"الأمر حتمًا ينطوي على خدعة .. تارام ليس صديق طفولتي كي يعرض ابنته مقابل حلف عسكري، و هو يعلم أنني أمقته كما أمقت الهوبوز، و لولا قوة مملكته لما لجأت إليه .."
زفر الملك با-هيب و هذه الأفكار تدور في رأسه، و غاص في سريره أكثر، بينما صنع صوت تنفس زوجه المنتظم بجواره خلفية موسيقية رتيبة، لو لم يكن مشغول الذهن لقذفت به في غيابات النوم منذ ساعات ..
"أيعرضها لتكون عينًا له ؟ .. من المستحيل بالطبع مراقبة زوج الأمير و وضعها تحت مراقبة دائرة الأمن، خاصة لو كانت أجنبية، و هو ما يجعلها في حرية تامة أن تتصل بأبيها و بمن تشاء .. لكن أي شيء مفيد يمكن أن تقدمه له و النساء ممنوعات من حضور أي شيء في أي شيء يتعلق بأي شيء من شئون الحكم ؟ .. هل تقدم له معلومات عنا، نحن الأسرة المالكة ؟ .. رأسي يكاد ينفجر .."
قام عن سريره بعد أن تعب من كثرة محاولاته أن ينام و فشله لما يزيد على ثلاث ساعات .. توجه إلى شرفة غرفته يطلب بعض النسيم عله يبرد هذا الآتون المشتعل في رأسه ..
سيرفض .. نعم سيرفض .. "و لم أقبل ؟ .. سنجعل الأمر يبدو طبيعيًا .. لا بد من رأي مجلس المشورة لزواج النبلاء و الأمراء و الملوك، و مجلس المشورة رفض .. أخشى ما أخشاه أن يتخذ الرفض ذريعة لإعلان الحرب .. الحرب ؟"
نظر للسماء التي بدأت تباشير الفجر الأولى في صبغ صفحتها، و للنجوم المتراصة في صمت كأنها تشاركه تفكيره في هذا الاحتمال .. و لم لا ؟ .. لم لا يكون تارام قد انتظر طويلاً حتى تأتيه هذه الفرصة، فيجعل من نفسه المدافع عن شرف مملكته التي أهينت برفض ابنته، و يحقق في الوقت ذاته غرضه من نهب مملكة النازوم ؟ .. و لكن .. "أيعقل أن يتورط تارام في حرب جديدة، و الهوبوز يهددون حدوده ليل نهار، و هو بحسب ما وردني مطحون كالبُرّ في هذه الحرب ؟"
أعادته الجملة الأخيرة إلى مجلس المشورة، فهو مصدره في هذه المعلومات، و هو لا يشعر تجاه أعضائه براحة، رغم ما يبدونه من ولاء ظاهر و باطن .. زفر مرة أخرى، لكنه قطع زفرته بعنف، إذ اتلقطت عيناه شيئًا – أو شبحًا – يقفز من فوق سور القصر و يهبط في خفة النمور، و ميّز فيه ملابس الغوغاء، فتصاعد الدم إلى رأسه يغلي، و ذهب من فوره و الغضب و القلق – كلاهما – يحركه نحو رافعة الإنذار، لتنطلق الأجراس داخل القصر توقظ الخدم و الحرس أن هبوا لنجدة مليككم ..
في فزع هبت الملكة من نومها العميق تتساءل عن السبب لإطلاق أجراس الإنذار، و بنفس القدر من الفزع كان را يتحرك كالمحموم، يريد الوصول إلى غرفته، قبل أن يكتشف أحدهم – أيًا كان هذا الـ "أحدهم" – أنه غير موجود في غرفته، و أنه هذا الغوغائي الذي تسلل إلى القصر ..
أكثر ما كان يخشاه أن يكتشف والده رحلاته الليلية .. اختلاط النبلاء بالغوغاء جريمة، و أي حالة تكتشف ليس لها إلا الإعدام، لأنها "تلويث للدم الملكي النبيل بدماء حقيرة" .. والده لم يتذكر لموار-هن ما كان بينهما، و أطاح برأسه عندما حدث ما حدث، و هو لا يريد أن يضع نفسه أو يضع والده في موقف كهذا أبدًا ..
و رغم حرج الموقف، إلا أن را تفكر في هذا المنطق الملتو الجائر .. بأي حق اعتبروا أنفسهم أصحاب دماء نبيلة، و بأي حق وصموا أولئك بأنهم غوغاء ؟ كيف يصل الأمر به، و هو الأمير/الملك الذي يريد أن يتعرف على شعبه أكثر .. يتعرف على سواده و جمهوره أكثر .. كيف يصل الأمر به أن يعتبر مجرمًا لا يستحق عقوبة سوى الإعدام ؟
لم يطل التفكر، إذ توقع أن يطرق أحد الحرس بابه بين لحظة و أخرى يطلبون منه أن يفتح لهم، ليأخذوه إلى المخبأ، أو ليطمأنوا عليه، و الأوامر لديهم صريحة، بأن الطرقة الثالثة هي الأخيرة، و بعدها فالباب حِلٌ لهم يفتحونه عنوة ..
خلع ملابس الغوغاء و اخفاها، و ارتدى منامته على عجل و دخل غرفة الاستحمام، يريد أن يجد لنفسه مبررًا لبطأ استجابته، بوجوده في هذه اللحظة يلبي نداء الطبيعة ..
كان أكثر ما يشغل تفكيره في هذه اللحظة هو رد فعل والده .. هل اكتشف أصلاً أنه هو هذا المتسلل، أم يظنه واحدًا من الغوغاء بحق ؟ .. أدار الأمر في رأسه، و رأى أن الاحتمال الثاني أقرب للمنطق .. لو كان قد تحقق من شخصيته و هو يقفز فوق السور لما ملأ الدنيا صراخًا، و لأتاه من فوره غاضبًا عاصفًا .. هدأ لهذا التفسير، لكنه عاد يتصنع القلق و الدهشة ليواجه بهما الحراس و والده و والدته، و ليستعين بهما على قضاء ما تبقى من الليلة يبحث عن آثار هذا الغوغائي الشبح الذي لن يكون له أثر إلا أثره هو شخصيًا ..
خرج من غرفة الاستحمام و قد حرص على أن يبلل نفسه، ثم اتجه إلى باب غرفته يرسم على وجهه علامات الاهتمام و الدهشة و القلق، لكن الدهشة انقلبت من مصطنعة إلى حقيقية عندما فوجيء بوالده على أعتاب الغرفة يسأله في لهفة:
- را .. ألمحته ؟
- من هو ؟
- ذلك الغوغائي .. شاهدته و أنا في شرفة القصر يتسلل ناحية غرفتك ..
- كنت في غرفة الاستحمام فلم ألحظ أحدًا ..
و قبل أن يكمل را كلمته الأخيرة، كانت أوامر الملك قد صدرت إلى الحرس أن فتشوا الحجرة، عل هذا الغوغائي قد اختبأ فيها، ليهوي قلب را إلى ما هو أبعد من قدميه ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق