و هاهو الفصل الرابع ابتلع المشهد الأول منه "بوست" كامل، كما أنني أكتب هذه القصة مباشرة علي المدونة دون إعداد مسبق، بمعني أن القصة ليست مكتوبة علي الورق و أقوم بكتابتها علي المدونة كل فترة، بل هي كلية علي المدونة دون أي نسخ مادية .. أكتبها فصلاً بفصل بعد ترتيب أحداثه في رأسي - و هو ما يستغرق فترة الأسبوع أو اثنين بين كل فصل و الثاني .. كل ما أردت أن أقوله هو صبرًا، و مادمتم تنتظرون القصة بهذه الصورة فهذا يسعدني، لكني اسألكم مزيدًا من الصبر .. و لكم الشكر
هناك 4 تعليقات:
مخمخ يا عم براحتك وفيش الهوامش وانتك الكوامل.....كل اللى انا عايزه انك ترجع تكتب مقالاتك تانى بصورة منتظمة...... بس بجد قصة ممتعة
coooooooooool
ana b7trm gedam elly byktb mn dma3'oh direct wytla3 7ga 3alya keda
masha2allah bgad
ylla et25ar y3m 3lina peace, we7na hnb2a n2ra mel2wel kl marra :D
سلامات يا ست ديفا، و شكرًا علي إطرائك .. و شكرًا أكتر علي صبرك D:
لا بقى .. هي الناس كلها اتلمت عليا ولا ايه ؟؟؟ أنا بقى لسه باطالب بتسريع المعدل و زيادة الكم و تحبيش الحلقات و ما تنساش ان أنا ليا حق الفيتو هنا ... رفعت الجلسة
كان معكم السيد الامين العام للبلوجريين المهيسين المتحدين السيد أحمد عنان
و لك كل التحيات
إرسال تعليق