لكنني كنت أدعي، بل كنت أكذب و أتمادى في الكذب؛ فكل ذا ليس طفولة معذبة أو حتى "غير سعيدة"، بل هي طفولة تزن من الفرح أطنانًا، إذا ما قورنت بما رأيت في الأسابيع التي مضت ..
وفقًا لجدول دراستي، فإنني الآن – و حتى أسابيع قادمة – أتدرب في مستشفى الشاطبي للأطفال .. كنت متخوفًا من هذه الفترة، إذ أعرف أن مهاراتي في التواصل الاجتماعي تقترب من الصفر، و أواجه مأساة عظمى – أو أنني أراها كذلك – في التواصل مع الكبار، فما بالي بالصغار ؟!
كنت متخوفًا، لكنني اكتشفت مع الوقت أن الأمر ليس بهذا السوء .. أنا أتعامل في الأساس مع أم خائفة على ولدها، و تراني كولدها في الوقت ذاته، ما يجعلها تخبرني بكل ما أريد، و في الوقت ذاته تخبرني بلطف و بنوع من التسامح و بصدر رحب، إن صح التعبير ..
و بالإضافة إلى هذا، فإن السعادة التي تغمرك و قد اطمأنت الأم أن ابنها بخير، و انطلقت الدعوات من فيها أن بارك الله فيك، أو و أنت ترى الطفل يجري و يلعب بعد أن كان جثة هامدة .. تلك السعادة ليس كمثلها في الدنيا سعادة ..
و رغم تلك السعادة التي غمرتني و تغمرني، و التي لا أنكرها على الإطلاق، حتى إنني قررت أن أخوض غمار حياتي الطبية كطبيب أطفال، إلا أن للحزن – أو الاكتئاب إن شئت الدقة – مكان لا ينازعه فيه أحد، و الذي لا أظنني كنت سأكتب شيئًا من هذا لولا أنه قد فاض بداخلي ..
تخيل أنك ترى طفلاً لم يتم عامه الأول بعد، و ترى أمه فرحة به، لكنك تدرك أن هذا الطفل سينشأ متخلفًا معاقًا ذهنيًا، و سيكون عبئًا على أهله، و سيجلب إليهم المشاكل و المتاعب .. تخيل أنك ترى طفلاً لم يتجاوز السادسة، تكتشف أنه مصاب بفيروس الالتهاب الكبدي سي، أو بالفشل الكلوي المزمن، و أنه سيظل طول عمره مريضًا عليلاً يتردد على وحدة الغسيل الكلوي، أو ينتظر تليف الكبد و سرطانه يأتيه بظله الكريه يومًا من الأيام .. تخيل أنك ترى طفلاً يعاني من مرض خلقي في القلب، يعاني بسببه من نقص الأكسجين في دمه، و تراه يغرق في زرقة كزرقة الموتى، و ليس في يدك شيء تفعله إلا أن تصبّر أهله و تدعو له بالرحمة أن يستطيع اللحاق بموعد العملية الجراحية ..
تخيل .. تخيل فحسب .. و تخيلني كيف أكون – أو كيف يكون أي طبيب – أمام كل هذا ؟!
تحدثت ذات مرة إلى صديق أمرُّ معه بعد انتهاء الدرس على المرضى، نسمع منهم – من الأمهات بالطبع – و ندرب أنفسنا كيف نصبح أطباء .. تحدثت معه ذات مرة و قلت إن من يقولون إن طبيب الأطفال لا يصاب بالاكتئاب لأنه يتعامل مع كائنات رقيقة تبعث البهجة أينما حلت هم قوم جهلة، لا يفقهون شيئًا و لا يعقلون، و لا يعلمون ..
لا يفقهون أن طبيب الأطفال لا يرى الطفل إلا حال مرضه – في أغلب الأوقات .. يرى البراءة و قد أُغتيلت، و المرض ينهشها شيئًا فشئيًا، و هو إما يرجو الشفاء، لكنه لا يملكه، بل يبذل في سبيله العلاج و الدواء، أما الشفاء فمن عند الله، أو هو يرجو رحمة الله، فيريح الطفل و أهله مما هو و هم فيه ..
و لا يعقلون أن من يرى هذا كل يوم إما أن ينتهي به الأمر إلى اكتئاب مزمن، أو أن يفقد إحساسه بالحياة و ما فيها و من فيها ..
و لا يعلمون أن الطفل لا يواجه المرض فحسب، و لو كانت كذلك لكان الأمر هينًا .. إنه يواجه المرض، و الفقر، و الجهل، و الأهم من ذلك: الإهمال ..
مريم التي ذهبت كانت براءة تبلغ من العمر أربع سنوات، و من المرض آلاف السنين .. أول مرة رأيتها فيها لم أقو على الاقتراب، فحالتها التي رأيتها عليها كانت تنذرني بألا أدنو، ففيها ما يكفيها، و أنا في النهاية لن أقدم لها الكثير – رغم أني اكتشفت خطأ ذلك كما سيتضح بعد قليل – فلا داعي أن أزعجها و أزعج أمها فوق ما فيهما ..
كان أول لقاء لي بها صدفة، لكننا – أنا و صديقي هذا – قررنا استغلالها، و معرفة تفاصيل التفاصيل، لنكتشف أنها كانت مزروعة في خندق من الإهمال و اللامبالاة القاتلة .. مزروعة إلى الدرجة التي أذهبت كل جهودنا هباء ..
كنا نطمئن عليها، و نتفقد نتائج تحليلاتها، و ننذر الأم إلى مواطن الخطر، و ننبه الأطباء إلى علامات الخطورة، لنكتشف عالمًا سفليًا بغيضًا، لست أتورع أن أصفه بأنه قذر أيضًا .. عالم من الإهمال الكل مشترك فيه، من الطبيب على قمة الهرم، إلى الممرضات في قاعدته، و المبدأ فيه "أنا و من بعدي الطوفان" ..
كانت الحالة تزداد سوءًا يومًا وراء يوم، و إهمال رعايتها يزداد يومًا بعد يوم .. كل ما يشغل بال الأطباء هو أنها "على قيد الحياة"، غير مكترثين لأن حالتها تسوء بالفعل .. كانت محتجزة عندهم لما يزيد عن أسبوعين، و لم يكتشفوا أنها مريضة بالسكر إلا بعد أن أصر صديقي على أن يتيقنوا من هذه النقطة، لأنها جزء أصيل من المتلازمة التي كانت مصابة بها .. و حتى هنا، تأجل الأمر يومين حتى اقتنعوا أنها مريضة بالفعل، ليبدأوا معها العلاج بإهمال أيضًا ..
كانت الحالة تزداد سوءًا يومًا وراء يوم، و إهمال رعايتها يزداد يومًا بعد يوم، و بعد أن كانت تظهر أعراض المتلازمة الأصلية، بدأت تظهر عليها مضاعفات مختلفة، ثم كان اليوم الذي أتاني صديقي هذا بالخبر الذي وقع عليّ كصاعقة من السماء .. لقد ماتت !
لقد ماتت !
لقد اصطدمت بالموت عدة مرات من قبل، لكنها المرة الأولى التي ينتابني فيها مثل هذا الشعور .. شعور الصدمة التي تجعلك ترفض الواقع .. ترفض أن تكون قد ماتت، أو ماتت بهذه البساطة ..
عندما رأيتها أول مرة أدركت أنها بائسة، لكنها ليست شديدة البؤس؛ فالمتلازمة التي كانت تعاني منها كان لها علاج ناجع، و تطور حالتها - في الظروف الطبيعية – يوصف بالـ"جيد تحت المراقبة"، أي أن المتابعة الجيدة للحالة تبقيها كأن ليس بها شيء، لا أن تؤدي متابعتها أن تفارق الحياة ..
تملكتني حيرة و أنا أعيد التفكير فيما حدث .. أهي ضحيتنا لأننا نبهناهم إلى مشكلة خطيرة، فعالجوها بإهمال ما جعلها تسوء أكثر؟ أم ضحية الأطباء الذين نظروا إلينا باستخفاف باعتبارنا طلبة، بينما هم العلامة الفهامة، فتجاهلوا ما قلنا؟ أم ضحية التمريض الذي يشعر أنه يتحمل دومًا أخطاء الجميع فيترك الجمل بما حمل "و إياكش تولع"؟
ذهبت مريم، و مثلها يذهبون كل يوم، فادعوا لهم بالرحمة، و ادعوا لنا أن يغفر الله ما نفعل في هؤلاء الأطفال .. اللهم آمين ..