اعتدت أن تعكس أحلامي اضطراب عقلي و تبلبل فكري أينما راح و حيثما حل، أكان هذا الاضطراب سلبًا أو إيجابًا؛ أكان الاضطراب نتيجة فرح طاغي أو اكتئاب مدمر .. اعتدت هذا، و اعتدته أكثر في فترة الامتحانات، مصاحبًا للضغط العصبي المريع الذي يملأ جنباتي وقتها، و هو الضغط الذي أشعر أنه آخذ في الزوال عامًا وراء عام، و كأنني لم أعد أبالي ..
هذه المرة سبقت اختبار مادة طب الأطفال .. أول اختبار بهذا الحجم من الدرجات منذ بداية العام، و في مادة كطب الأطفال ندرس فيها فروع الطب الباطني دفعة واحدة و نمتحن فيها دفعة واحدة دون تجزئة .. و رغم هذا الوصف المريع إلا أنني أحببت هذا الفرع من الطب، و تراودني نفسي أن أكمل ما بقي لي من حياة كطبيب متخصصًا فيه ..
على أية حال، فلم يكن هذا الحلم هو وحيد عصره، بل هو الثاني في سلسلة تألفت من ثلاثة أحلام، لست أذكر الكثير من أولاها، اللهم إلا مشهد كنت أرقد فيه على شريط السكة الحديدية منتظرًا قطارًا عملاقًا بحجم التيتانك كي يمر من فوقي، و لست أذكر من الثالث أكثر من أنني كنت أقاتل من أجل شيء ما، في مكان ما كأنه ساحة تدريب أوليمبية، مع وجود الكثير من المسوخ المزعجة، أما هذا الحلم، فأتذكره بالتفصيل ..
كنت أجري مستقبلاً ناصية شارعنا متوجهًا نحو بناية عظيمة تحتل الناصية بأكملها و حتى مسافة ثلاثين مترًا أو أكثر، يخرج منها دخان كثيف، أبيض ناصع البياض في الطوابق السفلى، و أسود فاحم السواد في الطوابق العليا .. أما هذه البناية التي تشتعل بهذا الحريق فهي على أرض الواقع ليست إلا أرضًا خرابًا استغلها صاحبها كمكان انتظار للسيارات، و بجوار هذه الأرض الخربة بناية صغيرة عتيقة من ثلاثة طوابق كان من المفترض أن يضمها صاحب الأرض إلى أرضه ليخرج علينا ببرج شاهق يسد عنا ما بقي من ماء و هواء، إلا أن هذا لم يحدث، و بقيت البناية كما هي؛ مسكنًا لعجوز متقاعد و مهندس يقضي أغلب وقته في أوروبا ..
انطلقت نحو البناية أريد معرفة سبب الحريق، و لست أدري ما الرابط الذي يوجد بين هذا المشهد و بين فيلم الرجل العنكبوت في جزئه الأول، الذي ينقذ فيه الرجل العنكبوت عددًا من الضحايا من مبنى اشتعل بنار عظيمة، الذي جعلني أشعر أن هذا المشهد في حلمي قد اقتطع من هذا الفيلم؛ فلا البناية كالبناية، و لا الشارع كالشارع، و لا أنا بكل تأكيد كالرجل العنكبوت ..
دفعت الباب الرئيس و دخلت، و انطلقت أنهب السلالم نهبًا، التي بدت لي لحظتها كتلك التي في البناية الحقيقية تمامًا، بذلك الطابع العتيق المنتمي لأربعينات القرن الماضي، حيث الدرجات الرخامية و "الدرابزين" المعدني الرفيع الذي يرتبط بدرجات السلم بقوائم معدنية رفيعة، تتخللها فراغات واسعة، تكشف من يعتلي السلم صاعدًا أو هابطًا .. انطلقت أنهب السلالم نهبًا، حتى بلغت الطابق الأول، لاصطدم بباب يبدو لمن خبر مثله أنه باب حجرة داخلية على الطراز العتيق الذي ينتمي إليه سلم البناية، فهو طويل يفوق الأمتار الثلاثة طولاً، و ضيق لا يتعدى المتر و ربع المتر عرضًا، و مزخرف بتلك الزخارف التي تجعلنا نقول في تعجب: "لقد كان أهل ذلك الزمان أناسًا مرتاحين بحق" .. طرقت الباب لأجد عجبًا ..
وجدت أمي و والدتها التي توفيت منذ عام، و جمع آخر من النسوة لا أعرفهن، يرتدين البياض بالكامل، من منبت الشعرإلى أخمص القدم، وجدتهن كلهن متحلقات حول تلفاز يبدو عتيقًا بحق، و قد انتبهن له بكل حواسهن، و كتلة خشب كأنها جذع شجرة ترقد في المنتصف يتصاعد منها دخان أبيض كثيف، هو ذلك الدخان الذي شاهدته يتصاعد من الطوابق السفلى للمبنى عندما كنت بالشارع .. سألتهن ماذا هنالك و ما خطب هذا الدخان، فأجابتني جدتي أنها تشعر بضيق في التنفس و لذلك أشعلت كتلة الخشب هذا ..
تراجعت، أو لربما كان الوصف الأدق هو أنني جريت مبتعدًا، تاركًا الباب مفتوحًا خلفي و قد عاود الجمع ما كنّ يفعلن، و راودني شعور قوي أنني ما كنت أتحدث إلا لنفر من الجن و العفاريت الذين سكنوا هذا المنزل و تلونوا بصورة أمي و جدتي، و هاته الجمع من النسوة، و الحق أن هذا الشعور منفردًا أصابني برعب شعرت به في انقباضة عضلات بطني عندما استيقظت ..
انطلقت إلى الطابق الثاني في محاولة لمعرفة مصدر الدخان المتصاعد من هذا الطابق، و في الطريق إلى باب الشقة الثانية تأكد شعوري أن المنزل مسكون و لا ريب، و هو ما جعل فكرة أنني محاصر و أنهم – ساكنو المنزل من الجن و العفاريت و مَن والاهم – قد يؤذونني تسيطر عليّ و تزيد رعبي و توتري أطنانًا، خاصة و أنك في عالم الحلم لا تلعب بقواعد محددة .. كل شيء مفتوح ..
وقفت أمام باب الشقة الذي انفتح، و لا أذكر هل لأنني فتحته أم هو انفتح من تلقاء ذاته، و داخلني شعور عجيب .. كنت أشعر كما لو أني أرى من خلال ماسحات زجاج السيارات، بحيث يكون إغلاق جفوني و فتحها كمرور الماسحات صعودًا و هبوطًا، و مع كل صعود و هبوط ينكشف أمامي جزء من المشهد الذي هو عبارة عن ساحة واسعة خالية تقريبًا، اكتشفت فيما بعد أنها الشيء الوحيد التي تحتويه الشقة بالإضافة إلى نافذة واسعة يقف فيها شخص ما بكل هدوء و شاعرية، بينما الدخان الأسود الفاحم يتصاعد كثيفًا لا من داخل الشقة، لكن - فيما يبدو - من "أمام" النافذة ..
مع كل صعود و هبوط ينكشف أمامي جزء من المشهد الذي هو عبارة عن ساحة واسعة خالية تقريبًا، على أرضيتها وجه كأنما دهسه قطار، فجعله كالجعين المسوّى .. يظهر لي مع كل إغلاق و فتح جزء من هذا الوجه و اكتشف أنه برغم حالته هذه ينظر إليّ بعينين ناريتين، ليتأكد داخلي شعوري السابق أنني محاصر داخل بيت تسكنه العفاريت ..
أتراجع في خوف يرقى بلا شك إلى مرتبة الهلع و الرعب، و أحاول الخروج بأي ثمن من هذا المبنى الملعون، لأستيقظ من النوم تسابقني دقات قلبي، و أحاول جاهدًا أن استجمع شتات نفسي لأقنعها أن ما سبق كان حلمًا، ليس أكثر ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق