الفصل الأول: الموت ضحكًا
من العجيب أن تبدأ أي قصة في مكان كهذا، و لكن ما باليد حيلة .. قصتنا أيها السادة الكرام بدأت في حمام !
الذنب ذنبه أن لم يتمالك نفسه .. كان ينفجر ضاحكًا، و يكاد لا يري أمامه، و هو بالفعل إذ دخل ها هنا أثبت أنه لم يكن يري ما أمامه ..
منذ خمس دقائق فقط كان زكريا يجلس إلي مائدة صغيرة تضمه مع نفر من أعز أصدقائه، سنذكرهم فيما بعد، لكن أبرزهم في هذه اللحظة كان إسماعيل ..
بدأ إسماعيل الحديث جادًا إذ قال:
- شوفتوا آخر مصايب الميري ؟
- إيه ؟ .. postoperative gangrene تاني و لا إيه ؟
كان المتحدث هو زكريا نفسه، الطبيب المعروف و أستاذ جراحة الصدر و القلب في كلية الطب بالإسكندرية، و قد ذكره قول إسماعيل بتلك الكارثة التي كادت أن تحل به إثر موت مريض بسبب غرغرينا أُهملت فلم يتحملها المريض لكبر سنه .. المشكلة أن الغرغرينا حدث بعد عملية قلب مفتوح أجراها زكريا، و لولا عناية الله التي أظهرت خطأ التمريض الفادح، لما جلس زكريا إليهم الليلة ..
تابع إسماعيل:
- لا يا سيدي .. يا ريت .. الأسبوع اللي فات جه مريض ذبحة .. هوب الحقوه بسرعة و ادوله الحقنة .. هوب يالا يالا الراجل طلع ع الإنعاش .. الدكتورة عبت الحقنة و أديتها للممرضة علشان تديها له ..
- نست و سابته ..
قاطعه زكريا و قد تربت لديه عقدة من الممرضات الحكوميات، فأكمل:
- يا ريت يا زيكا .. الدكتورة عبت الحقنة، و أديتها للمرضة و نزلت تشوف مذيب للبقعة اللي علي هدومها .. و قامت واخدة سرنجة فاضية .. غابت دقيقة واحدة رجعت معاها سرنجة بنزبن ..
تعلقت به العيون و كل يحاول أن يتوقع أي النهايات السوداء التي تجول برأسه هي التي وقعت، و سمعوه إذ يتابع:
- بذكاءها الحكومي الخارق الدكتورة حطت السرنجة جنب السرنجة .. دكتورة نادتها طلعت تجري، و نست الحقنة ..
- و الراجل أخدها ؟
- الله ينور عليك يا بو الجيم .. الراجل أخد الحقنة من هنا في الوريد و آااااااااااااااااااااااااه .. صرخ و فط م السرير كأنه ملسوع و قام طالع يجري في الطرقة و لا كأن ماسكة فيه النار، و قام هوب .. جه ف آخر الطرق طب ساكت ..
سألوه تقريبًا في نفس الوقت:
- إيه .. مات ؟
أجاب بهدوء:
- لا .. البنزين خلص ..
حملقوا فيه لثانية مصدومين من أنهم كانوا يستمعون كل هذا الوقت لخدعة من إسماعيل، إلا أنهم ما لبثوا أن انفجروا ضاحكين لافتين إليهم الأنظار بشدة ..
وحده زكريا قام عن مجلسهم و هو يواصل الضحك محاولاً تمالك نفسه، و قد أراد الذهاب لدورة المياه - للمرة العاشرة علي الأقل - بسبب تضخم البروستاتا لديه و الذي يجعله يشعر باتلاء المثانة أسرع من أي شخص .. كارثة هي إن لم يجد دورة مياه متاحةى في أي مكان يذهب إليه .. مرة فعلها و بال في الطريق - و هو الأستاذ الجامعي - و لكن للضرورة أحكام قد تذل أحيانا ..
بصعوبة كان يكتم ضحكاته .. هو معروف بأن "فشته عايمة"، و لهذا يحاول تجنب النكات اللاذعة كتلك في الحفلات العامة حتي لا يخرج عن المألوف، لكن آه من إسماعيل ... فعلها فيه هذا الصعلوك ..
الصعلوك ؟ .. ليس لقبًا مناسبًا أن تنادي به رئيس مجلس إدارة، لكن بين الأصدقاء لا مشاكل .. مرات و مرات تقاذفا بعضهما البعض بما هو أقذع ..
دورات المياه .. أخيرًا و صل لأحب مكان إليه و هو في حاله تلك، و لكن تبًا لذلك الضحك .. لقد أحاط عينه بطبقة رقيقة من الدموع جعلته لا يلاحظ تلك الجونلة التي تدلت من الجانبين بجوار كلمة W.C. و هو ما يعني ببساطة أنه في الجانب الخطأ .. تمامًا ..
