ملحوظة صغيرة قبل البدء: نظرًا لأنني لا أكتب هذه القصة بانتظام، يمكنكم دومًا الرجوع للفصول السابقة بالضغط على "بلد الدخان الهابط إلي أسفل" الموجود إلى جوار مقسمة هياسيًا مع في نهاية كل تدوينة .. أتمنى لكم قراءة ممتعة، و أتمنى منكم التماس العذر لي، فالإلهام ليس بيدي ..
الفصل الخامس – القطرنجي
وقف عبد الواحد أمام المرآة ليصفف شعره، و قد بدا مظهره في تلك البزة البيضاء غريبًا، لتناقضها الصارخ مع سواده النوبي، أو لنقل السوداني، الذي ينم عن أصوله ..
كان أبوه سودانيًا أبًا عن جد، و إن كان هذا الجد قد عاش في مصر، قادمًا مع أحد حملات الخديوي إسماعيل لتحرير إفريقيا .. أتي مع عائلته كاملة، إذ استشعر حلاوة و رغد العيش في مصر، مقارنة بحال السودان وقتها، لكنه لم يختلط، أو لنقل يتزوج، من المصريات، بل استمر النسل سودانيًا حتي أتي والد عبد الواحد، هازم الشيخي، ليقرر أن التي أحبها لا بد أن يتزوجها، حتي و لو كانت من المريخ ..
و كانت قصة زواج والديه عجيبة حقًا، لا تختلف في شيء عن تلك القصص الرومانسية الكلاسيكية، فرغم أن الشيخي كان رجلاً متفتحًا، إلا أنه ورث عن أبيه مسألة الحفاظ علي النسل السوداني، و كأنهم آخر السودانين علي الأرض، لكنه في النهاية رضخ لمطلب ابنه، خاصة بعدما لمس نبل من أحب ..
ضبط ياقة المعطف بعد أن رضي عن مظهره العام، و ذهب متعجلاً ابنته التي غابت منذ نصف ساعة لترتدي ملابسها، و هو ما يعني أن نصف ساعة أخري قد بقيت قبل أن تنتهي ..
- يا ست علياء أبوس إيدك .. إحنا كده حنتسحر مش حنتعشي ..
- خلاص يا بابا ..
- خلاص ؟ .. يعني لسه قدامك كمان تلات ساعات كده ؟
فوجيء بها و هو ينهي كلامه تخرج من حجرتها و قد انتهت من ارتداء ملابسها، فتراجع مندهشًا من انتهائها مبكرًا علي غير العادة، و قال:
- غريبة .. أنت متأكدة إنك مش عيانة .. أنت خلصتي بسرعة يعني ..
- يعني هو أنا اتاخر مش عاجب .. بدري برضه مش عاجب ..
- ربنا يديم عليك نعمة السرعة .. يالاّ يا ستي ..
قال جملته الأخيرة و هو يرتدي حذاءه، و وقف أمام المرآة للمرة الأخيرة منتظرًا إياها، و إن هي إلا ثوانٍ حتي كانت علي أهبة الاستعداد، فتأبط ذراعها و قال و هما يتوجهان نحو الباب:
- اللي يشوفنا دلوقتي يقول الراجل اتلحس في مخه و اتجوز تاني ..
- ليه يا بابا .. هو حضرتك معتبر قرار جوازك من ماما كان لحسان في المخ ؟
انطلقت ضحكته تدوي في فراغ سلم البناية، بينما ابتسمت هي في خبث طفولي .. امسك نفسه "بالعافية" ليقول:
- يخرب عقلك .. حتوديني ف داهية بكلامك ده ..
ثم تمالك نفسه قليلاً ثم أكمل:
- يعني أنا بغازلك و بقول كلمتين حلوين، تقومي تقولي كده ؟ .. ماشي يا ستي ..
استدعى المصعد، و سرعان ما استقرا في سيارة عبد الواحد البيجو 307 التي – و لا تفتح فاهك اندهاشًا – جاءته كهدية من أحد عملائه، لكنه يعتبرها دومًا جزءًا من أتعابه عن العملية التي أنجزها لهذا العميل .. ربما ترى الأمر مبالغًا فيه، لكن مليارديرَ يتعامل في ثلاثة مليارات كأموال سائلة تحت يده، بالإضافة للأصول التي تقدر بمليارات أخرى، لن تمثل سيارة هامر 1 مشكلة بالنسبة له، فما بالك ببيجو 307 ؟
كانا متوجهين لأحد المطاعم للاحتفال بتخرجها .. "العفريتة الصغيرة" كبرت و تخرجت من كلية الفنون الجميلة، قسم ديكور داخلي .. يا لله ! لقد مضى العمر كأنه فرس عربي يسابق الزمن نفسه !
كان ينظر إليها من وقت لآخر و هو يقود السيارة، و هي تنظر إليه متعجبة .. لم تكن تدري أنه يتذكر أيام طفولتها و صباها .. أول مرة تجري في المنزل، و لهذا سماها "العفريتة" .. "ألا يا أخي كل الأطفال يبدأوا يمشوا .. دي بدأت تجري .. عجايب !" ..
كان يتذكر عندما حصلت على الشهادة الإبتدائية، و كيف كانت سعادتها، رغم أنها كانت ستنتقل للمرحلة الإعدادية في مجمع المدارس الذي تنتسب إليه .. عندما حصلت على الإعدادية كانت كارثة بيئية .. لثلاثة أيام لم يأكلوا شيئًا سوى المعجنات: كعك، فطائر، مكرونة، و تقريبًَا كل ما يمكن أن يصنع من الدقيق .. لقد سعدت بها و قررت أن تطبخ كما لم تطبخ من قبل، و أن يأكلوا من صنع يديها .. لم يكن الطعام سيئًا، لكنه كان كثيرًا، لدرجةٍ جعلتهم يكرهون أن تفرح ثانية ..
كاد الأمر أن يتكرر مع الثانوية العامة .. عنـ ..
"بابا .. خلي بالك"
صرخت علياء مخرجة عبد الواحد من صومعة ذكرياته، لتنبهه إلى كارثة كانت على وشك الوقوع .. ضغطة قوية على المكابح، و جهد عظيم من السيارة حالا دون وقوع حادثة سير لذلك الوسيم الأشقر، الذي يبدو هو الآخر كالغارق في الذكريات ..
الحق أن الخطأ لم يكن خطأ عبد الواحد وحده .. الرجل أيضًا لم يكن على الأرض .. كان تائهًا في ماضيه يغوص و يسترجع شيئًا من ذكرياته التي تبدو مؤلمة مقبضة، فتعابير وجهه لا تنبأ إلا بذلك ..
صرير العجلات على الطريق و صراخ الناس جعل الرجل يتنبه إلى أن شيئًا ما يحدث، و إن هي إلا ثوان حتى أدرك أن هذا الشيء هو أنه كاد أن يدهس دون أن يدري .. كانت دهشته عظيمة، و كأنه يتعجب من نفسه كيف يكون غارقًا في الخيال لهذا الحد، و إن هي إلا ثوان حتى كان لدهشته سبب آخر ..
سبب بزغ عندما تلاقت عيناه و عينا عبد الواحد الذي نزل ليطمأن، فإذا بعينيه تحمل دهشة لا لهفة و رغبة في الاطمئنان، و إذا بالرجل يصرخ:
- مين .. عبد الواحد ؟
- بندر ؟
و تعانق الاثنان ..
لم تكن تعرف أن الاثنين يتذكران أحداث مضت دونها تسعة عشر عامًا .. كان عبد الواحد حينذاك قد تخرج لتوه من كلية الهندسة، و ما زال بندر في عامه الأخير، يحاول أن يخرج بأقل الخسائر، عندما حلّت "الطامة الكبرى" ببندر، و لكن قبل هذه الطامة الكبرى، حلّت به طامة صغرى، و كأنه موعود بهن، و كانت السبب في أن يتعرف بندر بعبد الواحد ..
هو بندر الحسن القطرنجي، من حلب في سوريا، و يدرس في مصر، و لأن مصر هي دومًا بلد السهولة المفرطة، كان لزامًا عليه أن يحصل على شهادة تفيد بإنه رضع لبن العصفور مخلوطًا بمح بيضة الديك ليستطيع الالتحاق بكلية الهندسة بجامعة الإسكندرية .. كان لزامًا عليه أن يدفع رشوة هنا و هناك لتسير أموره بسرعة و سلام، رغم أن المفروض أن تمر كنسمة الصباح، لكن كونه عربيًا أجنبيًا أعطى موظفي الجامعة و الكلية حقًا مكذوبًا في ابتزازه، و هو لا يعلم و لا يدري، و يظن أوراقه بالفعل ناقصة، من فرط ما أوهموه به ..
بينما كان عبد الواحد ينهي أوراقه لينتقل للفرقة الأولى بعد أن أنهى السنة الإعدادية، وجد زميلاً له قد أتى معه للغرض نفسه يصافح بندر و يعانقه، و يقدمه له ثم يسأله:
- و أخبار الورق إيه ؟
- هيك مصاري بتندفع ما شفت بحياتي .. يا خي لو بأريد أدرس بأمريكا بأدفع أقل من هيك ..
تعجب عبد الواحد، و أحب أن يعرف ما الأمر، فأخبره بندر .. طمأنه، و طلب منه بياناته، و لم يكن هذا إلا لأن خال عبد الواحد، منصور هاشم، يعمل في إدارة الجامعة، و يستطيع أن ينظر الأمر عن كثب، و قد كان ..
و عندما ذهب بندر بعد يومين، بناء على مكالمة من عبد الواحد يخبره أن يذهب و ينهي أوراقه، وجد أن الطاقم الإداري، أغلبه، قد تغير و أن أوراقه قد أخذت دورتها بسلاسة منقطعة النظير، و انتهى كل شيء ..
توطدت علاقتهما أكثر فأكثر، و ظل بندر يذكر هذا المعروف لعبد الواحد حتى أتى الوقت الذي زوّج فيه هذا المعروف بأخ له .. كان هذا في العام الرابع و الأخير من الدراسة الهندسية .. مشروع التخرج هو البوتقة التي يصهر فيها كل طالب خلاصة فكره .. تعبه و عرقه و سهره و عصير مخه، كل هذا يخرج في هذا المشروع ..
الحق أن بندر و مجموعته أتوا بمجهود جبار .. أن تخرج للنور سيارة تعمل بالتحكم عن بعد، ليس بأجهزة و لكن بصوتك، في مصر و في نهاية الثمانينات، فهذا هو الإعجاز بعينه، إذا وضعنا في الاعتبار أنك مجرد طالب، و لست باحثًا في أحد المراكز البحثية .. الحق أيضًا أن الفضل بعد الله سبحانه و تعالى يعود و لا شك لبندر، الذي استطاع أن يحضر القطعة الرئيسة في العمل بواسطة عمه الذي يعيش في الولايات المتحدة، و لهذا كان ألمه عظيمًا ..
أتته مكالمة بندر في ساعة متأخرة:
- أيوه يا بندر .. خير ..
- مو خير .. مو خير بنوب ..
- يا ستار يا رب .. احكي لي يا بني ..
- لازم أشوفك ..
و رغم أن الوقت يقترب من منتصف الليل، قابله عبد الواحد مفجوعًا و مفجوءًا في أحد المطاعم، ليجد عينه منتفخة من أثر السهر أو ربما البكاء، و عندما تحدث إليه بندر أدرك السبب ..
مشروع تخرجه سُرق .. الأستاذ الدكتور المبجل نسبه لنفسه في أحد الدوريات العلمية، قبل أن يتقدموا به رسميًا، ما جعلهم يبدون كمن أخذوه منه لا العكس .. سهر الليالي ضاع هباءً منثورًا ..
- ما ضاعش يا بندر .. استنى مني تليفون ..
و انصرفا، عبد الواحد لمنزله يفكر، و بندر لمنزله يجتر همّه .. بعد أربعة أيام، اتصل عبد الواحد ببندر يخبره أن الأستاذ منصور هاشم في إدارة جامعة الإسكندرية يطلبه بشكل شخصي ليروي له ما حدث .. كان بندر يائسًا، لكنه أدرك أن عبد الواحد يساعده بصدق، و لم يشأ أن يضيع فرصه، علّ فيها الخروج ..
ذهب إليه و شرح له الأمر بالتفصيل:
- معاك دليل ؟
- التصميمات، و البروفات، و ورق استلام هالقطعة .. ها اللي جبتا من عمي بأميركا .. كل شي معانا ..
- قدم لي شكوى رسمي، و سيب الباقي على الله ثم عليّ ..
نظر إليه بشك، و إن كان قد شعر في لهجته بصدق .. مر أسبوع، و إذا بعبد الواحد يتصل:
- أبشر يا سي بندر .. فُرجت ..
- عن جد ؟
أخبره أن شكواه كانت القشة التي قضمت ظهر البعير .. هذا الأستاذ الجامعي "سوابق" إن صح التعبير، و قد ضُجت إدارة الكلية من كثرة شكوى الطلبة منه، و أتت شكواه لتنهيه بالقاضية ..
- و الله ما أنا عارف كيف باتشكر لك .. أي شي بيكون أقل من هيك خدمة ..
- كفاية الفرحة في عنيك .. إحنا صحاب ياجدع ..
ربت عبد الواحد مبتسمًا على فخذ بندر الجالس إلى جواره و قال:
- و الله بعودة الأيام يا بندر ..
و ركن السيارة في موقعها المعهود كلما أتى هذا المطعم، و هبط الثلاثة ممنين أنفسهم بسهرة ليس لمتعتها حدود ..
- لسه .. قاعد لوحده و بالعافية بياكل .. أنا ..
سكتت سامية لحظة ثم أضافت بانزعاج:
- أنا قلقانة عليه قوي .. ساعات باعدي أسمعه بيتكلم، أفتكره بينادي عليّ .. أدخل ألاقيه بيكلم ماما، و يسكت كأنه بيسمع الرد منها ..
- برضه مابيقولش إيه اللي حصل ؟
- و لا كلمة .. كل ما أكلمه يقول لي الإشارة جت و مش باقي غير دقتين ..
- إشارة إيه بس و دق إيه ..
قالها محمود و هو يضرب كفًا بكف منزعجًا و قلقًا مما وصل إليه حال حميه، و قعد إلى جوارها بعد أن خلع نعليه، و قال:
- أكيد شاف منام .. شاف حاجة تربط ما بين حامد و حاجة وحشة هو خايف منها .. بس إيه اللي يخليه مصدق و عايش دور الاكتئاب دا قوي كده ؟
كادت أن ترد لكنه سبقها بالكلام:
- هو نام ؟
- ما أظنش ..
- طب أنا داخل له ..
توجه إلى حجرته يغير ملابسه قبل أن يتوجه إلى حجرة حميه، فيما جلست سامية تكمل ما بيدها من أشغال إبرة ..
- السلام عليكم يا عمي .. إزيك دلوقتي ؟
نظر إليه سعد هائمًا كأنما هو في عالم آخر .. تحركت شفتاه ثقيلتان متمتمًا بكلام لم يسمع منه محمود حرفًا، فقال:
- لغاية إمتى يا عمي ؟
جلس إلى جواره و أكمل:
- لغاية إمتى الحالة دي ؟ بس لو تقول لي فيه إيه، يمكن نقدر نحل الأمر سوا ..
تحركت شفتا سعد بالكاد ليخرج صوته مبحوحًا من صمت طويل:
- ماحدش يقدر يعمل حاجة .. دا قضا ربنا ..
- و نعم بالله .. طب حتى نفهم .. يمكن نساعد حتى بكلمة .. يا عمي إحنا مش قادرين نفرح حتى بحامد اللي لسه ما بقى لوش غير أربع أيام بس على وش الدنيا ..
- حامد ..
خرجت الكلمة من بين شفتيه كأنها نار محرقة، فانقبض قلب محمود و سأل:
- ماله ؟
أغمض سعد عينيه و بدأ يحكي بصوت خافت:
- كانت لابسة نفس هدومها في آخر يوم .. الجلباب الأخضر و الطرحة البني .. قلتلها قومي اعملي الشاي يا زينب قالت لي سلامة الشوف .. أنت مش واخد بالك إنك نايم .. قلت طب إزاي باكلمك و أنا نايم، قالت لي لأنك جاي كمان دقة و كمان دقة .. بنتك بتولد يا سعد و ولد ولدك عليه بطشة حمرا .. وحمة حمرا على كتفه اليمين كيف الدم .. لو انولد ولد حتقابلني بعد دقتين، و لو بنت يبقى دقة .. أنت مش بتخطرف يا خويا .. قوم شوف بنتك .. قلت لها بنت مين و ولد مين .. أنت فين يا زينب .. و راحت ..
كان محمود يستمع إليه شاعرًا بالقلق، و إن خالطه شعور بالفخر لصحة استنتاجه، لكن طرح هذا جانبًا إذ أكمل سعد:
- يا محمود أنا خلاص .. دقة و اتنين و مش حابقى معاكم .. عارف يعني إيه تعرف إنك حتموت قريب ؟
وجد محمود مدخلاً مناسبًا ليخرجه من هذه الحالة، فقال:
- خلاص يا حاج أنت قلتها .. دقة و اتنين .. فرضًا كان الكلام ده صح، أنت عارف الدقة دي قد إيه ؟ .. يمكن أسبوع .. يمكن شهر .. يمكن سنة .. حتعيش سنتين بحالهم في الاكتئاب ده ؟ و بعدين اللي عارف إنه خلاص حيموت، و لو إن ربنا بيقول في كتابه "و ما تدري نفس ماذا تكسب غدًا، و ما تدري نفس بأي أرض تموت" .. اللي عارف إنه خلاص حيموت كمان شوية يقعد في الحالة اللي أنت فيها دي ؟
أخذ نفسًا عميقًا، و قال:
- أنت يا عمي راجل بتصلي و حجيت قبل كده و اعتمرت، و أحسبك عند الله من المؤمنين .. المؤمن يعني مؤمن بقضا ربنا و بحكمه، و أنت كده و العياذ بالله كأنك بتعترض .. حزنك كأنك بتقول ليه يا رب خلتني أموت دلوقتي ؟ .. لو فرضنا صحة الكلام ده، مش الأحسن إنك تقرب من ربنا أكتر .. تصلي أكتر .. تصوم أكتر .. يمكن يكون ربنا بيحبك بعت لك إشارة علشان تبقى آخر أيامك في طاعته، بدل ما يفاجأك الموت و أنت غافل .. و بعدين ممكن يكون كل ده وهم .. ممكن تكون من الشيطان ..
- و الوحمة ؟
- يا عمي .. لا يسمّعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ..
كان محمود يشعر مع كل كلمة يقولها أن حماه يلين شيئًا فشيئًا .. و إن هي إلا لحظات حتى كانت سامية تسمع صوت أبيها يقول مجلجلاً:
- يا سامية .. جهز لي ميّه اتوضا، و كلمي درية تيجي هي و شعبان ..
و لم تتمالك إلا أن تزغرد معلنة انتهاء غمة كادت – دون مبالغة – أن تعصف بهم شر عِصفة ..
- بص ابن الـ ... دا يا إما تلموه يا إما حالمكوا يا ابن الـ .. أنت و هو .. أنا مش ناقص كلام و تلسين .. اللي فيّ مكفيني و زيادة، مش ناقص .. زي ده يطلع لي كل يوم و التاني في الجرنان الـ .. ده و يلقّح بالكلام .. فاهم يا شردي ؟
خرجت الكلمات مبحوحة بعض الشيء من حلقه و قال:
- ماشي يا باشا .. أوامرك ..
جفف شردي عرقه بعد أن أغلق الخط بكثير من "مع السلامة يا باشا" و "في رعاية الله يا باشا" و "ربنا يديم عليك نعيمه يا باشا" .. يا باشا يا باشا .. الباشا وكيل وزارة الإسكان، و لو أن طبيعة عمله تحولت إلى اللاإسكان، و تحول إلى وكيل نفسه لا وكيل الوزارة ..
الغريب أن طبيعة عمله و منصبه لا يكفلان له هذا النفوذ، بحيث يسعى شردي المسكين إلى استعطافه و منحه الباشاوية في الذهاب و العودة، لكن الحقيقة أن نفوذه يتخطى منصبه بكثير .. علاقات واسعة، و صلات الخطوة التالية فيها هي صلة الدم و الرحم، مع الكثيرين و الكثيرين من أصحاب النفوذ و الكلمة المسموعة النافذ في هذا البلد ..
كان عادل عبد الحليم منخرطًا حتى قمة رأسه في معظم القضايا التي أخرجت محمد إبراهيم سليمان من الوزارة .. أخرجته من الوزارة ؟ هذه الجملة غير دقيقة، فهي تعني زوال النفوذ، و أمثال هؤلاء لا يزول نفوذهم .. موقعه فحسب هو الذي يزول و يتغير، أما النفوذ فلا ..
أيًا كان الأمر، كان هو الوسيط في أغلب الصفقات التي تمت، و التي خرج منها مجمعة بمبالغ مريحة جدًا، لكنه نجح ببراعة أن يستل نفسه من القضية دون أن تمسه كلمة، فأصدقائه من أصحاب النفوذ ما زالوا يحفظون له قطع الأراضي التي سهل لهم الحصول عليها بثمن بخس يكاد يقترب من اللاشيء ..
الآن يأتي هذا الصحفي المشاكس العنيد ليفتح الملف من جديد، رغم أن جهاز الكسب غير المشروع برأ ساحة الوزير و أغلق هذا الباب، لكن من الواضح أنه من عشاق تكسير العظام، و رجاله سيتكفلون بهذا بشكل أو بآخر ..
شردي، خادمه الأمين كالكلب، سيتكفل بهذا، فهو عمله الذي يتقاضى عنه راتبًا ضخمًا، بالإضافة لراتبه الأساسي كرئيس لأمن شركة الخدمات البترولية .. بعد هذا الدرس، لن يجسر أن يفكر في أن يفتح فمه ..
- الكلب ابن الـ ..
قالها محاولاً نسيان كل شيء، في سبيل الحصول على ذهن صاف لحفل الليلة ..
هناك تعليقان (2):
لولولي .. و الله شكل البلوج دي أنا و انت اللي عليها بس يا عبد .. بجد تسلم ايدك ع الفصل ده و الحقني بواحد كمان ، بدع انت بس و كل مستلزماتك على حسابي حشيش .. كوكا .. كوكا كولا يعني .. المهم كمل
و لك كل التحيات
مش عرف ليه حاسس إني عاوز أنام بعد ما قريت الرواية ده
إرسال تعليق