13.9.11

نفسي أطلع رقاصة !


لا بد أن العنوان قد صدمك – و ربما لم يفعل – و هو الشعور ذاته الذي انتابني عندما عشت هذا الموقف عندما كنت في الصف الرابع الإبتدائي .. كانت فتاة جديدة وفدت إلى مدرستنا و انضمت إلى فصلنا، و لم أكن أرتاح لها كثيرًا .. لم أكن اجتماعيًا – و لا زلت في الواقع – و كان من الصعب أن اتآلف بسرعة مع الغرباء – و لا زلت أيضًا – إلا أن هذا لم يكن وحده السبب وراء عدم ارتياحي لها .. كنت أشعر أن بها شيئًا مريبًا عجيبًا، حتى اسمها لم يكن مستساغًا بالنسبة لي – و أظنه كذلك حتى هذه اللحظة .. ميرام .. من أي جحيم أتى هذا الاسم ؟!

لنعد للموقف المعنيّ .. كنا ننتظر دورنا في طابور طويل ينتهي عند مُعلمتي إحسان – أنعم الله عليها ببركة العمر و حسن الخاتمة – كي نصحح التمرين اللغوي الذي أنهيناه للتو، و على حين غرة فوجئت بها و قد انتفخت أوداجها، و أحمر وجهها الأسمر، و جحظت عيناها و علا صوتها الذي كان عاليًا دومًا، و إذا بها تنظر بكل هذا التوعد و التهديد الكائن في ملامحها إلى هذه الميرام و تقول: "يا قليلة الأدب يا معفنة .. في بنت محترمة تقول كده ؟! في بنت محترمة تقول أنا عاوزة أبقى رقاصة ؟!"

أما ما حدث فهو أن جارتها عندما بلغها دورها في التصحيح وشت بما كان بينهما من حديث عن المستقبل، و الذي صدمتها فيه ميرام بهذا القول العجيب، الذي أورثني صدمة أضافت سببًا آخر فوق أسبابي كي أتوجس خيفة من هذه الفتاة ..

و لعلك تتساءل، لم أقص على مسامعك هذا الموقف ؟ أما الإجابة فستأتي لاحقًا في سياق هذا المقال، و لكن دعني قبلها أقص عليك موقفًا آخر ..

في حقيقة الأمر هو ليس موقفًا بالتحديد، بل عدة مواقف تدور حول سؤال رئيس: "نفسك تطلع إيه لما تكبر ؟!" .. و الحقيقة الدامغة التي لا نقاش فيها أنني قد التحقت بكلية الطب منذ خمس سنوات، و هو ما يعني أن "الفاس وقعت في الراس" و لربما وصلت إلى العَجُز، و هو ما يعني أيضًا أن إجابة هذا السؤال قد قيلت و قيلت حتى شبعت و شبع السامعون منها، لكنني أرى رغم هذا أن القطار لا يقف بالضرورة ها هنا ..

و أعنى بهذا القطار إجابة السؤال؛ فجسديًا أنا لم أصبح شيخًا بعد، و لا يزال بي بقية من قوة الشباب و عزمه، اللذين استهلك أغلبهما إرهاق النفس و الروح في مقاومة صنوف العذاب في هذه الدنيا، لكن المحصلة واحدة في النهاية، و هي أنه يمكنني اعتبار دراسة الطب محطة لا نهاية خط ..

و حقيقة الأمر أنني لم أر نفسي مطلقًا في ثوب الطبيب البشري، و كلما سألني أحدهم هذا السؤال في صغري فإن إجابة من ثلاث كانت تتراقص في ذهني ..

أما الأولى فهي مدرس لمادة التاريخ الفرعوني، أو باحث فيه، أنقب في الصحاري و استكشفها، ممنيًا نفسي باكتشاف كاكتشاف كارتر الأسطوري .. مقبرة كمقبرة توت عنخ آمون تُفتح على يديّ، رغم أنني لا أتحمل الحر كثيرًا أو قليلاً، حتى و إن كنت أفضله على البرودة، إلا أنه يظل خيارًا مدمرًا بالنسبة لي ..

و أما الثانية فهي مهندس إليكترونيات و مبرمج، رغم أن مرأى الأرقام يربكني، و ليس من شيء في الوجود يقلب كياني رأسًا على عقب كعلم الرياضيات، و ليس من شيء يشعرني بغبائي المستتر و الظاهر كالعمليات الحسابية على اختلاف ضروبها ..

و أما الثالثة فهي طبيب بيطري، رغم أنني كنت أخشى القطط كالموت حتى بلوغي السادسة تقريبًا، و لا زلت أخشى الكلاب ما صغر منها و ما كبر، و أخشى الاقتراب من الدجاج و الإوز و سائر الطيور حتى لا تنقرني بمنقارها، و أكره الاقتراب من البهائم ما كان منها على أربعة أو ما كان منها على اثنتين ..

و لا يعني هذا أنني أكتب هذا المقال أندب حظي العاثر الذي أوقعني في هذه الكلية المملة الهادمة للذات الروح و البدن، المدمرة لذكريات الماضي و أحلام المستقبل، بل على العكس تمامًا، فأنا أحب علم الطب و أراه كما رآه الشافعي يرحمه الله أنبل العلوم و أشرفها بعد علوم الشرع، لكن هذا لن يمنعني في الوقت نفسه أن أعلن أن كليتي الموقرة لا تنتمي بحال لا للكليات، و لا للطب، و من يقول بغير هذا فهو إما أعمى عمى لا شفاء منه أو متواطيء في تلك الجريمة النكراء التي تُرتكب في كل لحظة بحق عقولنا ..

على أية حال، فلعلك لاحظت أنني اخترت ثلاثة أشكال مختلفة للمستقبل، ليس لي فيها ناقة و لا جمل، و المؤهلات التي تطردني منها أكثر مما تشدني إليها، ثم إذا بي أختار الاختيار الرابع الذي لم يكن على اللائحة إطلاقًا، لارسم طريقي في الحياة به لأعوام مديدة قادمة، إن مد الله في عمري و خرجت منها سالمًا ..

و لربما فسر هذا لم أرى أن المحطة النهائية لم تحن بعد، و أن قطاري لم يبلغ نهاية طريقه حتى الآن، و لربما فسر هذا شعوري الدائم أنني لست أنا الذي يجب أن يكون، و أن "أنا" آخر ينتظرني في مكان ما لنتحد سويًا و نصبح "أنا" ثالثًا يفعل ما عجزت عنه و عجز عنه هذا الآخر ..

و لعلك لاحظت في الوقت ذاته – و هو أمر لا يحتاج نباهة في الواقع – أن الاختيارات الأربعة هي على النقيض تمامًا من أمنية ميرام التي افتتحت بها هذا المقال، و هذا يقودني للتساؤل الذي يشغل بالي حاليًا، من جملة ما يشغل بالي: أينا كان على صواب ؟

عندما سمعت تلك الكلمة من مُعلمتي مد الله في عمرها صُدمتُ صدمة حقيقية .. لم أتصور لحظتها أن أي شخص قد يتمنى لنفسه هذه المهنة المدمرة بكافة المقاييس، على المستوى الأخلاقي و الاجتماعي و النفسي .. دمار شامل .. لكنني عندما أنظر لاختيارها في هذه اللحظة الراهنة، بعد أن كسرتُ حاجز الثانية و العشرين أتساءل بصدق: أينا كان على صواب ؟

لربما كان اختيارها هذا – إن كان حقًا و صدقًا، و لست أظنه كذلك بالطبع – نابعًا من دراسة أشد عمقًا للواقع مما هي عليه دراستي، التي بنيت أركانها على عدد من المعطيات تتمثل في أن الدين و العلم و العمل هم الأساس، و أن ما بعدهم سيأتي حتمًا، بينما بنت هي دراستها على أن ما بعدهم يأتي قبلهم، ثم فليأتوا أو لا يأتوا، فالأمر سواء ..

لربما كانت تقرأ الواقع بصورة أفضل، و قد رأت أن الآية قد انقلبت فصارت اختياراتي الأربعة كهشيم تذروه الرياح، لا تكفل لمن اختارهم أي عيش كريم، بينما اختيارها يتهافت وراءه الناس رغم احتقارهم لمن يختارونه، في تناقض عجيب مريب .. لربما كان الأمر كذلك ..

لكنني على أية حال لا أصلح راقصة بالطبع، و في الوقت ذاته فإن المقابل الذكوري للراقصة لا يتفق معي بأية حال، و لا داعى للحديث عنه، فهو مخجل أيًا كانت درجة تلميحي إليه، حتى إنني كتبت توصيفه و مسحته ثلاث مرات قبل أن أقرر ألا أكتبه أو أدونه، و أي مهنة ذكورية خارجة على القانون – كي تتفق مع انحطاط مهنة الراقصة – لا تتفق مع إمكانياتي، لا الجسدية و لا النفسية، و لا تتفق مع طموحاتي في ترك بصمة مؤثرة بيضاء في تاريخ الكرة الأرضية ..

على أية حال، فإنني استخلص مما سبق حقيقتين أراهم جليتين؛ أما الأولى فهي أن الاختيارات التافهة قد تبدو هي الأقرب لفهم الواقع، و الأقرب لفهم من أين تؤكل الكتف إن شئنا الدقة، لكنها تظل في كل الأحوال اختيارات تافهة، لا تقدم و لا تؤخر، و لا تزيد و لا تنقص، و لا تترك خلف من اختارها إلا بصمة سوداء فاحم لونها لا تسر الناظرين بكل تأكيد ..

لربما كان اختيار ميرام هو الاختيار المؤدي مباشرة و دون حواجز إلى حياة رغدة كتلك التي ننشدها جميعًا، لكنها ستعيش و تموت كأنما هي هباء منثور لا يذكره أحد إلا بما لا يسر، و لربما كانت اختياراتي الأربعة مجتمعة – و غيرها – هي الاختيارات المؤدية مباشرة و دون حواجز إلى شظف العيش و صعوبته، و مكابدة ألوان التعب و الشقاء، لكنني في النهاية أراهن على الأثر على المدى البعيد، و هو رهان يبدو لكثيرين – و إلا لما انقلبت الآية من الأساس – رهانًا غبيًا خاسرًا ..

و أما الحقيقة الثانية فهي أن من اخترع لفظة "قطار الحياة" كان عبقريًا بحق، لكنه لم يكن دقيقًا بما يكفي؛ فالحياة ليس قطارًا يرتحل من محطة إلى أخرى حتى ينتهي بالقبر فيتكوم راكبه فيه، بلا سبيل للعودة للخلف، بل إن القطار نفسه هو المحطات .. كل عربة من عرباته العديدة هي مرحلة في حياتك، و بعدد ما في هذا القطار من عربات فحياتك ثرية أو فقيرة، و بقدر ما و من تحتويهم تلك العربات فحياتك ثرية أو فقيرة .. و كما أن تنقلك من عربة إلى أخرى هو أمر ميسور، فكذلك تنقلك من مرحلة لأخرى ذهابًا و عودة هو أمر ميسور .. ربما تترنح قليلا و ربما يستغرق منك الأمر بعض الوقت، لكن ما دام تنقلك يتم في إطار من العقلانية و المنطق فهو أمر ميسور .. بالطبع فإن وصول القطار إلى محطته الأخيرة هو الوصول الأول و الأخيرة، و لا سبيل للعودة منه إلا يوم نبعث، لكنني أتحدث عن الذهاب و العودة بينما نحن على هذه الأرض ..

ربما تحن في لحظة إلى يوم من أيام طفولتك البعيدة – حتى و إن كنت تراءها طفولة بائسة مثلي، لكن لها طعمًا مختلفًا لست تنكره رغم هذا .. ربما يتراءى لك أن تترك كل ما أنت فيه و تجرب شيئًا آخر .. لونًا آخر للحياة .. ربما و ربما و ربما .. كل الاحتمالات ممكنة طالما تراها كذلك .. لا تركن إلى عربة واحدة حتى تتجمد فيها، فهذا لن يضيف للعربة شيئًا، و سيأخذ منك الكثير ..

يموت من يرى أن ما هو فيه هو نهاية المطاف، و أنه قد وصل إلى المحطة التي سيظل فيها إلى أن يأخذه قطار حياته أخذًا حثيثًا إلى قبره .. يموت قبل أن يموت بكثير ..

على أية حال فإنني أعتذر منك إن كنت سببت لك صداعًا بلا طائل، فلست أراني قد قلت جديدًا بأية حال من الأحوال، اللهم إلا تشويهي لسمعة ميرام شر تشويه، و قذفها بكل شائنة تقريبًا، فإن قابلتها يومًا فأبلغها مني السلام و اعتذاري، و أخبرها أنني لم أكن أقصد، من وراء حديثي هذا كله، شرًا قط ..





هناك 5 تعليقات:

غير معرف يقول...

عندها حق
و أظن إنك عارف أنا مين
:D

SKOBL- Little Lazy Me يقول...

طب وحياة ميرام الكلام دخ زي الفل :)

Unknown يقول...

مقال رائع يا عبود .. وأحييك عليه .. لأني حالياً في حالة مشابهة .. بين اختيار ما يعتقده البعض نهاية المطاف .. واختيار العربات الأخرى :)

مقالك .. ساعدني جداً إني أؤكد قرارات منتظرة من زمن :)

Israà A. Youssuf يقول...

Chapeau :))

عبدالرحمن كمال يقول...

وهل انقطعت كل اتصالاتك بمرام ؟
لو معاك رقمها ياريت تبعتهولي انبوكس :D :D

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar