- 7 -
السيف الذي أتوا به ..
" في البدء كان الخواء الكوني السرمدي ..
الظلام الأبدي ..
الكامي ..
و منه خرج (إيزاناجي) و زوجته (إيزانامي)، اللذان خرج منهما الحكام الإلهيين ..
(أماتيراسو أوميكامي) .. العظيمة التي تحكم الشمس ..
(تسوكي يومي) .. العظيم الذي يحكم القمر ..
(سوزانوو) .. العظيم الذي بيده العواصف و بيده الأخري الأعاصير ..
و من (إيزانامي) العظيمة جاءت النار ..
و مع النار جاءوا ..
جاءوا من خلف الخواء الكوني السرمدي .. جاءوا من الظلام الأبدي الذي هو وراء السماء ..
كانت (أورتوخونا)، و كان (أوروتوا) .. ذات الأذنين الكبيرتين و الأصابع الأربعة، و ذو الأنف العريض و العين المستديرة .. بـ (إيزانامي) و (إيزاناجي) كانا شبيهين .. و في خوائهما كانا هما أصل الحياة ..
و لكن لأن عالمهما اضطرب و لم يعد صالحًا للمعيشة، فقد جابا الآفاق بحثًا عن وطن يسكنونه .. و في الأرض وجدوه .. و عند (إيزاناجي) و زوجته (إيزانامي) سكنوا و استقروا ..
و معهما جاء السيف ..
كان سيفًا خاصًا بـ (أوروتوا) الذي كان محاربًا عظيمًا .. و زوجته أوصي أن تهبه (إيزاناجي) بعد أن يستدرجه إله الموت حيث الكهف الأبدي أسفل الأرض ..
و لأن السيف هو سيف جبار، ليس كتلك السيوف التي تباع و تشتري، لم يتركه (أوروتوا) دون أن يأتمن عليه (إيزاناجي) ألا يعطيه إلا لمن يثق فيه من نسله، و جعل له طريقة و مذهبًا، و جعل لمن يريد أن ينضم لحملة السيف اختبارًا هو مار به، لا ريب، و إلا خذله السيف عندما يحتاجه بشدة ..
و من أب لابن .. و من ابن لحفيد .. و من حفيد لحفيده، تنقل السيف عبر الزمن، حتي وصل إلي (شو-هو-كاتونا) العظيم من نسل (إيزاناجي) و (إيزانامي)، الذي عرف عنه أسرارًا لم يعرفها أحد من قبله، و لن يعرفها إلا المختارون من بعده .. "
صمت (شيان)، و قد غرق أفراد البعثة في ذهول تام ..
" جاءوا من خلف الخواء الكوني السرمدي " .. أيعني هذا أن هذا السيف هو هبة فضائية .. ؟!
فكر (عبد العزيز) في هذا مليًّا، و لا بد أن هذا هو ما دار في خلد (جيف) و (هوتشي) بالتأكيد، إلا أن (شيان) لم يمنحهما الفرصة للتفكير فقد قال:
- قد عرفت طرفًا من خبر السيف .. لكنك إن نجوت لن تتذكره، و إن مت فقد مات معك كما مات مع غيرك ..
صمت مرة أخري ثم بدأ يتكلم:
- براعتك و مهاراتك أذنت لك أنت تتغلب علي ما سبق من شرور .. لكنك لم تتغلب علي شرك الأكبر .. شرك الذي تحمله بين طيات جسدك .. شرك الذي تتنفس به .. تأكل به .. تشرب به .. شرك الذي به ولدت، و به ستموت .. الشر الذي هو فيك و لن يهزمه غيرك .. إنها نفسك ..
ثم قال بصوت كهزيم الرعد:
- مواجهتك الأخيرة و الحاسمة تبدأ الآن ..
۩*۩*۩
ككل مرة شعر (عبد العزيز) كأنما يُسحب من مكانه ليقذف به في ساحة القتال، لكنه هذه المرة لم يسمع صرير باب .. لم يسمع زمجرة وحش .. لم ير وحشًا من الأساس ..
تلفت حوله في حذر .. " قد يكون وحشًا خفيًا .. " .. هكذا قال لنفسه، و هو يتسمع، علّه يسمع ما ينبهه لقدوم شيء ما ..
سمع صوتًا كأنما أتي من أعماق بئر .. انتبهت كل حواسه .. ركز أكثر، و حاول تبين الصوت ..
" (عبد العزيز) .. أنت هنا ؟ "
هذا الصوت .. اسمه .. هذا الصوت يعرفه جيدًا ..
بدأ يتلفت حوله كالمحموم محاولاً الوصول لمصدر الصوت، و إذا به يري من بعيد شبح إنسان قادم ..
شبح إنسان يعرفه ..
" أنت هنا دون أن تخبرني .. ؟ "
هذا الصوت .. هذه الصورة .. إنه .. إنها ..
" (سلمي) .. ماذا أتي بك هنا .. ؟ "
توقف الشبح عن الاقتراب - و كان قد أصبح علي بعد خطوات منه - و بدأ في الحديث:
- كيف تستقبلني هكذا .. ؟ .. ألست حبيبتك .. ؟ .. ألست خطيبتك .. ؟
كان الأمر فوق احتماله .. من أين أتت ؟ .. كيف دخلت التحدي ؟ .. و إذا كان مجرد صورة تخيلية، فمن أين عرف بأمرها (شيان) .. و كيف تحاوره بهذه الدقة ؟ .. كيف ؟
- ما الذي أتي بك هنا .. ؟
سألها في لهجة فظة، مبعثها دهشته الشديدة، فردت:
- لم هذا الجفاء ؟ .. لا بد أنها هي التي أوغرت صدرك من ناحيتي .. لم لا تتركها .. ألست أول حب ؟ .. أجبني ..
كاد يجن .. السيف في يده، و بضربة واحدة يزول هذا الشبح، لكن دهشته غلبت كل شعور لديه ..
- من أين أتيت يا (سلمي) .. ؟
- هي من فعلت بك هذا .. تركتَني من أجلها .. تركتَني و خنتَني .. و أنا التي ظننت أنك تحبني ..
إنه يقترب من حافة الجنون فعلاً .. إذا كانت هذه خدعة، فستكون أقسي خدعة تعرض لها في حياته ..
لوح بالسيف، و هم أن يضرب هذا الشبح لولا أن خانته يداه .. فصرخ فيها:
- اذهبي يا (سلمي) .. اذهبي قبل أن ارتكب ما سأندم عليه ..
- خائن .. خائن ..
و جري الشبح مبتعدًا ..
" لكنك لم تتغلب علي شرك الأكبر "
هل هذا هو شره الأكبر ؟ لحظات ضعفه الإنساني ؟
إذا كان هذا هو ما يقصده (شيان)، فقد ربح الجولة .. ربحها عن جدارة ..
" لكنك لم تتغلب علي شرك الأكبر "
وقف للحظات يلتقط أنفاسه، و صور سريعة تتابع في مخيلته، و حوارات عديدة يسمع صداها من أعماق ذاكرته ..
- أيها الغشاش .. أحببتك كما لم أحب أحد من قبل .. أحببتك كما لم يحب إنسانٌ إنسانًا آخر .. أحببتك و عشقتك و كنت مدلهة بك .. أيها الخائن .. بعد كل هذا الحب، و بعد كل هذه الكلمات المعسولة، تخونني مع أقرب الناس إليّ .. لم يا (عبد العزيز) .. لم ؟
نفض رأسه، و قد تنبه لصوت جديد كأنه قادم من أعماق كهف سحيق ..
و مرة أخري ميز في الصوت إنسانًا يعرفه ..
" (عبد العزيز) .. أنقذني .. سأغرق .. سأموت .. "
و أمام عينيه رأي والده في المشهد الذي ظل محفورًا في ذاكرته إلي الأبد ..
كان راكبًا معه سفينة متجهة إلي أحد موانيء أوروبا .. و في وسط العاصفة استنجد به ..
" (عبد العزيز) .. أنقذني .. أنقذني .. "
و رغمًا عنه انبطح (عبد العزيز) علي الأرضية السوداء، يحاول أن يمد يده لوالده، الذي كان يبتعد و يبتعد ..
- خذلته .. ضيّعته .. قتلته ..
رددها (عبد العزيز) بصدر يغلي، و هو يحاول أن يبعد شبح المشهد عن مخيلته، إلا أنه لم يستطع ..
- لم يكن من سبيل إلي انقاذه .. إما أن يموت هو وحده، أو نموت نحن الاثنان ..
" لكنك لم تتغلب علي شرك الأكبر "
لحظات ضعفه الإنساني، و أنانيته ..
" إنها نفسك "
شعر بأن الأرض تميد من تحته ..
نظر حوله فإذا أناس يجرون في كل مكان، و الأرض تهتز ..
و إذا بالمشهد كله يتغير لبحر مضطرب صاخب ..
و هو علي ظهر سفينة تشق عباب الماء تلطمها الأمواج ذات اليمين و ذات الشمال ..
ثم إذا به وسط مبني يحترق ..
كان يشعر بكل شيء من حوله مضطرب، و هو ممسك بالسيف لا يدري ماذا يفعل ..
مواجهة هذه المرة لا يصلح معها السيف .. إنها مواجهة أقسي من أقسي ما واجهه (عبد العزيز) ..
مواجهة مع نفسه ..
مع أخطائه ..
مع آثامه و شروره ..
" لكنك لم تتغلب علي شرك الأكبر "
نعم ..
نظر للسيف ..
نظر لصدره ..
نظر للسيف مرة أخري و رفعه ..
هوي به إلي صدره ..
لم ينغرز السيف في صدره، بل شعر بأنه يفتح عينيه، و أمامه مسخ مشوه ..
ضربه بالسيف .. مات، و قام غيره ..
ضربه بالسيف، فمات و قام غيره ..
ضربه بالسيف، فمات و قام غيره ..
" كفي "
صرخ بها و هو يلوح بالسيف يمنة و يسرة ..
" إذا كنتُ شيطانًا فليس منا من هو ملاك .. "
انتبه لنفسك يا (عبد العزيز) .. انتبه لنفسك ..
" كفي .. "
صرخ بها، ثم تحدث بصوت عال:
- كفي يا (شيان) .. إن كانت حرب أعصاب فما زلت بعقلي .. لم أجن .. و لن أجن ..
جاءه صوت (شيان):
- بصراخك أنت بالفعل قد جننت .. لم تتحمل أن تري ما فعلت من آثام يعود أمامك حيًا .. لكنك رغم كل ذلك نجوت ..
و مع كلمته الأخيرة توقفت كل تلك الهلاوس ..
تلك المسوخ، و تلك المشاهد الكارثية المتتابعة، و مشاهد الماضي السحيق التي عادت حية .. كل هذا اختفي ..
و من بعيد رأي شخصًا يتدثر برداء من قطعة واحدة يأتيه علي مهل .. كان هو (شيان) ..
علي بعد خطوات منه وقف و علي كتفه وضع يده، و بدأ يتكلم:
- أهنئك .. رغم كل شيء نجوت .. ربما لم تتغلب علي مخاوفك .. لم تتغلب بعد علي هذا الشر الكامن بداخلك .. لم تكبح جماحه بالشكل المطلوب، لكنك أوقفته عن حده عندما اعترفت بآثامك .. عندما اعترفت بأنك قد أخطئت بترك رفيقتك .. عندما اعترفت بأن كنت أنانيًا عندما تركت والدك للموت .. أوقفته عند حده، و إني لذلك أهنئك، و بذلك قد نجوت .. لكن السيف لن يكون معك ..
تسارعت دقات قلبه .. ماذا يعني هذا ؟
- لن يعود السيف معك .. فمن لم يغلب نفسه غلبته هي في أشد لحظاته احتياجًا للتوازن .. و محارب الشانو لا يمكن أن تغلبه نفسه .. و أنت كدت أن تقتل نفسك لما وجدت الماضي يحاصرك .. سيعود السيف حيث كان في مخبأه الأبدي إلي أن يجده غيرك .. و الآن عد من حيث جئت بأمان ..
و شعر الجميع كمن يهوي من حالق ..
۩*۩*۩
- 8 -
عد .. من حيث جئت ..
غربت الشمس، ململة معها آخر خيوطها الذهبية، لتشرق علي أرض أخري في جزء آخر من العالم ...
و مع غروبها أسدل الليل أستاره ...
و علي الرغم هدوء المكان القاتل، إلا أن ذلك لم يمنع هذا الشخص من الوقوف في شرفة ذلك المنزل المبني علي الطراز الياباني العتيق متأملاً الجبال التي أمامه ...
ثم تنهد ....
و مع تنهيدته سبح في ذكريات قديمة ...
تذكر يوم قال له رئيسه في هيئة اليونسكو أنه سيصبح رئيسا للبعثة (الفرنسية - اليابانية) التي دعت لها الهيئة بالاتفاق مع وزارة الثقافة اليابانية و جامعة السوربون، للبحث عن السيف ...
السيف الذهبي الأسطورة ...
و تذكر تلك الشهور الثلاثة عشر التي قضاها بين ذلك المنزل و تلك الجبال التي ينظر إليها ..
نظر للجبل متأملاً، و هو يشعر أن شيئًا غريبًا قد حدث، أو سيحدث له ..
" وقفت هكذا من قبل .. "
رددها في همس، فسمع صوتًا يرد:
- نفس الشعور ..
انتبه إلي أن صديقه الفرنسي واقف بجواره، فقال:
- هذا يعني أنني لست أهذي .. لكنني كفاقد الذاكرة .. لا أعرف أين متي كيف لماذا .. لا أدري ..
- كأنك تقرأ أفكاري .. كما لو كان الأمر رحلة قمنا بها ثم نسينا كل شيء فعلناه فيها ..
صمتا للحظات ثم قال:
- (عبد العزيز) ... أما زلت مصرًا علي البحث ؟
رد (عبد العزيز):
- نعم (جيف) ... ما زلت، ثم إننا لم ننته من كل الجبل .. ما زال هناك جزء من الجانب الشرقي للجبل ...
قلت هذا من قبل ..
و قبل أن يرد (جيف)، قال (عبد العزيز):
- ستقول: لكنني لن أحتمل هنا أكثر من أسبوع ... أريد العودة لـ(فرنسا) ...
نظر إليه (جيف) بذهول و سأل:
- كيف عرفت .. ؟
رد و هو ينظر إلي الجبل:
- قلت هذا من قبل .. وقفت هكذا من قبل .. لكن أين و متي ؟ .. لا أذكر ..
صمتا للحظات طالت، دخل خلالها ثالثهما الياباني يشاركهما الصمت، و أخيرًا قال (عبد العزيز):
- إذا لم نجد شيئاً في بحر أسبوع ... سنرجع .. و هذا وعد ..
ابتسم كلاهما ابتسامة لا تنم عن شعور معين قبل أن يكمل (هوتشي):
- أترانا سنجده .. أم نرجع خائبي الرجاء ؟
لم يجب أحدًا فأكمل (هوتشي):
- أم تراه فعلاً مجرد أسطورة .. ؟
و ظل الثلاثة علي صمتهم، يتأملون الجبل، و سؤال واحد يدور في عقولهم ..
تري هل سيجدونه .. ؟
هل سيجدون السيف الذهبي .. ؟
۩*۩*۩
تمت