ما سأتحدث معكم فيه هذه المرة ليس له علاقة مباشرة بالفرقة الرابعة و موادها، لكنها كانت العامل المحفز لما سأتحدث عنه .. من المعروف طبعًا أن الطبيب لا بد له أن يمارس المهنة أثناء دراسته كي يكتسب الحس الإكلينيكي و الخبرة اللازمة كي يعمل بكفاءة و احترافية، و لو أن كثيرًا من الأطباء في عهدنا الحاضر لا يفترقون عن العطارين القدامى في شيء، اللهم إلا البالطو الأبيض .. على أية حال، فقد وضعت خططًا من أجل هذا منذ أن التحقت بالكلية، لكنها كلها باءت بالفشل لأسباب عديدة، أهمها في نظري أنني لم أكن أمتلك الخلفية العلمية و النظرية للأمراض التي سأراها و الاختبارات السريرية و المعملية التي سأطلبها أو أجريها، و بهذا تكون استفادتي من التدريب قريبة من الصفر، اللهم إلا إذا اعتبرنا تدربي على الاعتياد على جو المستشفى و التعامل مع المرضى هي استفادتي الوحيدة ..
المهم أنه و ابتداء من هذا العام، و اعتمادًا على العام السابق، بدأت الرؤية تتضح، و بدأ التدرب في المستشفى يكتسب أهمية، خصوصًا و أننا بدأنا بالفعل مرحلة التعامل مع الأمراض المختلفة و كيفية تشخيصها و علاجها و ما إلى ذلك .. و هكذا ارتديت البالطو و ذهبت في زمرة من الأصدقاء نريد أن نجعل من وقت فراغنا شيئًا مفيدًا ..
بالطبع لست أكتب لأتحدث عن تفاصيل طبية لن تهم أحدًا، حتى و لو كان من زملاء المهنة، لأنني ببساطة لم أتابع أي حالة لأكثر من أن تستقر حتى تحتجز في المستشفى أو تنتقل إلى الرفيق الأعلى، فقسم الاستقبال المستشفى الجامعي تنحصر مهمته في هذا الجزء من العملية الطبية: اجعل المريض مستقر الحالة حتى نهتم نحن به في الداخل .. أكتب إليكم لأن فترة ثلاثة أسابيع رأيت فيها الكثير من العجيب و الغريب ..
الحق أقول أنني مللت من كثرة سبي و لعني لهذا النظام الصحي، لذلك قررت حقًا أن أتوقف عن ذلك، لكن ما سأتحدث عنه هنا ليس النظام الصحي، بقدر ما هو المريض المصري المسكين، و الطبيب الأكثر إثارة للشفقة من المريض، و لو أن الحديث سيجرني دون أن أشعر كي أسب و ألعن في النظام الصحي المصري، لأنه السبب المباشر في هذه المآسي التي يحياها هذا المواطن المطحون ..
يأتيك المريض بوجه بائس من متاعب الحياة زاده المرض بؤسًا، يتساوى في ذلك من جاء مريضًا مزمنًا يتابع أو يشتكي من أحد المضاعفات، بالمريض الذي يشتكي عرضًا حادًا و مرضًا بسيطًا .. الكل في الهم سواء، و الشعور العام واحد، أننا وقعنا في الفخ .. فخ المرض الذي تزيده الحكومة مأساوية، و تجعل منه كابوسًا مقيمًا .. تكلفة التشخيص عالية، و تكلفة العلاج أعلى .. المريض يأتي المستشفى الحكومي يملأه شعور لأنه لا يستطيع الإتيان بقيمة تعريفة الكشف في عيادة خاصة، و الانتظار على الألم أشد إيلامًا و أكثر مرارة من الوقوع في فخ المستشفيات الحكومية ذات السمعة التي لا نحتاج للتعريف بها ..
ربما كانت أحد عيوبي أنني صموت أغلب الوقت، أو لو شئنا الدقة "متنح" أغلب الوقت، لكن الحق أنني أراقب .. أراقب ما يحدث و من يحدثه و لماذا في محاولة مني و التحليل، لكن هذا لا يعني بالطبع أنني "الفيلسوف الطبيب"، فهذا من المستبعد حقًا .. على أية حال، أفادني هذا كثيرًا في تلكم الأيام القلائل التي قضيتها هناك، و أول ما استرعى انتباهي هم الأطباء أنفسهم ..
البعض يتعامل بالفعل مع المريض باعتباره "سفير رحمة" اختاره الله، و وهبه عقلاً يعي العلم الطبي، و قلبًا يشعر و يستشعر آلام البشر، كي يخفف هذا الألم عن المرضى، و لا يزيد إلى ألمهم الجسدي ألمًا نفسيًا أقسى و أمضّ، و البعض يتعامل من منطلق عجيب، مفاده أن هؤلاء المرضى هم مجموعة من المدّعون، الذين يريدون الحصول على خدمة طبية "ببلاش" و هم أصحاء، أو يريدون الحصول على إجازات أو .. أو .. و البعض يتعامل من منطلق أنهم مجموعة من الجهلة الغوغائيين "اللي خسارة فيهم اللقمة" و بالتالي "خسارة فيهم الطب"، و البعض عدواني بطبعه، و هذا لست أدري كيف سمح له أهله أن يلتحق بكلية الطب من الأصل ..
بعض المرضى يدعون، نعم .. أشهد بأنني رأيت مجموعة من هؤلاء .. معظمهم جهلة، نعم .. يطبقون المثل الشعبي "ما يعرفش الألف من كوز الدرة" بدقة و إخلاص، لكنهم في كل الأحوال بشر ..
أذكر حالة توليتها، كانت لمسجل سرقات، أثناء جلسة المحكمة فاجأ الجميع بقيئ دموي، و إغماء .. القيء حدث، و وقعت بعض نتائجه السلبية من انخفاض في ضغط الدم و فقدان السوائل و خلافهما، لكنه يدعي الإغماء ليهرب من المحكمة و من السجن بالطبع .. أذكر في هذه الحالة أن الحكيمة، رئيسة التمريض، قالت للنائب المسئول عن القسم في هذه النوبة "مسجون، قاتل، بكون فيه إيه بالذي .. ياخد حقه في العلاج، و يغور في ستين داهية بعد كده"، و الحق أن النائب لم يكن معترضًا من البداية، لكنني أذكر الموقف لأنها قالت بالضبط المبدأ الذي أسير وفقًا له، و لأن آخرين بالفعل يعترضون، و يكون رد فعلهم في حالة كهذه "برّه، دا بيستعبط" ..
و بمناسبة الحديث عن الأطباء، فليس منطقيًا أن أمر على نقطة توزيع المسئولية عليهم مرور الكرام .. يسير النظام الصحي في المستشفى اعتمادًا على طبيب مقيم "نائب" مسئوليته اعتماد كافة الأوراق و التقارير و الطلبات التي تتم أثناء نوبته، و التي يقوم بها الأطباء الآخرين، و هم إما في مرحلة الامتياز، أو هم على شاكلتي، ما زالوا يتدربون .. المهم أن كل هذا الحمل - اعتماد كل شيء و التأكد من صحته و مراجعته - يقع على كاهل شخصين فحسب في كل نوبة .. هذا الشخصان مطلوب منهما أن يجريا الكشف على كل الحالات، لأنه رغم وجود أطباء قد يفوق عددهم عدد المرضى، إلا أن توقيع النائب يعني تحمله مسئولية ما سيفعل مع المريض تحملاً تامًا، و هذا ما يدفعه بالطبع، للتأكد من كل حالة و إجراء الكشف عليها حتى لا يحاسب ظلمًا على ما يفعله الآخرون .. و هكذا نجد أن هذين الطبيبين - في نهاية الأمر - يتحولان إلى الطبيبين الوحيدين بالعنبر، لأنهما ببساطة أصحاب الأمر و النهي فيه ..
في أوقات الهدوء النسبي، ليس هناك أي مشكلة من أي نوع، لكن لو زاد الضغط قليلا على العنبر، لأصبحت النتيجة أن مريضين فحسب هم من يتلقون الخدمة الصحية في لحظة ما، فيما ينتظر الآخرون حتى يفرغ النائبان من التأكد من أن الطبيب الذي تحت إمرته يعمل بكفاءة، و يسير في الطريق الصحيح .. أتحدث هنا عن تأثير ذلك على المريض، لأن تأثيره على الطبيب أمر مفروغ منه .. "كالّو" في اليأفوخ دون ذرة شك .. الأمر ليس ضغط عمل، بل هي أرواح سيسأل عنها الآن و في الآخرة، و ليس من مجال يذكر للخطأ ..
إذا تركنا كل هذا جانبًا، و حاولنا النظر للأمور نظرة متفائلة، نجد أن الميزة الوحيدة في كل هذه الفوضى - أسرّة لا تكفي، و أجهزة معاقة ذهنيًا و بدنيًا، و أطباء لا يمكنهم العمل دون الرجوع للنائب الذي تتحول دماغه جراء ذلك إلى عش زنابير، و مرضى لا يتعاونون لأنهم لا يعرفون .. نجد أن الميزة الوحيدة و الأهم في كل هذا هي أن الطبيب أثناء تدربه يرى الحالات المرضية التي درسها كأشياء نظرية و كلمات مطبوعة على الورق، يجدها ماثلة أمامه بكل ما فيها، حتى تلك المضاعفات النادرة التي لا تحدث غالبًا .. تجدها في المريض المصري شاخصة أمامك، و هو ما يعني بالنسبة لي كطبيب فرصة مثالية لكي أرى ما لن أراه مستقبلا إذا كتب لي و عملت بالخارج ..
لكن هذه الميزة في الوقت ذاته تثير غصة في الحلق .. صار المعتاد بالنسبة لي أن أرى مريض السكر يشتكي من ارتفاع ضغط الدم و أمراض القلب المختلفة، رغم أن كليهما من المضاعفات التي تحدث على المدى الطويل، و من المفترض أن تحدث في واحد كل عشرين، و ليس ألا أجدها إلا واحد كل عشرين ..
أصبح من المعتاد أن أري مريض الكلى يشتكي من كبده، التي تضررت نتيجة الغسيل أو الأدوية أو الماء المسمم الذي يشربه .. نعم، هي ميزة أن أرى ما لا يرى، لكنها في الوقت ذاته كارثة أن أراه بهذا الحجم ..
و على الرغم من هذه المأساوية و التراجيدية التي أتحدث بها، فإن الأمر لا يخلو من طرافة، مردها غالبًا جهل المريض، أو اختلاف اهتمامه عن اهتمام الطبيب، بمعنى أنني كطبيب أرى مأساة أمامي تتمثل في صفراء مخيفة، و تليف في الكبد مفزع، و احتمال دخول الكليتين حلبة المرض، لكن ما يشتكي منه المريض هو بعض الدوار و الضعف !
على هذه الشاكلة كانت إحدى الحالات لرجل في الثمانين من عمره، أصيب بجلطة في المخ قبلاً، و يعاني من ضيق في الشريان الأودج الأيمن في الرقبة، و ضعف متقدم في السمع، و كل ما أتى به أهله ليشتكي منه هو دوار و سقوط لا إرادي كلما سار بضع خطوات !
كنت أتحدث لزوجته، و رغبت لحظتها فعلاً أن أخرج عن أدبي .. "يعني يا حاجة الراجل تمانين سنة، و ودانه ضايعة، و شرايين رقبته ضيقة، و مش عاوزاه يدوخ" .. مثل هذه الأشياء تجعل الطبيب يكاد ينفجر، و لو أنه من المفترض أن تحترم مشكلة المريض، لأنه لا يعلم مثلما تعلم، و ما يعيق حياته هو ما يراه مأساة، أما ما لا يشعر به، أو يراه شيئًا ثانويًا، فلن يعيره أي اهتمام، لكن هذا لا يمنع أن أشعر ببعض الحنق بسبب تفكير البعض، الذي - في مثل حالتنا هذه - يتوقع أداءً أعلى أو على الأقل مثلما سبق، من رجل بكل هذا التاريخ المرضي !
