يمكنني القول بنفس راضية، و ضمير مستريح إن كليتنا المصونة هي أحد منابع "الهراء و العبث العلمي" في هذا العالم، و إنها عبارة عن ست سنوات، كل سنة هي خطوة لإخراج حمار يدعي خطأ "الطبيب" ..
" و خدوا بالكوا إن في الأنوفيليس بنلاقي الـ Wings عليها Lateral dots .. في حين إن الكيولكس ما فيهاش "
كان هذا في أحد سكاشن مادة الطفيليات، و لغير الأطباء أو طلبة العلوم، فإن المعيدة كانت تتحدث عن جنسين مختلفين من البعوض، أحدهما تحت الميكروسكوب له أجنحة منقطة، أما الآخر فليست له هذه النقط، و هو ما جعلني أتساءل حقًا: هل تخيل أحدهم، أيًا كان هذا الـ"أحدهم" أنني قد انتويت، أو أيٌ من زملائي، أن اتخصص في علم أنساب البعوض مثلاً ؟
ما لي أنا و هذا التشريح الممل الشنيع لهذه الحشرة .. آخر تعاملي مع البعوض أن أهشه، و إن تمكنت منه أن أجعله جزءًا لا ينفصل عن الحائط .. علي أي مذهب كانوا يفكرون حينما قرروا أن هذه الأشياء إلي هذا الحد من الأهمية، بحيث نضيع فيها كل هذا الوقت و المجهود ؟
التفريق بين أجناس الحشرات مهم، لأعرف أيها ينقل الأمراض و أيها لا، لكنني في النهاية طبيب .. مهمتي أن أعرف أي مرض تنقل، وأين في أرجاء هذا العالم الفسيح تقطن هذه الحشرة، و كيف أشخص هذا المرض و أعالجه، و كفي ..
دعونا من البعوض ..
آخر محاضرة في مادة الطفيليات كانت نكتة بحق .. كانت عن الذباب، و لم أنفك أقول منذ أن دخلت و بدأت الدكتورة في الشرح: "و ربنا دي حتة دبّانة .. إيه المعجزة اللي في كده" .. و لتعلموا لم كنت أقول هذا، دعوني أعيد عليكم شيئًا مما قيل ..
" و علشان نفرق ما بين أنواع الـ Flies المختلفة تحت الميكروسكوب نبص ع الجناح .. حنلاقي خمس أوردة بيعدّي فيها الهوا مش دم .. نعد من فوق .. واحد اتنين تلاتة أربعة و subcostal vein .. لو ندقق في الـ vein الرابع حنلاقي زاوية انحرافه عن مساره الطبيعي مختلفة من واحد للتانية، و دا اللي حيفرق لنا ما بينهم "
لن أعلق، لكني أترك لكم هذه المهمة ..
و لندع الطفيليات كلها جانبًا ..
مادة كالميكروبيولوجي، ندرس فيها تفاصيل معملية، الله وحده يعلم من منا سيستفيد منها بعد ذلك .. أذكر أن دكتورة كانت تشرف علي بحث مجموعة من زملائي، و هو البحث الذي استبدلوا به امتحان الشفوي، فإذا بها تقول لأحدهم: "جايبين لي كلام كتير و ممل عن الفحوصات و الاختبارات المعملية و .. و .. مالكم أنتوا بكل ده .. أنتوا دكاترة .. المهم بالنسبة لكم التشخيص .."
لكن الواقع أن الكتاب معظمه يقع تحت هذه الفئة التي لا تعنينا إلا في أضيق الحدود .. نعم، من الواجب أن تعرف أي التحليلات و أي الفحوصات يجب أن تجريها لتعرف أي الجرائيم أصابت مريضك البائس، لكن بكل هذه التفاصيل ؟
لم كل هذا الهراء .. لم كل هذا العبث الذي ندرسه .. المصيبة أننا لا ندرس الغث و الثمين جنبًا لجنب، بل ندرس الغث و مع سبق الإصرار و الترصد .. بل لست أبالغ إن قلت أننا نترك الثمين و نذهب للغث فنتفنن فيه ..
يتحججون أننا مضطرون للإسراع لأن العام الدراسي لا بد و أن ينتهي في شهر يونيو، لتظهر النتيجة في شهر يوليو، لنلتحق بالفرقة الرابعة في بداية سبتمبر .. يتحدثون كأن هذه أوامر إلهية نزل بها الوحي، أو تعليمات مقدسة لا يمكن الجدال فيها، رغم أن الجامعة، بحكم طبيعتها، هي أفضل مثال علي الذاتية .. وزارة التعليم العالي ليس لها تحكم مباشر في العملية التعليمية داخل الجامعات، فهي لا تفرض المناهج، و لا تحدد و تجبر أحدًا علي نظام معين في التدريس، اللهم إلا بعض الخطوط العريضة، أما الباقي فمجلس الكلية هو المتحكم الأول و الأخير فيه .. لماذا إذن "لازم نخلص قبل شهر تسعة" و لماذا "أصله مفيش وقت" و لماذا "لازم ننتهي بسرعة" ؟
لماذا ؟ و لماذا أقول هذا أصلاً ؟
أقول هذا لأنه في خضم هذه "السربعة" يضطرون لحذف أجزاء كبيرة من المناهج، لتواكب الوقت الممنوح، و بدلاً من أن يحذفوا هذا الهراء، كالذي قلته من قبل و أشرت إليه، فإنهم يحذفون أجزاءً أراها، إن لم تكن مفيدة لنا و لو حتي من باب المعلومات العامة، فإنها علي الأقل أكثر منطقية من هذا الهطل الرسمي ..
بالطبع سيقول بعض زملائي عند قراءتهم هذا: "يعني بدل ما تحمد ربنا أن الحمل خف، تتأمر .." .. الحمل لم يخف يا صديقي، بل تحول من كم ضخم به بعض السلوي، إلي كم أقل ليس فيه شيء تجرؤ أن تقول أنك ستستفيد به بعد ذلك، اللهم إلا لتكتب مقالاً كهذا تسب فيه هذا الهراء و تلعنه !
دعونا من عامنا هذا، و لنرجع للوراء شيئًا بسيطًا .. العام الماضي و الذي قبله .. مادة الكيمياء الحيوية .. يعلم الله كم من الوقت و العمر ضاع لحفظ هذه المعادلات، و هذه التركيبات الكيمياء، و هذه المسارات المعقدة داخل الجسم البشري .. لكن بعدما انتقلنا للفرقة الثالثة، أتتنا المفاجأة ..
علمنا عن طريق زملاء لنا في الفرقتين الأولي و الثانية أن المنهج قد تغير كلية و جملة و تفصيلاً .. كل الصيغ و التركيبات الكيميائية حذفت .. كل المسارات التي ليس لها معني أو فائدة حذفت .. و النتيجة ؟
النتيجة أن الكتب الأربعة الذين امتحنا فيهم، كتابان فكتابان، قد انخفضا لكتاب واحد للفرقة الأولي و مثله للفرقة الثانية .. هل تخيلت كم الهراء الذي كنا نحشي به عقولنا ؟
الغريب، و المثير للدهشة، أنه حتي و هم يحذفون، فإن الأمر لا يخلو من فضيحة .. إذا كنت تري أن هذا الجزء ليست له أهمية، و أن معرفتنا به كعدمها، فلماذا في الأساس جعلته من المنهج .. و لماذا حشرت به عقولاً قبلنا أصحابها الآن لا يفوتون مناسبة إلا و دعوا من قلوبهم عليك ؟
لست أدري، لكن أغلب الظن أنه داء مصري أصيل .. "تعالي في الهايفة .. و اتصدر" .. الأساتذة عندنا يرون أن هذا الجزء مهم، و لا بد أن يكون موضع سؤال، فقط لأن به كلامًا "مجعلصًا" و مصطلحاته لا تخلو من تعقيد، و اللعب فيه و بألفاظه ليس قليلاً ..
فليرحمنا الله من هذا الذي يسمونه ضلالاً و زورًا بالتعليم .. و ليرزقنا، إن لم نُرزق العلم من هذه الكلية، ثواب الصبر علي ما فيها .. اللهم آمين ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق