(مع الاعتذار للسيد م. أ أو كما أعرفه في الحقيقة بـ ع. ع )
إنها الثامنة عشر .. نهاية المراهقة و بداية أحلام الشباب .. القوة و الفتوة .. الانطلاق و الحرية .. و الحب .. الحق يقال أنه كان طموحًا و جادًا، لكنه كان شابًا في الوقت ذاته .. ليس من الغريب إذًا أن يهفو قلبه أن يعيش قصة من تلك التي سمع عنها و قرأ منها و رآها كثيرًا ..
الحق يقال إنه كان طموحًا و جادًا .. كان هدفه الأسمى أن يلتحق بكلة مرموقة توفر له حياة كريمة، و نجح في ذلك ..
كان من نصيبه أن تكون هذه الكلية التي تمناها هي كلية هندسة التعدين و البترول في السويس - أفترض أنكم تدركون أنه مصري - و مع بدايات دراسته، بدأ دخوله لهذا العالم الساحر .. العالم العنكبوتي المتشعب الافتراضي .. عالم الإنترنت .. كانت بداياته مع هذا العالم مع بداية دراسته و منها بدأت قصة حبه الأولى و الأخيرة ..
سافر للسويس، و هناك بجوار دراسته الذي عذبته طويلاً، كحال معظم كليات مصر العملية، دله أحد أصدقائه و علمه و عرفه بهذا العالم المتشعب .. الحق يقال أنه اجتماعيّ بطبعه، و ذكي، لذا لم يستغرق وقتًا طويلاً ليستوعب كل ما قيل و يقال عن كيفية إنشاء حساب بريد إلكتروني إلي كيفية تحميل المرسال - Yahoo Messenger للدقة - إلي هذا الكم من المصطلحات و الاختصارات التي ينبغي تعلمها ليكون قادرًا على التواصل مع خلق الله في مختلف بقاع أرض الله ..
تعلم هذا، لا لأنه كان واضعًا نصب عينيه أن يبحث عمن يحب خلال الإنترنت، فلم يكن هذا في مخيلته .. أقصي أمنياته كان أن يحب واحدة مصرية لينشأ بيتًا شعر فيه بالملَكية .. هكذا كان يقول دومًا .. أنت في بيتك ملك، و أريد أن أكون هذا الملك قريبًا .. كان هذا أقصي ما في مخيلته، لذا لم يكن دافعه للتعلم هو أن (يلتقط) واحدة ليبدأ معها قصة حب، بل لينشأ صداقات يسلي بها وقته الطويل المليء بالثقوب و الفراغات .. المذاكرة مهما حدث لن تشغل اليوم كله، فماذا يفعل إذًا فيما تبقي من وقت طويل ممل ؟ ..
أبحر .. تعرف علي كثيرين .. قلة بقوا في قائمة الأصدقاء، و كانت منهم هي .. تركية هي من إزمير، عرفته بنفسها و عرفها بنفسه .. في السابعة عشر هي، في ما يعادل عندنا الصف الأول الثانوي .. مرت اللقاءات الافتراضية عادية للغاية .. كانت نهمة أن تعرف و تتعرف علي مصر، لا من باب الحب، بل من باب الفضول .. و كان هذا هو ما شغل لقاءاتهم الأولي لما يزيد علي أسبوع ..
عندما يتذكر هذه الأيام الأولي يتعجب .. لم كانا مصرين علي اللقاء و كأنه ضرورة لا بد منها رغم أنه لا استلطاف و لا إعجاب بينهما، و لم يفكر أي منهما فيه ؟ .. لكنها على كل استمرت ..
حدثها عن مصر، و حدثته عن تركيا .. و لأنه كان جادًا و طموحًا فقد كان قارئًا نهمًا، عاشقًا للحبر و الورق أو صفحات ملفات الـ pdf ما دامت هي وسيلته للقراءة بعد أن تعرف علي جزيرة الكنز علي الإنترنت متمثلة في أحد مواقع تحمل الكتب .. كان يقرأ بنهم، و لذا لم يكن من الممكن أن يجادله أحد و لا يجد فيه ندًا عنيدًا و محاورًا قيمًا ..
