3.4.10

شريان الحياة


هل كانت لحظة مفزعة ؟ .. الإجابة الدقيقة هي لا، فقد كانت مريعة، لا تدانيها – و لو أنه لم يختبر الثانية بعد – سوى سكرات الموت ..
في البداية حاول إقناع نفسه أن هناك خطأ ما، أو أن عطبًا قد ألمّ بالأجهزة فأصبحت تعطي نتائج مغلوطة .. أعاد كل الحسابات بالورقة و القلم كي يتأكد، و قد تأكد .. هذه هي بداية النهاية ..
نهاية الشمس .. و نهايتنا ..

***
مرصد القاسمية الجديد، المقام في عمق الصحراء الغربية على تبة اصطناعية عملاقة، كان عادة ما يجتمع أعضاؤه من الفلكيين و الراصدين عندما يخططون لرصد حدث فلكي مهم، أو بشكل دوري لمتابعة حملات الرصد التي ينظمها المرصد باستمرار، لكن أيًا من هذه الاجتماعات لم يكن بهذه السخونة، و هذه الكثافة ..
واصل يحيى – المتخصص في علوم الشمس – حديثه مشيرًا إلى الشاشة التي احتلت الجدار بأكمله تعرض مجموعة من الرسوم البيانية و صور التقطت للشمس منذ يوم واحد .. قال:
- و هكذا أيها السادة نجد أن القطر الاستوائي للشمس قد زاد بما يساوي 2.3% من قيمته الأصلية، و لو استمر على هذا المنوال كمعدل يومي، فلن يستمر الأمر أكثر من بضعة شهور حتى نجد أنفسنا قد شوينا أحياء ..
- و هل أنت متأكد من أن الأمر متعلق بمجالات الجاذبية النووية للشمس ؟ .. كان من الممكن أن نلاحظ انحرافًا في مسار الأرض أو أي من الكواكب الستة عشر المحيطة بنا ..
- في الواقع ..
قالها د. شهاب العلوي مدير المرصد قبل أن يتنحنح مكملاً:
- في الواقع فإن هذه المعلومات قد وصلتنا للتو من مرصد شرق كاليفورنيا من الولايات الغربية ..
ثم طرح مجموعته من الأوراق أمام الشاشة الموجودة خلف يحيى، فعرضتها مكبرة، و تابع:
- هناك زيادة في مدار الأرض بنسبة 0.15 % على كلا محوريه، و هو ما يعني أن الأمر يتعلق بمجالات الجاذبية الشمسية بشكل أو بآخر ..
تابع يحيى:
- الأمر الذي لا زلنا بحاجة للتأكد منه هو طبيعة هذا التغير .. هل هو مجرد نوبة عنيفة من الاضطرابات الكهرومغناطيسية كتلك التي شهدناها عام 2036، أم أنه السيناريو الأسوأ، و أن الشمس تتحول بالفعل إلى عملاق أحمر، و تفقد طاقتها ؟
سرت همهمة خفيفة في القاعة أوقفها أحد الفلكيين بنقرات من إصبعه قائلاً:
- دعونا نفترض الأسوأ، و أن الشمس تدنو من نهايتها و نهايتنا، و لو أن حساباتنا قالت و تقول أن الشمس لا زالت تحمل في نواتها من الهيدروجين ما يكفينا و يكفيها ملايين السنين .. عل كل ليس هذا وقت مناقشة الحسابات .. دعونا نفترض الأسوأ .. ما هي الحلول المتاحة أمامنا ؟
أجابه د. شهاب:
- هناك جملة من المشاريع التي وضعت كخطط احتياطية لمواجهة اضطرابات الشمس الحادة بعد الاضطراب الأعظم في 2036، لكنها كلها تعتمد على الاختباء في باطن الأرض، و هو المستحيل بعينه في حالتنا هذه .. تحول الشمس إلى عملاق أحمر سيجعلها تتمدد حتى تبتلعنا في جوفها، و لن يجدي الاختباء نفعًا .. الحلول الأخرى هي حلول مجنونة ..
- تحديدًا مشروعي شريان الحياة و الهروب الكبير ..
ضرب أحد الحضور بيده على سطح مائدة الاجتماعات قائلاً:
- قبل أن تتكلموا في أي شيء أنا اعترض تمامًا على مشروع شريان الحياة .. إذا كان مشروع الهروب الكبير مجنونًا، فشريان الحياة هو الجنون بعينه ..
قال يحيى:
- مشروع شريان الحياة يا فوزي طرح تحديدًا لمثل هذا الموقف، و أخشى ألا يكون سواه اختيارًا إذا استمرت الشمس في تمددها بهذا المعدل .. الهروب إلى المستعمرات القمرية و المريخية سيأخذ وقتًا لسنا نملك ترف الحصول عليه في الوقت الحالي ..
- و شريان الحياة غير مأمون العواقب .. لقد نجح في تجارب المحاكاة التي قمنا بها، لكن هل ينجح في الواقع ؟ ..
- نحن لم نلتفت إلى شيء مهم أيها السادة ..
ساد الصمت إثر هذه الجملة التي قالها خالد، أحد الفلكيين الجدد، و الذي شعر بالرهبة من هذا الصمت المفاجيء، لكنه تابع:
- إذا كانت قوة جاذبية الشمس تضعف، بحيث لم تعد قادرة على الاحتفاظ لا بغلافها الغازي، و لا بكواكبها، فهذا يعني أننا سنبتعد عنها بنفس مقدار اقترابها منا .. و هو ما يعني أن شيئًا لن يحدث أكثر من تحول الشمس إلى عملاق أحمر، و زيادة قطر مدارنا ..
- و هذا هو بيت القصيد يا خالد ..
أجابه أحد الفلكيين القدامى بالمرصد – محيي – الذي تابع:
- ستصبح السنة الأرضية ضعف عدد الأيام، و سيتغير طيف الشمس إلى الأحمر، محدثًا تغيرات بيئية غير متوقعة، ثم – و هذا هو الأخطر على الإطلاق – سينتهي الأمر بواحدة من اثنتين: إما أن تنكمش الشمس بعد ذلك إلى قزم أبيض، أو تنفجر كسوبر نوفا، و كلتا الحالتين ليستا محببتين إلى قلبي في الحقيقة ..
- إذًا لن يجدي الهروب نفعًا .. ما دامت الشمس في النهاية محكوم عليها إما بالتحول إلى قزم أبيض، فنعاني البرود المطلقة بعد السخونة المطلقة، أو ما هو أسوأ فتتحول إلى ثقب أسود، و إما الانفجار كسوبر نوفا، فلم نهرب ؟ .. سيكون الأمر أشبه بالمستجير من الرمضاء بالنار ..
تدخل د. شهاب قائلاً:
- يبدو حديثك رغم سوداويته يا خالد منطقيًا، لكننا لن نندب حظنا العاثر كالنساء و نقف مكتوفي الأيدي .. لا بد من حل ..
- إذا فلننفذ شريان الحياة .. يبدو الحل المنطقي الوحيد ..
- لا زلت أعترض ..
قالها فوزي محتدًا مرة أخرى، فقال يحيى:
- لنمسك العصا من المنتصف إذًا .. لن نقفز إلى الخيار الأصعب و نترك خيارات أقل صخبًا .. سننفذ مشروع الهروب الكبير و ننطلق إلى مستعمراتنا على المريخ، و بعد أن نؤمن من نستطيع تأمينهم من البشر، ننطلق في تنفيذ مشروع شريان الحياة .. يبدو أنه الحل الوحيد المتاح أمامنا ..
- اتفق معك .. لنصوت أيها السادة ..
قالها د. شهاب رافعًا يده، و لم يكن الأمر بحاجة فعلية إلى إجراء تصويت، فالقرار محسوم من البداية ..
- أمامنا الكثير من العمل .. فلندع الله أن يوفقنا ..
***
عندما اقترح هشام الوقاد – الفلكي الشاب حينذاك – منذ ثلاثين عامًا فكرة مشروع شريان الحياة، كانت فكرة مجنونة بحق وقتها – و لا زالت – لكنها كانت إجابة على سؤال طرحة أحد المحاضرين في المؤتمر السنوي السابع و العشرين بعد المائة لعلوم الفلك و الفضاء، و الذي عقد في مرصد القاسمية الجديد .. كان السؤال الذي طرحه عن رد فعل البشرية إزاء أحد النهايات المتوقعة للحياة على الأرض في حال تحولت الشمس لعملاق أحمر، نتيجة نضوب مخزونها من الهيدروجين و ما يترتب على ذلك من ضعف مجالات الجاذبية الشمسية، و هو ما يؤدي بالحتمية إلى هروب الغازات التي تشكل جسد الشمس، ما ينتج عنه تمددها و تعملقها .. إجابة المحاضر لم تزد عن "ندب" حظ البشرية العاثر و البكاء على اللبن المسكوب، دون تقديم أي حل فعلي ..
في تلك الفترة – بدايات 2103 – كان تنفيذ مشروع كهذا مستحيلاً، لكن أصبح ممكنًا مع مرور الوقت .. على أية حال، فقابلية هذا المشروع للتنفيذ لم تشفع له أن يكون هو الاختيار الأول، رغم الحاجة البالغة لتنفيذه ..
و رغم مرور يوم على الاجتماع الساخن الذي عقده مرصد القاسمية الجديد، عقد المرصد اجتماعًا آخر في اليوم التالي، لكنه كان بالاشتراك مع المراصد الكبرى في العالم: مرصد شرق كاليفورنيا في الولايات الغربية، و مرصد نان-تشانج التابع لحكومة شرق آسيا ..
لم يكن هناك الكثير ليقال، و لم يكن لأي من المرصدين الآخرين اقتراحات تضاف إلى ما اقترحه مرصد القاسمية الجديد، اللهم إلا تأكيد النتيجة الأولى بأن الشمس تفقد طاقتها، و أن سيناريو موت الشمس آخذ في الوقوع، و هكذا انتهى الاجتماع إلى التنسيق بين الأجهزة الحكومية المختلفة للبدء في تنفيذ مشروع الهروب الكبير ..
كان العمل يجري على قدم و ساق، و لو أن الآليين الذين تولوا مهمة نقل كافة كنوز البشرية المعرفية و العلمية و المادية لم يكونوا يمتلكون أي أقدام أو سيقان، لكنهم كانوا يعملون بجد على أية حال، و رغم إنجاز جزء كبير من عملية الانتقال، و تجهيز الأساطيل الفضائية التي ستتولى تلك العملية، إلا أن تطورًا خطيرًا أضيف إلى مسار المشروع بعد أسبوع من الاجتماع الأول، ما جعل المراصد الثلاثة تجتمع مرة أخرى ..
بدأ د. ستيفن من مرصد شرق كاليفورنيا الحديث قائلاً:
- يبدو أن معدل التمدد اليومي الذي حسبناه منذ سبعة أيام قد زاد من 2.3% إلى 5.77%، و هو الأمر الذي ينذر بأن عملية التحول تتسارع بما لا يعطينا الوقت الكافي لإتمام الانتقال ..
قال تينج-بان مدير مرصد نان-تشانج:
- أذكر أن الخطة المقترحة في الاجتماع السابق كانت تقتضي تنفيذ مشروع الهروب الكبير ثم مشروع شريان الحياة .. أليس كذلك ؟
أجابه يحيى:
- بلى .. لكنني أشك أننا سنجد الوقت الكافي لتنفيذ الخطة بهذا التتابع ..
- لذا أقترح أن نعمل في المشروعين في الوقت ذاته .. لقد تم تجهيز ستمائة سفينة عملاقة للسفر .. يمكنها الانطلاق، فيما يتم تجهيز السفن الألف و مائتين الباقين .. أظن أن هذا سيقلل الخسائر المحتلمة لو فشل مشروع شريان الحياة أو أتى بنتائج عكسية ..
أجابه د. ستيفن:
- أظن هذا .. لكننا بهذا نمارس عملية انتقائية بشعة ..
- أن ينتقي القدر بعضًا منا لينجوا، خير من أن يذهب بنا كلنا ..
ساد الصمت لحظة قطعها د. شهاب قائلاً:
- أنا موافق .. الوقت يمر و ليس من مجال للتباطؤ، لكنني أظن أننا بحاجة إلى سفينة دفع ثلاثي مصنوعة من سبيكة هرقل .. هذه لديكم يا د. ستيفن ..
- هل ستستعملون سفينة واحدة فحسب ؟ .. إن الشحنة المرسلة لن تكون كافية بهذه الصورة .. حسب الأرصاد و قياسات الطاقة، فإن الشمس بحاجة لما يساوي أربع سفن ..
- لا يمكننا المخاطرة بإرسال أربع سفن دفعة واحدة يا د. ستيفن .. المشروع لم تتم تجربته قط، و كل ما لدينا من نتائج هي نتائج تجارب المحاكاة .. سفينة واحدة لاختبار ما سيحدث، فإذا نجحنا انطلقنا بالثلاث الأخريات ..
قال تينج:
- د. شهاب على حق .. هذا بالإضافة لاحتمال حدوث تصدع في جسد السفينة قبل الاقتراب بمسافة كافية من الشمس، ما قد يؤدي لانفجارها .. تخيل معي انفجار ستين مليون مترًا مكعبًا من الهيدروجين .. هذا سيصنع شمسًا أخرى ..
- لكن سبيكة هرقل تم اختبارها بالفعل .. لو لم تضعف ذاكرتي، فسبيكة هرقل هي التي شكلت جسد السفينة "المستكشف" التي وصلت حتى وشاح الأرض ..
- د. ستيفن .. لا نريد أن نتشاجر .. أنت تتحدث عن وشاح الأرض، لكن ما نتحدث عنه الآن هو الشمس .. الأمر جد مختلف، و لا أظنك تجهل هذا ..
- حسنا .. و لو أنني واثق من نجاح الخطة، رغم جنونها ..
- كلنا نأمل هذا، لكننا لا نملك سوى الأمل ..
و كان هذا إيذانًا ببدء تنفيذ مشروع شريان الحياة جنبًا إلى جنب مع مشروع الهروب الكبير ..
***
فكرة المشروع المجنونة البسيطة في الوقت ذاته يمكن تلخيصها في الكلمات الثلاث التي وصفه بها هشام نفسه: إعادة شحن الشمس!
كان السيناريو المتوقع هو أن يقل مخزون الشمس من الهيدورجين، فيقل إنتاجها من الطاقة، و تبدأ سلسلة الأحداث المأساوية التي تنتهي بنهاية الحياة التي نعرفها على وجه الأرض، و كان اقتراح هشام العجيب هو إعادة شحن الشمس مرة أخرى بضخ كميات من الهيدروجين تكفيها على الأقل حتى نتدبر أمورنا، إذ يبدو أنه كان يدرك الطبيعة البشرية التي لم و لن تتغير، و التي تركن إلى السكون و الهدوء طالما كل الأمور على خير ما يرام، و أن البشر لن يتحركوا قبل أن تقع الكارثة ..
كيفية إرسال هذه الشحنة التي ستعيد الحياة للشمس ظلت هي اللغز و العقبة الكبرى في وجه المشروع، الذي ناضل هشام لوضعه على الخريطة، لكن سبيكة هرقل – التي ابتدعها مركز أبحاث المعادن في كيبيك عام 2112 – كانت هدية من السماء أنعشت الأمل داخل هشام، و جعلت من مشروعه شيئًا قابلاً للتنفيذ ..
كان السبيكة مؤلفة من الحديد المعالج بالتيتانيوم و الكربون، مع معدن اكتشف في العام الذي سبق خروج السبيكة إلى النور في أحد المناجم بجنوب المريخ، ما جعلهم يطلقون عليه اسم مارسيوم .. كان خليطًا قويًا إلى أبعد الحدود، و ليس أدل على ذلك من بقاءه سليمًا دون خدش حتى في تلك الرحلة التي صممت خصيصًا لاختبار هذا الخليط، و ذهبت فيها سفينة غير مأهولة في باطن الأرض حتى وصلت إلى الوشاح الأرضي، و خرجت سليمة ..
تمطأ يحيى، الذي أصبح مسئولاً عن التنفيذ يعاونه في ذلك طاقم من الفلكيين من مرصد القاسمية، و عدد من الفلكيين حول العالم .. تمطأ و هو يتابع اللمسات الأخيرة على المشروع، و يتأكد من كل صغيرة و كبيرة .. كانت السفينة ديجنتي ستحمل في جوفها خمسة عشر مليون مترًا مكعبًا من الهيدروجين، و هي ربع الكمية التي خرجت الحسابات بضرورة ضخها في نواة الشمس حتى تعود لسابق عهدها، و عندما تصل إلى نواة الشمس ستبدأ في مد عدد من الأنابيب المصنوعة من السبيكة ذاتها إلى داخل النواة ليندفع الهيدروجين مباشرة من جوفها إلى الشمس .. من المفترض أن يؤدي هذا إلى رفع نسبة إنتاج الطاقة الشمسية، و هو الأمر الذي من شأنه إيقاف عملية التحول إلى عملاق أحمر ..
- هل تظن أننا سننجح، أم أن الأمر كله ضرب من الخيال ؟
سأله مساعده فأجاب يحيى:
- لو أردت الحديث بلغة الأرقام و الحقائق، فإن خطأ حساباتنا في الماضي، و خطأ تقدير عمر الشمس لا يزال ماثلا أمامي، يضع احتمال أن نخطأ هذه المرة أيضًا نصب عيني .. لكننا بشر، و نتحدث بكثير من الأمل .. لنأمل أن ننجح، و لندع الله ألا يخذلنا ..
- اللهم آميـ ..
لم يستطع مساعد يحيى الوصول إلى نهاية الجملة، إذ انطلق صوت إنذار مدو و أشارت أحد شاشات الرصد التي تتابع السفينة في مستقرها الأخير قبل الانطلاق الذي يفصلها عنه عدة دقائق .. أشارت إلى حدوث تسرب في الغاز من إحدى خزانات السفينة، و على الفور تأهب الكل لمعالجة الموقف ..
لم ينتظر يحيى أن يبعث بأحد ليرى ماذا يحدث، بل ذهب بنفسه إلى القطاع المصاب، ليجد ما أصابه بالدهشة الشديدة، بل لا نكذب لو قلنا ألجمه عن الحركة للحظات ..
***
- ماذا تفعل .. هل جننت؟
- و هل تسمي هذا تعقلاً؟ .. إنه الجنون يرتدي ثوب العلم .. إنني أمنع الجنون ذاته من أن يقع ..
- أي جحيم هذا الذي تريد أن تلقينا فيه أيها المجنون ..
و بكل قوته انقض يحيى على فوزي، الذي نزع أحد الصمامات التي تحمي الهيدروجين داخل خزاناته في السفينة ديجنتي، كمحاولة منه لإفشال المشروع الذي يراه سيودي بالبشرية كلها إلى التهلكة ..
و رغم أن يحيى لم يكن ممن يمارسون الرياضة بشكل دوري، إلا أن ضخامته النسبية و الغضب المشتعل بداخله جعلا انقضاضته عنيفة للغاية، إلا أن فوزي لم يكن أيضًا بالخصم السهل .. نزع أحد صمامات الحماية يعني بنيانًا متينًا، فهذه الصمامات تحتاج رجلين آليين كي يتم تثبيتها ..
أمسك يحيى فوزي من رقبته و قذف به إلى الأرض بقوة و انقض عليه يحاول تثبيته، إلا أن الأخير لم يعطه أدنى فرصة لذلك، إذ تدحرج و قام عن سقطته و كال ليحيى لكمة ترنح لها، إلا أنه تمالك نفسه و استدار ليكمل القتال .. لكمة فالثانية فالرابعة فالعاشرة .. تبادل الاثنان اللكمات حتى تحول وجهيهما إلى عجينة زرقاء منتفخة، و الدماء تسيل من كل فتحات جسديهما، و في بادرة إعياء من يحيى انقض عليه فوزي قائلاً:
- ستهلكوننا أيها المخبولون .. هل كنت تظن أنني سأصمت؟
كانت لطمته قوية على وجه يحيى، لم يستطع أن يتفاداها، لكنه أُنقذ من لكمة أخرى عندما وجد فوزي يتصلب على حين غرة و يهوي عند قدميه مغشيًا عليه، ليجد مساعده بصحبة أحد الحرس الآليين و سهم مخدر مثبت في رقبة فوزي، فقال و هو يحاول الوقوف:
- خذه من هنا و أعيدوا كل شيء كما كان .. ليس لدينا اليوم بأكمله ..
و فيما حاول أن يمشي غير مترنح، ساعده الآلي على الوصول إلى غرفة التحكم، ليعاود متابعة الإطلاق ..
***
"لا بد أنه فقد عقله .. خسارة" .. ترددت هذه الكلمات في سريرة يحيى، و هو يشاهد فوزي من نافذة مركز الإطلاق يقتاده آلييْن إلى الاحتجاز، لكنه نفض كل هذا عن ذهنه، و تابع عن كثب مجموعة الآليين الذين يزيلون آخر دعامات السفينة، ثم انطلق صوت معدني يردد:
- السفينة ديجنتي جاهز للإطلاق .. الإطلاق خلال عشرة .. تسعة .. ثمانية .. سبعة ..
و استمر العد التنازلي و الجميع يتابع المؤشرات المختلفة على الشاشة، حتى ردد الصوت نفسه "إطلاق .. إطلاق"، لترتفع درجة الحرارة إلى معدلات لم تشهدها من قبل .. حرارة الجو و حرارة أجساد المتابعين لإطلاق السفينة ..
- كم من الوقت برأيك سيلزم السفينة هذه حتى تصل إلى نواة الشمس يا د. ستيفن ؟
- إنها ثلاثية الدفع، تعمل بالطاقة الاندماجية و البلازما و طاقة الوقود الحفري، و لن تتجاوز رحلتها على أقصى تقدير مائة و خمسين دقيقة ..
أومأ يحيى برأسه موافقًا ثم تنهد قائلاً:
- من كان يصدق .. نعيد شحن الشمس !
- لقد كانت، و لا زالت، فكرة مجنونة .. لنأمل أن تعمل بنجاح ..
و جلس الاثنان، يحيى و ستيفن، يتابعون عن كثب شريان الحياة الممدود من الأرض إلى الشمس ..
***
لم تكن تلك الدقائق المائة و الخمسون بأفضل ما مر على طاقم التشغيل، خصوصًا ذلك الطيار الذي جلس إلى مقعد محاكاة يوجه من خلاله السفينة في الفضاء السرمدي، و لو أن أحد الحضور كان مرشحًا للإصابة بارتفاع ضغط الدم أو الداء السكري، فلا بد أنه فعلها في تلك اللحظات ..
أعلنت الشاشات أن الاصطدام بسطح الشمس بات وشيكًا، و إن هي إلا لحظات حتى يقع، فقام الفلكيون الثلاثة – د. شهاب و د. ستيفن و يحيى – عن مقاعدهم يتابعون عن كثب المعدلات و المؤشرات الحيوية للسفينة ..
- ما هي أخبار الدرع الواقي ؟
- نسبة التحمل 97% .. ما زلنا في الحدود الآمنة ..
- و آلية الضخ ؟
- تعمل بكفاءة .. الأنابيب خالية من العوائق، و صندوق الإطلاق محتفظ بمرونته ..
- و الخزانات ..
- جميعها مغـ ..
لم يكمل الفني جملته، ما رفع حدة التوتر لدي الثلاثة، و اندفع يحيى يسأله:
- ماذا بها بالضبط .. لا تخبرني أن بها تسربًا أو أن أحد الخزانات لا يستطيع إفراغ شحنته ..
- مع الأسف فهذا الصمام الذي تم فكه قبل الإقلاع أصابه العطب، و هناك تسرب من الخزان السابع، لكنني أحاول عزله ..
انتحى د. ستيفن بيحيى و قال:
- ماذا يعني هذا يا يحيى .. ألم تتأكد بنفسك من هذه الصمامات؟
- على الأرض .. أما درجات الحرارة المرتفعة هنا على سطح الشمس، فيبدو أن الصمام لم يتحملها ..
- و هل تقول هذا الآن؟
- و هل كنت أعرف ..
ثم التفت إلى الفني و قال:
- اعزل هذا الخزان و تخطه في سلسلة التفريغ ..
لم يكد ينهي جملته حتى قال الطيار:
- الوصول إلى موقع التفريغ سيتم خلال سبعة عشر ثانية ... استعدوا أيها السادة ..
تأهب الكل، و البعض أصبح غارقًا في عرق التوتر و القلق، و إن هي إلا لحظات حتى قال الطيار:
- السفينة في موقع الضخ .. فلتعمل آليات التفريغ ..
أشار يحيى للفني المسئول عن الخزانات بأن يتابع عملية العزل، و أشار لآخر أن يبدأ الضخ على الفور .. كان هذا الخزان المسرّب يشكل غصة في الحلق، فهو يعني ببساطة فقدان نصف مليون متر مكعب من الهيدروجين، و هذا ليس بالشيء السهل .. كل هذا، بالإضافة إلى الاحتمال الذي لم يتحقق، و هو أن يتسبب هذا التسرب في انفجار السفينة نتيجة اشتعال الخزان وسط كل هذا اللهب، لكن الله سلّم ..
و هناك، داخل الشمس، كانت السفينة ديجنتي تستقر في موقعها المحدد لها، ليظهر أسفلها تجويف برزت من خلاله مجموعة من الأنابيب التي تحركت في بطء، و لكن بثبات، نحو نواة الشمس لتبدأ ضخ الهيدروجين مباشرة فيها ..
و رغم أن الأمور كانت تسير على ما يرام، إلا أن هذا لم يمنع القلق و التوتر أن يعصف بطاقم التشغيل، خصوصًا يحيى الذي أخذ يدعو الله و يتمتم ببعض آيات القرآن الكريم، في محاولة لتهدئة نفسه ..
التفت يحيى إلى الفني المسئول عن متابعة الهيكل، و سأله:
- الدرع و الخزانات؟
- الدرع لا زال يعمل بكفاءة .. نسبة التحمل انخفضت إلى 96.4% لكننا لا زلنا في الحدود الآمنة، و الخزانات تفرغ الآن بمعدل خزان كل دقيقتين ..
صمت لحظة ثم أضاف:
- تم تفريغ الخزان الأول و حتى الرابع .. الخامس يجري تفريغه الآن ..
التفت إلى أحد الفلكيين الذين كانوا يرصدون الشمس من أجل التيقن من نجاح المشروع و سأله:
- هل من جديد؟
- لا زالت كمية الهيدروجين الذي تم ضخه أقل من العتبة الفارقة .. السفينة كلها أقل من العتبة الفارقة .. لن نحصل على نتائج قبل أن تتم عملية الضخ كاملة ..
و أخذت الدقائق تمر، و خزان تلو الآخر يفرغ ما بداخله .. تسعة و عشرون خزانًا بدا و كأنها ستمكث الدهر بأكمله، لكن لحظة النهاية جاءت، و أعلن فني الهيكل:
- تم تفريغ آخر الخزانات، باستئناء الخزان السابع ..
- و السفينة؟
- تعاني بعض المشكلات .. الهيدروجين كان يوازن الضغط حولها .. سأندهش لو رجعت سليمة ..
- أيها السادة ..
خرجت من حلق فلكي الرصد الشمسي كالطلقة، فالتفت إليه الجميع و قد صمتوا تمامًا مترقبين ما سيقول:
- لقد نجحنا .. القطر يتناقص بمقدار 0.25% عن آخر قياس له، و إنتاج الطاقة ارتفع بنسبة 1.28% و هو في ازدياد مستمر .. لقد نجحنا .. نجحنا ..
و وسط صيحات الفرح و السرور، التفت يحيى إلى مساعده و قال:
- جهز السفن ديجنتي 2 و 3 و 4 للانطلاق .. هناك شمس بالأعلى لننقذها و نمد لها شريان الحياة ..
***
تمت بحمد الله