فتح الباب بعفوية و إذ به يتوقف عن الضحك دفعة واحدة و يحملق بدهشة في ذلك الشعر الذهبي المنساب إلي الجانبين و ذلك الفستان الأسود الأنيق فتراجع مذعورًا مذهولاً يغمغم بكلمات الأسف و الاعتذار، و هو يراها تبتسم عبر المرآة غير مبالية بما حدث، أو مقدرة لمقدار حرجه غير راغبة في إضافة المزيد ..
خرج في هدوء و توجه بكل أدب و احترام إلي دورة المياه المقابلة، و قضي حاجته يضرب أخماسًا لأسدادس ..
جلس بين أصدقائه شارد الذهن، فسأله جمال:
-إيه يا زكريا .. أنت نزلت الضحك مع الـ ... و لا إيه ؟
انفجروا ضاحكين ما عداه فسأله بجدية هذه المرة:
- في إيه ؟
حكي لهم باختصار ما حدث و أنهاه بقوله:
- منك لله يا سمعة .. كله منك ..
- يا نهارك أحمر .. طب احمد ربنا أنها كانت لوحدها و أنها ست دماغها كبير و إلا كانت شبشبتك ..
التفت بعفوية - و ربما رغبة أن يراها ثانية - إلي مدخل دورات المياه، فوجدها تخرج، فتتبعها حتي جلست بين قرناء لها و إن بدت كالبدر و سطهم ..
مال زكريا علي كتف فاروق و قال:
- بما أنك من عيلة العروسة .. دي معاكم و لا مع التانيين ؟
و أشار إليها، فتمعن فاروق لحظة ثم قال:
- آ .. الشقرا .. دي تبقي بنت عمة العروسة .. اسمها سارة عبد اللطيف الهواري، بس إيه .. انسي يا عمرو ..
- انسي يا عمرو ..؟
- ضفرها برقبة تلتماية م اللي قاعدين هنا .. بما فيهم أنا و أنت ..
تأملها للحظات ثم نظر في الفراغ كعادته كلما فكر، فتركه فاروق إلي حاله و نظر إلي المائدة التي هم جلوس عليه متأملا تلك الثلة العجيبة ..
أستاذ جامعي .. زكريا شمس الدين
رئيس مجلس إدارة مستشفي .. إسماعيل النباح
مهندس .. عبد الواحد هازم
طبيب علي باب الله .. هو
شاعر أو كاتب - حسب الظروف - .. فارس بدر
و أخيرًا محامي المجموعة الملكية - هذه هي مجموعتهم - جمال عبد الغفار ..
" يا خويا إيش لم الشامي ع المغربي .. إيه الحوسة دي .. "
هكذا قال في نفسه .. كانت مجموعة عجيبة لأنها من كل الأطياف، و لأنها لم تتفترق منذ أن كان أعضائها في الصف الأول الثانوي، و لأنهم أصدقاء عن صدق ..
آخ .. لقد نسي صديقهم عريس الليلة .. محمود حلمي .. ضابط شرطة برتبة رائد .. كانوا كلهم مجتمعين في فرحه .. الفرح الذي انتظروه هم - قبل أي شخص آخر - ليروا تلك الفدائية التي سترضي بشخص شديد الطباع عنيفها كمحمود .. لكنها لم تكن فدائية .. لقد كانت ساحرة ..
" محمود بقي بني آدم تاني خالص "
قالها ساهمًا فوجد زكريا يرد:
- البركة ف ست سامية .. إيديها فيها الشفا ..
- مجاز مرسل علاقته الجزئية سببه الاحتشام ..
عقب بهذا فاروق فقال جمال:
- ما هو كان لازم يبقي في معادل موضوعي لشخصية محمود المهببة دي .. الحمد لله اللي لقاها بسرعة قبل ما القطر ما يدهسه .. واحد زي محمود مش حيفوّت القطر أبدًا ..
ضحكوا بينما قام فاروق عنهم يبغي بعض الهواء النقي مستمتعًا بالأنغام العذبة التي اختارها بنفسه مع محمود .. محمود علي كل ما به من فظاظة - طبيعية أو بحكم عمله - عاشق للموسيقي بشكل شنيع .. لست تدري حقًا كيف اجتمع الضدان ..
خرج إلي الشرفة الفسيحة لتك القاعة التي تطل مباشرة علي البحر .. بوصفه ضابط شرطة فقاعات الحفلات أمامه كالأرز ينتقي منها ما ..
خرج ليجد صديق طفولته و ابن خاله خميس جمعة - اسمه كان دومًا سببًا في آلاف المواقف المضحكة و المخجلة في آن - و قد أراد كما أراد هو ..التفت إلي خميس قائلاً:
- يا أهلا .. اتخنقت ..
- لا .. بس ريحة البخور الهندي التقيل اللي سي محممود مصر عليه قلبت لي بطني .. فرح دا يا خويا و لا زار ؟
ابتسم خميس ابتسامة باهتة ثم قال:
- ميتم ..
بدا و كأن لم يسمعه فتساءل فاروق:
- إيه ؟ .. حاعتبر نفسي ما سمعتكش ..
- ما تاخدش ف بالك .. عارف ..
صمت ليشعل سيجارة ثم تابع:
- عارف أن بقي لي كام سنة في السعودية ؟
- 7 ..
- و لسه راجع من أسبوع ..
- و الله ؟ .. طب حمدًا لله ع السلامة ..
لم يبتسم حتي لدعابته فأوقف آلة الضحك المستعرة بداخلة شاعرة بالقلق و أن شيئ ما غير طيب يلوح في الأفق ..
أكمل خميس:
- إيش تعمل الماشط ف الوش العكر .. رحت لميت فلوس لما حسابي ف البنك بقي فاضله صفر واحد و يبقي 9 مليون .. عارف كل دا كان ليه ؟
- علشان تتجوز ؟ و تعرف تبدأ حياتك ..
- أنا كنت عاوز كده أول ما سافرت .. لكن مع تالت سنه قررت أنهي حياتي هناك ..
- إيه .. ؟
- بص يا بن عمتي .. العروسة أصلاً كنت حاطط عيني عليها .. حبيتها .. حبيتها ببشاعة .. و هي كانت بين بين .. قالتها لي صراحة .. اللي يقدر علي مهر ست الحسن يتقدم .. ما كدبتش خبر، و طيران ع السعودية ..
- و مقدرتش ف 7 سنين تجيب مهر ست الحسن ؟
- مهرها ما كانش فلوس .. أنا إيه ؟ و لا حاجة .. حتة أمين مخازن ف وزارة الصحة السعودية .. مهرها ما كانش فلوس و بس .. كان منصب و جاه و قيمة و سيما .. كانت لسه صغيرة، قلت حا ..
و شعر بنغزة حادة في جانب صدره الأيسر، لكنه كتمها بقوة و أكمل:
- قلت حاتكبر و تعقل .. و الفرق بينا مش كبير .. خمس سنين مش كتير ..بس هي من حقها برضه تعيش حياتها زي ما هي عايزة .. ظابط ..
قال كلمته الأخيرة بلهجة المتهكم من العظمة، ثم أطلق ضحكة عالية و قال:
- هاأو .. و قال أنا اللي جاي بعد كل السنين دية و خلاص استقر .. ألاقيني معزوم علي فرحها ..
و انطلق يضحك ضحكًا لا مبرر و لا معني له، و لم تفت عن عيني فاروق تلك الآلام التي يحاول كتمها، و لا كتفه الأيسر الذي يلتوي من الألم .. الألم الذي جعل خميس ينثني دفعة واحدة مطقلاً آهة حاول كتمها هي الأخري، فاندفع إليه فاروق يفتش في جيوبه عن أقراص النيتروجلسرين لتوسع شرايين قلبه التاجية التي تضيق الآن و بعنف .. وجدها بعد ثوان لكنها كانت فارغة .. !
- امسك نفسك يا خميس .. الإسعاف جاية حالاً ..
رد و هو يتصبب عرقًا:
- خلاص يا بن عمتي .. تصـ .. تصبح علي خـ ..
و لم يكمل إذ سقط مغشيًا عليه، فاندفع فاروق إلي الداخل مصطدمًا بأول عامل وجده و قال:
- إسعاف بسرعة .. ذبحة صدرية ..
و انقلب العرس حقًا إلي مأتم ...
هناك 3 تعليقات:
بما انكم فقراء الى الله فى التعليقات
صعبتوا عليا يعنى
و بما انى من اشهر المدونين السكندريين
فامنحكم تعليقى
لكى تفخرون به مدى حياتكم
و تقولون
ابن بخ راح ابن بخ جه
ههههههههههههههههههه
ايه يا بشر
ادخلوا بلوجات ناس تانية و علقوا
عشان تشتهروا
تحياتى
اسلام
بجد القصة تحفة بس ليا سؤال لما خميس جمعة ده يموت الاسبوع هيبقى خمس ايام بس ؟ طب هناخد الاجازة امتى؟
انا نجحت يا جدعاااااااااااان
ألف مبروك يا أني
و عقبالنا يا رب .. علي كل لسه القصة بدري قوي عليها و ممكن نحل مشكلة الأيام الناقصة دي بعدين ..
تحياتي
إرسال تعليق