هل كانت لحظة مفزعة ؟ .. الإجابة الدقيقة هي لا، فقد كانت مريعة، لا تدانيها – و لو أنه لم يختبر الثانية بعد – سوى سكرات الموت ..
في البداية حاول إقناع نفسه أن هناك خطأ ما، أو أن عطبًا قد ألمّ بالأجهزة فأصبحت تعطي نتائج مغلوطة .. أعاد كل الحسابات بالورقة و القلم كي يتأكد، و قد تأكد .. هذه هي بداية النهاية ..
نهاية الشمس .. و نهايتنا ..
واصل يحيى – المتخصص في علوم الشمس – حديثه مشيرًا إلى الشاشة التي احتلت الجدار بأكمله تعرض مجموعة من الرسوم البيانية و صور التقطت للشمس منذ يوم واحد .. قال:
- و هكذا أيها السادة نجد أن القطر الاستوائي للشمس قد زاد بما يساوي 2.3% من قيمته الأصلية، و لو استمر على هذا المنوال كمعدل يومي، فلن يستمر الأمر أكثر من بضعة شهور حتى نجد أنفسنا قد شوينا أحياء ..
- و هل أنت متأكد من أن الأمر متعلق بمجالات الجاذبية النووية للشمس ؟ .. كان من الممكن أن نلاحظ انحرافًا في مسار الأرض أو أي من الكواكب الستة عشر المحيطة بنا ..
- في الواقع ..
قالها د. شهاب العلوي مدير المرصد قبل أن يتنحنح مكملاً:
- في الواقع فإن هذه المعلومات قد وصلتنا للتو من مرصد شرق كاليفورنيا من الولايات الغربية ..
ثم طرح مجموعته من الأوراق أمام الشاشة الموجودة خلف يحيى، فعرضتها مكبرة، و تابع:
- هناك زيادة في مدار الأرض بنسبة 0.15 % على كلا محوريه، و هو ما يعني أن الأمر يتعلق بمجالات الجاذبية الشمسية بشكل أو بآخر ..
تابع يحيى:
- الأمر الذي لا زلنا بحاجة للتأكد منه هو طبيعة هذا التغير .. هل هو مجرد نوبة عنيفة من الاضطرابات الكهرومغناطيسية كتلك التي شهدناها عام 2036، أم أنه السيناريو الأسوأ، و أن الشمس تتحول بالفعل إلى عملاق أحمر، و تفقد طاقتها ؟
سرت همهمة خفيفة في القاعة أوقفها أحد الفلكيين بنقرات من إصبعه قائلاً:
- دعونا نفترض الأسوأ، و أن الشمس تدنو من نهايتها و نهايتنا، و لو أن حساباتنا قالت و تقول أن الشمس لا زالت تحمل في نواتها من الهيدروجين ما يكفينا و يكفيها ملايين السنين .. عل كل ليس هذا وقت مناقشة الحسابات .. دعونا نفترض الأسوأ .. ما هي الحلول المتاحة أمامنا ؟
أجابه د. شهاب:
- هناك جملة من المشاريع التي وضعت كخطط احتياطية لمواجهة اضطرابات الشمس الحادة بعد الاضطراب الأعظم في 2036، لكنها كلها تعتمد على الاختباء في باطن الأرض، و هو المستحيل بعينه في حالتنا هذه .. تحول الشمس إلى عملاق أحمر سيجعلها تتمدد حتى تبتلعنا في جوفها، و لن يجدي الاختباء نفعًا .. الحلول الأخرى هي حلول مجنونة ..
- تحديدًا مشروعي شريان الحياة و الهروب الكبير ..
ضرب أحد الحضور بيده على سطح مائدة الاجتماعات قائلاً:
- قبل أن تتكلموا في أي شيء أنا اعترض تمامًا على مشروع شريان الحياة .. إذا كان مشروع الهروب الكبير مجنونًا، فشريان الحياة هو الجنون بعينه ..
قال يحيى:
- مشروع شريان الحياة يا فوزي طرح تحديدًا لمثل هذا الموقف، و أخشى ألا يكون سواه اختيارًا إذا استمرت الشمس في تمددها بهذا المعدل .. الهروب إلى المستعمرات القمرية و المريخية سيأخذ وقتًا لسنا نملك ترف الحصول عليه في الوقت الحالي ..
- و شريان الحياة غير مأمون العواقب .. لقد نجح في تجارب المحاكاة التي قمنا بها، لكن هل ينجح في الواقع ؟ ..
- نحن لم نلتفت إلى شيء مهم أيها السادة ..
ساد الصمت إثر هذه الجملة التي قالها خالد، أحد الفلكيين الجدد، و الذي شعر بالرهبة من هذا الصمت المفاجيء، لكنه تابع:
- إذا كانت قوة جاذبية الشمس تضعف، بحيث لم تعد قادرة على الاحتفاظ لا بغلافها الغازي، و لا بكواكبها، فهذا يعني أننا سنبتعد عنها بنفس مقدار اقترابها منا .. و هو ما يعني أن شيئًا لن يحدث أكثر من تحول الشمس إلى عملاق أحمر، و زيادة قطر مدارنا ..
- و هذا هو بيت القصيد يا خالد ..
أجابه أحد الفلكيين القدامى بالمرصد – محيي – الذي تابع:
- ستصبح السنة الأرضية ضعف عدد الأيام، و سيتغير طيف الشمس إلى الأحمر، محدثًا تغيرات بيئية غير متوقعة، ثم – و هذا هو الأخطر على الإطلاق – سينتهي الأمر بواحدة من اثنتين: إما أن تنكمش الشمس بعد ذلك إلى قزم أبيض، أو تنفجر كسوبر نوفا، و كلتا الحالتين ليستا محببتين إلى قلبي في الحقيقة ..
- إذًا لن يجدي الهروب نفعًا .. ما دامت الشمس في النهاية محكوم عليها إما بالتحول إلى قزم أبيض، فنعاني البرود المطلقة بعد السخونة المطلقة، أو ما هو أسوأ فتتحول إلى ثقب أسود، و إما الانفجار كسوبر نوفا، فلم نهرب ؟ .. سيكون الأمر أشبه بالمستجير من الرمضاء بالنار ..
تدخل د. شهاب قائلاً:
- يبدو حديثك رغم سوداويته يا خالد منطقيًا، لكننا لن نندب حظنا العاثر كالنساء و نقف مكتوفي الأيدي .. لا بد من حل ..
- إذا فلننفذ شريان الحياة .. يبدو الحل المنطقي الوحيد ..
- لا زلت أعترض ..
قالها فوزي محتدًا مرة أخرى، فقال يحيى:
- لنمسك العصا من المنتصف إذًا .. لن نقفز إلى الخيار الأصعب و نترك خيارات أقل صخبًا .. سننفذ مشروع الهروب الكبير و ننطلق إلى مستعمراتنا على المريخ، و بعد أن نؤمن من نستطيع تأمينهم من البشر، ننطلق في تنفيذ مشروع شريان الحياة .. يبدو أنه الحل الوحيد المتاح أمامنا ..
- اتفق معك .. لنصوت أيها السادة ..
قالها د. شهاب رافعًا يده، و لم يكن الأمر بحاجة فعلية إلى إجراء تصويت، فالقرار محسوم من البداية ..
- أمامنا الكثير من العمل .. فلندع الله أن يوفقنا ..
في تلك الفترة – بدايات 2103 – كان تنفيذ مشروع كهذا مستحيلاً، لكن أصبح ممكنًا مع مرور الوقت .. على أية حال، فقابلية هذا المشروع للتنفيذ لم تشفع له أن يكون هو الاختيار الأول، رغم الحاجة البالغة لتنفيذه ..
و رغم مرور يوم على الاجتماع الساخن الذي عقده مرصد القاسمية الجديد، عقد المرصد اجتماعًا آخر في اليوم التالي، لكنه كان بالاشتراك مع المراصد الكبرى في العالم: مرصد شرق كاليفورنيا في الولايات الغربية، و مرصد نان-تشانج التابع لحكومة شرق آسيا ..
لم يكن هناك الكثير ليقال، و لم يكن لأي من المرصدين الآخرين اقتراحات تضاف إلى ما اقترحه مرصد القاسمية الجديد، اللهم إلا تأكيد النتيجة الأولى بأن الشمس تفقد طاقتها، و أن سيناريو موت الشمس آخذ في الوقوع، و هكذا انتهى الاجتماع إلى التنسيق بين الأجهزة الحكومية المختلفة للبدء في تنفيذ مشروع الهروب الكبير ..
كان العمل يجري على قدم و ساق، و لو أن الآليين الذين تولوا مهمة نقل كافة كنوز البشرية المعرفية و العلمية و المادية لم يكونوا يمتلكون أي أقدام أو سيقان، لكنهم كانوا يعملون بجد على أية حال، و رغم إنجاز جزء كبير من عملية الانتقال، و تجهيز الأساطيل الفضائية التي ستتولى تلك العملية، إلا أن تطورًا خطيرًا أضيف إلى مسار المشروع بعد أسبوع من الاجتماع الأول، ما جعل المراصد الثلاثة تجتمع مرة أخرى ..
بدأ د. ستيفن من مرصد شرق كاليفورنيا الحديث قائلاً:
- يبدو أن معدل التمدد اليومي الذي حسبناه منذ سبعة أيام قد زاد من 2.3% إلى 5.77%، و هو الأمر الذي ينذر بأن عملية التحول تتسارع بما لا يعطينا الوقت الكافي لإتمام الانتقال ..
قال تينج-بان مدير مرصد نان-تشانج:
- أذكر أن الخطة المقترحة في الاجتماع السابق كانت تقتضي تنفيذ مشروع الهروب الكبير ثم مشروع شريان الحياة .. أليس كذلك ؟
أجابه يحيى:
- بلى .. لكنني أشك أننا سنجد الوقت الكافي لتنفيذ الخطة بهذا التتابع ..
- لذا أقترح أن نعمل في المشروعين في الوقت ذاته .. لقد تم تجهيز ستمائة سفينة عملاقة للسفر .. يمكنها الانطلاق، فيما يتم تجهيز السفن الألف و مائتين الباقين .. أظن أن هذا سيقلل الخسائر المحتلمة لو فشل مشروع شريان الحياة أو أتى بنتائج عكسية ..
أجابه د. ستيفن:
- أظن هذا .. لكننا بهذا نمارس عملية انتقائية بشعة ..
- أن ينتقي القدر بعضًا منا لينجوا، خير من أن يذهب بنا كلنا ..
ساد الصمت لحظة قطعها د. شهاب قائلاً:
- أنا موافق .. الوقت يمر و ليس من مجال للتباطؤ، لكنني أظن أننا بحاجة إلى سفينة دفع ثلاثي مصنوعة من سبيكة هرقل .. هذه لديكم يا د. ستيفن ..
- هل ستستعملون سفينة واحدة فحسب ؟ .. إن الشحنة المرسلة لن تكون كافية بهذه الصورة .. حسب الأرصاد و قياسات الطاقة، فإن الشمس بحاجة لما يساوي أربع سفن ..
- لا يمكننا المخاطرة بإرسال أربع سفن دفعة واحدة يا د. ستيفن .. المشروع لم تتم تجربته قط، و كل ما لدينا من نتائج هي نتائج تجارب المحاكاة .. سفينة واحدة لاختبار ما سيحدث، فإذا نجحنا انطلقنا بالثلاث الأخريات ..
قال تينج:
- د. شهاب على حق .. هذا بالإضافة لاحتمال حدوث تصدع في جسد السفينة قبل الاقتراب بمسافة كافية من الشمس، ما قد يؤدي لانفجارها .. تخيل معي انفجار ستين مليون مترًا مكعبًا من الهيدروجين .. هذا سيصنع شمسًا أخرى ..
- لكن سبيكة هرقل تم اختبارها بالفعل .. لو لم تضعف ذاكرتي، فسبيكة هرقل هي التي شكلت جسد السفينة "المستكشف" التي وصلت حتى وشاح الأرض ..
- د. ستيفن .. لا نريد أن نتشاجر .. أنت تتحدث عن وشاح الأرض، لكن ما نتحدث عنه الآن هو الشمس .. الأمر جد مختلف، و لا أظنك تجهل هذا ..
- حسنا .. و لو أنني واثق من نجاح الخطة، رغم جنونها ..
- كلنا نأمل هذا، لكننا لا نملك سوى الأمل ..
و كان هذا إيذانًا ببدء تنفيذ مشروع شريان الحياة جنبًا إلى جنب مع مشروع الهروب الكبير ..
كان السيناريو المتوقع هو أن يقل مخزون الشمس من الهيدورجين، فيقل إنتاجها من الطاقة، و تبدأ سلسلة الأحداث المأساوية التي تنتهي بنهاية الحياة التي نعرفها على وجه الأرض، و كان اقتراح هشام العجيب هو إعادة شحن الشمس مرة أخرى بضخ كميات من الهيدروجين تكفيها على الأقل حتى نتدبر أمورنا، إذ يبدو أنه كان يدرك الطبيعة البشرية التي لم و لن تتغير، و التي تركن إلى السكون و الهدوء طالما كل الأمور على خير ما يرام، و أن البشر لن يتحركوا قبل أن تقع الكارثة ..
كيفية إرسال هذه الشحنة التي ستعيد الحياة للشمس ظلت هي اللغز و العقبة الكبرى في وجه المشروع، الذي ناضل هشام لوضعه على الخريطة، لكن سبيكة هرقل – التي ابتدعها مركز أبحاث المعادن في كيبيك عام 2112 – كانت هدية من السماء أنعشت الأمل داخل هشام، و جعلت من مشروعه شيئًا قابلاً للتنفيذ ..
كان السبيكة مؤلفة من الحديد المعالج بالتيتانيوم و الكربون، مع معدن اكتشف في العام الذي سبق خروج السبيكة إلى النور في أحد المناجم بجنوب المريخ، ما جعلهم يطلقون عليه اسم مارسيوم .. كان خليطًا قويًا إلى أبعد الحدود، و ليس أدل على ذلك من بقاءه سليمًا دون خدش حتى في تلك الرحلة التي صممت خصيصًا لاختبار هذا الخليط، و ذهبت فيها سفينة غير مأهولة في باطن الأرض حتى وصلت إلى الوشاح الأرضي، و خرجت سليمة ..
تمطأ يحيى، الذي أصبح مسئولاً عن التنفيذ يعاونه في ذلك طاقم من الفلكيين من مرصد القاسمية، و عدد من الفلكيين حول العالم .. تمطأ و هو يتابع اللمسات الأخيرة على المشروع، و يتأكد من كل صغيرة و كبيرة .. كانت السفينة ديجنتي ستحمل في جوفها خمسة عشر مليون مترًا مكعبًا من الهيدروجين، و هي ربع الكمية التي خرجت الحسابات بضرورة ضخها في نواة الشمس حتى تعود لسابق عهدها، و عندما تصل إلى نواة الشمس ستبدأ في مد عدد من الأنابيب المصنوعة من السبيكة ذاتها إلى داخل النواة ليندفع الهيدروجين مباشرة من جوفها إلى الشمس .. من المفترض أن يؤدي هذا إلى رفع نسبة إنتاج الطاقة الشمسية، و هو الأمر الذي من شأنه إيقاف عملية التحول إلى عملاق أحمر ..
- هل تظن أننا سننجح، أم أن الأمر كله ضرب من الخيال ؟
سأله مساعده فأجاب يحيى:
- لو أردت الحديث بلغة الأرقام و الحقائق، فإن خطأ حساباتنا في الماضي، و خطأ تقدير عمر الشمس لا يزال ماثلا أمامي، يضع احتمال أن نخطأ هذه المرة أيضًا نصب عيني .. لكننا بشر، و نتحدث بكثير من الأمل .. لنأمل أن ننجح، و لندع الله ألا يخذلنا ..
- اللهم آميـ ..
لم يستطع مساعد يحيى الوصول إلى نهاية الجملة، إذ انطلق صوت إنذار مدو و أشارت أحد شاشات الرصد التي تتابع السفينة في مستقرها الأخير قبل الانطلاق الذي يفصلها عنه عدة دقائق .. أشارت إلى حدوث تسرب في الغاز من إحدى خزانات السفينة، و على الفور تأهب الكل لمعالجة الموقف ..
لم ينتظر يحيى أن يبعث بأحد ليرى ماذا يحدث، بل ذهب بنفسه إلى القطاع المصاب، ليجد ما أصابه بالدهشة الشديدة، بل لا نكذب لو قلنا ألجمه عن الحركة للحظات ..
- و هل تسمي هذا تعقلاً؟ .. إنه الجنون يرتدي ثوب العلم .. إنني أمنع الجنون ذاته من أن يقع ..
- أي جحيم هذا الذي تريد أن تلقينا فيه أيها المجنون ..
و بكل قوته انقض يحيى على فوزي، الذي نزع أحد الصمامات التي تحمي الهيدروجين داخل خزاناته في السفينة ديجنتي، كمحاولة منه لإفشال المشروع الذي يراه سيودي بالبشرية كلها إلى التهلكة ..
و رغم أن يحيى لم يكن ممن يمارسون الرياضة بشكل دوري، إلا أن ضخامته النسبية و الغضب المشتعل بداخله جعلا انقضاضته عنيفة للغاية، إلا أن فوزي لم يكن أيضًا بالخصم السهل .. نزع أحد صمامات الحماية يعني بنيانًا متينًا، فهذه الصمامات تحتاج رجلين آليين كي يتم تثبيتها ..
أمسك يحيى فوزي من رقبته و قذف به إلى الأرض بقوة و انقض عليه يحاول تثبيته، إلا أن الأخير لم يعطه أدنى فرصة لذلك، إذ تدحرج و قام عن سقطته و كال ليحيى لكمة ترنح لها، إلا أنه تمالك نفسه و استدار ليكمل القتال .. لكمة فالثانية فالرابعة فالعاشرة .. تبادل الاثنان اللكمات حتى تحول وجهيهما إلى عجينة زرقاء منتفخة، و الدماء تسيل من كل فتحات جسديهما، و في بادرة إعياء من يحيى انقض عليه فوزي قائلاً:
- ستهلكوننا أيها المخبولون .. هل كنت تظن أنني سأصمت؟
كانت لطمته قوية على وجه يحيى، لم يستطع أن يتفاداها، لكنه أُنقذ من لكمة أخرى عندما وجد فوزي يتصلب على حين غرة و يهوي عند قدميه مغشيًا عليه، ليجد مساعده بصحبة أحد الحرس الآليين و سهم مخدر مثبت في رقبة فوزي، فقال و هو يحاول الوقوف:
- خذه من هنا و أعيدوا كل شيء كما كان .. ليس لدينا اليوم بأكمله ..
و فيما حاول أن يمشي غير مترنح، ساعده الآلي على الوصول إلى غرفة التحكم، ليعاود متابعة الإطلاق ..
- السفينة ديجنتي جاهز للإطلاق .. الإطلاق خلال عشرة .. تسعة .. ثمانية .. سبعة ..
و استمر العد التنازلي و الجميع يتابع المؤشرات المختلفة على الشاشة، حتى ردد الصوت نفسه "إطلاق .. إطلاق"، لترتفع درجة الحرارة إلى معدلات لم تشهدها من قبل .. حرارة الجو و حرارة أجساد المتابعين لإطلاق السفينة ..
- كم من الوقت برأيك سيلزم السفينة هذه حتى تصل إلى نواة الشمس يا د. ستيفن ؟
- إنها ثلاثية الدفع، تعمل بالطاقة الاندماجية و البلازما و طاقة الوقود الحفري، و لن تتجاوز رحلتها على أقصى تقدير مائة و خمسين دقيقة ..
أومأ يحيى برأسه موافقًا ثم تنهد قائلاً:
- من كان يصدق .. نعيد شحن الشمس !
- لقد كانت، و لا زالت، فكرة مجنونة .. لنأمل أن تعمل بنجاح ..
و جلس الاثنان، يحيى و ستيفن، يتابعون عن كثب شريان الحياة الممدود من الأرض إلى الشمس ..
أعلنت الشاشات أن الاصطدام بسطح الشمس بات وشيكًا، و إن هي إلا لحظات حتى يقع، فقام الفلكيون الثلاثة – د. شهاب و د. ستيفن و يحيى – عن مقاعدهم يتابعون عن كثب المعدلات و المؤشرات الحيوية للسفينة ..
- ما هي أخبار الدرع الواقي ؟
- نسبة التحمل 97% .. ما زلنا في الحدود الآمنة ..
- و آلية الضخ ؟
- تعمل بكفاءة .. الأنابيب خالية من العوائق، و صندوق الإطلاق محتفظ بمرونته ..
- و الخزانات ..
- جميعها مغـ ..
لم يكمل الفني جملته، ما رفع حدة التوتر لدي الثلاثة، و اندفع يحيى يسأله:
- ماذا بها بالضبط .. لا تخبرني أن بها تسربًا أو أن أحد الخزانات لا يستطيع إفراغ شحنته ..
- مع الأسف فهذا الصمام الذي تم فكه قبل الإقلاع أصابه العطب، و هناك تسرب من الخزان السابع، لكنني أحاول عزله ..
انتحى د. ستيفن بيحيى و قال:
- ماذا يعني هذا يا يحيى .. ألم تتأكد بنفسك من هذه الصمامات؟
- على الأرض .. أما درجات الحرارة المرتفعة هنا على سطح الشمس، فيبدو أن الصمام لم يتحملها ..
- و هل تقول هذا الآن؟
- و هل كنت أعرف ..
ثم التفت إلى الفني و قال:
- اعزل هذا الخزان و تخطه في سلسلة التفريغ ..
لم يكد ينهي جملته حتى قال الطيار:
- الوصول إلى موقع التفريغ سيتم خلال سبعة عشر ثانية ... استعدوا أيها السادة ..
تأهب الكل، و البعض أصبح غارقًا في عرق التوتر و القلق، و إن هي إلا لحظات حتى قال الطيار:
- السفينة في موقع الضخ .. فلتعمل آليات التفريغ ..
أشار يحيى للفني المسئول عن الخزانات بأن يتابع عملية العزل، و أشار لآخر أن يبدأ الضخ على الفور .. كان هذا الخزان المسرّب يشكل غصة في الحلق، فهو يعني ببساطة فقدان نصف مليون متر مكعب من الهيدروجين، و هذا ليس بالشيء السهل .. كل هذا، بالإضافة إلى الاحتمال الذي لم يتحقق، و هو أن يتسبب هذا التسرب في انفجار السفينة نتيجة اشتعال الخزان وسط كل هذا اللهب، لكن الله سلّم ..
و هناك، داخل الشمس، كانت السفينة ديجنتي تستقر في موقعها المحدد لها، ليظهر أسفلها تجويف برزت من خلاله مجموعة من الأنابيب التي تحركت في بطء، و لكن بثبات، نحو نواة الشمس لتبدأ ضخ الهيدروجين مباشرة فيها ..
و رغم أن الأمور كانت تسير على ما يرام، إلا أن هذا لم يمنع القلق و التوتر أن يعصف بطاقم التشغيل، خصوصًا يحيى الذي أخذ يدعو الله و يتمتم ببعض آيات القرآن الكريم، في محاولة لتهدئة نفسه ..
التفت يحيى إلى الفني المسئول عن متابعة الهيكل، و سأله:
- الدرع و الخزانات؟
- الدرع لا زال يعمل بكفاءة .. نسبة التحمل انخفضت إلى 96.4% لكننا لا زلنا في الحدود الآمنة، و الخزانات تفرغ الآن بمعدل خزان كل دقيقتين ..
صمت لحظة ثم أضاف:
- تم تفريغ الخزان الأول و حتى الرابع .. الخامس يجري تفريغه الآن ..
التفت إلى أحد الفلكيين الذين كانوا يرصدون الشمس من أجل التيقن من نجاح المشروع و سأله:
- هل من جديد؟
- لا زالت كمية الهيدروجين الذي تم ضخه أقل من العتبة الفارقة .. السفينة كلها أقل من العتبة الفارقة .. لن نحصل على نتائج قبل أن تتم عملية الضخ كاملة ..
و أخذت الدقائق تمر، و خزان تلو الآخر يفرغ ما بداخله .. تسعة و عشرون خزانًا بدا و كأنها ستمكث الدهر بأكمله، لكن لحظة النهاية جاءت، و أعلن فني الهيكل:
- تم تفريغ آخر الخزانات، باستئناء الخزان السابع ..
- و السفينة؟
- تعاني بعض المشكلات .. الهيدروجين كان يوازن الضغط حولها .. سأندهش لو رجعت سليمة ..
- أيها السادة ..
خرجت من حلق فلكي الرصد الشمسي كالطلقة، فالتفت إليه الجميع و قد صمتوا تمامًا مترقبين ما سيقول:
- لقد نجحنا .. القطر يتناقص بمقدار 0.25% عن آخر قياس له، و إنتاج الطاقة ارتفع بنسبة 1.28% و هو في ازدياد مستمر .. لقد نجحنا .. نجحنا ..
و وسط صيحات الفرح و السرور، التفت يحيى إلى مساعده و قال:
- جهز السفن ديجنتي 2 و 3 و 4 للانطلاق .. هناك شمس بالأعلى لننقذها و نمد لها شريان الحياة ..
هناك تعليق واحد:
اول تعليق ليا فى مدونتك يا عم الدائخ :)
وعشان انا كنت وعدتك اني اقرا روايتك وللاسف لسة قاريها دلوقتي ،،
الله ينور يا ابني بجد ،
إرسال تعليق