25.2.10

الوصايا الألف .. العشرة الخامسة

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الواحدة و الأربعون: احم نفسك بحسن ظنك بالآخرين
الوصية الثانية و الأربعون: لا تجر وراء شي فاتك من متاع الدنيا، فهو بين أمرين .. إما أن يأتيك في وقته، و إما أنه ليس مقدرًا لك من الأصل
الوصية الثالثة و
الأربعون: لا تنظر إلى ما في يد غيرك، فتفقد ما في يديك
الوصية الرابعة و الأربعون: رحم الله رجلا عرف قدر نفسه، فلا هو كلفها ما لا تطيق، و لا أذلها بسفيه الأمور
الوصية الخامسة و الأربعون: إذا لم تستطع أن تتقن عملك، فخير للجميع ألا تزاوله
الوصية السادسة و الأربعون: كلما أفرطت في استخدام القوة، كلما ازداد يقين الناس أنك الأضعف
الوصية السابعة و الأربعون: رفقًا بنفسك، فكما تفعل في الناس يُفعل بك
الوصية الثامنة و الأربعون: لا تنه الناس عن شيء و تفعله، فإن كان باطلاً فالأحق أن تتركه، و إن كان حقًا فالأحق ألا يتركوه
الوصية التاسعة و الأربعون: من ارتدى جلد غيره فلا يأسفنّ إن صار عريانًا
الوصية الخمسون: ليس المهم أن تقول الشيء الصحيح، بل المهم أن تقوله بطريقة صحيحة و مناسبة

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

18.2.10

فازوع كوبسة


خير اللهم اجعله خير .... وانا نائم بعد يوم طويل من الملل الروتيني الاقي نفسي وسط مجموع من الجنود وبنمثل لعبة
House of dead بس الجزء رقم الش ....ما علينا انا كنت بقود الهجوم واذا بكائنات غريبة الشكل والملامح تهجم علينا فحاولت الفرار (معلش بقى هتقولوا جبان ...جبان ياعم بس اعيش وزي ماقال سيد شيبة الله يرحمه ياروح ما بعدك روووح) ولكن فوجئت اني داخل نفق غريب والمخرج الوحيد عبارة عن سلالم مين غير درجات سلم يعني زحليئة .. ما حولتش افكر واقعد اطلع اطلع لحد الحملله وصلت للسطح انا واللي معايا وشوية لاقيت وحش كبييييييييييير ( صِوْب ) مش باين منه اي ملامح بس على ما اتذكره ان كان راسه اد جسمه المهم ماعرفش لييييه كان شايل مني بالذات لاقيته بيجري ورايا بشكل مستفز المهم ماكدبدش خبر وقلت يا فكيك و مالاقتش حل غير اني اقفز في النفق اهو ارحم منه برده وخد النفق زحاليق لحد ماوصلت لتحت لاقيت كانلت تانية غريبة عملت فيها جيمس بوند واعد اتنط عليهم ولا كأني في مراجيح مرجان بس فجاة اتكثروا على بصراحة انا خفت على شرفي وفي اللحظة الحاسمة ................ لاقيت ماما بتقولي انت مش نازل انهاردة وقمت مسكت فيها لحد مادركت اني كنت في مغامرات عقلة الاسبع والحمدلله عدت على خير .............................. سلام