و بعيدًا عن استفزاز المرضى، فإن موقفًا حدث لي ليس يمكنني أن أنساه .. مريض يعاني من ارتفاع حاد في ضغط الدم، وصل إلى 200 على 100، و باعتبار أنه مريض بقصور في الشرايين التاجية الثلاثة، و بالسكر قبل كل هذا، فإن ضغط دم كهذا يعد كارثة .. جاء مع ابنه الذي سألني أن أقيس له الضغط، إذ أنه يشعر بصداع شديد، و قد قاسوا ضغط الدم في مركز طبي فكان الرقم الذي ذكرته .. نسيت أن أخبركم أن قسم الاستقبال لا يحوي سوى جهازين لقياس ضغط الدم، و باعتبار أن ضغط الدم من العلامات الحيوية، التي لا بد من قياسها في كل حالة، يمكن أن تستشعروا حجم المأساة التي يعيشها الطبيب، الذي يضطر "لركن" المريض جانبًا لحين وجود جهاز لا يستخدمه أحد .. و حتى إن وجد هذا الجهاز، فهو غالبًا جهاز معاق ذهنيًا، تنتفخ بالونته في غير الاتجاه المطلوب، و يرتفع الزئبق مليئًا بفقاقيع الهواء، و ربما ارتفع دون أن تنفخ البالونة أصلاً، و صمام التحكم في الهواء يعمل بسياسة التفريغ الشامل أحادي الاتجاه، إذ يفرغ الهواء دفعة واحدة دون تمكينك أن تهبط بمستوى الزئبق ببطء، و "ينفخك" أنت شخصيًا قبل أن ينفخ البالونة أو يسمح بمرور الهواء إليها ..
المهم .. جلس الرجل و ذهبت لإحضار جهاز قياس الضغط لأدخل في دوامة ليست بالقصيرة، وصل الرجل معها لمرحلة أصبح يهذي بمعنى الكلمة من الألم، و يضرب رأسه في السرير و في الحائط، ما جعل أحد الأطباء يعطيه قرصًا مخفضًا للضغط يمتص أسفل اللسان، و هو ما أدى في النهاية لأن يهدأ، و ينخفض ضغطه أربعين مليمترا زئبقيًا .. أخذ يشتكي لي، و أنا أحاول تهدئته، و كيف أنهم - أي الأطباء - يتدربون عليه، و أنه قد أتى من يومين ليقوم برسم كهربائي للقلب، ففشل الأطباء في ذلك، و الحق أن هذا ليس لعيب فيهم، بل لعيب في الجهاز، الذي تكاد تكون شاشته "الكاروهات" أقل عيوبه تأثيرًا على استعماله ..
وعدته أن أقوم أنا بنفسي بعمل رسم القلب الكهربي الخاص به، و هو ما جعله يظن أنني طبيب قلب متخصص، و لو علم أنني من زمرة الذين يتدربون عليه، لخلع نعله و أوسعني ضربًا !
الحق أنني لم أكن أخدعه، إذ أنني بالفعل متمكن إلى حد بعيد من توصيل الأقطاب و تشغيل الجهاز، و ما ينقصني هو كيفية تفسيره، و كان هذا هو السؤال الذي سألني إياه بعد أن أتممت الرسم "ها يا دكتور .. إيه الأخبار؟" .. سبحان من ألهمني وقتها ردًا قلت به الحقيقة دون أن أخبره بها .. أخبرته أنني لست أستطيع تفسيره، لكنني أجيد عمله، و هو ما دفعه إلى السؤال الثاني "مش حضرتك تخصصك باطنة برضك ؟" فأجبته أنني سأتخصص كطبيب باطني، لكنني لم أتخصص بعد، و لو علم أنني لم أتخرج حتى من الكلية .. الله وحده يعلم ماذا كان سيفعل !
لست أستطيع نسيان هذا الموقف، لأنه وضعني في مأزق، و لأنها من المرات القلائل التي أحسن فيها التصرف إلى حد بعيد، خصوصًا فيما يتعلق بالحوار مع الآخرين، و لأنه علمني كيف يمكنني أن أخرج من مأزق طالما فكرت في حلول مختلفة له .. هذا الموقف هو: كيف تبرر وجودك كطالب تنقصك الكثير من الخبرات و المعلومات، أمام مريض فيه ما فيه، و ليس يحتمل أن يعبث به أحد ؟
على أية حال، كانت تجربة مفيدة و مثيرة و ممتعة، لكنها جعلتني أرى مستقبلي كطبيب محاطًا بغلالة سوداء ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق