كان النهار الذي سبق حلمي هذا قد شهد المرة الأولى التي أتجول فيها في مستشفى الشاطبي للأطفال متدربًا .. كنت أتفقد مع صديق لي الحالات المحجوزة، نسأل الأم عما حدث و كيف حدث، و نحاول أن ننمي حسنا الطبي و مهاراتنا العملية، و كان من نصيبنا أن نصطدم في أولى تجاربنا بحالة لطفل أصابته نوبة حادة من تكسر كرات الدم الحمراء، نتيجة تفاعل مناعي معين يُكوّن فيه الجهاز المناعي أجسامًا مضادة لكراته الحمراء، ما استلزم حجزه بالمستشفى ..
و بعيدًا عن الطفل و حالته، فإن ما رأيته ليلتها في منامي أثبت لي نظريتي القديمة لتفسير هذه الأحلام العجيبة التي أراها، و هي أن أحلامي ما هي إلا تفريغ للواقع الذي مررت به أو كنت شاهدًا عليه بصفة عامة، لكنه ليس "تفريغًا" فحسب، بل هو يعكس في الوقت ذاته عقلا باطنًا أشبه بطبق السلاطة، لا تستقيم فيه حقيقة أو يستوي فيه واقع، بل كلٌ مقلوب رأسًا على عقب، و ربما مقلوب بلا رأس و لا عقب .. على أية حال، فبعض الحالات القليلة جدًا تستثنى من هذا بالطبع، كتلك التي أوردتها في الحلم العاشر ..
بدأ الحلم بمشهد لا أذكر منه الآن تفاصيلاً كثيرة للأسف، لكنني أذكر مضمونه النهائي: هناك طفل نحن – و لست أدري من هم "نحن" هؤلاء، اللهم إلّاي – بحاجة إلى تأمينه و إنقاذه من مجموعة تحاول خطفه، لأن دمه يحمل أجسامًا مضادًا لفيروس خطير، و تلك المجموعة تحاول الحصول عليه للاستفادة منه، و الحصول عليه لن يكون إلا عن طريق "تصفية دم" الطفل كلية – و هي العملية القريبة إلى حد ما من أحد الطرق العلاجية المقترحة لحالة الطفل الذي شاهدته في المستشفى؛ إذ يجري تبديل دمه بدم آخر نقي من الأجسام المضادة، لإيقاف عملية التكسير المستمرة للدم .. كان الاجتماع حادًا بقدر ما أذكر، و كان هناك شخص ضخم الجثة عظيم المنكبين و الوجه أبيض الشعر يصرخ و يضرب بيده على المنضدة أن تأمين هذا الطفل "مسألة حياة أو موت" ..
تغير المشهد سريعًا لأجد نفسي بصحبة الأب الذي يحمل ابنه الرضيع نسير في شارع مظلم، فتقدمت الأب محاولاً التأكد من أن هذا المنعطف لا يحمل من يختبيء وراءه، و قد كنت محقًا .. برز لي على حين غرة شخص تعرفت عليه على الفور – لا أدري ألأنني رأيته من قبل، أم هو إحساس محض أنني أعرفه – فعدت أدراجي مسرعًا أحث الأب على الهرب، لأكتشف أنه يجري "بالتصوير البطيء" حرفيًا، فأخذت الطفل منه و انطلقت أنا أجري، لأكتشف أنه ليس الأب وحده يجري بالتصوير البطيء، بل كل مَن في المشهد باستثنائي ..
بلغت نهاية الشارع، لاكتشف أنني كنت بالقرب من منزلي منذ البداية، و أن هذا الشارع هو ذاته الذي كانت فيه مدرستي الابتدائية؛ إذ ببلوغي نهايته كنت أقف أمام كوبري كليوباترا حاملاً الطفل بين يدي، أختبيء من سيارة الإسعاف القادمة من بعيد بسرعة جنونية، و التي أدركت نتيجة لإحساس غامض أنها سيارة زائفة، ستتصنع حمل الطفل إلى المستشفى لتسلمه لتلك المجموعة فيما بعد ..
و لمن لا يعرفون المنطقة – و هم كُثر و لا شك – فإن كوبري كليوباترا يصل ما بين شارع أبي قير، وبين ميدان تتفرع منه عدة شوارع رئيسة، لعل أهمها شارع ألبرت الأول – الذي ينتهي عند المدينة الجامعية – و شارع توت عنخ آمون – الذي كنت فيه منذ لحظات – و شارع مصطفى كامل، حيث مقر نقابة الأطباء بالإسكندرية .. كنت أقف عند بداية شارع توت عنخ آمون عندما اختبأت من سيارة الإسعاف المسرعة، و اندفعت مسرعًا نحو مكتب تابع لهذه المجموعة التي أعمل معها من أجل تأمين الطفل – و المكتب على أرض الواقع هو مقر جمعية رسالة في الإسكندرية – أطلب تأشيرة "هروب" خارج البلاد من أجل تأمين الطفل بشكل كامل ..
لم أحصل على مبتغاي؛ إذ ظهرت مشكلة جواز سفري بني اللون الذي لا يصلح للهروب، بالإضافة إلى بعض المشاكل الأخرى التي لا أذكر منها شيئًا الآن، لكنني على أية حال استيقظت قبل أن أحلها جميعًا، أو حتى بعضًا منها، و يبدو – في النهاية – أنني لم أنجح في إنقاذ هذا الطفل المسكين ..