7.2.10

ديجافو-محمد رمضان على تيت راديو




حتى لا تصبح حياتنا قوالب مكررة وممسوخة..اخبط دى.. أُذيع على تيت راديو

3.2.10

بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل الثامن

الفصل الثامن – جولة جديدة

- نعم يا .. أمك ... أنت حتستعبط ياض ..
و ألحق محمود جملته بقبضته التي هبطت قوية على سطح مكتبه، فيما تراجع المتهم الماثل أمامه من الرعب و هو يتمتم:
- و ربنا يا باشا ... و ربنا ما أعرف .. أنا بس اللي حيجبرني ع البهدلة دي و أنا متنيل عارف .. ما كنت حأقول يا باشا ..
مسح محمود وجهه براحة يده ضيقًا و زفر قائلاً:
- أقولك على حاجة .. أنا حأريحك خالص ..
ثم قام من جلسته و توجه ناحية المتهم الذي امتزجت مشاعر الراحة بالتوجس داخله فانطبعت على وجهه في صورة تعبير توتر و ترقب يزداد شيئًا فشيئًا كلما اقترب منه محمود، الذي قال في النهاية بهدوء مستفز:
- أنت تشرفنا ليلة هنا هو، و بعون الله ثم بعون زملاتك في الحجز حتفتكر يا ....
ثم رفع صوته:
- يا شاويش .. خده ع الحجز ..
و زفر ضيقًا و همًا فيما واصل المتهم توسلاته و رجاءاته، و ما أن جلس حتى أتاه الشاويش محييًا التحية العسكرية قائلاً:
- أستاذ جمال عبد الغفار يا أفندم ..
- دخله و هات واحد مظبوط بسرعة ..
و فيما انصرف الشاويش، قام ليرحب بجمال الذي ابتدره قائلاً بابتسامة:
- أنت يا بني مش حتبطل بهدلة ف خلق الله .. ماله الغلبان ده ؟
- ما تشغلش بالك .. واحد من المعفنين اللي ماليين البلد و ما خلّوش لولاد الحلال حاجة ..
ثم اعتدل في جلسته و قال:
- بس إيه المفاجأة الحلوة دي .. جنحة و لا جناية المرة دي ؟
- لو تمت حتبقى جناية .. ربنا يستر ..
- فارس ؟
أومأ جمال برأسه إيجابا فتابع محمود:
- عملتوا إيه ف المحضر .. أنا اتصلت بالمأمور عرفت منه إنه قام بالواجب و زيادة ..
- فارس ما اتهمش حد، و لو إن الكلام على اللي بيكتب عنه اليومين دول في الدستور ..
- ما تقول له يخف اللون .. أنا قلت له، بس هو دماغه ناشفة ..
أشعل سيجارة ثم تابع:
- أدخل ع الفيس ألاقيه كاتب لي لو قلت ما تخافش و مش ما تخافش .. الواد دا بيعمل كده ليه ؟
- مش دي القضية دلوقتي .. القضية ..
قطع حديثه دخول الساعي حاملاً القهوة، ثم تابع بعد خروجه:
- القضية إن إحنا محتاجين نرخص له سلاح .. أظن ما فيهاش مشكلة دي ..
- لا طبعًا .. في تهديد بالقتل، و محضر رسمي .. مفيش مشكلة خالص ..
- طب كارت كوسة صغير بقى، علشان ننجز ..
انفجر محمود ضاحكًا، ما دفع جمال للضحك أيضًا، رغم أنه لم يستشعر شيئًا يضحك فيما قال، ما دفعه للسؤال:
- إيش يا ولد ؟ مالك سخسخت كده ليه ؟
- أصلك استخدمت تعبير نكتة قوي .. المهم .. خد يا سيدي ..
و أخرج من جيبه بطاقة خط فيها بعض الكلمات و أعطاها إياه قائلاً:
- تروحوا بيها للعقيد كريم الصالحي في إدارة الأمن الجنائي و أدي له الكارت ده .. الراجل حبيبي من أيام الجيزة ..
أخذ جمال البطاقة معقبًا:
- ماشي يا سيدي .. ألا حماك عامل إيه ؟
- الحمد لله .. أزمة و عدت، و لو إنه لسه بيتوه مننا ساعات كده ..
أطفأ السيجارة ثم تابع:
- و أنت والدك أخباره إيه ؟ .. و عملت إيه في الولية بت الإيه اللي خبطته دي ؟
- هو كويس الحمدلله .. يوم الخميس بعد بكره فاروق حيعمل له العملية و تبقى كل حاجة تمام ..
- و المحضر ؟
- اتعاملت بكل أدب .. ليلة في الحجز و الصبح اتنازلت .. بس أدبت بت الرفضي دي ..
ثم قام مودعًا محمود:
- ما أعطلكش أنا بقى، و بالمرة ألحق أعدي على إسماعيل قبل ما أروّح .. سلام ..
- ما تخليك قاعد يا راجل .. دا القهوة لسه بحالها ..
- بحالها مين .. دا ما فاضلش إلا التفل .. سلام ..
و انصرف فيما شيعه محمود بتحياته، ليعود بعدها للعمل متمتمًا بأشياء متفرقة عن "الدماغ الناشفة" ..
***
أوقفت إسراء سيارتها و شرعت في إجراء مناورات "الركنة" التي جعلتها تدرك و هي تتعلم قيادة السيارات أن مثل هذا الفن لم يخلق لبنات جنسها .. هي لم ترد السيارة و لا تعلم قيادة السيارات، لكن المضطر يركب الصعب .. تشعر في كل لحظة أن شيئًا ما شنيعًا سيحدث .. أي شيء، و لو لم يحدث فهي تتوقعه على الدوام و تنتظره ..
في بعض الأحيان تجلس في شرفة المنزل تتطلع إلى شارع سوريا الواسع المفضي مباشرة إلى طريق البحر تتأمل السيارات، و المناورات التي يصنعها السائقون بسياراتهم .. في كل لحظة تمر تشعر أنها ترتكب ذنبًا لا يغتفر بقيادتها لسيارتها في مثل هذه الطرق .. هي لا تجيد القيادة من ناحية، و من ناحية أخرى فالسائقون يجلسون إلى مقاود سياراتهم كمن يجلس إلى لعبة سباق سيارات .. البقاء للأسرع، و هي لا تستطيع مجاراة ذلك ..
- ماما .. من شان شو اتوقفنا ؟
- حننزل نجيب شوية حاجات للبيت و نرجع ..
- بس "يوجي" عم يفوتني هيك ..
- ما تخافش .. حنرجع قبليه، و بعدين أنا موصية بابا مخصوص يسجله لك .. يالا ..
اثنتا عشرة عامًا خارج مصر جعلتها "كالخواجاية" .. لم تتأقلم بعد على الشراء من السوق مباشرة، و تفضل عليه – حتى حين – السوبر ماركت و المجمعات التجارية .. هنا السعر ثابت و لا حاجة لك للمساومة .. السعر ثابت و معقول و الجودة تجعلك لا تشعر أنك خدعت .. عندما ذهبت للسوق أول مرة بعد العودة من سوريا شعرت كأنها في غابة، و أن ما يحدث ليس له علاقة بنشاط البيع و الشراء بل بنشاط السرقة .. لا السعر يناسب الجودة، و لا الجودة أو التعامل يتناسبان و بني آدم ..
اثتنا عشرة عامًا في الخارج أفقدتها القدرة المصرية المتأصلة في كل واحد منا على المساومة و "تطليع عين البيّاع" قبل الشراء، لذا فالمجمعات التجارية هي الاختيار الأفضل حتى يأذن الله ..
انطلقت تنتقي من البضائع ما تحتاج، محاولةً تجاوز إلحاح شمس المتواصل بشراء هذه أو تلك .. السيطرة على عفريت كهذا كانت و ما تزال مأساة بالنسبة لها .. هو وحيدها، لذا فحنانها كله منصب عليه بحكم قوانين الرياضيات .. الحنان يوزع بالتساوي بين الأبناء، فإن لم يكن لديها غير هذا، فحنانها كله له .. لكنها في الوقت نفسه تدرك عواقب التدليل الزائد .. تحاول أن توازن بين هذا و ذاك، و تتعامل معه بشيء من الحزم الممتزج باللين و اللين المختلط بالحزم، لكنها كثيرًا ما ترى نفسها عاجزة ..
عاجزة ليس لأنها عاجزة .. عملها كمعلمة يجعلها تعرف كيف تتحكم في الأطفال، لكنها تشعر بالعجز لأنها وحدها من تواجه هذا الموقف .. زوجها مشغول حتى الثمالة في توطيد دعائمه هنا في مصر، و الخروج سالمًا من مشاكله التي ورثها عن أبيه في سوريا، و هي لا تلومه لانشغاله و لا تتضجر منه، لكنها في الوقت نفسه تتمنى لو لم يكن هذا حالها ..
عندما تزوجته منذ ست سنوات لم تكن تدري أن حياته معقدة إلى هذه الدرجة .. انقسامات عائلية، و مشاكل مع السلطة السورية، و حظ عاثر بطريقة تدعو للعجب .. من الغريب حقًا أنها أحبته، و ما زالت تحبه رغم كل هذا، و لربما هي تحبه لكل هذا .. تشعر معه بأن هناك أهدافًا أخرى بالإضافة للإنجاب و تربية الأولاد و كل هذه الأهداف التقليدية للزواج ..
انتظرت دورها أمام الخزينة، و هي تحاول تهدئة شمس ببعض العبارات التي لا تجدي – للأسف – معه نفعًا، ما جعلها تفكر في صلابة رأسه و من أين ورثها .. أمنها أم من أبيه ؟ .. أغلب الظن منها، فبفضلها طلقت من زوجها الأول، لكنه كان – على أية حال – لا يطاق ..
نفضت ذكراه من عقلها، و هي تستعيد الباقي مما دفعت ثمنًا للأشياء القليلة التي اشترتها .. نظرت إلى الحقيبتين البلاستيكيتين اللتين خرجت بهما في عجب، إذ لم تتصور أن يسوء الحال إلى هذه الدرجة .. بعض من المنتجات الألبان و بعض الأرغفة و قليل من الأطعمة المحفوظة، و المقابل ما يساوي نصف راتبها قبل أن تسافر ..
تذكرت أول عطلة نزلت فيها إلى مصر، و قد كانت بعد عامين متصلين في سوريا، و كيف شعرت وقتها أنها غادرت البلاد منذ ألف سنة أو تزيد، فالتطورات سواء كانت بالسلب أو بالإيجاب كانت كثيرة و كبيرة، و لو أن ما كان منها بالسلب كان أكثر .. الآن هي تشعر الشعور ذاته، إن لم يكن مضاعفًا ..
وضعت قدمها على دواسة الوقود بعد أن تأكدت من ربط حزامي الأمان، لتبدأ معركة جديدة على الأسفلت ..
***
فرقع زكريا أصابعه و رقبته و ظهره، في محاولة منه لفك التبيس الذي حل بعضلات جسده من طول الجلسة خلف المكتب لما يزيد عن خمسة و أربعين دقيقة، يحاول فيها شرح ما لا يُشرح لأحد المرضى .. زفر في ضيق، و قد جعله هذا المريض يفكر في أصناف المرضى الذين يتعامل معهم، هنا أو في المستشفى الميري ..
هناك المريض المستسلم، و هذا يريد أن يفهم ماذا أصابه، ماذا ستفعل، و بعد ذلك هو لك .. هناك المريض المزعج، و هؤلاء يتعددون حسب التخصص .. البعض يتخصص في الأمور المالية، فلا ينفك يساومك على أجرك كما لو كان يبيعك سلعة ما، و هناك من يتخصص في الأمور الفنية، فلا يتركك إلا و قد قررت أن تترك المهنة من كثرة ما سألك في تفاصيل التفاصيل، و كأنه قد انتوى أن يخرج من عندك طبيبًا .. البعض يتخصص في "خدمة ما بعد الخدمة"، فلا يتركك ليلاً أو نهارًا، و يعتبر هاتفك المحمول ملكًا له، قد أقطعته إياه يوم أعطيته رقمك .. أسئلة و استفسارات بالليل و النهار، و كأنك ما خلقت و لا تطببت إلا من أجله ..
البعض، و هؤلاء هم الأشنع على الإطلاق، مزعجون بالجملة .. يحترف و يجمع بين عدة فنون من الإزعاج، فيجعل من مداواته جحيمًا لا يطاق .. هناك المرضى العصابيون الموسوسون، الذين يشمون رائحة المؤامرة في كل إجراء تتخذه، و غالبة ما تكون المؤامرة المزعومة على جيوبهم المسكينة ..
زفر شاعرًا أن متابعة حالة هذا المريض المسن الذي خرج لتوه ستكون واحدة من لعنات الطب التي ستلازمه لفترة ما، و أن الشيء الوحيد الذي يجبره على تقبله هو أنه عاهد نفسه يومًا أن يكون لطيفًا ودودًا مع أي مريض أيًا كان، حتى لا يكون سببًا في مزيد من الألم لهؤلاء المساكين ..
- اللي بعده يا حنفي ..
- الآنسة سارة الهواري يا دكتور ..
و كأنما ألقى بدلو ماء بارد في وجهه، شعر زكريا بشيء من عدم الاتزان .. ما زالت تثير في نفسه شعورًا مبهمًا أنه ارتكب ذنبًا شنيعًا و جرمًا لا يغتفر، و أنها في أي لحظة قد تستدعي هذا الموقف و تتعامل معه وفقًا له ..
- خمس دقايق و دخلها ..
و هي الحيلة التي استعملها المرة السابقة حتى يستجمع شتات أمره الذي لا يدري حقًا لم تبعثر، رغم أنها لم تفلح تمامًا فيما سبق .. على أية حال، فالدقائق الخمس لن تدوم دهرًا، و لا بد من المواجهة في النهاية:
- السلام عليكم يا دكتور .. إزاي حضرتك ؟
- الحمد لله بخير .. إزاي الوالدة، أخبارها إيه ؟
- لسه الحال على ما هو عليه .. ألا بالحق يا دكتور زكريا ..
ثم اعتدلت في جلستها و وضعت صور الأشعة و التقارير الطبية على المكتب أمامه و أكملت:
- إحنا كنا بنسأل كده و إحنا بنعمل التحاليل و الأشعات، و دكتور القلب اللي عمل الإيكو لماما قال لها إنها احتمال تحتاج عملية مش مجرد قسطرة .. صحيح الكلام ده ؟
ابتسم في شيء من العجب، إذ أن كل المرضى إلا أقل القليل يفعلون الشيء نفسه .. يستفسرون عن أشياء لن يستطيع أحد الإجابة عنها ما لم يقرأ التقارير و التحاليل و يتفحصها بعناية .. كثيرون ينظرون للطبيب على أنه الشخص "اللي عارف كل حاجة في كل حاجة" أو كما يحب زكريا أن يعبر عن هذه النظرة "كمن بقر بطون الكتب و أتى على علوم الأولين و الآخرين" ..
رد قائلاً محافظًا على الابتسامة:
- هو قال رأيه لما شاف الأشعة .. أشوفها الأول و بعدين نتكلم ..
كانت طريقته المفضلة في الرد على مثل هذه الأسئلة، إذ تجعله كمن لم يقل شيئًا، لكن المعنى الخفي يصل للمريض أو أيًا كان من سأل فيغرقه في شعور من الخجل لاندفاعه و عدم انتباهه لشيء بسيط كهذا، و الحق أن هذا ما أصابها بالفعل ..
تركت له الأوراق التي أتت بها، و جلست صامتة تتأمل خلجاته .. الآن يبدو كالطبيب حقًا، واثقًا متمكنًا من علمه و شيء من الحكمة و الهيبة يحيط بجلسته، لكنها كدارسة محبة لعلم النفس، أو ربما هو الاستشفاف، أدركت أن شيئًا من التوتر و القلق يغلفان حركاته و سكناته .. أرادت أن تعرف في هذه المرة أهي السبب أم أنها أسقطت ما في نفسها على ما رأته في المرة السابقة، لكنها لم تستطع، إذ راودها شعور أنه من المحتمل أن تكون هذه طبيعته، و طريقته في التفاعل مع الحياة ..
قطع تأملها أن رفع عينيه عن الأوراق التي قدمتها له، و شعرت أنه ارتجف عندما رآها تحدق فيه فأشاحت بعينها محاولة الخروج من الموقف، لكنه بادرها بالحديث قائلاً:
- بصي حضرتك .. شرايين والدتك التاجية مع الأسف وصلت لنقطة اللاعودة .. يعني القسطرة و الدعامات و البالونات و الحاجات دي كلها حتبقى عاملة زي المسكنات، لا تغني و لا تسمن من جوع .. الحل المطروح قدامنا دلوقتي إننا نعمل عملية ترقيع للشرايين التاجية، أو بمعنى أدق تبديل .. نشيلهم و نحط أنسجة تانية مكانهم بحيث تقوم بنفس الوظيفة .. و إن شاء الله خير ..
ظلت صامتة لحظة انتظر خلالها زكريا السؤال المتوقع:
- يعني دلوقتي الخطوة الجاية إيه .. ماما تتحضر للعملية، و لا في حاجة تانية ؟ .. فحوصات تانية يعني ..
- لا لا لا .. مفيش فحوصات تانية و لا حاجة .. بس هي تأنسني كده في الوقت اللي يناسبها أكشف عليها مرة تانية في ضوء المعطيات الجديدة، و أسجل شوية بيانات كده ..
- إن شاء الله .. متشكرة جدًا يا دكتور ..
- لا شكر على واجب، و ابقى بلّغي سلامي لسامية و محمود ..
- آ ..
و جلست مرة ثانية بعد أن كادت تقوم من مقعدها:
- بمناسبة سامية، كان في حاجة عاوز أكلم حضرتك فيها بس مترددة جدًا ..
لسبب ما شعر بالقلق .. هذه الـ "جدًا" التي انتهت بها الجملة كان سيئة الوقع جدًا، و شعر أنها ستلقي بقنبلة في وجهه:
- يعني ع اللي حصل يوم الفرح .. بس حسيت إن حضرتك يعني آ ..
لم تدر بم تكمل، و لم يدر كيف يرد، إلا أن الله فتح عليه بما أنقذ كليهما:
- أنا اللي كنت عاوز أتأسف بس كنت محرج .. أنا اللي مفروض أبقى متردد و باعتذر ..
- حصل خير .. استأذن أنا ..
و قامت عن مقعدها شاعرة أنها ارتكبت مذبحة، فيما عاد إلى زكريا لونه الطبيعي مرة أخرى ببطء:
- يالا يا سي حنفي .. اللي بعده ..
لكن الحق يقال أنه أراد أن يغلق العيادة لتوه، ليجلس في مكان هادئ يستجمع شتات نفسه ..
***
عقد عادل عبد الحليم ذراعيه أمام صدره شاخصًا ببصره في تجهم محدثًا عبر تنفسه من فتحتي أنفه بسرعة موسيقى منذرة كأنها فحيح أفعى، هذا إن عُد الفحيح ضربًا من الموسيقى، و لو أن شردي الماثل أمامه و المقصود بكل مظاهر التوعد هذه لم يكن ليهتم كثيرًا بهذه التفاصيل الصغيرة و البلاغة المتحذلقة، إذ كان يشعر أن حياته، و ليس وظيفته فحسب، على المحك ..
- أنت بتقبض مني كام ألف في الشهر يا ابن الـ... ؟
- آ .. يعني ..
- كام ؟
سأله صارخًا خارجًا من عباءة التجهم التي ظل فيها لفترة مكشرًا عن أنيابه، فجفف شردي شيئًا من عرقه الغزير و قال مرتجفًا:
- خير سعادتك كتير يا باشا ..
- بس مش طامر يا ابن الكلب ..
- ليه بس يا باشا .. دا أنا لحم كتافي من خير و ماليش إلا سعادتك و ..
- بس بس .. اخرس ..
قالها ملوحًا بيده دلالة على نفس المعنى المنطوق، ثم قام متجهًا نحو النافذة الكبيرة خلفه، و صمت للحظات أرسل بصره خلالها، ثم قال:
- أنا قلت خلص المسألة يا شردي .. يعني تخلصها و تخلص عليه ..
ثم التفت إليه يصرخ:
- مش تقول لي هددته هو و أمه .. يا فرحتي بيك يا ننوس عين أمه ..
صمت لحظة قبل أن يكمل رافعًا سبابته مهددًا:
- آخر فرصة .. آخر فرصة تخلص فيها العملية دي كلها و إلا البقية في حياتك فيك يا شردي .. فاهم ؟
اومأ برأسه موافقًا، فتابع عادل و هو يعود لجلسته:
- عرفت نظام حياته إيه ؟
- أيوه يا باشا .. بيطلع م البيت الصبح ع الجرنان يديهم المقال بتاع تاني يوم، بعد كده بيقضي مشاويره و يرجع البيت و بعد الضهر بينزل تاني يلف شوية و يرجع البيت ع الساعة حداشر اتناشر كده ..
- تصطاده و هو راجع .. تاخد رجالتك و تعكموه علقة مش عاوز أمه تتعرف عليه بعديها ..
ثم مال للأمام منذرًا:
- المرة دي عاوز يجيني خبره .. فاهم ؟
- أوامرك يا باشا ..
- على الله تنفذها .. غور يالا من وشي ..
انصرف شردي يتمتم بالكثير من كلمات الحمد و الثناء فيما ظل عادل للحظات صامتًا حتى تأكد من انصراف شردي، ثم أمسك بهاتفه المحمول و ضغط أرقامه و انتظر المجيب:
- السلام عليكم .. إزاي صحتك يا باشا ؟
- عملت إيه يا عادل ؟
شعر عادل بالضيق لهذا الاستقبال الجاف، لكنه أجاب:
- كل تمام إن شاء الله يا باشا .. ديّتها بكرة بالكتير يكون عندك خبره، و تكون صورة جثته مالية الجرايد ..
- اتعشم كده .. أنا مش ناقص حد كل شوية ينخور ورايا .. فاهم ؟
- مفهوم يا باشا .. إحنا خدامين سعادتك ..
- ابقى اتصل بي و قول لي وصلتوا لإيه ..
و أغلق الخط ليغلقه عادل بالمثل قاذفًا بالهاتف إلى منتهى ما وصلت إليه يداه هاتفًا:
- فاكر نفسه إيه بـ... أمه ده .. إحنا اللي شايلين الشغل كله و طالع ... أبونا و ف الآخر يكلمني من فوق ..
و بينما الغضب و الغيظ يأكله من الداخل دافعًا إياه للتفكير في مخطط شيطاني آخر، كان شردي يجري مكالمة مماثلة مع أحد رجاله، مدفوعًا بخوفه الشديد من يد عادل الطولى، التي يمكن أن تمحو ذكراه إلى الأبد:
- جابر .. عاوزك أنت و الرجالة دلوقتي حالاً ..
- بس يا ريس أنا ..
- مفيش بس .. أنا قلت تيجي أنت و الرجالة يعني تيجوا ..
- يا ريس أنا مراتي بتولد، و معاها دلوقتي في المستشفى ..
- إن شالله تكون أنت نفسك بتموت .. بلاش كتر كلام ..
- أوامرك يا ريس .. في الشقة برضك ؟
- أمال حيكون فين يعني .. يالا اتكل أنت ع الله .. ساعة و تكونوا عندي ..
و أنهى الحديث ضاغطًا بعنف على دواسة الوقود يفرغ فيها ما بنفسه من توتر محاولاً التفكير كيف ينفذ ما طلبه عادل "باشا" منه .. عندما تفتق ذهنه عن التهديد بالقتل، ظن أن فارس سيرتدع، فإحساس المرء أن حياته في خطر يقفز بغريزة حب البقاء إلى القمة و الذروة، فلا يعود غيرها في مخيلته، و يصبح الابتعاد عن موطن الخطر هو شغله الشاغل، لكن ما حدث كان عكس ما توقع، إذ واصل فارس نشر مقالاته، و كأنه لا يبالي على الإطلاق ..
على أية حال، إذا لم يكن يبالي، فالموتى أيضًا لا يبالون ..
***

12.1.10

أبحث عنــــــك

أبحث عن امرأة تغزوني
و تصير نبعا لجنوني
تكتبني و تعود فتمحوني
فلا يبقى مني الا ذكراي

امرأة تعصف بكياني
و تزلزل عمدا وجداني
ان غابت عني ألقاني
في الأفق ترسمها عيناي

امرأة ترجعني طفلا
تحنو حينا تقسو أجلا
تحرمني فتملأني أملا
كسراب أفلتته يداي

أبحث عن امرأة تبحث عني
سأجدها يوما فيه تجدني
حينئذ أبوح لها أني
أذوب شوقا من فرط هواي

أبحث عنك .

8.1.10

تأمــــــلات مسطول

لابد أن نتعلم أن ننظر للأمام قليلا .. فدائما ما يكون هؤلاء الذين يفتقدون للبصيرة المستقبلية شوكة في حلق و عثرة في طريق المبدعين ، نعم اتحدث عننا نحن المصريين ، نحن الذين نكتفي بالنظر تحت أقدامنا .. و اذا تجاوزنا هذا الحد فلا يكون الا لبضع خطوات لا تسمن و لا تغن من جوع ، الدليل القاطع على هذا هو الجدار المصري العازل المانع بيننا و بين الاخوة الاشقاء الفلسطنيين .. انطلقت السنة الشعب اللاذعة - كحالها دائما - لتسلخ ظهور السادة المسئولين .. و لذا و جب على حكماء المجتمع و مساطيله - و يترك للقاريء الحرية في اختيار الجانب الذي يراني انتمي اليه - الدفاع عن شرف حكومتنا الرشيدة ، او النظيفة ، أو المباركة .. ايا كان ما يصفه بها مثيرو الشغب بنية السخرية .. النقطة الاولى التي لم يلتفت اليها أحد هي التاريخ .. لقد لعب التاريخ دور عرافة الحظ للشعب الفلسطيني بوجود كل هذه الجدران العازلة .. اتهموني بالجنون و الخبل ، و لكن خلال بضع مئات من السنين ستدزهر السياحة الفلسطينية ازدهارا عظيما ، حيث يأتي السائحون من مشارق الارض و مغاربها لزيارة سور فلسطين العظيم .. فكما أن للصين سورا اليوم تفخر به و يمثل واجهتها الحضارية ، ستمتلك فلسطين سورا يبدو مما سمعت و فرأت أنه أكثر مناعة و بالطبع تطورا و أقدر على الصمود مما يمنحه ميزة عن سور الصين ، فبعد سقوط سور الصين و الاهرام و أمثالها من الحجارة البالية .. لن يبقى من أثار العالم و عجائبه الا سور فلسطين العظيم .. و ليست تلك المزية الوحيدة ، فنتيجة للحصار الذي يفتك بالشعب الفلسطيني الان ، سيتناقص عدد سكان فلسطين تناقصا ملحوظا بمرور الوقت ، مما يزيد نصيب الفرد من موارد السياحة .. و بحلول الوقت الذي يصبح فيه سور فلسطين عجيبة العالم الوحيدة ، سيكون الفرد الفلسطيني أغنى مواطن في العالم .. مزية ثالثة ، ان الشعب الفلسطيني لم يدفع دينارا ولا بنسا في هذا السور ، على غرار جميع عجائب الدنيا و انجازاتها الحديثة .. نجد أن سور فلسطين بني تماما دون أت تدفع فيه فلسطين مليما ! - و ذلك بغض النظر عن التكاليف البشرية - اذا ماذا يريد الفلسطينيون تضحية من مصر الاخت الكبرى أكثر من هذا ، تهدر حكومتنا الملايين لتستكمل تاريخ فلسطين و لتجعلها - لمن يملك البصيرة النافذة - في مصاف الدول مستقبلا .. مزية أخرى و ليست أخرة ، ان هذا الجدار يختلف تماما عن اي معلم حضاري أو أثري في فلسطين ، فهو لا ينتمي الى أي دين بعينه ، فمسجدنا الاقصى في زعم اليهود يطمس هيكلهم و يحول دون تحقيقه ، و حائط مبكاهم في الاصل الصخرة التي ربط نبينا محمد البراق اليها ، فانظروا كم من الدماء سفكت على تلك الخلافات الدينية بين المسلمين و المسيحيين و اليهود على أحقية كل منهم بالقدس ، و لكن هذا الجدار معجزة بحق ، فقد ساهم فيه يهود و مسلمون و مسيحيون ، كلهم سويا .. و كلهم عندما بنوه أسموه جدارا .. فلا مجال لخلاف أو تنازع ، ان هذا الجدار بحق هو مجمع الاديان و رمز السلام الذي طالما انتظرناه ..
هؤلاء المثيرون للشغب يلومون على حكوماتنا الصمت المطبق ازاء القضية الفلسطينية ، ماذا جنت حكوماتنا غير انها التزمت جانب الحكمة ، و استمعت لرأي العقلاء .. أوليس تاريخنا العربي مليء باقول مثل اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب ، و الحكيم هو الذي يصمت عندما يريد الكلام و خلافها من الامثال التي تعظم من قيمة السكوت ، أما عن الموقف المصري الأخير من عدم التصريح بشيء عن الجدار فله أكثر من تبرير في رايي أولها هو في التأني السلامة ، و داري على شمعتك تلالي ..و خلافها .. فلماذا نصر على أن حكوماتنا لا تأبه للحكم و نظل نثير قضية مثل أكلت يوم أكل الثور الأحمر بينما أن حكوماتنا تتبع كل هذه الامثال الأخرى التي سبق ذكرها حرفيا ، بل و ربما كانت مثالا حيا عليها ..
لا يزال في جعبتي الكثير من الحجج الداحضة أن هذا الجدار هو مصلحة قومية فلسطينية ، و تضحية مصرية اصيلة ، و ان كان المجال لا يتسع لذكرها كلها .. يتبقى في النهاية رجاء أن ننظر الى النصف المملوء من الكوب و ليس الفارغ ، و أن نتحلى ببعض البصيرة النافذة ، و بعض الثقة في حكوماتنا العربية لأنها تستحق هذه الثقة .. و أرجو أن يحدث هذا سريعا لأنه حكوماتنا بشر ، و طاقة البشر على الصبر محدودة .. أو في اسلوب ابسط .. بلغة الامثال التي نفهمها جميعا .. للصبر حدود.
ملحوظة على جنب : أعتذر عن قبول اي مناصب مثل عضو برلمان ، عضو بالحزب الوطني أو رئيس تحرير الأهرام . هذا المقال مجرد محاولة للنظر الى الوجه الحكومي ، اقصد الاخر من الجدار ، اقصد العملة.

أحلام الفتى الدائخ - الحلم الرابع


الحلم الرابع: وحدة أمراض الديكور بقسم طب الإلكترونيات بالمستشفى الميري

كعادة أحلامي تبدأ فجأة و دون مقدمات، إذ أجد نفسي في غرفة ما أرتدي البالطو الأبيض، و بجواري أحد زملاء الدراسة .. اكتشفت فيما بعد أن هذه الغرفة هي بالطابق السادس أو السابع من المستشفى الميري، الذي انتقل من الأزاريطة إلى ميدان الرصافة بمحرم بك .. كنت أتحدث إلى أحد المرضى أشرح له كيفية إعداد "الراوتر" الخاص به للاتصال بالإنترنت، و كيف يتم تعريف الجهاز لديه على خدمة الإنترنت اللاسلكية، بينما كان صديقي "يعالج" أحد الرسوم الهندسية الخاصة بإحدي الشقق ..
و بينما نحن على هذا الحال، حدث أن أتى نذير أن حادثة على الطريق قد وقعت، و أن الإسعاف سينقل ضحاياها إلى المستشفى، فنزلت أنا وصديقي إلى الشارع لأداء الصلاة، لاكتشف في منتصف الطريق أنه أصبح صديقًا آخر ..
وصلنا المسجد الذي كان يضع على عتبته مجموعة من المجسات و سماعات عملاقة ينطلق منها صوت القارئ يتلو القرآن، و كلما ضغط أحدهم على المجسات الموجودة في العتبة خفت الصوت شيئًا فيشيئًا، حتى إذا خفت الصوت تمامًا، كان معنى ذلك إكتمال العدد لتبدأ الصلاة، و استيقظ أنا من النوم ..

7.1.10

جدار الفولاذ و الدم و العار

"مصر إيه القصة..
احكوا يا مصريين..
بدكم تخنقونا..
نروح على مين..
غزة هالمقبورة والناس تعبانين..
بيكفي اليهود ..
ارحمونا يا مصريين ..

قالوا عن الجدار..
هذا أكبر إنجاز..
بدهم يحرمونا..
و عدوي ياخذ غاز..
عدوي ياخذ غاز .."
إسلام أيوب

