أسعدني الحظ أن صاحبت جراحًا، هو صديق لوالدي، في بعض العمليات الجراحية التي يجريها و أثناء كشفه علي المرضي في المستشفي، كنوع من التدريب العملي بدلاً من أكوام الكلام النظري التي تُحشي بها أدمغتنا بلا أي فائدة .. و الحق أقول ان ما كنت أكتبه في جهاز ضغط و سماعة لا يعدو شيئًا أمام ما يحدث بالفعل ..
لست أجد أبلغ من ذلك الموقف الذي حدث، إذ اضطر الجراح لإلغاء أربع عمليات لسبب لا يمكن أن يحدث إلا في مستشفي حكومي مصري .. لا يوجد "رابسو" في المغسلة لتعقيم فرش العمليات ! .. أترك لكم التعليق ..
كم من مرة اضطر هذا الجراح أن يتحايل و يتحايل حتي لكأنه في فقرة الساحر في السيرك حتي يتم فتح خراج، أو استئصال كيس دهني أو .. أو .. أو ..
عادة ما تكون الأدوات ناقصة :
- عاوز جفت ..
- مفيش يا دكتور ..
- طب ماسك إبر ..
- برضه مفيش ..
و اضطر الجراح في النهاية أن يمسك الأنسجة التي كان سيخيطها بأصابعه بصورة لا تحدث و لا يمكن أن تحدث إلا ها هنا ..
و بعيدًا عن كل هذا، لأنني لو استرسلت فلن يكفيني مقال واحد و لو بلغ طوله عشرة أمتار، دعوني أحاول أن أفهم أو اتفهم لماذا يحدث ما يحدث .. المشكلة أن المستشفي التي يعمل فيها هذا الجراح ليست مجانية، بل إن المريض يقطع تذكرة علاج اقتصادي بثلاثة جنيهات و عشرة قروش - بالمناسبة .. نحن الدولة الوحيدة التي تبتدع نظام الفكة المعجزة هذا .. اشمعني عشر صاغ يعني ؟! - و يدفع عن كل خدمة طبية مبلغًا و قدره .. مثلا، فتح الخراج يتكلف سبعة و ثلاثين جنيًها .. الغيار علي الجرح يتكلف خمسة عشر جنيهًا و هو أقل الخدمات سعرًا .. أذكر أن خفيرًا نظاميًا جاء بابنته الصغيرة بخراج في جبهتها، و ليس من علاج سوي الفتح و التنظيف، و إذا به يكاد يصعق عندما اكتشف أن الفتح سيكلفه مهية أربعة أيام متصلة فما كان من الطبيب إلا أن قال: "لا شفناك و لا شفتنا و أن ما أعرفكش" و فتح لها الخراج "سكّيتي" دون مليم دفعه ..
المهم، أن المستشفي ليست مجانية حتي يقال إنها تعتمد علي الدولة اعتمادًا كليًا في ميزانيتها، بل هي تحصل جزءًا من هذه الميزانية من أموال الناس الذين يترددون علي المستشفي، فلم إذا هذه العفانة و الرداءة ؟
و إذا كانت رجل الحمار في المستشفيات الحكومية معروفة للجميع، فالطبيب تقريبًا يعتمدعلي مهاراته في العمل لا علي إمكانيات، فإن رجل الحمار في القطاع الخاص تبدو غريبة، فهي إما تتمثل في تضارب نتائج الفحوصات، أو زيفها، و أتحدث هنا تحديدًا عن المعامل و مراكز الأشعة .. نفس الشخص يجري نفس التحليل في نفس اليوم لتفاجيء أن هناك ثلاثة نتائج مختلفة من ثلاثة معامل .. تقارير الأشعة ليست بأفضل حالاً لكنها أخف وطأة من التحاليل المعملية، إذ يمكن للطبيب التأكد بنفسه من صحة التقرير من صورة الأشعة الموجودة معه ..
أذكر أن طبيبًا أجري عملية لاستئصال الحويصلة المرارية لمريضة، و بعد ما يقرب من سنة اشتكت من بطنها، فطلب منها أشعة بالموجات فوق الصوتية، فإذا بتقرير الأشعة يقول أن المرارة متضخمة قليلاً و بها بعض الحصوات، و لست أدري كيف رآها و قد أزالتها المريضة منذ عام كامل !
بالطبع ليست كل الأخطاء واردة في كل وقت، لكن المعدلات عالية بصورة تدعو للعجب .. إذا كان القطاع الحكومي متنيل علي عينه للأسباب التي نعرفها جميعًا، من سرقة و نهب و فساد ليس له حدود، فما هي المشكلة في القطاع الخاص ؟
هناك فوضي، ربما مردها في الأساس إلي أن التعليم الطبي في النازل منذ زمن، لكن السبب الرئيس في رأيي أنه لا أحد يشعر أن هذه البلد تستحق منه أن يبذل مجهودًا من أجلها، و هذا للأسف هو أسوأ ما في الأمر ..