أشعر بكم الآن تقولون إنك تتحدث عن كائن مثالي .. جاد و طموح و مثقف و نهم للقراءة .. لكنه ليس كذلك، ليس لأنه ما من أحد كامل منا، بل لأن نقاط الضعف الإنساني تظهر و تختفي فقط عندما نريد .. عندما نريد .. و عندما أراد هو أن يحب، ظهر كل ما فيه ..
كان قارئًا نهمًا، لذلك حاورها كثيرًا في مختلف القضايا التي طرحاها للنقاش .. حاورته في ما يحدث في مصر، و حاورها في ما يحدث في تركيا .. و اكتشف لحظتها أولي نقائصه و نقاط ضعفه .. إنه محاور عنيد، و العناد ليس صفة محببة علي الإطلاق .. هناك الإصرار، و يكون علي الحق، و هناك العناد، و يكون علي الهوى .. و لكم يجنح الهوى ..
كثيرًا ما أغلقا الخطوط بعنف أثناء حديثهما، إذا جاز لنا أن نستعير هذا التعبير في هذا العالم الذي لا يحتوي علي سماعة واحدة، اللهم إلا سماعة الـ headphone ..
لكنهما كانا يعودان كما كانا .. كانت اللقاءات - كما ترون - جافة لا تنبيء بتطور علاقة حب من أي نوع، لكن الحق يقال أن هذه اللقاءات كانت هي فاتحة هذه العلاقة ..
انتقل الحديث رويدًا رويدًا من الشأن العام إلي الشأن الخاص .. كيف هو و كيف هي .. بم يشعر و بم تشعر .. كيف يبدو و كيف تبدو .. و بدآ ينزلقان رويدًا رويدًا نحو دوامة الحب اللذيذة المخدرة ..
تبادلا الصور و الحكايات و النوادر .. و علي مدي أمثر من ثلاثة أشهر كانا قد كونا ما يمكن أن نسميه ابطة أقوي من الصداقة و أضعف من الحب ..
أنهي عامه الأول بتفوق لم يتزحزح عنه .. رغم أن الدردشة - أو لنكن أدق حوار الأحبة - ستهلك وقتًا طويلاً، إلا أنه نجح في أن ينظم وقته رغم كل شيء .. و مع نهاية عامه الأول أصبح بالإمكان أن نعتبرهما حبيبين .. لم يدريا كيف و لا أين و لا متي بدأ هذا الشعور ينمو و لا كيف و لا متي و لا أين استقر بالضبط، لكنهما اكتشفا أولي علاماته .. لم يعد من الممكن فعليًا أن يمر يوم دون أن يقول أحدهما للآخر و لو حتي مجرد كلمة واحدة .. صارت صورة كل منهما تملأ مخيلة الآخر ..
و ككل قصص الحب، لا بد من غراب بين، لكن غراب البين ها هنا كان عصفورة بين .. لست أدري لم هو لزام علي كل قصص الحب أن تسير بهذه الوتيرة .. تعارف-أشواق ملتهبة-غراب بين-فراق-عودة، أو ربما هي السينما التي عودتنا علي ذلك .. أيًا كان، فالأمر يرجع إلي بدايات تكوينه لصداقاته عبر الأثير، إذ أضاف فتاة يونانية تعادل عمرًا تلك التركية، أو ربما هي أكبر منها بقليل .. لكن ليس المهم من هي أو كيف هي، بل المهم هنا أنه سار في تكوين صداقة تطورت قليلاً، و إن كان هو قد حجّمها ربما لأنه لم يجد تناغمًا بينه و بينها، لكن بطريقة ما - و أرجوك لا تسألني كيف فأنا شخصيًا لا أعرف، و لم يسعفني تفكيري إلى الطريقة التي حدث بها هذا - قرأت رسالة منها إليه و رده عليها .. كانت اللغة حميمية بصورة أكبر بقليل من مجرد صداقة دردشة .. غضبت - التركية - و هاجت و ماجت و أرغت و أزبدت و انقطعت عن الحديث معه ما يقرب من ثلاثة أسابيع ..
أقسم لها أنه لا يشعر تجاه تلك اليونانية بأي شعور خاص .. هي مجرد صداقة عابرة .. توسل إليها و لعن تلك اللحظة التي تعرف فيها علي تلك اليونانية ..
و كما بدأ هو في اكتشاف نقائصه عندما بدأ يحب - و ليس معني هذا أن الحب كاشف للنقائص، بقدر ما يعني أن المحب يحاول أن يحسن من صورته، حتي يمتع حبيبه بأجمل ما فيه - أكاد اتخيلها و قد اكتشفت شيئًا فيها مدمرًا .. الشك ..
ازرع الشك في نفس أحدهم و سينمو أسرع من الحشائش المتطفلة .. و أكاد اتخيلها و قد شعرت أنها ظلمته .. و أكاد أشعر بها تطير فرحًا - رغم كل شيء - عندما عادا للحديث معًا مرة أخري ..
أخبره أنها تغار عليه .. أخبرها أنه يحب ذلك منها، لكن عليها أن تثق به أكثر .. و بعد شهور جاء دوره ليمسك بزمام المبادرة الشكية ..
بطريقة أشبه بالأفلام المصرية القديمة اكتشف صورة لها - بل عدة صور - مع شاب رجح أنه تركي هو الآخر، و لم تكن كل الصور بالبراءة المتوقعة مع شاب غريب .. و اكتشف ها هنا ثاني نقائصه مثلها .. الشك المدمر .. رغم أن الحق كان معه - ربما بأكثر مما كان معها - لكن ذهنه ذهب بعيدًا .. بعيدًا جدًا ..
تصالحا بعدها بأسابيع، لكن العمر الافتراضي لقصتهما اقترب كثيرًا من نهايته ..
ليس أي منهما يدري متي بالضبط أصبح كلاهما يشعر أنه لا فارق أكلم الآخر أم لا .. لا يدري أي منهما متي بدآ يشعران و كأن الأمر كان هراء .. سبعة عشر شهرًا مرت علي هذه اللقاءات الخيالية حدث خلالها الكثير لكن لم يبق منها الكثير في النهاية ..
و كأنه أتي فجأة، و كأنهما استيقظا فوجداه علي حين غفلة منهما، جاء اليوم الذي لم يعد أي منهما يمثل ذكرى للآخر ..
جاء يوم القطيعة الكاملة .. كيف ؟ أي منهما لا يدري .. لم ؟ ربما لأنهما استفدا رصيد الحب في شهور معدودة، و ربما لأن علاقات الإنترنت قصيرة الأمد ..
و رغم ذلك فلم ينس أي منهما الآخر كلية .. شئت أم أبيت، يظل الحب الأول هو الحب الأول .. و مهما فعلت فلن تهرب منه ..
وارها غياهب جب ذاكرته و التفت أكثر لدراسته .. و مرت سراعًا السنون ..
عامًا فالآخر فما يليه، و أصبح أخيرًا مهندسًا في أحد شركات التنقيب عن البترول .. ربما لهذا اختار هذه الكلية، فالتفوق فيها هو ضمان أكيد لعمل محترم بلا تعب و لا إحباط من كثرة البحث فور التخرج ..
كم أصبح عمره ؟ في السابعة و العشرين هو الآن .. كيف هو ؟ مهندس ذو مركز و وجاهة اجتماعية لا بأس بها .. و فيم يفكر ؟ .. عجبًا ..
عجبًا، لأنها أول من قفز إلي ذهنه عندما حدثته والدته عن الزواج .. حديث الأمهات الذي لن ينضب معينه .. و عجبًا لأن فكرة مثل هذه واتته ..
سأسافر .. إلي أين ؟ .. مباشرة إلي حيث هي .. إلي إزمير دون محطات ..
كان يمتلك عنوانها .. تبادلاه ذات مرة .. ما زال محتفظًا به رغم كل هذه السنوات .. لم يكن من الصعب أن يحصل على إجازة و على تأشيرة، و لم يكن من الصعب عليه أن يستدل علي المنزل لأنه ببساطة قد تعلم التركية خصيصًا من أجلها، و الآن فقط أدرك كم نفعته ..
عثر عليه، لكنه لم يعثر عليها .. لا ينكر أنه كان كالشهاب الساقط علي رأس والدتها - التي كان يعرفها من صور فتاته العائلية - لذا لم يستنكر دهشتها و صدمتها عندما رأته .. سألها عنها .. أخبرته بشفاه مرتجفة و عقل متبلبل و نفس متشككة أنها تعيش في اسطنبول، و أعطته العنوان .. تعجب هو نفسه من ان تقدم علي هذه الخطوة، لأنه ببساطة و أيًا ما كان بينه و بين ابنتها ليس سوي شخص غريب .. لكنه لم يرفض ..
بحث عنها في إسطنبول .. وجد المنزل .. طرق الباب، و فوجئ بهذا الطفل الصغير يفتح .. تسارعت دقات قلبه، و تسارع الشك في نفسه كشخص يجري كالمحموم في كل السبل و الطرق و الاتجاهات .. سأله أين هي، و كانت الصاعقة الكبرى عندما رأها و لم يكمل سؤاله بعد ..
رأها و قد أصبحت أكبر بكثير عما كانت عليه وقت أن رأها عبر كاميرا الويب آخر مرة .. كانت أكبر بتسع سنين، و بذلك الجنين في بطنها ..
خرجت الكلمات من فمه كجريح يزحف لافظًا أنفاسه الأخيرة .. خرج سؤاله عن حالها باهتًا ميتًا و جاءت إجابتها إجابة مصدوم .. الحق يقال أنها لم تتوقع أن يأتي، و لا حتى في أشنع كوابيسها .. و إن هي إلا لحظات حتي ظهر رجل في خلفية المشهد .. زوجها ..
الآن اكتملت الصورة أمامه و ذابت كل مساحيق التجميل التي وضعها الحب علي تلك الصورة .. كل رسائل الحب و الغرام التي تبادلها تلاشت .. الآن فقط أدرك أنه كان يعيش وهمًا .. يحب وهمًا .. وهم في وهم ..
في صوت مبحوح و طلب صادم وسط دهشة الزوج منه سألها أين الحمام .. أشارت في صمت إلي حيث يوجد فتوجه صامتًا و زوجها بدو كالأبله لا يعرف مما يحدث شيئًا .. سمعهما يتحدثان خلفه، يسالها عنه و هي تجيب إجابات أقرب للهلوسة من أي شيء آخر .. لا إجابة واضحة، فالواقع أن مجيئه كان صدمة بكل المقاييس ..
لم تتوقع أن يبزغ حبها القديم هكذا إذ فجأة و دون مقدمات .. ذلك الحب الذي عاشته بصدق، لكنها تخلت عنه بنذالة، كما تخلي هو عنه - أو هذا ما ظنته - فقد جاء اليوم متذكرًا إياها و هي التي طرحته كلية بعيدًا عن حياتها ..
وقف أمام المرآة .. سراب في سراب .. وهم في وهم .. ابتسم بزاوية فمه ابتسامة من أدرك حقيقة الأمور ..
أخرج حافظة نقوده، و منها أخرج سلسلة فيه كانت أهدته إياها بالبريد في عيد ميلاده .. نظر إليها مليًا و لهذا الحجر الكريم المنحوت علي شكل قلب أحمر متوهج من العقيق الصافي .. نظر إليه بعمق، محاولاً أن يستكشف منه لم حدث كل ما حدث ..
في بطء ارتدى السلسلة فوق رابطة العنق التي كان يرتديها .. تدلي القلب، و في داخله شعر بقلبه ينقبض .. ينبض بقوة .. مرت أمامه في لحظات كل لحظات حديثهما المتواصل الساهر العابر للأسلاك .. قلبه يُعصر داخل صدره، لكنه لم يفعل أكثر من أن ابتسم ابتسامة ساخرة و اندفع إلي الباب يدفعه ليجدها أمامه هي و زوجها و ابنهما ينظرون إليه و قد كادوا - على ما يبدو - أن يقتحموا عليه الحمام .. وضع يده علي موضع قلبه الذي شعر به و قد توقف، و حقًا كان يشعر ..
توقف قلبه الذي أحبها عن أن ينبض المزيد من النبضات التي ستضيع بعيدًا عنها .. توقف قلبه عن أن ينبض المزيد من النبضات و قد شعر أنها ستكون بلا جدوى، ما دامت قد نسيته ..
توقف قلبه عن أن ينبض .. نظر إليها نظرة أخيرة زائغة و كلمة مرتجفة ترتسم علي شفتيه المزمومتين من الألم الذي حفر نفسه علي وجه، و عند قدميها سقط بلا نفس ..