عندما بدأ رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون بناء جدار الفصل العنصري في 2002 بطول الحدود مع الضفة الغربية، و بامتداد الخط الأخضر، لم تبلغ الدهشة و العجب و الاستنكار مبلغًا عظيمًا، فهذا الكيان في النهاية هو قوة احتلال، و لربما صنفنا هذا العمل على أنه من "أرق و ألطف" ما يفعله المحتلون بالشعب الفلسطيني، رغم أنه حوّل الجانبين إلى حيوانات في حديقة يُخشى هروبهم منها ..
لكن الأمر لم يكن كذلك بكل تأكيد، عندما ذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية يوم الجمعة، الحادي عشر من ديسمبر الماضي، أن السلطات المصرية تقيم جدارا فولاذيا على عمق ما بين عشرين وثلاثين مترا تحت الأرض لمنع التهريب عبر الأنفاق إلى قطاع غزة, وقالت الصحيفة إن الجدار يبلغ طوله عشرة كيلومترات، وإنه "سيستحيل اختراقه أو صهره".
اعتبر الكل الأمر نوعًا من الوقيعة يريدها العدو أن تقع بين المصريين و الفلسطينيين، و كان رد الفعل الأول هو الاستنكار و الإنكار، فمن غير المعقول أن تجعجع الحكومة المصرية بكل هذا الحديث عن مساندة الشعب الفلسطيني و القضية الفلسطينية، ثم تأتي بجدار يسد المنفذ الأخير الذي ابتدعه أهل غزة ليحصلوا على القوت، بعد أن سُدت المعابر في وجوههم بشكل رسمي، و لم تعد تفتح إلا "بشكل استثنائي"، و كأن الأصل فيها الإغلاق ..
لكن المثير للدهشة هو أن الحكومة المصرية و النظام المصري التزما الصمت .. رد الفعل المنطقي للمظلوم و لمن يُرمى ببهتان أن يسارع للدفاع عن نفسه، لكنه الصمت .. الصمت الرسمي، فيما ذكرت الصحيفة الإسرائيلية أن مصدرا مصريا – لم تسمه – أكد بحديث لها وجود خطة لبناء الحائط، لكنه لم يؤكد بدء الأعمال لإقامته, مشيرة إلى أنه "بعد إقامة هذا الحائط فإنه ليس هناك يقين بأن تتوقف عمليات التهريب تماما"، و أن قوات الأمن المصرية كثفت مؤخراً من نشاطاتها على امتداد الحدود مع قطاع غزة وتمكنت من ضبط العديد من الأنفاق، كما أنها استعانت بخبراء أميركيين لاكتشاف هذه الأنفاق بواسطة أجهزة استشعار متقدمة ..
حتى أولئك المعارضون دومًا المشككون دومًا أنكروا و استنكروا، لكن إزاء هذا الصمت، بدأ الكل يشك، و بدأ شيء من اليقين لدي الناس ينمو أن الحكومة المصرية تقوم ببناء هذا الجدار .. المضحك المبكي في الأمر أن العمل في هذا الجدار، وفق تصريحات مهندس مصري يعمل في الموقع، قد بدأ الإعداد له له منذ ما يزيد عن ستة أشهر، وأن عملية البناء الفعلي بدأت منذ ثلاثة أشهر وسط حراسة أمنية مشددة، أي أن الأمر كان سيستمر حتى نفاجيء به كأمر واقع لا نقاش فيه، لولا وشاية الصحيفة الإسرائيلية !
هذا الأمر ليس جديدًا على الحكومة المصرية .. أذكر في صغري أن اقتتالاً طائفيًا وقع في إحدى قرى الصعيد .. لست أذكر أين أو متى بالضبط، لكنني أذكر أن هذا كان قبل انتشار أطباق الاستقبال الفضائي بالصورة التي نراها الآن، أي في الوقت الذي كان فيه الإعلام الرسمي الحكومي هو الإعلام الوحيد و الرئيس .. المهم أن ما حدث من اقتتال في الصعيد تكتمت الحكومة أمره كأن لم يكن، و كانت فرصة أن يعرف أحد في ربوع مصر بهذا الأمر تكاد تكون معدومة، إذ لا توجد أي تغطية إعلامية من أي نوع، اللهم إلا التلفزيون المصري – الذي تكتم الأمر – و قناة الجزيرة التي نشرت الخبر، و إزاء نشرها الخبر، سارعت الحكومة المصرية إلى نفي الخبر و تكذيبه ثم تراجعت قليلاً إلى تهوينه و تبسيطه و نقل صورة أقل دموية مما حدث .. بعيدًا عن هذه القصة، فإن ما أريد أن أقول هو أن الحكومة لم تكن لتذكر شيئًا لولا أن أحدهم أشار إلى ما حدث، لكنها كانت ستعتم تمامًا و ستنكر تمامًا لو سكت الجميع .. تمامًا مثلما حدث و يحدث في مسألة الجدار هذا ..
و قبل أن أكمل، لا بد أن أجيب على سؤال سألته نفسي قبل هذا، و اكتشفت أن كثيرين قد انفعلوا للأمر دون أن يعرفوا إجابته: ما هو هذا الجدار بالضبط ؟
هو جدار من صفائح حديدية صلبة طول الواحدة منها 18مترًا وسمكها 50 سم مزود بمجسَّات تنبِّه إلى محاولات خرقه، تغرس على عمق يتراوح ما بين 20 و 30 مترًا، و إمعانًا في العزل، فهناك ماسورة رئيسية ضخمة تمتد من البحر غربًا بطول 10 كم باتجاه الشرق، تتفرع منها مواسير في باطن الأرض مثقبة باتجاه الجانب الفلسطيني يفصل بين الماسورة والأخرى 30 أو 40 مترًا؛ حيث تضخّ المياه في الماسورة الرئيسية من البحر مباشرة ومن ثم إلى المواسير الفرعية في باطن الأرض، وكون المواسير مثقبة باتجاه الجانب الفلسطيني؛ فإن المطلوب من هذه المواسير الفرعية إحداث تصدعات وانهيارات تؤثر في عمل الأنفاق على طول الحدود. و قد تم فعليًا الانتهاء من 5 كيلومترات من أصل 10 كيلومترات، هي طول الشريط الحدودي .. أي أن نصف المهمة قد انتهى، و النصف الثاني يقاتلون حتى ينهوه بأسرع وسيلة ممكنة .. أكد هذا المهندس نفسه صاحب التصريحات سالفة الذكر، الذي قال إن " عمليات الحفر والبناء مستمرة في الجدار ولم تتوقف في أي وقت، وإنها مستمرة حتى الآن ولا تلتفت لما يدور في وسائل الإعلام، و إن البناء هو قرار سيادي و سياسي لا نقاش فيه".
السبب وراء هذا الجدار لا يخفى على أحد: الأنفاق .. أكاد أجزم أن شعب غزة قد ابتدع علم حفر الأنفاق الخاص به بعد كل هذه الأنفاق التي حفرها، و التي لم يكن ليحفرها لولا أن الخناق قد ضيق عليه .. المعابر على الجانبين مغلقة، و المعبر الوحيد الذي يفتح "بشكل استثنائي" هو معبر رفح، و هو مخصص للأفراد و ليس للبضائع .. رسالة ضمنية غير مصرح بها تقول: موتوا ثم موتوا ثم تواروا بالتراب ..
لكن مشكلة الأنفاق ليست لأنها مصدر القوت الرئيس للفليسطينين في غزة، بل لأنها مصدر مهم للسلاح بالنسبة لفصائل المقاومة .. من السودان، أو صعيد مصر، مرورًا بالصحراء الشرقية عبر الجبال و وسط الرمال، ثم عبر سيناء فالأنفاق فغزة .. و هكذا يصبح في يد الأسير سلاح يقاتل به سجّانه، و لا بد لسجّانه أن يبحث كافة الوسائل التي يغلق بها هذا الطريق في وجه أسيره ..
هذا هو السبب الرئيس الذي يجعل من الأنفاق شوكة في حلق الكيان الصهيوني، و هو السبب الذي يجعله يضغط على الولايات المتحدة كي تضغط باستمرار على مصر – العميل الوفيّ بكل أسف – لتبحث عنها و تدمرها .. إلا أن الجهود المصرية كانت دائمة دون المستوى المطلوب، ما جعل الإدارة الأمريكية تقترح بناء هذا الجدار، و تمد الجانب المصري بالتقنية المطلوبة و المهندسين الأمريكيين، الذين يشرفون إشرافًا شبه كامل على سير العمل في المشروع .. من المنطقي طبعًا أن نفكر في الولايات المتحدة الأمريكية في مثل هذه الأمور، فهي غالبًا الشيطان الذي ينزغ صدر الأخ ليقتل أخاه ..
البعض ذهب إلى أن الهدف من الجدار ليس زيادة الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة فحسب، بل تبرير "الجدار العازل" الذي قامت بتشييده إسرائيل حول الأراضي الفلسطينية و أدانه المجتمع الدولي وجمعيات حقوق الإنسان وأطلق عليه جدار الفصل العنصري، و أنه تلبية لتوجيهات واشنطن و تل أبيب الراغبتين في تبرير الجدار الإسرائيلي بآخر عربي وإسقاط تسمية "الجدار العنصري" و تبرئة إسرائيل من هذه التهمة .. حقيقة لست استبعد شيئًا كهذا ..
و لأن تبرير هذا العمل بمثل هذا المبرر – منع تهريب السلاح إلى الجانب الفلسطيني المقاوم، أو تبرير بناء إسرائيل لجدارها العازل بآخر عربي – لن يلقى قبولاً لدي الشارع المصري، كان لا بد من التفكير في حجة "فخمة" تسكت ألسن المعارضين و تدكهم دكًا .. أمن مصر القومي !
"أكد د. مفيد شهاب، فى جلسة مجلس الشعب يوم الأحد الماضي، الثالث من يناير، أن الإدعاء بأن مصر تقيم جدارا فولاذيا عازلا على حدودنا مع غزة، هو أمر عار تماما عن الصحة، لأن ما تقوم به مصر هو من قبيل الأعمال السيادية المتعارف عليها فى إطار القانون الدولى المعاصر، و هذه الإنشاءات وسيلتنا المشروعة لحماية مصر، ليس من أهل غزة، فهم أخوة لنا، وإنما من محترفى تهريب السلاح وتصدير العنف والإرهاب.
و قال شهاب إن مبدأ قدسية الحدود وحرمتها قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولى، و يرتبط هذا المبدأ بمبدأ حسن الجوار الذى يقرره ميثاق الأمم المتحدة بهدف الحفاظ على ثبات الحدود و حمايتها و تجنب ادلاع النزاعات حولها.
و أشار الى بيان مجمع البحوث الإسلامية برئاسة شيخ الأزهر الذى يؤكد أن وضع الحواجز التى تمنع أضرار الأنفاق التى أقيمت تحت أرض رفح المصرية من الحقوق المشروعة لمصر، حيث يتم تهريب المخدرات و غيرها عن طريقها، الأمر الذى يهدد ويزعزع أمن وإستقرار مصر و مصالحها.
و ذكر أن البيان أوضح أن ما تقوم به مصر تأمر به شريعة الإسلام وأن الذين يعارضون بناء هذه المنشآت يخالفون بذلك ما أمرت به الشريعة الإسلامية."
سأعود لبيان مجمع البحوث الإسلامية لاحقًا، لكنني أسوق هذا الخبر لأوضح وجهة النظر الحكومية، فالأنفاق وسيلة لتهريب المخدرات و الأسلحة التي يستخدمها الإرهابيون في عملياتهم في مصر، و هي بهذا تهدد الأمن القومي و الاستقرار المصري ..
بداية، أنا لست مع الأنفاق، فهي حل مبتدع فرضته تحكمات عملاء العدو في الداخل قبل العدو نفسه، و ليس من المفترض أن أعارض بناء الجدار لأنني أرغب في استمرار الأنفاق .. أوافق أن تغلقوا الأنفاق و تهدموها فوق رؤوس من يستعملونها، لكن لا تفعلوا هذا و أنتم تغلقون المعابر .. هذا هو الجور بعينه ..
لا أوافق أن تفعلوا هذا و أنتم تغلقون المعابر، و تمنعون الشعب الفلسطيني من حقه الطبيعي في المقاومة، و تضيقون الخناق عليه، و تحولون وطنه إلى أكبر سجن عرفته البشرية .. هذا ظلم ليس بعده سوى ظلم الإنسان لنفسه بالكفر ..
أما الحديث عن الأمن القومي، و أعمال السيادة، و حماية الوطن من المخدرات، فمن الواضح أن د. مفيد كان يتحدث إلى شعب آخر عن دولة أخرى !
تجار المخدرات تعرفهم الشرطة بالاسم، و كل ضابط لديه عدد من الاتفاقات مع عدد من التجار كي يسلموا له كل فترة "ضبطية" مخدرات تتيح له الترقي .. ثم إن المخدرات ليست بحاجة إلى أنفاق كي تدخل، فهي لا تدخل أصلاً .. جبال سيناء تشهد أزهى عصور زراعة البانجو و القنب و الخشخاش، و لا عزاء لأي أحد ..
أما السيادة ! .. الواقع أنني لم أكن أدري بالضبط و أنا أقرأ الخبر ما هو نوع السيادة التي تمارسها الحكومة المصرية او النظام المصري على أرض مصر .. مناورات النجم الساطع التي تجريها القوات المسلحة كل عام بالاشتراك مع الجيش الأمريكي تستبيح أرضنا للأمريكين ليعرفوا كل كبيرة و صغيرة، و تستبيح جيشنا ليعرفوا آخر ما يتم فيه، و تتيح لهم فرصة مثالية عندما ينقضون علينا، هذا لو فعلوا، لأنهم ببساطة يعرفوننا كبطون كفوفهم ..
أعمال السيادة التي يتحدث عنها النظام المصري يضحك الواحد منا ملء فيه من المرارة التي سيشعر بها إذا قرأ مواد اتفاقية كامب ديفيد التي وقعها أنور السادات لتهدمها حجرًا حجرًا:
- لا يجوز لمصر أن تنشئ أى مطارات حربية في أرض سيناء
- لا يجوز لمصر أن تستعمل المطارات التي ستخليها إسرائيل فى أغراض حربية
- ولا يجوز لمصر أن تنشئ أية موانئ عسكرية فى أي موقع على شواطئ سيناء (على البحر الأبيض أو خليج السويس أو خليج العقبة) ولا أن يستخدم أسطولها الحربى الموانئ التى بها.
- ولا يجوز لمصر أن تحتفظ شرق قناة السويس وإلى مدى 58 كيلو مترا تقريبا بأكثر من فرقة مشاة ميكانيكية واحدة، لا يزيد مجمل أفرادها عن 22 ألفا، ولا تزيد أسلحتها عن 126 قطعة مدفعية، و126 مدفعا مضادا للطائرات عيار 37 مم، و230 دبابة، و48 عربة مدرعة من جميع الأنواع .
- ولا يجوز لهذه القوة المحددة العدد والسلاح أن تخطو خطوة واحدة ولو لإجراء مناورات تدريبية شرق الخط المحدد لها بين أرض وطنها وبقية أرض وطنها!!
- لا يجوز لمصر أن تكون لها شرق الخط المشار إليه أية قوة عسكرية مقاتلة أو مسلحة بأسلحة قتالية من أي نوع كان.
و يمكنك أن تتأكد من هذه النصوص بنفسك هنا ..
أين السيادة و أربعة أخماس سيناء منزوعة السلاح ؟! أين السيادة و الأرض التي قاتلنا من أجلها و دفع الكثيرون دماءهم ثمنًا لها يحرم علينا أن نفعل بها ما شاء، و كأنها أرضهم و ليست أرضنا ؟!
أين كانت السيادة مع الخائن العميل عزام عزام، وكيف أكرهت هذه السيادة على إطلاق سراحه .. أتكون السيادة بإغلاق معبر رفح لقطع الغذاء و الدواء و مستلزمات الحياة الرئيسية عن المستضعفين من أهل غزة في حين يغرق أصحاب السيادة في الفنادق ذات النجوم الخمس، أم تكون هذه السيادة بإطلاق خراطيم المياه على بعض الأطفال والنساء الجوعى و المنكوبين المعتصمين على بوابة المعبر، بعد أن أصبح العدو خلفهم طالبين بعض العون من مصر"أم الدنيا" التي كانت غزة قطعة من أراضيها يوما ما ..
أعمال السيادة أصبحت في نظر الحكومة المصرية هي تنفيذ أوامر الولايات المتحدة و من والاها، و هي الحجة الجاهزة لإسكات كل صوت يندد بما تفعل، و هي الذريعة التي تتحرك تحت غطاءها ..
الغريب و المستفز أنها لا تمارس شيئًا من هذه السيادة إذا استدعتها الضرورة لدرء ضرر عن مصر و شعبها .. أين كانت السيادة عندما دكت طائرات الكيان الصهيوني حدود رفح المصرية في حرب غزة الأخيرة و قتلت بعض الجنود و حرس الحدود المصريين ؟ .. رصاص جنود الاحتلال يصيب جنديًا أو ضابطًا من حرس الحدود المصري، فيكون أقصى ما تفعله الحكومة المصرية هو "المطالبة باعتذار رسمي"، و في بعض الأحيان لا تتحرك حتى من أجل هذا الإعتذار الهزيل .. أين إذًا الحديث عن السيادة و الأمن القومي و كل هذا الهراء الذي يتقيأونه ليل نهار ؟
أما الحجة الثالثة فهي تصدير العنف عبر الأنفاق .. الحكومة تتحدث كأنها عمياء عما تفعل، فسياستها "الرشيدة" في كافة المجالات، من تعليم و صحة و أمن و تمثيل دبلوماسي و اقتصاد .. كلها تخنق الناس و تولد يومًا بعد يوم المزيد و المزيد من الكبت، و الكبت ليس له إلا الانفجار، هذا إذا لم يفرّغ بصورة مفيدة و في شيء نافع، و هو ما لا تفعله الحكومة، اللهم إلا مباريات كرة القدم ..
العنف لدينا صناعة محلية بأيد مصرية .. من هذا الأبله الذي سيقطع كل هذه المسافة من فلسطين إلى القاهرة ليفجر قنبلة بدائية، لن تحقق شيئًا سوى مصرعه ؟ .. من الأكثر بلاهة حتى يصدق أنه صار من اللازم أن تنضم لتنظيم إرهابي حتى تفجر نفسك و تقتل ؟
العنف لدينا صناعة محلية بأيد مصرية و لا يحتاج لاستيراد .. و كلما زادت الحكومة من ضغطها زادت فرص الانفجار ..
الحق أنني أتعجب لهذه الحكومة و لهذا النظام الذي أوتي من قلة ماء الوجه ما يجعله قادرًا على مواجهة كل هذه المواقف بثبات، رغم كذبه الواضح و ضعف موقفه الذي لا مراء فيهما .. قدرة مدهشة على تلفيق الحجج و الأدلة بحيث تنطلي على ذوي العقول البسيطة الذين لا يفقهون الكثير مما يدور حولهم، و يتعاملون بمبدأ عادل إمام في مسرحية الزعيم "أنا اللي يحكمني أسقف له و أدعي له"، لكن الملفت للنظر هذه المرة أنه أراد أن "يسبك" الحجج أكثر و أكثر، فلعب على الوتر الأكثر حساسية عند المصريين .. الدين ..
" في هذه الأثناء، كشف الموقع الالكتروني لصحيفة "الاسبوع" المستقلة عن سر قيام مجمع البحوث الإسلامية بسرعة إصدار بيانه الخاص بشرعية الجدار الفولاذي، و قال إن فتوى رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور يوسف القرضاوي بحرمة بناء الجدار، أثارت ردود أفعال واسعة واستفزت النظام والحكومة المصرية وهو ما دفع شيخ الازهر الدكتور محمد سيد طنطاوي والشيخ علي عبد الباقي امين عام مجمع البحوث الاسلامية الي اعداد فتوي مضادة تمت صياغتها في صورة بيان صادر عن مجمع البحوث الاسلامية، و ذلك رغم تباين آراء الأعضاء و اختلافهم حول مدي شرعية بناء الجدار ما بين مؤيد و معارض، إلا إن شيخ الأزهر أعد هذه الفتوي قبل الاجتماع الشهري للمجمع والذي كان موعده يوم الخميس الماضي و كان مقررا فيه مناقشة موعد و موضوع المؤتمر الرابع عشر للمجمع عن الصحابة، كما حرص علي ان يقوم التلفزيون المصري بتصوير و إذاعة البيان الذي كان مطبوعا سلفًا قبل الاجتماع، كما وصل الي بعض الصحف قبل انعقاد الجلسة، و أكد البيان علي تأييد بناء الجدار وأن ذلك من الحقوق الشرعية لمصر و لحماية أمنها و حدودها و أن هذه الأنفاق المقامة تحت ارض رفح المصرية يتم من خلالها تهريب المخدرات وغيرها وهو ما يهدد أمن مصر ومصالحها، وان بناء الجدار عمل تأمر به الشريعة التي كفلت لكل دولة حقوقها وامنها.
ولم يكتف البيان بهذا، بل شن هجوما علي المعارضين لانشاء الجدار و وصفهم بانهم يخالفون ما أمرت به شريعة الاسلام. و اكتفي البيان المقتضب بذلك دون أن يشير من قريب او بعيد الي حقوق الفلسطينين أو ضرورة مساعدتهم و تخفيف الحصار عنهم.
و تعليقا علي هذا اشار الشيخ علي عبد الباقي امين عام المجمع الي ان البيان جاء مختصرا حتي لا يتم فتح جبهة للتناحر بين العلماء، وان الفتاوي المضادة تخدم اجندات سياسية للهجوم علي مصر، مضيفا انه كان الاولي بالمعارضين ان يوجهوا لومهم للفلسطينيين اصحاب القضية حتي يوحدوا كلمتهم متسائلا "أليس هؤلاء هم من افتوا بان الضابط المصرى الذى استشهد على الحدود ليس شهيدا؟"..
جدير بالذكر ان راديو اسرائيل اشاد ببيان مجمع البحوث الاسلامية فور صدوره وان عددا من اعضاء المجمع ابدوا اعتراضاتهم علي هذا البيان وعلي صياغته التي ركزت علي جانب واحد ولم تلتفت الي الجوانب الاخري الخاصة بنصرة الاخوة الفلسطينيين."
لكن عددا من علماء الأزهر، بينهم أعضاء في مجمع البحوث، أدانوا قرار بناء الجدار، معتبرين أن "هذا الجدار حرام شرعا لما يهدف إليه من حصار الأشقاء في قطاع غزة وسد كل المنافذ أمام القطاع للخروج من الحصار الإسرائيلي المفروض عليه منذ 3 سنوات من خلال إغلاق المعابر، بحيث منعت عنه أسباب الحياة من الغذاء والدواء والوقود وهو ما يعد نوعا من الضغط عليه لإلغاء المقاومة والقضاء على حماس".
وطالب العلماء، في بيان موقّع الحكومة المصرية بوقف بناء الجدار والاعتذار الرسمي لشعب غزة المحاصر.
ومن أبرز العلماء الموقعين على البيان العالم الأزهري محمد عبد الله الخطيب، و عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين و أستاذ الحديث بجامعة الأزهر عبد الرحمن البر، و أستاذ التفسير بجامعة الأزهر عبد الحي الفرماوي، و الأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية سابقًا و عضو مجلس الشعب المصري السيد عسكر، و عضو مجمع البحوث الإسلامية الشيخ محمد الراوي، و رئيس جبهة علماء الأزهر السابق الدكتور عبد المنعم البري، و عضو مجمع البحوث الإسلامية الدكتور مصطفى الشكعة ..
و هكذا تحول الأزهر و مجمع البحوث الإسلامية إلى "عزبة" يديرها فضيلة الإمام، فلا علماء المجمع استشيروا في البيان الذي صدر باسمهم، و لا هو راعى حرمة المسلم التي ينتهكها هذا الجدار، بتضييقه و خنقه لآخر أنفاس الحياة فيه، و مساعدة العدو ضده، و لا هو اتقى الله و قال كلمة الحق، بل كلمة السلطان ..
قالها كما قالها قبل ثمانمائة عام الفقيه الشافعي شهاب الدين إبراهيم المعروف بابن أبي الدم للملك الكامل محمد حفيد صلاح الدين الأيوبي، عندما أفتى له بجواز تسليم القدس للصليبين قائلاً: " فإن الإمام يجوز له تسليم بلد من البلاد الإسلامية إلى الكفار، إذا رأى في ترك التسليم لهم ضررا ظاهرا لا يمكن تلافيه" و العجيب أن الضرر "الذي لا يمكن تلافيه" هذا لم يكن إلا وهم يعشش بعقل صاحبه و سلطان صاحبه، فحملة الامبراطور فريدريك الثاني، المقصود بهذا الحديث، و المعروف في التاريخ الغربي بلقب "أعجوبة الدنيا" كانت أعجوبة بالفعل، إذ لم تتجاوز ستمائة فارس، لكنه اعتمادًا على خيانة الملك "الناقص" و فتوى ابن أبي الدم أخذ بيت المقدس دون قطرة دم .. حقًا، ما أشبه اليوم بالبارحة !
و يومًا بعد يوم يفقد الأزهر تلك المكانة التي جعلت منه قبلة الدارسين، و منارة من منارات العلم، ليتحول إلى بوق من أبواق السلطان .. بالطبع ليس منكم من ليس يذكر مصافحة شيخ الأزهر لإيهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل بحرارة و حميمية في الولايات المتحدة الأمريكية، و كأنهما أصدقاء قدامى، ثم اعتذاره عن هذا بحجة بلهاء؛ أنه لم يكن يعرف الرجل معرفة دقيقة !
أطرف ما قرأت تعليقًا على هذا البيان ما قاله أحدهم على أحد المواقع التي نقلت الخبر: " سؤال لشيخ الازهر: حضرتك رفضت تفتي بالمقاطعة و قلت اسالو وزير الاقتصاد ورفضت تفتي بالعدوان على غزة وقلت اسالو وزير الخارجية ورفضت تفتي وبالنسبة لغلاء الاسعار قلت اسالو وزير التموين .. اجيت عند الجدار وافتيت طيب ما تسال وزير التخطيط" !
و تعليقًا على هذا البيان، و تحت عنوان "عن لعب السياسة بالدين" قال أ/ فهمي هويدي: "على الهاتف قال لي المستشار أحمد مكي نائب رئيس محكمة النقض إن البيان نموذج لتلبيس الحق بالباطل، ذلك أن دفاعه عن إقامة الجدار يعني في ذات الوقت الدفاع عن تجويع الشعب الفلسطيني. وتلك جريمة لا يقرها شرع أو قانون أو عقل. وأضاف أن شيخ الأزهر وأعضاء مجمع البحوث يعرفون أكثر من غيرهم الحديث النبوي الذي ذكر أن امرأة دخلت النار في هرة (قطة) حبستها وجوعتها، الأمر الذي يطرح سؤالا كبيرا عن جزاء الذين يقومون بحصار وتجويع مليون ونصف المليون فلسطيني في غزة. وهو يختم قال إن بعض الممارسات التي تتم في البلد أصبحت تجعل الإنسان يخجل من انتمائه إلى مصر. وإزاء مثل هذا التلاعب بالمؤسسات والقيم الدينية يخشى أن يدفع البعض منا إلى الخجل من انتمائهم الديني."
و رغم قسوة الموقف، إلا أنني أنظر إليه كحادث الإفك؛ لا تحسبوه شرًا لكم بل خيرٌ لكم .. كما كشفت حادثة الإفك عن المنافقين، و نفر من المسلمين لا يتورعون عن رمي الرسول صلى الله عليه و سلم في عرضه، يزيل هذا الجدار ورقة التوت عن الكثيرين ..
يزيلها عن نظامنا الحاكم الميمون، و يكشف تورطه و تواطؤه، كما كشفته مواقف عدة قبل ذلك، و كيف أنه يسير بنا كي نصبح الولاية الثالثة و الخمسين من الولايات المتحدة الأمريكية ..
يزيلها عن أعضاء مجلس الشعب، الذي من المفترض فيهم أنهم الصفوة يمثلون الشعب في مجلسه، فإذا هم حفنة من الأوغاد الذين تحركهم الأوامر من أعلى، فيوافقون و يؤيدون و يصفقون للجدار، و يسبون من يعترض بأبيه و أمه و بدينه، رغم معارضة القاصي و الداني من الشعب الذي يمثلونه لهذا العار .. فليذهب الشعب إلى الدرك الأسفل من الجحيم ..
يزيلها عنا نحن أيضًا .. نحن من صمتنا و نصمت، و سنظل نصمت على كل هذا ..
الجدار سيكتمل .. هذا أمر ليس بمقدور أحد أن ينكره، فطالما كانت الولايات المتحدة هي من تقف وراءه، فكل اعتراضات العالم لن توقفهم .. إنه منطق القوة الذي يحكم عالمنا ..
لكن هذا لا يمنع أن نتكلم .. أن نتحرك .. تمامًا كما حدث مع أصحاب السبت، فرغم إيمان المؤمنين أن الله سيعذبهم، إلا أنهم واصلوا دعوتهم إلى الحق حتى يبرئوا ذمتهم و ساحتهم من ذنب السكوت على الباطل .. وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ..
الجدار سيكتمل، لكن هذا ليس بالتأكيد نهاية القصة ..

3.1.10

عرافـــة


دقات الساعة على حائط البيت المهجور
عرافة ٌ قالوا تصدق اذا قالت
أصغت لدقات قلبي قليلا
ثم تنهدت و عليّ مالت
همست في أذني بلا صوت أسمعه
و في عينيها دمع لست أراه
"ستموت"
-كلنا سيموت يا هذه..
-نعم، و لكنهم بعد سنين
أو بضعة شهور
أما أنت فبعد ساعة
اضطرب و أضحى كالمجنون
ما بين أصدقت أم كذبت
محتارا لا يدري ما يفعل
و الدقائق تمر..
حتى اكتملت ستونا
نظر في عقارب الساعة الرمادية
و قال
أضعت أخر ساعة من عمري
و من الحسرة مال
و سقط قتيلا
كانت كذبته
و كان هو من أصدق قولها

28.12.09

الوصايا الألف .. العشرة الرابعة

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الواحدة و الثلاثون: لا تتزوج من كان جمالها مشاعًا للجميع، فأغلب الظن أنك لن تتزوجها وحدك، و أن ألف عين تزوجتها قبلك
الوصية الثانية و الثلاثون: أولى مراتب الفشل أن ترغب فيه
الوصية الثالثة و الثلاثون: كن أنت، فإن لم تستطع فلا تكن غيرك
الوصية الرابعة و الثلاثون: أحلامك أوامر .. أنت من سينفذها
الوصية الخامسة و الثلاثون: يموت المرء و في نفسه شيء لم يحققه بعد .. اعمل جاهدًا أن تجعل هذا الشيء كأصغر ما يمكن
الوصية السادسة و الثلاثون: ما نقص من مالك ما وعظك، و ما زاد في مالك ما أطغى قلبك
الوصية السابعة و الثلاثون: بعض الرغبات تقتل، فاقتلها قبل أن تفعل
الوصية الثامنة و الثلاثون: إن كنت ترضى العيش بذلة، فلا تمتشقن الحسام اليمانيا
الوصية التاسعة و الثلاثون: اغترف من اللهو ما شئت، لكن إذا وقعت الطامة فلا تبك
الوصية الأربعون: لا تجعل من نفسك عذرًا يبرر الآخرون به أخطاءهم

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

26.12.09

القوة هي الحل، و أشياء أخرى


"جريدة الدستور – الإسكندرية – حسام الوكيل:
اعتصم ما يزيد علي 500 طالب وطالبة بكلية طب الإسكندرية أمام مكتب د. محمود الزلباني- عميد الكلية- احتجاجاً علي الاعتداء علي أحد طلاب الإخوان المسلمين أثناء توزيعه مذكرات علي الطلبة بأمر من أحد وكلاء الكلية.
وأكد محمد محفوظ- أحد الطلاب المعتصمين- أن طلاب الإخوان يقومون بجمع الامتحانات السابقة في المواد المختلفة وتجميعها في مذكرة تشمل أهم الأسئلة وأشار إلي أنه أثناء قيام محمد النمر- أحد طلاب الإخوان بالفرقة الرابعة بالكلية- بتوزيع المذكرة علي الطلبة قام وكيل الكلية بمصادرة المذكرات وأمر عدد من العمال بالاعتداء علي الطالب، حتي أصيب بكدمات وسحجات مختلفة ونزيف في الأنف والفم، الأمر الذي دفع مئات الطلاب إلي الاعتصام أمام مكتب عميد الكلية لمطالبته بالتحقيق في الواقعة مطالبين بإقالة وكيل الكلية الذي يمارس أعمال تعسفية مع الطلاب ويعتدي عليهم ورفعوا لافتات تفيد نفس المعني، إلا أن عميد الكلية رفض مقابلة الطلاب وقال: أنا اللي قلت له يعمل كده ولو مش عاجبكم روحو اشتكوني."

حدث هذا يوم الثلاثاء الماضي، الثاني و العشرون من ديسمبر، و رغم أنني لم أشهد الواقعة، لا في حينها أو حتى يومها، إلا أنني سمعت بها من أناس أثق بهم .. محمد النمر أعرفه شخصيًا و أثق به، لكنني سأحاول أن أتحدث من منظور موضوعي بحت .. رغم تعاطفي و تصديقي الكامل لرواية النمر، إلا أنني سأحاول جاهدًا التزام خط الوسط ..
لنبدأ من العام الماضي .. جذور المسألة تنتمي إلى العام الماضي، عندما صدر قرار بتعيين الدكتور أحمد عثمان أستاذ طب و جراحة العيون في منصب وكيل الكلية لشئون الطلاب، و هو الوكيل المعني في الخبر المذكور أعلاه .. أنا لا أنتمي لتيار بعينه – الإخوان مثلاً – حتى تبرر به عدم ارتياحي له، بل أعتبر نفسي من فئة المصريين المموهين، الذي يسيرون مع التيار الذي يشعرون أنه على حق .. دكة الاحتياطي السياسي إذا أردت تعبيرًا أدق ..
المهم أنني رغم هذا لم أشعر بالراحة منذ تعيين د. أحمد عثمان في منصب الوكيل، و ذلك من جملة التغيرات التي حدثت في الكلية، و لعل أهمها و أكثرها اتصالاً بموضوعنا هذا هو إغلاق كافة السبل الممكنة أمام أي نشاط طلابي "غير رسمي"، و اللارسمية هنا تعني عدم الانتماء لاتحاد الطلاب ..

بالطبع كان نصيب تيار الإخوان، و التيار الإسلامي بشكل أعم، من هذا التضييق هو نصيب الأسد، باعتبارهم تيار محظور من قبل الدولة من الأساس، بل إنني أذكر أن أحد أصدقائي المقربين قال لي أنه – أي د. أحمد عثمان – انتقل من وظيفة عميد كلية الطب بجامعة بيروت العربية إلى وظيفة وكيل كلية الطب بجامعة الإسكندرية، لا لشيء إلا ليفعل هذا .. ليقطع ألسن الجميع ..

لا أريد تحويل المقال لوصلة عزف منفرد في سب هذا الرجل، و التشنيع ضده، لأنني إذ أفعل هذا أجعل من نفسي عرضة للشرب من الكأس ذاته، لكنني أذكر الوقائع ليس إلا .. المهم أن العام الماضي لم يسلم من واقعة كهذه، لكنها مرت بسلام .. الحق أنها مُررت بذكاء ..
كنت جالسًا أنا و نفر من الأصدقاء نراجع ما سنمتحن فيه بعد لحظات، و إذ بنا نفاجيء بصوت يعلو، و صراخ يأتي من مكان قريب، لنكتشف أن أحد زملاءنا كان يقوم بالعمل ذاته الذي أثار مشكلة هذه المرة، و قد أتى أحد العمال ليصرفه، فتصرف هذا الزميل العزيز بمنطق "خدوهم بالصوت" و جعجع بالشيء الكثير، و الحق أنه لم يكن على حق في كثير مما قال لحظتها، بل شعرت أنه يريد كسب تعاطف أكثر من كسب موقف .. على أية حال، ما يدفعني للقول أنها مُررت بذكاء أن كل ما حدث هو أن تركه العامل يكمل كلامه، ثم حمل الطاولة و الورق بعيدًا، و فض التجمع القائم .. لا ضوضاء .. لا اعتداء .. لا مشاكل .. و السؤال هنا، لماذا لم يتم الأمر بهذه الطريقة هذه المرة أيضًا؟
في مكالمته مع برنامج 90 دقيقة صرح د.أحمد عثمان وكيل الكلية أن الجامعة لها نظام وقواعد يجب أن يتم احترامها وليس من المسموح تجميع الملازم والمذكرات كما أنه ليس من المسموح عمل أحزاب داخل الحرم الجامعى، أو استخدام الميكروفون كما فعل الطالب، وأنكر د. أحمد عثمان أن يكون قد تم الاعتداء على الطالب داخل الحرم الجامعى، حسب ما كتبته اليوم السابع .. مسألة تقنين طبع و تجميع الملازم طرحت خصيصًا بسبب التيار الإسلامي .. مذكرة بثلاثة جنيهات تحوي 90 بالمائة من المطلوب، و هي قشة النجاة لمن أراد الانتقال للعام المقبل و كفى، و هي مضمونة لأنها لا تخترع شيئًا جديدًا .. مجرد تجميع، رغم أنني أشهد أن بعضها كان يخرج أحيانًا عن المنهج، لكنها في النهاية كانت جيدة ..

فيما يفعل الإخوان هذا، كان المقابل في اتحاد الطلاب – الجهة الرسمية – هزيلاً .. مجهود ضعيف، يمر أمامي و أمام الكثيرين كالحلم .. الشيء الوحيد الذي أفلح، و ما زال يفلح فيه اتحاد الطلاب هو تنظيم الرحلات، و الحفلات، و الندوات .. أمور مهمة، لكنها ثانوية، و البعض مثلي و مثل كثيرين لن تهمهم هذه الأشياء .. و حتى لا أكون جاحدًا، هناك أيضًا بعض المراجعات المجانية في الدروس العملية في المواد المختلفة ..
و هكذا حتى يظهر الضعيف، لا بد للطرف الجيد أن يختفي، و هذا ما حدث .. بالطبع ليس هذا هو السبب الوحيد، فتيار الإخوان محظور من قبل الدولة– رسميًا – و موقف الكلية لن يخالف موقف الدولة الرسمي بطبيعة الحال، و كل طريقة تضعفه هي إسهامة و إضافة للدولة، و خطوة تعلي من شأنها، لكنها هذه المرة اتخذت طابعًا عنيفًا بعض الشيء ..

السؤال الأول الذي تبادر إلى ذهني بعدما حدث ما حدث هو لماذا استخدام القوة رغم أن الدبلوماسية كانت كفيلة بحل الموقف تمامًا ؟ .. استدعاء صغير في نهاية اليوم إلى حجرة الوكيل أو العميد، و إنذار شديد اللهجة يوجه إليه على نطاق ضيق، و ينتهي الأمر .. لا ضوضاء .. لا مشاكل .. حدث هذا مع زميل آخر – لا ينتمي للإخوان – لكنه ابتدع هو و مجموعة من زملائه جمعية يحاولون بها خلق كيان مواز للجمعية العلمية و الاتحاد، و كانت النتيجة هي إنذار عنيف و تهديد بالفصل التام إذا تكررت نشاطات هذه الجمعية ..
لكن الواضح من الأمر أن التصرف جاء "عميانيًا" كدفاع الأسود و الفهود عن عرينها: "اللي حيقرب حاشرّحه، و مفيش تفاهم" .. أن يهبط وكيل الكلية من مكتبه، و رئيس الحرس الجامعي، من أجل طالب يوزع بعض المذكرات فهذا دليل لا على قوة التيار الإسلامي كما قال البعض، بل على ضعف التيار الرسمي، و احتمائه بالقوة المفرطة في مواجهة أي موقف .. يعزز هذا التحليل ما حدث في اليوم التالي تحسبًا لمظاهرات متضامنة، أن طوقت الكلية بسيارات الأمن، و أغلقت الأبواب جميعًا إلا باب واحد، للتحكم في الداخلين و الخارجين ..
بالطبع لم يبدأ الأمر بنزول الوكيل في نفر من القوات الخاصة و المدرعات، للإمساك بالطالب المنشق و تأديبه .. لا بد أن الأمر بدأ بهدوء .. حوار هاديء من فئة: "مش قلت لك يا محمد ما تعملش كده ؟ .. يا فلان، لم الورق ده"، و عندما بدأ العامل في لملمة المذكرات، اندفع محمد لحمايتها، لأنها ببساطة تكلف مالاً .. العامل الذي ينفذ هذا الأمر أكاد أجزم أنه من فئة أفراد الأمن المركزي: اضرب يعني اضرب .. مقاومة بسيطة من محمد، ليحمل الأوراق بعيدًا بهدوء، ليفاجأ بالعامل يحاول جذبها بعيدًا بالقوة كأنها مخدرات أو أقراص إباحية ستحرز .. و هكذا اشتعل الموقف ..

و التزامًا بخط الوسط، فمحمد كان مخطئًا من البداية .. الأمر يحتوي على مخاطرة كبيرة، و القيام به يمثل تحديًا لا فائدة من ورائه، بل يجلب وخيم العواقب، بالإضافة إلى أنه أنذر من قبل على ما أظن، لكن هذا بالطبع لا يبرر ما حدث ..
الاستخدام المفرط للقوة لا يعني سوى الضعف .. نسبة من يميلون للدكتور أحمد عثمان مقارنة بنسبة من لا يميلون إليه قليلة للغاية، و هم غالبًا مجموعة الطلاب من قيادات الاتحاد المستفيدين مباشرة منه، أما الغالبية العظمى، فالعمى إليهم أقرب من تصديقه .. هذا بالطبع يعني أن خط الدفاع الخلفي مفقود .. عندما أعلن عبد الناصر تأميم القناة، كان يعلم المآسي و الويلات التي يمكن أن يجرها هذا القرار على الشعب، لكنه كان مطمئنًا إلى أنهم في ظهره يأمنّونه و يأمنّون قراراته، و يستطيع الاعتماد عليهم .. ها هنا ليس من شيء كهذا، بل كل الخطوط الخلفية مكشوفة، و هو بالطبع ما يدفع الإدارة – متمثلة في شخصه – لاستخدام أعنف الوسائل لتحقيق المطلوب من ناحية، و لإخافة القلة الباقية من ناحية أخرى .. "اضرب المربوط يخاف السايب" في أبهى حالاته ..
ثم إن الاعتداء بالضرب على أحد الطلاب داخل كلية طب الإسكندرية لم يحدث من قبل على قدر علمي، و هي سابقة يجب أن تسجل، و تدل في الوقت ذاته على انخفاض مستوى التعامل إلى درجة مزعجة و مقلقة ..

من استمع لفقرة 90 دقيقة التي تناول فيها معتز الدمرداش هذا الموضوع لا بد و أنه سمع عجبًا، و خرج أكثر حيرة مما دخل .. الطالب يؤكد أنه ضرب، و الوكيل – بطبيعة الحال – يؤكد أن الطالب يفتري .. شخصيًا، أنا أصدق كل حرف قاله محمد .. هو صديق أشهد له بالالتزام و الاحترام، و شهود الحادث هم أصدقائي الذين لا استطيع أن أشكك في صدقهم و صدق شهادتهم، لكنني لن أتوقف طويلاً عند هذه النقطة، بل أريد أن أذهب لأبعد منها ..
ما يلفت الأنظار هو كم الجرأة التي تحدث بها د. أحمد عثمان على الهواء مباشرة لينكر واقعة شاهدها العشرات على الأقل، و التقطت لها العدسات صورًا، بل و محاولة قلب الأمر على محمد، و اتهامه بالكذب و التلفيق، و أنه هو الذي بدأ بالضرب و التعدي على رجل يكبر والده بعشرة أعوام على الأقل .. الحقيقة أن هذه السياسة أصبحت سياسة الحكومة الرسمية: أنا أنا و ما سواي سرابُ، و كل ما فوق التراب ترابُ ..
يذكرني هذا بنكتة سمعتها منذ أيام عن جهاز جديد لكشف الكذب، يعتمد على صوت المتحدث دون توصيل أي أقطاب بجسمه .. بدأ المسئول الفرنسي الحديث عن برج إيفل، و أصالة الشعب الفرنسي و الأجبان الفرنسية، و كيف كان الفرنسيون أول من هبط على سطح القمر، فبدأ الجهاز في الصفير .. جاء دور المسئول الأمريكي ليتحدث فقال كلامًا عن قوة الاقتصاد الأمريكي، و عبقرية الشعب الأمريكي، و كيف أنه ساهم في حفر قناة السويس، فانطلق الجهاز يصفر .. ثم جاء دور المسئول المصري، فقال: "في الواقع .." و قبل أن يكمل كان الجهاز قد انفجر !

أعلم أن هذا الموقف سيأخذ فترة من الزمن ثم يفقد سخونته و يرقد على الرف بجوار زملائه الذين طواهم النسيان .. هل يذكر أحدكم مثلاً ما فعله عبد الله بظاظو الصيف الماضي ؟ .. الموضوع كان ساخنًا جدًَا، و استضيف الفتى في عدة محطات و عدة جرائد، و الآن ؟ .. لا شيء .. لهذا أعلم مسبقًا أن الأمر سيأخذ وقته ثم يمضي، و لهذا فأنا لست أكتب و استهلك كل هذه المساحة من أجل تحليل الموقف، أو الحصول على "جنازة أشبع فيها لطم" و أفرغ شيئًا من الغيظ بداخلي، بل الحقيقة أن هذه الحادثة فتحت الباب أمامي كي أتحدث في عدة نقاط طالما رغبت أن أتحدث فيها ..

أولى هذه النقاط طرحتها بالفعل، و هي استخدام القوة المفرطة في مواجهة أي موقف، أيًا كانت مواصفاته .. هاهنا هذا الحادث على سبيل المثال لا الحصر .. استرجع بذاكرتك كل الأحداث الماضية التي تعاملت فيها الحكومة مع أي موقف، و صنّف رد الفعل .. أزمة اللاجئين السودانيين .. المظاهرات .. الأزمات الغذائية و المائية المختلفة، كلها نفس السياسة و نفس التعامل .. القوة الغاشمة ..
النقطة الثانية هي الطريقة التي وضعها نظام ثورة يوليو لاختيار القيادات، و هي من اسوأ سيئاته و أشنعها .. "أهل الثقة قبل أهل الكفاءة" و ربما بدلاً من أهل الكفاءة ..
أنا لم أدرس كل القرارات التي اتخذها د. أحمد عثمان حتى أحكم عليه، لكن ما أراه أمامي كطالب يجعلني على درجة من اليقين أنه ليس الكفاءة الإدارية التي يمكنها أن تتحمل مسئولية كلية الطب في فترة حرجة كهذه الفترة التي تحاول فيها الحصول على الاعتماد، بحيث تصبح شهادتها على قدر من المصداقية لدى العالم الخارجي، لكنه بالطبع يستطيع أن يخرس الإخوان، و التيار الإسلامي، و كافة الأصوات التي ليست على هواه، و يجعل الجميع نائمًا في عسل أسود سرمدي، فلا ينشغل الطلبة سوى بالدراسة ثم الدراسة ثم الدراسة، و يقل الصداع الناشئ عنهم في رؤوس القوم .. يكفي تصرفه في الواقعة التي نتحدث عنها ..
و حتى لا أصبح محصورًا في هذا المثال الضيق، فلنستعرض سويًا أي مسئول في مصر .. الأمر ليس بحاجة لذكاء لمعرفة أن أهل الكفاءة يحصلون على أفضل أنواع "الصابون" ليبتعدوا عن المنصب قبل أن يقتربوا منه، أما أهل الثقة و مسّاحو الجوخ و المداهنين فهم الأقرب و الأبقى ..
ربما كانت نية نظام الثورة صالحة، و لم يرد سوى الحصول على المخلصين من أبناء الوطن، في ظل أجواء سياسية متقلبة، و مرحلةُ ولاء المرء فيها يحدد مصيره، لكن الأمر تحول لكارثة .. الكارثة ليست في من هو أهل الثقة هذا الذي سيتولى المنصب .. المشكلة في من سيختار أهل الثقة هؤلاء ؟ .. من الذين سيعتبرونهم من الثقات ؟
نظرة واحدة تجلعنا ندرك أن الفاسدين الصغار لم يأتوا إلا لأنهم أهل ثقة الفاسدين الكبار، و هو ما يعني أن سلسلة الفساد متشابكة من الرأس إلى أصغر صغير في النظام، فالكل يختار من هو تحت قدميه، و الطيور على أشكالها تقع..

النقطة الثالثة قتلت حديثًا و بحثًا في الصحف و المجلات، و طرحها د. أحمد عثمان على عجل في حديثه لقناة المحور، ألا و هي ممارسة العمل السياسي في الجامعات المصرية .. هدف النظام المصري أن يجعل الشباب جانبًا .. هذه الطاقة المهولة لا بد لها أن تذهب في أي شيء، إلا أن تصبح فوق رؤوسنا، و هي إن توفرت الفرصة ستصبح كذلك، لأن رؤوسم ليست نقية أو طاهرة .. لكن المتمعن يجد أن العمل السياسي مباح بشدة في الجامعات المختلفة، فنظرة واحدة تجعلك ترى أن معظم قيادات الاتحادات الطلابية هم في الأساس أعضاء في الحزب الوطني، و كل نشاط يتصل بالحزب و النظام مرحب به و مسموح، باعتباره نشاطًا يعلي من شأن الوطن و يدفعه للأمام، و نصيب هذا من الحقيقة في أغلب الأحوال يكافئ حبة الخردل ..
الأمر لا يزال في بدايته، و أغلب الظن أننا سنرى عجبًا في الأيام القادمة .. إما أن يهدأ الموضوع بسرعة غير طبيعية، أو أن يشتعل إلى آفاق لسنا نتوقعها، أو أن يظل الحال على ما هو عليه، كما يحدث دائمًا في هذا الوطن البائس ..

21.12.09

الوصايا الألف .. العشرة الثالثة

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الواحدة و العشرون: لا تنظر نهاية الطريق و أنت لم تضع قدمًا فيه بعد
الوصية الثانية و العشرون: كثيرون من يستمعون للنصيحة، قلة يعملون بها
الوصية الثالثة و العشرون: ستفشل إن كنت وحدك .. صدقني
الوصية الرابعة و العشرون: لا تنظر خلفك، فإنما جعلت عيناك من الأمام
الوصية الخامسة و العشرون: لا تجعل جل تركيزك في أقرب أهدافك .. ستحققه بنجاح ساحق، لكنك لن تصل لهدفك الأسمى
الوصية السادسة و العشرون: من عاش نذلا لم يمت مستورًا .. بل مكسورًا
الوصية السابعة و العشرون: أنت لا تملك الدليل .. أنت لا يحق لك الكلام
الوصية الثامنة و العشرون: صوتك العالي دليل ضعف موقفك، فإذا تكلمت يداك ضاع موقفك
الوصية التاسعة و العشرون: من عاش الألم يعرف كيف يرسم البسمة
الوصية الثلاثون: الحكمة ليست كلامًا منمقًا .. كثيرون ينمقون حديثهم، لكنهم يهذون

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

13.12.09

الوصايا الألف ... العشرة الثانية

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الحادية عشرة: لا تجعل النظر إلى وجهك كالنظر إلى قفاك
الوصية الثانية عشرة: لا تيأس .. اليائسون كالجحارة تهبط إلى القاع، أما الطموحون و المتفائلون فكأجنحة الطير، تحملهم لأعلى
الوصية الثالثة عشرة: لا تقتل .. القتل ليس فقط سكينًا تودعه صدر أخاك، بل أن تسفه منه و هو على حق، و تكذبه و هو على صدق، و تثبط فيه بهجة الحياة .. هذا هو القتل بعينه
الوصية الرابعة عشرة: كن مستمعًا جيدًا .. نصف مشاكل الدنيا تأتي ممن يتجاهلون الآخرين
الوصية الخامسة عشرة: تأكد دومًا من خطوطك الخلفية .. الجاهل من يتقدم بظهر مكشوف
الوصية السادسة عشرة: السفيه من سفه غيره، و استكثر خيره، و استقلّ ضيْره
الوصية السابعة عشرة: لا تتكبر .. إبليس خرج من رحمة الله بهذه الخصلة
الوصية الثامنة عشرة: نصف الناس جهلة و النصف الآخر يدعون العلم، و لكن خير لك أن تكون جاهلاً عن أن تدعي العلم
الوصية التاسعة عشرة: انزع عنك ثوب الحياء في اثنتين: في الحق و في الباطل .. أما الحق فكي لا يكون عقبة تحول بينك و بين إحقاقه، و أما الباطل فإكرامًا للحياء
الوصية العشرون: اصبر .. اصبر .. اصبر ..

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

10.12.09

جهار ضغط و سماعة - الحلقة الثالثة عشر

انتهت معركة الفرقة الثالثة منذ زمن، و بدأت منذ زمن أيضًا معركة الفرقة الرابعة .. الحق يقال أنها تبدو أخف وطأة من تلك التي سبقتها، ربما بفضل هذا النظام الجديد الذي ابتكروه، و ربما لأن المعركة السابقة بالفعل هي أم المعارك .. على أية حال فقد مرت، و لست أريد العودة إليها و لو ملئت أضلاعي ذهبًا ..
ما سأتحدث معكم فيه هذه المرة ليس له علاقة مباشرة بالفرقة الرابعة و موادها، لكنها كانت العامل المحفز لما سأتحدث عنه .. من المعروف طبعًا أن الطبيب لا بد له أن يمارس المهنة أثناء دراسته كي يكتسب الحس الإكلينيكي و الخبرة اللازمة كي يعمل بكفاءة و احترافية، و لو أن كثيرًا من الأطباء في عهدنا الحاضر لا يفترقون عن العطارين القدامى في شيء، اللهم إلا البالطو الأبيض .. على أية حال، فقد وضعت خططًا من أجل هذا منذ أن التحقت بالكلية، لكنها كلها باءت بالفشل لأسباب عديدة، أهمها في نظري أنني لم أكن أمتلك الخلفية العلمية و النظرية للأمراض التي سأراها و الاختبارات السريرية و المعملية التي سأطلبها أو أجريها، و بهذا تكون استفادتي من التدريب قريبة من الصفر، اللهم إلا إذا اعتبرنا تدربي على الاعتياد على جو المستشفى و التعامل مع المرضى هي استفادتي الوحيدة ..
المهم أنه و ابتداء من هذا العام، و اعتمادًا على العام السابق، بدأت الرؤية تتضح، و بدأ التدرب في المستشفى يكتسب أهمية، خصوصًا و أننا بدأنا بالفعل مرحلة التعامل مع الأمراض المختلفة و كيفية تشخيصها و علاجها و ما إلى ذلك .. و هكذا ارتديت البالطو و ذهبت في زمرة من الأصدقاء نريد أن نجعل من وقت فراغنا شيئًا مفيدًا ..
بالطبع لست أكتب لأتحدث عن تفاصيل طبية لن تهم أحدًا، حتى و لو كان من زملاء المهنة، لأنني ببساطة لم أتابع أي حالة لأكثر من أن تستقر حتى تحتجز في المستشفى أو تنتقل إلى الرفيق الأعلى، فقسم الاستقبال المستشفى الجامعي تنحصر مهمته في هذا الجزء من العملية الطبية: اجعل المريض مستقر الحالة حتى نهتم نحن به في الداخل .. أكتب إليكم لأن فترة ثلاثة أسابيع رأيت فيها الكثير من العجيب و الغريب ..
الحق أقول أنني مللت من كثرة سبي و لعني لهذا النظام الصحي، لذلك قررت حقًا أن أتوقف عن ذلك، لكن ما سأتحدث عنه هنا ليس النظام الصحي، بقدر ما هو المريض المصري المسكين، و الطبيب الأكثر إثارة للشفقة من المريض، و لو أن الحديث سيجرني دون أن أشعر كي أسب و ألعن في النظام الصحي المصري، لأنه السبب المباشر في هذه المآسي التي يحياها هذا المواطن المطحون ..
يأتيك المريض بوجه بائس من متاعب الحياة زاده المرض بؤسًا، يتساوى في ذلك من جاء مريضًا مزمنًا يتابع أو يشتكي من أحد المضاعفات، بالمريض الذي يشتكي عرضًا حادًا و مرضًا بسيطًا .. الكل في الهم سواء، و الشعور العام واحد، أننا وقعنا في الفخ .. فخ المرض الذي تزيده الحكومة مأساوية، و تجعل منه كابوسًا مقيمًا .. تكلفة التشخيص عالية، و تكلفة العلاج أعلى .. المريض يأتي المستشفى الحكومي يملأه شعور لأنه لا يستطيع الإتيان بقيمة تعريفة الكشف في عيادة خاصة، و الانتظار على الألم أشد إيلامًا و أكثر مرارة من الوقوع في فخ المستشفيات الحكومية ذات السمعة التي لا نحتاج للتعريف بها ..
ربما كانت أحد عيوبي أنني صموت أغلب الوقت، أو لو شئنا الدقة "متنح" أغلب الوقت، لكن الحق أنني أراقب .. أراقب ما يحدث و من يحدثه و لماذا في محاولة مني و التحليل، لكن هذا لا يعني بالطبع أنني "الفيلسوف الطبيب"، فهذا من المستبعد حقًا .. على أية حال، أفادني هذا كثيرًا في تلكم الأيام القلائل التي قضيتها هناك، و أول ما استرعى انتباهي هم الأطباء أنفسهم ..
البعض يتعامل بالفعل مع المريض باعتباره "سفير رحمة" اختاره الله، و وهبه عقلاً يعي العلم الطبي، و قلبًا يشعر و يستشعر آلام البشر، كي يخفف هذا الألم عن المرضى، و لا يزيد إلى ألمهم الجسدي ألمًا نفسيًا أقسى و أمضّ، و البعض يتعامل من منطلق عجيب، مفاده أن هؤلاء المرضى هم مجموعة من المدّعون، الذين يريدون الحصول على خدمة طبية "ببلاش" و هم أصحاء، أو يريدون الحصول على إجازات أو .. أو .. و البعض يتعامل من منطلق أنهم مجموعة من الجهلة الغوغائيين "اللي خسارة فيهم اللقمة" و بالتالي "خسارة فيهم الطب"، و البعض عدواني بطبعه، و هذا لست أدري كيف سمح له أهله أن يلتحق بكلية الطب من الأصل ..
بعض المرضى يدعون، نعم .. أشهد بأنني رأيت مجموعة من هؤلاء .. معظمهم جهلة، نعم .. يطبقون المثل الشعبي "ما يعرفش الألف من كوز الدرة" بدقة و إخلاص، لكنهم في كل الأحوال بشر ..
أذكر حالة توليتها، كانت لمسجل سرقات، أثناء جلسة المحكمة فاجأ الجميع بقيئ دموي، و إغماء .. القيء حدث، و وقعت بعض نتائجه السلبية من انخفاض في ضغط الدم و فقدان السوائل و خلافهما، لكنه يدعي الإغماء ليهرب من المحكمة و من السجن بالطبع .. أذكر في هذه الحالة أن الحكيمة، رئيسة التمريض، قالت للنائب المسئول عن القسم في هذه النوبة "مسجون، قاتل، بكون فيه إيه بالذي .. ياخد حقه في العلاج، و يغور في ستين داهية بعد كده"، و الحق أن النائب لم يكن معترضًا من البداية، لكنني أذكر الموقف لأنها قالت بالضبط المبدأ الذي أسير وفقًا له، و لأن آخرين بالفعل يعترضون، و يكون رد فعلهم في حالة كهذه "برّه، دا بيستعبط" ..
و بمناسبة الحديث عن الأطباء، فليس منطقيًا أن أمر على نقطة توزيع المسئولية عليهم مرور الكرام .. يسير النظام الصحي في المستشفى اعتمادًا على طبيب مقيم "نائب" مسئوليته اعتماد كافة الأوراق و التقارير و الطلبات التي تتم أثناء نوبته، و التي يقوم بها الأطباء الآخرين، و هم إما في مرحلة الامتياز، أو هم على شاكلتي، ما زالوا يتدربون .. المهم أن كل هذا الحمل - اعتماد كل شيء و التأكد من صحته و مراجعته - يقع على كاهل شخصين فحسب في كل نوبة .. هذا الشخصان مطلوب منهما أن يجريا الكشف على كل الحالات، لأنه رغم وجود أطباء قد يفوق عددهم عدد المرضى، إلا أن توقيع النائب يعني تحمله مسئولية ما سيفعل مع المريض تحملاً تامًا، و هذا ما يدفعه بالطبع، للتأكد من كل حالة و إجراء الكشف عليها حتى لا يحاسب ظلمًا على ما يفعله الآخرون .. و هكذا نجد أن هذين الطبيبين - في نهاية الأمر - يتحولان إلى الطبيبين الوحيدين بالعنبر، لأنهما ببساطة أصحاب الأمر و النهي فيه ..
في أوقات الهدوء النسبي، ليس هناك أي مشكلة من أي نوع، لكن لو زاد الضغط قليلا على العنبر، لأصبحت النتيجة أن مريضين فحسب هم من يتلقون الخدمة الصحية في لحظة ما، فيما ينتظر الآخرون حتى يفرغ النائبان من التأكد من أن الطبيب الذي تحت إمرته يعمل بكفاءة، و يسير في الطريق الصحيح .. أتحدث هنا عن تأثير ذلك على المريض، لأن تأثيره على الطبيب أمر مفروغ منه .. "كالّو" في اليأفوخ دون ذرة شك .. الأمر ليس ضغط عمل، بل هي أرواح سيسأل عنها الآن و في الآخرة، و ليس من مجال يذكر للخطأ ..
إذا تركنا كل هذا جانبًا، و حاولنا النظر للأمور نظرة متفائلة، نجد أن الميزة الوحيدة في كل هذه الفوضى - أسرّة لا تكفي، و أجهزة معاقة ذهنيًا و بدنيًا، و أطباء لا يمكنهم العمل دون الرجوع للنائب الذي تتحول دماغه جراء ذلك إلى عش زنابير، و مرضى لا يتعاونون لأنهم لا يعرفون .. نجد أن الميزة الوحيدة و الأهم في كل هذا هي أن الطبيب أثناء تدربه يرى الحالات المرضية التي درسها كأشياء نظرية و كلمات مطبوعة على الورق، يجدها ماثلة أمامه بكل ما فيها، حتى تلك المضاعفات النادرة التي لا تحدث غالبًا .. تجدها في المريض المصري شاخصة أمامك، و هو ما يعني بالنسبة لي كطبيب فرصة مثالية لكي أرى ما لن أراه مستقبلا إذا كتب لي و عملت بالخارج ..
لكن هذه الميزة في الوقت ذاته تثير غصة في الحلق .. صار المعتاد بالنسبة لي أن أرى مريض السكر يشتكي من ارتفاع ضغط الدم و أمراض القلب المختلفة، رغم أن كليهما من المضاعفات التي تحدث على المدى الطويل، و من المفترض أن تحدث في واحد كل عشرين، و ليس ألا أجدها إلا واحد كل عشرين ..
أصبح من المعتاد أن أري مريض الكلى يشتكي من كبده، التي تضررت نتيجة الغسيل أو الأدوية أو الماء المسمم الذي يشربه .. نعم، هي ميزة أن أرى ما لا يرى، لكنها في الوقت ذاته كارثة أن أراه بهذا الحجم ..
و على الرغم من هذه المأساوية و التراجيدية التي أتحدث بها، فإن الأمر لا يخلو من طرافة، مردها غالبًا جهل المريض، أو اختلاف اهتمامه عن اهتمام الطبيب، بمعنى أنني كطبيب أرى مأساة أمامي تتمثل في صفراء مخيفة، و تليف في الكبد مفزع، و احتمال دخول الكليتين حلبة المرض، لكن ما يشتكي منه المريض هو بعض الدوار و الضعف !
على هذه الشاكلة كانت إحدى الحالات لرجل في الثمانين من عمره، أصيب بجلطة في المخ قبلاً، و يعاني من ضيق في الشريان الأودج الأيمن في الرقبة، و ضعف متقدم في السمع، و كل ما أتى به أهله ليشتكي منه هو دوار و سقوط لا إرادي كلما سار بضع خطوات !
كنت أتحدث لزوجته، و رغبت لحظتها فعلاً أن أخرج عن أدبي .. "يعني يا حاجة الراجل تمانين سنة، و ودانه ضايعة، و شرايين رقبته ضيقة، و مش عاوزاه يدوخ" .. مثل هذه الأشياء تجعل الطبيب يكاد ينفجر، و لو أنه من المفترض أن تحترم مشكلة المريض، لأنه لا يعلم مثلما تعلم، و ما يعيق حياته هو ما يراه مأساة، أما ما لا يشعر به، أو يراه شيئًا ثانويًا، فلن يعيره أي اهتمام، لكن هذا لا يمنع أن أشعر ببعض الحنق بسبب تفكير البعض، الذي - في مثل حالتنا هذه - يتوقع أداءً أعلى أو على الأقل مثلما سبق، من رجل بكل هذا التاريخ المرضي !
و بعيدًا عن استفزاز المرضى، فإن موقفًا حدث لي ليس يمكنني أن أنساه .. مريض يعاني من ارتفاع حاد في ضغط الدم، وصل إلى 200 على 100، و باعتبار أنه مريض بقصور في الشرايين التاجية الثلاثة، و بالسكر قبل كل هذا، فإن ضغط دم كهذا يعد كارثة .. جاء مع ابنه الذي سألني أن أقيس له الضغط، إذ أنه يشعر بصداع شديد، و قد قاسوا ضغط الدم في مركز طبي فكان الرقم الذي ذكرته .. نسيت أن أخبركم أن قسم الاستقبال لا يحوي سوى جهازين لقياس ضغط الدم، و باعتبار أن ضغط الدم من العلامات الحيوية، التي لا بد من قياسها في كل حالة، يمكن أن تستشعروا حجم المأساة التي يعيشها الطبيب، الذي يضطر "لركن" المريض جانبًا لحين وجود جهاز لا يستخدمه أحد .. و حتى إن وجد هذا الجهاز، فهو غالبًا جهاز معاق ذهنيًا، تنتفخ بالونته في غير الاتجاه المطلوب، و يرتفع الزئبق مليئًا بفقاقيع الهواء، و ربما ارتفع دون أن تنفخ البالونة أصلاً، و صمام التحكم في الهواء يعمل بسياسة التفريغ الشامل أحادي الاتجاه، إذ يفرغ الهواء دفعة واحدة دون تمكينك أن تهبط بمستوى الزئبق ببطء، و "ينفخك" أنت شخصيًا قبل أن ينفخ البالونة أو يسمح بمرور الهواء إليها ..
المهم .. جلس الرجل و ذهبت لإحضار جهاز قياس الضغط لأدخل في دوامة ليست بالقصيرة، وصل الرجل معها لمرحلة أصبح يهذي بمعنى الكلمة من الألم، و يضرب رأسه في السرير و في الحائط، ما جعل أحد الأطباء يعطيه قرصًا مخفضًا للضغط يمتص أسفل اللسان، و هو ما أدى في النهاية لأن يهدأ، و ينخفض ضغطه أربعين مليمترا زئبقيًا .. أخذ يشتكي لي، و أنا أحاول تهدئته، و كيف أنهم - أي الأطباء - يتدربون عليه، و أنه قد أتى من يومين ليقوم برسم كهربائي للقلب، ففشل الأطباء في ذلك، و الحق أن هذا ليس لعيب فيهم، بل لعيب في الجهاز، الذي تكاد تكون شاشته "الكاروهات" أقل عيوبه تأثيرًا على استعماله ..
وعدته أن أقوم أنا بنفسي بعمل رسم القلب الكهربي الخاص به، و هو ما جعله يظن أنني طبيب قلب متخصص، و لو علم أنني من زمرة الذين يتدربون عليه، لخلع نعله و أوسعني ضربًا !
الحق أنني لم أكن أخدعه، إذ أنني بالفعل متمكن إلى حد بعيد من توصيل الأقطاب و تشغيل الجهاز، و ما ينقصني هو كيفية تفسيره، و كان هذا هو السؤال الذي سألني إياه بعد أن أتممت الرسم "ها يا دكتور .. إيه الأخبار؟" .. سبحان من ألهمني وقتها ردًا قلت به الحقيقة دون أن أخبره بها .. أخبرته أنني لست أستطيع تفسيره، لكنني أجيد عمله، و هو ما دفعه إلى السؤال الثاني "مش حضرتك تخصصك باطنة برضك ؟" فأجبته أنني سأتخصص كطبيب باطني، لكنني لم أتخصص بعد، و لو علم أنني لم أتخرج حتى من الكلية .. الله وحده يعلم ماذا كان سيفعل !
لست أستطيع نسيان هذا الموقف، لأنه وضعني في مأزق، و لأنها من المرات القلائل التي أحسن فيها التصرف إلى حد بعيد، خصوصًا فيما يتعلق بالحوار مع الآخرين، و لأنه علمني كيف يمكنني أن أخرج من مأزق طالما فكرت في حلول مختلفة له .. هذا الموقف هو: كيف تبرر وجودك كطالب تنقصك الكثير من الخبرات و المعلومات، أمام مريض فيه ما فيه، و ليس يحتمل أن يعبث به أحد ؟
على أية حال، كانت تجربة مفيدة و مثيرة و ممتعة، لكنها جعلتني أرى مستقبلي كطبيب محاطًا بغلالة سوداء ..

7.12.09

الوصايا الألف .. العشرة الأولى

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الأولى: لا تثق بكل ما تسمع، حتى و إن كان من يتحدث هو لسانك
الوصية الثانية: لا تبك على من مات .. إن فارقك إلى جنة، فهو في مكان ليست دنيانا التي تبكي مفارقته إياها منه في شيء، و إن فارقك إلى نار، فليس حقًا أن تبكي من هو مثله
الوصية الثالثة: عد بما تستطيع، و لو كان كل ما تستطيع هو ألا تستطيع
الوصية الرابعة: لا تكذب .. لا تتجمل
الوصية الخامسة: إذا أخطأ غيرك، فلا تجعل من نفسك جلاده، فسوف يأتي اليوم الذي يكون هو فيه جلادك
الوصية السادسة: المال أو أخوك .. دس المال و اختر أخاك
الوصية السابعة: من بغى بسيف الحق، بُغي عليه بسيف الباطل
الوصية الثامنة: لا تحاول من أجل المحاولة، فهذا مضيعة للوقت و الجهد و المال .. حاول من أجل هدف واضح، أو توارى جانبًا و اصمت
الوصية التاسعة: ما تختاره الآن يشكل مستقبلك، فترو و لا تتعجل
الوصية العاشرة: من قال أنا عالم فقد وضع قدمًا على أول طريق الجهل

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

2.12.09

بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل السابع/ الجزء الثاني

الفصل السابع - أوراق حكومية

"السلام عليكم .. إزاي الصحة ؟" .. قالها عبد الواحد محييًا سكرتيرة فاروق، فردت و الابتسامة تعلو وجهها:
- و عليكم السلام يا باشمهندس .. الحمد لله على كل حال ..
- فاروق جوه ؟
- الدكتور لسه داخل ما بقالوش ..
و نظرت لساعتها ثم تابعت:
- تلات دقايق ..
- لازم الدقة قوي يعني .. طب أنا داخل له ..
- طب ثواني أدي له خبر ..
- لا لا لا .. دا أنا عاوزها مفاجأة ..
و أجلسها بإشارة من يده، و توجه إلى باب حجرة فاروق و فتح بابها دون مقدمات و قال و هو يصرخ:
- سلّم نفسك الإنكار مش حيفيدك ..
لثوان ارتبك فاروق و ثبت نظره إلى ذلك الواقف بالباب، و لم يلبث أن انفجر ضاحكًا و هو يقول:
- يخرب بيت طاستك يا أخي .. اقفل الباب و اتنيّل ادخل ..
أغلق عبد الواحد الباب و تقدم، فيما أكمل فاروق:
- يعني أسود فحمة، و داخل قفش، و بتصرخ، و سلم نفسك و الإنكار و مش الإنكار .. هو إيه يا بني، حد قال إني عاوز أموت بالسكتة القلبية ؟
تعانقا يضحكان، و أكمل فاروق:
- يعني لولا إن السكرتيرة عارفة إننا صحاب الروح بالروح كانت قالت الدكتور فاروق مصاحب مجانين ..
- يا عمي فك شوية من النشا اللي أنت عايش فيه ده .. عاوز أعرف يعني فيها إيه لو الدكتور يعيش فريش كده ..
- هو اللي بتعمله ده بتسميه "فريش" .. و بعدين طب ما أنا عايش أهه، وفل الفل، بس لازم شوية وقار، على الأقل احترامًا للمهنة اللي أنا بامارسها .. أنا باتعامل مع أقدس حاجة خلقها ربنا .. روح البني آدم ..
بدأت علامات الضحك و الابتسام تخفت شيئًا فشيئًا، و قال عبد الواحد:
- المهم، أنت عامل إيه ؟
- الحمد لله على كل حال .. ماشية و لسه عايشين ..
- تخيل بقى قابلت مين من يومين كده ؟
- مين ؟ .. جورج بوش ؟
- لا يا عم، باتكلم بجد ..
صمت فاروق للحظة مفكرًا، ثم قال:
- مين يعني ؟ .. حد من قرايبك في السودان ؟
- و دول حأعمل عليهم نشرة، كفاية السحابة السودا اللي هما جايين فيها ..
ضحك فاروق و سأله:
- مين بقى ؟
- بندر ..
- بندر ؟ .. بندر مين ؟
- بندر القطرنجي .. تعرف حد بالاسم ده غيره ؟
ظهرت على وجه فاروق علامات تذكر ذكرى بعيدة، و قال:
- يااااااه .. ده عمر تاني يا بني .. و ده عترت عليه فين ده ؟
- تخيل فين ؟ .. كنت حأدوسه بالعربية !
- و حصل إيه ؟
- لا خير الحمد لله .. أنا كنت باسوق و أنا سرحان و فقت، و هو كان ماشي و هو سرحان و فاق .. خبطة نونو كده بس ما حصلش منها حاجة الحمد لله ..
بدت علامات الاهتمام على فاروق، و انحنى للأمام مستندًا إلى مكتبه، و سأل:
- و الواد ده عامل إيه دلوقتي، و إيه اللي جابه مصر أصلاً ..
- تقريبًا مشاكل والده ف سوريا ..
- هو قال لك كده ؟ و لا تخمين ..
- تخمين، بس هو اتضايق لما سألته .. على كل هو حيقعد ف مصر رسمي خلاص ..
- يآنس و يشرف .. هو سكن و لا لسه ..
- من زماااان .. دا بقى له حاجة بتاع تلات شهور هنا ..
- و لا آلو و لا إزيكوا و لا أي حاجة كده ..
- أنت عارف الواد ده موعود بالمصايب .. بيصعب عليا قوي ..
- طب معاك نمرة تليفونه ؟
- أكيد ..
و أخرج هاتفه المحمول يمليه الرقم، و فاروق يتساءل:
- ألا عملت إيه بخصوص الأرض ؟
أعاد عبد الواحد هاتفه إلى جيبه و هو يسأل فاروقًا:
- ألا قول لي الأول .. أنا معطلك عن حاجة ؟
- لا لا أبدًا .. أنا بأحب آجي بدري شوية علشان لو فيه حاجة متأخرة أخلصها، بس مفيش ..
- طب حلو .. بص يا سيدي ..
و اعتدل في جلسته، و تابع:
- عملت الشكوى اللي طلبها سيادة العقيد محسن، و قدمتها له النهاردة و قال لي إنه حيتابع الموضوع بنفسه و يتصل بي يقول لي إيه آخر التطورات .. على فكرة ..
صمت لحظة ثم تابع، فيما قطع فاروق تساؤله الذي كان على طرف لسانه:
- الراجل ده ذوق جدًا .. نادرًا ما بألاقي حد من الشرطة بالنضافة دي ..
- الطيور على أشكالها تقع .. أنت لو ما كانش قلبك أبيض، كنت وقعت في حيص بيص ..
- آه و الله .. تخيل ..
مد عبد الواحد ساقه و انزلق قليلاً في مقعده عاقدًا يديه فوق رأسه، و قال:
- تخيل بقى لو ما كنتش أنا أعرفك و أنت ما تعرفش العقيد محسن .. كنت اتسورت .. بلد علشان تاخد فيها حقك .. حقك، مش حق غيرك .. علشان تاخده لازم كوسة و وسايط !
- ده بيفكرني بكلمة قالها لي أبو واحد زميلي أيام الثانوي .. قال لي البلد دي مش ماشية براسها، دي ماشية بـ"و لا مؤاخذة" اللي في الناحية التانية من الجسم ..
- المقعدة ؟
- طبعًا هو استخدم اللفظ الصريح، بس معاه حق .. مفيش بلد في الدنيا فيها اللي بيحصل عندنا ده ..
التفتا إلى الباب إثر طرق خفيف من السكرتيرة التي فتحت الباب بعد الطرق و قالت:
- أستاذ ممدوح وصل يا دكتور ..
- طب ثواني و دخليه ..
ثم التفت إلى عبد الواحد و قال:
- أول عيان وصل يا باشا .. اتكل أنت بقى ..
- ماشي يا سيدي .. ألا قول لي ..
ثم أكمل و هو يقوم عن مقعده:
- أخبار الحاج عبد الغفار إيه ؟
- هو جيمي قال لك ؟
- اتصلت بيه علشان نتفق ع المصيف، فاعتذر و حكى لي ع الموضوع ..
- حاجة بسيطة، و عملية أبسط، بس دقيقة شوية .. يوم في المستشفى، و يوم كمان يستريح، و بعد كده خروج، و يقعد بقى تلات شهور لغاية ما كل حاجة تتحسن و يرجع يمشي على رجليه تاني ..
- إن شاء الله .. بس شكلها فركش السنة دي م المصيف .. أنا حتى حاسس إني ما ليش نفس .. الواد خميس كان ..
و احتبست الكلمات في حلقه، فقال محاولاً الإفلات من الموقف:
- المهم استأذن أنا، و أسيبك للعيانين .. بركة إنك بخير .. سلام ..
شيعه فاروق بنظراته، التي لم ير عبد الواحد أن طبقة رقيقة من الدمع قد كستها:
- و مين له نفس يا عُبد .. مين له نفس ..
***
تمطأ إسماعيل بقوة كقط استيقظ لتوه، و تثاءب و هو يفرك عينيه اللتين أضناهما كثرة النظر إلى الأوراق و المكاتبات و المذكرات و الإعلانات، ثم حك رأسه يحاول أن يزيل الشحنات الساكنة التي تراكمت بين خصلات شعره الأكرت من كثرة التفكير، و إثر طرق خفيف على باب حجرة مكتبه قال:
- اتفضل يا حسين ..
دخل ابنه مبتسمًا، فتابع:
- عاوز تنزل طبعًا ؟
- ميزتك يا باب إنك قاريني .. ما بأحتاجش أطوّل في الكلام و أكتر ..
ابتسم إسماعيل و قال:
- يا بني أنا بنقرا جيناتي أنا .. المهم، حتروح فين ؟
- أنا اتفقت مع إيهاب و طلعت إننا نطلع سينما، بس مستني الموافقة الملكية ..
و اتبعها بابتسامة تزلف و تملق ابتسم لها إسماعيل، و قال:
- حتدخلوا فيلم إيه ؟
- الفيلم بتاع أحمد حلمي الجديد ..
- آسف ع الإزعاج ؟
فرقع حسين بأصابعه و قال:
- يا حلاوتك يا سمعة يا بتاع السيما أنت ..
- احترم نفسك يا ولد .. الحكاية كلها إن الواد دا داخل دماغي ..
- يعني موافق ؟
- بس المهم تدخلوا الفيلم دا فعلاً، مش تشوفوا حتة بت مقلوظة على بوستر بتاع فيلم أجنبي تقوموا تدخلوه علشان اللحمة .. فاهم ياض ؟
- عيب يا بابا .. و دا كلام ..
- دا كلام و نص يا روح بابا ..
ثم قام عن مكتبه و توجه إليه و قال:
- المهم بس ما تتأخرش .. يعني حداشر بالكتير تكون هنا، و طبعًا ما تنساش إن في اختراع اسمه التليفون ممكن أجيبك من قفاك بيه ..
- عارف يا بابا ..
قالها بشيء من الضيق فرد إسماعيل:
- حبيت أفكرك بس، رغم إني لغاية دلوقتي ما استعملتش الميزة دي في الموبايل ..
ثم دفعه برفق و قال:
- يا لا يا بطل .. بالسلامة، و ابقى خليك فاكر تجيب معاك لبن و أنت جاي .. عارف لو نسيت ..
- لا مش حأنسي .. سلام ..
و انطلق فيما نادى إسماعيل زوجه:
- لو قاعدة ف الإنتريه خليكي .. أنا جاي لك ..
و اتجه إلى حجرة المعيشة يثني ظهره و ركبتيه و جذعه محاولاً الخروج من حالة التيبس التي أصابته من كثرة الجلوس إلى المكتب يراجع ما تم في شأن جهاز الأشعة المحترق، و الجفت الجراحي الغير مطابق للمواصفات ..
- وصلت لإيه يا إسماعيل ؟
- مسخرة .. دا أنا كنت قاعد على خازوق مش كرسي رئيس مجلس إدارة ..
- يا ستار يا رب .. ليه يعني ؟
- بصي يا ستي ..
ملأ صدره بالهواء و قال:
- الأول بس ابعدي البصل دا عن عيني، مش ناقصة تدميع .. و بعدين مش تخلصي البتاعة دي ف المطبخ ..
- يا خويا تعبت من كرسي المطبخ المأتب ده .. فوّت يا راجل، ما أنا اللي بانضف ..
- نهايته .. بصي يا ستي ..
ملأ صدره بالهواء مرة أخري و غاص في الأريكة الوثيرة و تابع:
- الجزمة ابن الكلب الأولاني بتاع الصيانة .. جزمة و ابن كلب و يستاهل ضرب الجزم .. الواد بتاع الأشعة قدم ييجي ميت طلب إنهم يشوفوا صرفة في جهاز التكييف اللي بايظ، و هو يصلبت فيه، و يا ريته بيصلبت فيه بذمة .. السلك المستخدم أرفع م المطلوب، و الجهاز يشتغل يوم و هوب .. ووووووش، يوّلع، و الجهاز بتاع الأشعة وووش معاه .. ابن كلب واطي .. مش عارف ليه يعني قلة الأدب دي ..
- يكون عاوز يكهن الجهاز و يجيب واحد من شركة له فيها معرفة و يسلك له قرشين ؟
- أنا قلت كده برضك، بس لزومها إيه قلت الأدب دي .. كان يقول إن الجهاز لا يصلح و إنه لازم يتكهن، و ما كانش حد حيعارضه، لأن الجهاز قديم فعلاً ..
- و الموضوع حيخلص على إيه بعد ده كله ؟
- دي كده فيها خيانة أمانة .. الواد العبيط مش واخد باله إنه ماضي على نفسه عقد، فيه بند إنه مسئول عن كل أجهزة المستشفى، ما لم يذكر اسم مختص آخر، فيما يتعلق بمسألة الصيانة، و إن إخلاله بمسئوليته فيما يتعلق صيانة أي جهاز تحت إيده يعتبر خيانة للأمانة، و يقاضى بموجب مواد القانون فيما يختص بخيانة الأمانة .. و ديني لأكون مربيه و موديه ف داهية ..
- يا خويا هدي أعصابك .. بلاش التنشنة دي ..
أنهت ما بيدها من أصابع محشي الكوسة، و نفّضت ما علق بيديها من بقايا خليط الأرز و الخضرة و البصل، و حملت الصينية و الأوعية ذاهبة للمطبخ و زوجها يشيعها بكلماته:
- خليكي أنت في المحشي بتاعك ده بالبصل و عينك المدمعة و سيبيني أنا أفش غلي شوية .. أنا حانفجر ..
و بينما هي في المطبخ تفرغ مما بيدها من صوان و أوعية، تذكر ما كان بينه و بين مسئول قسم المشتريات، فضحك بملء فيه، بل لا نكذب لو قلنا قهقه، ما جعل زوجه تسأله و هي ما زالت في مطبخها:
- بتضحك على إيه يا إسماعيل ؟
- دا البأف التاني بتاع المشتريات .. تعالي بس أنت الأول و بعدين أحكي لك ..
الحق أن ما فعله مع مسئول قسم المشتريات كان يستحق التصوير و التسجيل .. حتى هو نفسه لا يزال غير مصدق أنه فعل ما فعل ..
- طبعًا الواد دلوقتي مفتوح معاه تحقيق رسمي و شكله حيلبس قضية اختلاس وش يعني .. بس أنا جبته على جنب و حبيت أعرف منه و امشيها ودي في الأول، لأنه أصلاً معرفة من زمان قوي .. ماحبتش أفتح على بوابة جهنم من أولها، قلت يمكن ييجي بالذوق .. لقيته بيبقبق و يتهته و يلغبط في الكلام، و بعدين شويتين لقيته بيقول كلام تاني خالص و شايط و أنت بتكلمني كده ليه، و أنا عملت اللي فيه المصلحة و مش عارف إيه و أبصر إيه .. لقيتني مرة واحدة هبيت فيه، قلت له بص ياض .. أنا دكتور آه، رئيس مجلس إدارة مستشفى قد الدنيا ماشي، لكن أنا أصلا من القباري و أمي من كرموز ..
- يا خبر أبيض ..
- صبرك بالله .. قلت حتبق معايا و مش حتيجي بالذوق، حأكون مفرج عليك اللي يسوى و اللي ما يسواش و أخليهم يبيعوا منك الكيلو بقرش .. فاهم ؟
- و عمل إيه ؟
- و الله أنا مش عارف أنا قلت الكلمتين دول إزاي أصلاً، بس الواد بلّم و تنّح و قر بكل حاجة .. ابن الرفضي جاب الجفت من شركة شغال فيها واحد قريبه، و سجل الفاتورة بسعر، و دفع سعر أقل، و الباقي في جيبه .. و الدكتور التاني رئيس قسم العمليات استلم و الحجة اللي اتقالت له إن ده الجفت المتوفر في السوق حاليًا، و إن العمليات ممكن تأخر أكتر من كده، لو انتظرنا وصول الرسايل اللي حيكون فيها الجفت اللي إحنا عاوزينه ..
- بس أنت شلقت له خالص يعني .. كان في حد حاضر ؟
- لا .. ما أنا مش حبعبع بكل ده و في ناس نضيفة قاعدة .. اسمي برضه دكتور و رئيس مجلس إدارة .. المهم في الآخر حولته تحقيق رسمي .. ما دام هي قلة أدب، يبقى يتربى أحسن .. نومة البورش حتعلمه، هو و الدغف التاني بتاع الصيانة ..
- طب أشرب الينسون و روّق دمك .. كفاية حرقة أعصاب ..
- أنا ما حارق دمي غير إن الاتنين بياخدوا مرتب يتحسدوا عليه .. بيعضوا الإيد اللي اتمدت لهم ليه ؟ .. ليه النتانة و قلة الأدب دي ..
- في ناس طبعها كده .. تحسن لها بس هيا في الآخر واطية .. الحمد لله إن ربنا كشفهم و خلّصك منهم ..
- بأقولك إيه ..
و ضغط زر تشغيل التلفزيون و أخذ يستعرض المحطات المختلفة و تابع:
- أنا بأقول نتفرج على حاجة أحسن من السيرة النكد دي ..
- طب اربط هنا .. خلي الفيلم ده جميل ..
و رغم أنه كان – ظاهريًا – يتابع الفيلم معها، إلا أن ذهنه كان في واد آخر ..
***

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar