يقول أخي الأكبر إن معهد البحوث الطبية – "الطيبة" علي حد تعبيره – الذي يقوم بتحضير رسالة الماجستير فيه هنا في الإسكندرية يرفع شعار "اتحدي نفسك" في امتحاناته .. فأنت لست مطالبُا – بصيغة المفعول- فقط بأن تذاكر كمًا لا يتحمله بشر، بل مطالب بأن تمتحن بصورة غير آدمية، امتحانات لا تراعي أدني المعايير الإنسانية قبل العلمية أو حتي القانونية ..
استعير منه هذا الوصف، لأنني أري أن كليتنا المجيدة هي أحق الكليات بهذا الشعار المعبر .. اتحدي نفسك .. أنت تتحدي العالم بأسره و ليس نفسك فقط، لتنجو من وحل الرسوب، و مرارة الملاحق، و ألم الفصام و الهوس في نهاية حياتك الجامعية ..
و اسمح لي يا عزيزي المهيس الأكبر أن استعير استعارتك لطريقة د. نبيل فاروق في كتابته لرجل المستحيل، لكنه ليس غباءً مستحيلاً كما كنت تقول، بل هو زعط مستحيل ..
في البداية احذر و بشدة، أن أي ألفاظ قد تجدونها غريبة أو غير مقبولة أو مفهومة أو بها أي شيء، استميحكم عذرًا، فالضغط أكبر من أن يحتويه لسان ..
لنبدأ ..
بداية القصيدة
كفر طبعًا .. بدأ الأمر كله هذا العام، عندما أخبرنا رؤوس القوم، و هم الدكاترة رؤساء و رئيسات الأقسام المختلفة و المتخلفة في آن – زي الغسالة أم روحين - أن النظام تغير و كل شيء حيبقي أحسن و الدنيا حتزهزه، و كالعبط صدقنا لنتلقي الصدمات واحدةً تلو الأخري ..
كانت أولي التغييرات هي إلغاء امتحان الشفوي، خير و بركة .. و استبداله بحثًا يقوم به مجموعة من الطلبة لا يزيد عددهم عن عشرة في أحد الموضوعات لتتم مناقشته و اختبار قدرات الطالب علي البحث و تنمية مهارته علي الابتكار و التقديم و الإلقاء، و إشاعة جو من العدل المتمثل في إلغاء أحد وسائل "الكوسة" المتعددة في الحياة الجامعية ألا و هي امتحان الشفوي .. جميل، أحب أنا الحكومة لما ترص أطقم الكلام زي أطقم الصيني .. كلام جميل ..
البعض توجس .. البعض رحب .. البعض انتظر ..
لكن الأكيد أن الكل قد اتزعط .. اتزعط ..
لن أتحدث عن الآخرين .. سأتحدث عن نفسي و مجموعتي في بحثيْ الأدوية و الطفيليات، دون الدخول في تفاصيل علمية أو غير علمية، لأنني بصراحة لست أود التذكر .. المهيس الأكبر كان معي و يدرك لم أقول هذا ..
الدواء فيه زعط قاتل
و كما يقول جاهين: "سهير ليالي و ياما لفيت و طفت"، فقد كلفني هذا البحث أربعة أيام متواصلة لم أنم فيها ما يكمل النصاب القانوني لحيوان منقار البط حتي في حقه في نوم طبيعي و هاديء .. أرتب و أكتب و أنسق، و أذاكر لأنني سأسأل فيه .. لا أريد أن أدعي البطولة لكنه فعلاً أرهقني .. أرهقني و قصم ظهري، و ما زاد الطين بله هو أنه كان مسبوقًا بامتحان ميدتيرم في مادة أخري قبله بيوم واحد فقط .. بعضنا حصل علي هذه المناقشة و الامتحان المذكور في نفس اليوم .. بس !
و متشحة بسواد كأنه أعماق اللابيرنث، و كظلمة جوف المينوتور، و ربما صوته، بدأ السلخ .. صرخات المعذبين تتعالي .. ترتفع .. الرحمة .. الغوث .. الـ .. إحم، الأمر ليس بهذه الدرجة، لكنه أيضًا لم يكن هينًا ..
العشرة، باسثناء اثنين، تعبوا حقًا .. بحثًا و تنقيبًا و تنقيحًا و تدريبًَا علي الإلقاء، ثم أتت الدكتورة الممتحنة لتمحو كل شيء ..
أنت تقول كلمة لتزرع في وسطها سؤالاً، و من السؤال تسألك آخر، و تسكت لتكمل أنت، فإذا بك لا تتجاوز كلمتين لتقذف بآخر .. ساعتان كاملتان، لم نأخذ حقنا إطلاقًا في أن نلقي ما لدينا، و أن نقول ما تدربنا عليه و تعبنا فيه .. باختصار أخرجتنا محطمين، رغم أننا لم نكن بهذه الدرجة من السوء ..
كانت تردد رغم هذا أنها في النهاية ستحشر في "متر في متر" و الذي هو القبر، لذا يجب أن تعاملك بالعدل و تعطيك حقك كاملاً، بكل ما لك أو عليك .. إلهي ياخدك أنت و المتر في متر بتاعك يا شيخة ..
شعرنا أننا فقدنا الثلاثين درجة التي كنا نعول عليها في أن تكون النواة التي تسند الزير، فإذا بالزير و النواة يباعا في سوق الجمعة .. الطريف أن اللجنة الممتحنة تتكون من الدكتور المشرف علي البحث، و التي لم تحضر لأنها تلقي محاضرة في نفس الوقت، و الحق أنها لم تفعل شيئًا أكثر من أنها نظرت في الورق .. آه، منظره حلو .. حطّوه ..لم تقرأ، لم تعرف أكتبنا كلامًا صحيحًا، أم هو هراء غث لا نفع فيه .. و بالإضافة إلي المشرف هناك ممتحنان .. تركنا الممتحن الأول بعد أن سب و لعن البلد التي تمنع التدخين داخل الجامعة و تنهب في المقابل مرتبه الذي بالكاد يكفي البرستيج الذي يجب أن يكون عليه باعتباره أستاذًا في الجامعة، و سب و لعن البلد الذي تحاسبه لأنه أخطأ في حق طالب و لم يعطه درجة أو درجتين، و تمنع عنه في المقابل حقه في مكافأة أو علاوة أو ما إلي ذلك .. تركنا لنواجه وحش المستنقعات هذه بمفردها لتتسلي علينا ساعتان كاملتان ..
المش "بدوده"
هذا ما كان من أمر الأدوية .. أما الطفيليات فكانت أخف، و إن لم تخل من بعض الأشياء الصغيرة ..
ترون أنني علي طول الخط "ضد"، لكن الأمر ليس بيدي .. أنا لم أجبر هذه الممتحنة أن تعذبنا بهذه الطريقة .. لم أجبر المشرفة أن تلكلك عملها بهذه الصورة .. لم أجبر الكلية أن تغير النظام للأسود – و ليس الأسوأ فقط .. أنا لم أفعل شيئًا من هذا، بل هو ما يحدث، مع الأسف الشديد ..
و حتي أثبت حسن نواياي، دعوني أقول أن المشرفة هذه المرة كانت مشرفة بحق .. تحدتث معنا، أخبرتنا عماذا يجب أن نبحث، و راجعت الورق معنا كلمة بكلمة .. كان البحث عن الديدان التي تنتقل عن طريق اللحم نصف النيئ، و كان عن الثلاثة ديدان الكلاسيكية، لكن الدكتورة المشرفة أضافت مجموعة أخري يمكن اعتبارها بشيء من التبرير المنطقي تابعة لهم، لكن مأساتنا كانت أن الدكتورة الممتحنة لم تعترف بهذا التصنيف، و إن كانت منحتنا الحق كاملاً في الحديث، حتي أنهينا المجموعة الكلاسيكية ثم أوقفتنا بعدها قائلة أن كل ما يتلو ذلك فهو خارج نطاق البحث .. الحق يقال أنها رغم ذلك لم تبخسنا حقنا و أعطتنا الدرجات التي نستحق ..
لكن ما أثار حفيظتي بالفعل هو ما قالته الدكتورة الممتحنة، عندما كنا نناقشها في هذه النقطة التي رفضتها، فقالت: "شغلكوا كويس .. لكن الظاهر إن اللي فهكموا الموضوع فهموا لكو غلط" .. كانت كأنها تتحدث إلينا، لكن الحديث كان موجهًا للمشرفة التي لم تتجاوز بأي تقدير درجة المدرس، و ما زال البون شاسع بينها و بين الأستاذ الدكتور الممتحن .. المزعج أنها كررت الجملة مرتين، و كأنها تتشفي أو ما شابه .. ل أحب ظن السوء، لأنه يشعرني بالذنب بعد ذلك، لكن طريقتها و لهجتها كانت تنم عن ذلك حقًا ..
من الغريب حقًا أن تصير العلاقة بين الأساتذة و بعضهم البعض علي هذه الصورة .. كأنهم مجموعة من الأطفال يتصيدون الأخطاء لبعضهم البعض، و يا ليتهم يفعلون ذلك و الكلية تنتج .. الكلية تنتع .. المتخرج من الكلية يحتاج ثماني سنوات أخري ليتعلم الطب علي أصوله علي يد طبيب يفهم المهنة، لأنه قضي سبع سنوات يأخذ فكرة عامة و خلفية ليس إلا ..
المهم، أن هذا ما كان من أمر الشفوي البديل، أما كان من أمر الامتحانات فله حديث آخر ..