17.7.09

الذهب الأحمر - تابع الفصل الثاني

- اصمت ..
قالها أرنوك لرفيقه همسًا، مشيرًا بيده إشارة بنفس المعنى، و أرهف سمعه مغمضًا عينيه، كأنما هو بإلغائه بصره يشحذ سمعه أكثر ..
أشار رفيقه مستفسرًا، فلم يجب روك، بل أخرج من جعبته سهمًا، و صوبه نحو الشجيرات القليلة التي لا تبعد عنه كثيرًا، ثم أطلقه مستمعًا إلى حفيف الأوراق التي اخترقها السهم، ثم الأنين الذي صدر عن الغزال الواقف – أو الراقد الآن – خلف الشجيرة، و قد جاءه السهم في مقتل ..
- دومًا تبهرني يا روك .. أشعر كأنك من البوم يا رجل ..
- كل شيء يأتي بالمران .. أنت نفسك يمكن أن تصبح هكذا .. فقط، لو أردت ..
ذهبا سويًا للحصول على غزالهم الصريع .. سأله بيش:
- أحيانًا أتعجب من أبيك هذا .. من أين أتى بكل هذا العلم، و من أين أتى بالوقت ليعلمك كل هذا ..
- عمله كان العلم .. لك أن تتخيل أنه كان قد يجلس بين الكتب دون انقطاع يومًا أو يومين .. ماذا تتوقع من رجل كهذا ؟
لم يجب بيش، بل حمل الغزال السمين – بمقاييس الغزلان – على ظهره ذاهبًا به نحو جواديهما و هو يقول:
- صيد سمين ثمين هذه المرة .. ليت هذا الحظ يدوم ..
لم يمشيا كثيرًا، و بخفة امتطيا الجوادين، بعد أن استخلف بيش الغزال على جواده و انطلقا في طريق العودة ..
- أخبرني يا روك، ألست تراه شيئًا غريبًا أننا نعمل سويًا منذ سبع سنين و لست أعرف عنك سوى اسمك الأول فحسب ؟
- و ما العجيب في هذا ؟ و ما ذكرك أصلاً بمثل هذه الأشياء ؟
- والدك .. هل هو حقًا من علمك هذا، أم إنك درت بالأرض مشارقها و مغاربها تتعلم، و لا تريدني أن أعرف ؟
- و لم أخفي عنك أمرًا كهذا ؟ التطواف شرف للرجل، لأنه صقل لرجولته .. لكنني أقول لك الصدق عندما أخبرك بأن كل ما أنا فيه هو مما تعلمته من والدي ..
صمت روك هنيهة ثم قال:
- إنني مدين له بوجودي الأول و وجودي الثاني .. وجودي الأول في هذه اللحظة الخارقة، عندما التقت نطفته بنطفة أمي، و وجودي الثاني عندما أسبغ عليّ من علمه .. لم أحزن عليه كأبي بقدر ما حزنت عليه كمعلمي ..
صمتا قليلاً، إلى أن تحدث بيش ثانية:
- لكنك أخذتني في بحور الكلام و أرجعتني ألهث من العطش .. لم تخبرني شيئَا عنك ..
- أتـ ..
لم يكمل ما قال، إذ التفت بعفوية لينظر أولئك الركب على مرمى البصر، فوجده يرفرف عاليًا شعار المملكة، بلونه الأصفر الذهبي المرصع بخيوط من اللون الأسود، راسمًا نسرًا برأسين و جناحين ملتهبين .. النازوم ..
لم يكمل ما قال، و إنما اعتلته صفرة الموتى و شحوب الهلع، و قال لرفيقه:
- إما أن نبتعد الآن بهدوء، و إما هلاك لا محالة ..
نظر بيش إلى الركب بعدم فهم، و قال:
- و ماذا في ركب الملك ؟ إنها حماية لنا و لصيدنا ..
- يا أبله .. لقد عشت حياتي كلها لا هم لي إلا الهروب من الملك و أعوانه و جواسيسه .. هلم بنا ..
قال كلمته الأخيرة و التفت ثانية، فوجد فارسًا من الركب قد انفصل عنه و اتجه نحوهما، فسقط قلبه في قدميه، و أحس أنه قادم يطلبه، فحث جواده على الإسراع مبتعدًا عنهما، لكن الغريب أن الفارس الملكي لم يكن مسرعًا كدأب من يطلب هاربًا، بل كان يمشي الهوينى، و لكن روك لم يكن في حالة تسمح له بالتفرقة، فما أن اقترب الفارس أكثر و أكثر، حتى كانا قد أطلقا سوق جواديهما للريح ..
و كفارس مدرب، أدرك أنهما إما هاربان، أو من قطاع الطرق و المجرمين، فأطلق صفيرًا خاصًا، لحق به على إثره ثلاثة من زملاءه، فيما انطلق هو خلف روك و بيش الذي قال:
- لو أنني أفهم فحسب ما يجري ..
- إما أن تجري و إما أن تزين رأسك البوابة الشرقية للعاصمة ..
التفت روك ينظر مطارديه، فوجد أحدهم يأخذ بسهم من جعبته، فحاول الركض في مسار متعرج، حتى يفلت من سهامهم، لكن سهامهم جاءت في مواضعها بالضبط ..
أربعة أسهم لكل جواد، أصابت الأرجل، فانقلبا عن الجوادين و تدحرجا مسافة لا بأس بها، قبل أن يلحق بهما فرسان الملك قائلين و سيوفهم مشرعة نحوهما:
- توقفا باسم الملك أو تقابلانه جثثًا هامدة ..
لحظتها أدرك أرنوك أن أسوأ كوابيسه قد تحقق، ربما أسوأ مما رآه في منامه ..
***
دفعه أحد الفرسان، فكاد روك أن يقع، لكنه تمالك نفسه و حاول جاهدًا أن يفك قيده، لكنه كان قيدًا محكمًا بصورة تثير الغيظ، هذا بالإضافة إلى أنه معصوب العينين لا يدري أين هو ..
فك أحدهم عنه عصابة عينه، فلبث ثانية أو اثنتين لا يدري شيئًا من شدة الضوء، ثم استطاع أخيرًا أن يرى ما حوله بوضوح .. الوضوح الذي شعر أنه خدعه عندما وقع بصره على آخر شخص توقع وجوده ..
- را ؟
- روك ؟
وقف الاثنان قبالة بعضهما البعض ينظران في دهشة و عجب، قبل أن ينتبه را أن روك مكتوف الأيدي، فأمر بفك وثاقه و هو ينظر إليه في دهشة ليس لها حدود .. ألان روك معصميه من أثر القيود و لم يزل ينظر إلى را ذات النظرة الدهشة، ثم و دون مقدمات تعانقا بعنف ..
- روك .. أهذا أنت يا رجل ؟
- إنه أنا يا را .. كم اشتاق إليك ..
- و بالنسبة لي .. ألن يكلف أحدهم نفسه بفك و ثاقي، ما دامت الأمور تسير على ما يرام ؟
قال بيش الجملة الأخيرة، و قد نسيه روك تمامًا، فأمر را بفك وثاقه و اصطحب روك معه و قال:
- إنها ليست مفاجأة .. إنها صاعقة .. آخر ما كنت أتوقعه هو أن أقابل أيًا منكم يا روك ..
- لم يبق غيري على أية حال يا را، فلم يكن لم إلا أن تقابلني ..
ألجمت المفاجأة الثانية لسان را .. هل مات جميع أولاد موار-هن ؟
- كيف هذا ؟
- كما يموت الناس في هذه المملكة .. إما القدر، و إما الحمى، و إما سنابك خيل الملك ..
كانت جملته بليغة جدًا، وقعت من نفس را موقعًا كأنه نصل خنجر .. جلسا إلى الأرض داخل خيمة را، التي نصبت في وسط المعسكر، ثم قال:
- روك .. أنا ..
هربت الكلمات من فمه، ثم استجمعها و قال:
- أنا لست أدري من أين أبدأ .. فابدأ أنت ..
- أنا أدري من أين تبدأ .. من هنا ..
و أشار إلى صدر را، فقال:
- و ماذا تعني ؟
- هل تصدق كلمة من هذا الهراء الذي قيل عن والدي، و الذي بسببه أعدم بأن يأكله النازوم ؟
- لو كنت أصدق حرفًا ما جلست إلى جوار ابن من يتهمونه زورًا بقاتل أبي ..
- يا را .. إنني منذ اثني عشر عامًا في هرب دائم .. اخترت الصيد مهنة كي ابتعد عن المدينة قدر الإمكان .. شهر و شهرين و ثلاثة في البراري، ابتعد عن العيون و الجواسيس، و أعود لأستريح ثم اختفي مرة أخرى .. يا را إنني ظلمت و إخوتي و أبي .. هل ترى نفسك أهلاً أن ترد إلينا حقنا المسلوب الآن ؟
- و لكن كيف يا روك ؟ إن كل شيء كان و ما يزال ضد والدك .. السم الذي وجدوه في الطعام كان من السموم الجديدة التي يبتكرها أبوك، و الطباخ الملكي شهد ضده، و أقسم بأغلظ الأيمان حتى لم يبق له إلا أن يقفز قفز القسم الكبرى من فوق جبل العدالة ..
- فاجعله يقفزها .. إن اللسان يستسهل الحديث، لكن إذا جاء الأمر لقفزة كهذه، فهو حتمًا سيتراجع ..
نظر را إليه بأسف و قال:
- لقد توفي الطباخ الملكي منذ ثلاثة أعوام، و حل محله طباخ جديد ..
- إذًا، فقد ضاع كل أمل ..
قالها روك يائسًا و قام مغادرًا الخيمة فأمسك بع را قائلاً:
- إلى أين تذهب ؟ لا بد من حل ..
نظر إليه روك و قال:
- الشخص الوحيد الذي كنت متأكدًا من وجود دليل براءة والدي لديه مات .. لست أدري ما أو من حمله على هذا القسم الكاذب و شهادة الزور، لكنني كنت متأكدًا من أنه دليل براءته، كما كان من قبل دليل إدانته .. الآن لا أمل، و لا فائدة ..
- اجلس أو لآمرنهم أن يحبسوك .. إذا كنت قد فقدت الأمل فإنني لم أفقده .. إنني مازلت وفيًا لمعلمي يا روك، و لن ادخر جهدًا لأعيد إليك حقك .. اجلس ..
جلس روك و الضيق و الهم على وجهه ثم قال و قد تذكر فجأة:
- بيش .. أين بيش ؟
- بيش ؟ من بيش ؟
- رفيقي في الصيد الذي أُسر معي ..
أصدر را أمره بأن يحضروه ثم قال:
- الآن و قد وجدتك بعد طول غياب، لندع هذه الذكريات المؤلمة جانبًا .. حدثني عما كان و حدث .. حدثني عن نفسك ..
- أمر مولاي ..
كانت لبيش الذي دخل عليهما في هذه اللحظة فأشار إليه را بالجلوس، و أشار لروك أن يتكلم، فانطلق فيض الكلم من فمه يستمعان إليه في إنصات ..
***
إن را قد أحرجه بشدة .. رده الذكي أفسد خطته ..
اتكأ تارام في جلسته إلى تلك اليد الهائلة لمقعده، و أخذ يفكر كيف يعيد الكرة دون أن ينكشف أمره .. لم يكن عرض الزواج عرضًا كريمًا، بل عرضًا لمصلحة .. ليست توطيد أواصر الصداقة و تدعيمها، و ليست إرساء دعائم أقوى للحلف بينهما، و لم تكن بالطبع مقابل خطة الدفاع المشترك التي عرضها را-هيمين .. كان غرضه الأول أن يدخل قصر با-هيب .. القصر الذي طالما حلم أن يدخله من بابه، لا من نوافذه كما يفعل منذ عشر سنوات ..
إن لبا-هيب مجلس مشورة ملكي هم أبعد ما يكون عن الولاء .. لقد اشتراهم واحدًا تلو الآخر، حتى أصبح يطلع على أخبار مملكة النازوم، لكنه يرغب فيما هو أكثر .. يرغب في ابن الملك، ليكون الجسر ليتملك القصر و المملكة ..
كان ينتظر اللحظة التي يلجأ فيها با-هيب إليه، فمملكته أقوى من مملكة النازوم، و أغنى، و إزاء هجمات الهوبوز المتواصلة التي تقض مضجعيهما، كانت هذه اللحظة وشيكة .. هو يعلم كم يكرهه، و كم يود لو يتخلص منه، لكنه في النهاية لجأ إليه ..
هي أيام و يأتيه رد را و با-هيب بالرفض .. هو يعلم هذا و لا يتوقع سواه، لكنه مرة أخرى يعلم كيف يضعه في مأزق بحيث لا يكون أمامه سوى القبول .. إن خطته التي يعد لها منذ اثني عشر عامًا، لن يتركها تفسد من أجل قليل من الملح ..
حتمًا لن يتركها ..
***

ملحوظة: نظرًا لأنكم تقريبًا نسيتم إحنا بنتكلم عن إيه و مين و إزاي و ليه .. بصوا هنا، و اقروا الكام حلقة اللي فاتوا علشان تفتكروا ..





هناك تعليق واحد:

SKOBL- Little Lazy Me يقول...

عارف يا عبود .. و الله أنا مش عارف أقولك ايه ، بس أنا كنت خرجت عن السياق اللي كنا حاطينه تماما و ألفت حاجة من نفوخي كده في لحظة همبكة .. و كنت مستني أكلمك أفهمك النظام .. و النهارده لقيتك كملت و كانك كنت قاعد في نفوخي .. ايه ده كله ، واضح انك بتخش نفوخي من الشبابيك برضه .. واحشني و تسلم أيدك .. أنا فعلا استمتعت

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar