استراحة المحاربين ...
وجهًا لوجه ..
و بسرعة كان (عبد العزيز) يقفز، حتى بلغ سبع أو ثمان قفزات، في كل قفزة كان يضرب دون هوادة بأشعة الليزر التي كانت مثل النار علي الجرح، لا تزيد الموقف إلا صعوبة ...
فمن كل رأس يخرج اثنان، و من كل اثنان يخرج أربعة ...
تابع أنت عملية الضرب لتدرك كم الرقاب و الرؤوس التي أصبحت أمام (عبد العزيز) ...
و واصل (عبد العزيز) الضرب ...
و واصل ...
و لكن هيهات ...
و جد (عبد العزيز) نفسه بغتة أمام عدد ضخم من الرقاب و الرؤوس التي تحاول أن تجعله يستنشق زفيرها السام، و لم يكن صعبًا عليها فعل هذا، فمع عدد الرؤوس الضخم الذي آلت إليه (الهيدرا)، كان أقل زفير كفيل بإحداث إعصار ضخم ..
و بدأ (عبد العزيز) يشعر بوهن شديد، رغم محاولاته المستميتة لتفادي استنشاق هذا الزفير السام، و بدأت (الهيدرا) تقترب ..
" تذكر هرقل يا (عبد العزيز) "
جاءه صوت (جيف) مخترقًا أذنه كالطلقة، و أدرك ما يرمي إليه ..
فعلها هرقل من قبل بمساعدة أيولاس ابن أخيه .. فعلها بأن كوي كل رأس تقطع حتي قضي عليهم جميعًا، لكن هرقل واجه (الهيدرا) برؤوسها الثلاث الأصلية، لا بكل هذه الرقاب ..
بدأ الوهن يشتد عليه، و بعين يائسة نظر لكل تلك الرقاب ..
حملق فيها بشدة، و رغم يأسه و ضعفه فقد قفزت إلي رأسه فكرة، لم يفكر طويلاً أينفذها أم لا، فقد قام متحاملاً علي نفسه، و (الهيدرا) تقترب، و بدأ يجري و يدور حولها بكل ما أوتي من قوة ..
بدأ يجري، و يجري و الكل ينظر إليه في عجب ..
و بينما هو يجري كانت (الهيدرا) تفعل بالضبط مايريد ..
كانت كل رأس و كل رقبة تحاول أن تتجه لـ (عبد العزيز) لتنفث في وجهه زفيرها السام، و بينما هي تفعل ذلك كانت - و هذا بديهيّ - تتشابك مع بعضها البعض ..
و فجأة كما بدأ توقف (عبد العزيز)، و قال و قد شعر بإنهاك عظيم:
- إلي الجحيم أيتها (الهيدرا) ..
و سدد ضربة من سيفه أطاحت برقاب (الهيدرا) كلها دفعة واحدة، و في الثانية التالية كان يسلط أشعة الليزر ليكوي بها جرح رقاب (الهيدرا)، ليمنع نموها مرة أخري ..
"عظيم يا محارب الشانو .. تستحق استراحة"
و ما كان أحوجهم إليها في مثل هذه اللحظة، و خصوصًا (عبد العزيز) الذي شعر بكل سموم (الهيدرا) تخرج من جسده، فور أن قتلها ..
" استراحة لزجاجتي رمل "
هذا ما قاله (شيان)، و معه رقد الجميع يستريحون ...
كان من الواضح أن تحدي محاربي الشانو هذا، جامع لكل الأساطير التي عرفتها البشرية، أيًا كانت جنسية هذه الأسطورة ..
و كان الأكثر وضوحًا، هو أن هذه الأساطير تطبق بحذافيرها، لذا فمعرفة (عبد العزيز) بكل وحش من الوحوش الأسطورية، ستصنع معه فرقًا ضخمًا، عندما يواجهها ..
إلا أن المشكلة أن (عبد العزيز) ليس مسئولاً عن نفسه فقط، بل هو مسئول عن سبعة عشرة روح، و لا بد أن يعبر بهم إلي بر الأمان ..
و فيما كان هو يفكر في هذا، كان (جيف) يفكر في شيء آخر تمامًا ..
كان يفكر في السيف و طاقته، و كيف لسيف بهذا القدم أن يفعل كل هذا ..
انحرف به تفكيره إلي الياقوتة، و سرعان ما شعر بغضب لا محدود يتصاعد إلي رأسه، و التقت عيناه بعيني (هوتشي)، الذي كان يوزع النظرات يمنة و يسرة، كأنما هو يعتذر عما فعلهم، و لم يدر أن ما هم فيه لا يكفيهم فيه اعتذارًا واحدًا ..
كان الحديث الدائر بينهم صاخبًا علي سكونه .. (عبد العزيز) يقول اصبروا، سنخرج منها سالمين بإذن الله، و (جيف) يقول التوفيق حليفك يا (عبد العزيز)، و إنه لحمل تنوء به الجبال، أما (هوتشي) فلم يغير من نظرته شيء، نظرة الاعتذار التي صارت جزءًا من عينه كأنه خلق بها ..
أما الباقون - عمال البعثة - فلم تكن عيونهم تقول أكثر من " متي نخرج من هذا الجحيم؟ " و إن كان كل واحد منهم يقولها علي قدر سخطه و غضبه ..
" التالي .. انتهت الاستراحة ... "
أفاق الجميع علي صوت (شيان)، و كان اللقاء الرابع ...
مع (السيكلوب) [وحش أسطوري، ورد ذكره في ملحمة هوميروس الأوديسة، و هو مارد عملاق ذو عين واحدة، فقأها أوديسيوس، تقول الأسطورة أنه ابن إله البحر بوسيدون، و بسببه ظل بوسيدون غاضبًا علي أوديسيوس البطل الإغريقي لسنوات طويلة أذاقه فيها المر]
كانت هذه الكلمة هي التي قفزت لذهن (عبد العزيز)، و هو يتفادى يد (السيكلوب) العملاقة، التي حاول أن يدهسه بها ...
فطبقًا للأسطورة، فإن أوديسيوس تغلب علي (السيكلوب) (بوليفيم) بفقأ عينه، بعد أن سقاه خمرًا قراحًا ...
لكنه هنا لا يملك جذع الزيتون الذي شذبه أوديسيوس و رجاله، و فقأوا به عين (السيكلوب)، و لا يملك خمرًا قراحًا أو غير قراح يسقيها هذا الوحش الهائل .. لا يملك سوي سيفه و عقله، هذا بالإضافة لمشكلة إضافية بالنسبة لهذا (السيكلوب) ..
فكلما ضرب (عبد العزيز) السيف باتجاه (السيكلوب)، كان الأخير يمسك دفقة الليزر، كأنها ورقة صغيرة، و يطويها، و يلقي بها بعيدًا ..
ظل يحاول ضاربًا بالسيف يمنة و يسرة علّه يجد ثغرة هنا أو هناك، لكنه لم يفلح، بل خيل له أن (السيكلوب) يزداد ضراوة مع كل ضربة ..
" أوتيس .. سأقتلك"
صرخ بها (السيكلوب) صرخة مدوية، تمتزج بضحكة وحشية، و فجاة قفزت لرأس (عبد العزيز) فكرة مجنونة، فصاح:
- (بوليفيم) .. أيها الغبي ..
قالها و هو يجري من بين ساقي (السيكلوب)، الذي بدأ يتبعه، حتي إذا ما عبر للجانب الآخر، دار حول أقرب ساقي (السيكلوب) إليه، و ما أن فعل هذا حتي كان (السيكلوب) يرفع قدمه محاولاً دهسه، فجري (عبد العزيز) سريعًا ليفلت من هذه القدم الجبارة، و يذهب إلي القدم الأخري، محاولاً تشتيت انتباه (السيكلوب) قدر المستطاع، و جعله يتحير أين ينظر بالضبط ..
" لن تفعلها معي أخري يا (أوتيس) .. "
قالها - بل صرخ بها - (السيكلوب)، فقال (عبد العزيز):
- فعلتها و سأفعلها ..
واصل جريه المحموم، و قد أوشك (السيكلوب) علي الإصابة بالدوار من سرعة (عبد العزيز)، مقارنة بسرعة (السيكلوب) البطيئة المتناسبة مع حجمه الهائل، و فجأة حدث ما رجاه (عبد العزيز) ..
بينما هو قرب أحد ساقيه، غرز (عبد العزيز) سيفه فيها، و رغم أنه لم يؤثر و لا حتي في شعره، إلا أنه جعل (السيكلوب) يقع أرضًا، و لكن - و ياللعجب - لم يحدث أي صوت ارتطام، لكن (عبد العزيز) لم يكن في وضع يسمح له بمناقشة قوانين الفيزياء، و لماذا لم يصدر (السيكلوب) صوتًا عند ارتطامه، بل كان اول ما فعله (عبد العزيز) هو أن قفز بأقصي ما يستطيع، و هو يصرخ:
- إلي الجحيم مرة أخري يا (بوليفيم) ..
و صوب الليزر إلي يد (السيكلوب)، التي - و لدهشته البالغة - جرحت جرحًا عميقًا، صرخ إثره (السيكلوب) صرخة مدوية، و دون انتظار كان (عبد العزيز) يسدد ضربته التالية إلي هدف الأول و الأخير ..
عينه ..
فُقأت عينه، و قد تناثرت منها أشياء هلامية غريبة الألوان، و سرعان ما سدد (عبد العزيز) ضربته الثانية و الثالثة و السابعة ..
و في لحظته الأخيرة صرخ (السيكلوب):
- أبي .. انتقم لي ..
و انفجر ..
و ككل مرة، ارتفع صوت (شيان):
- أهنئك ... اتبع السهم ...
و كان التالي هو (كارورا) [في الأساطير اليابانية هو وحش بجسد إنسان و رأس و جناحي نسر، ينفث النار، و لا يقتله سوي رجل يعتنق التعاليم البوذية أو يحمل طلسمًا بوذيًا]
(كارورا) أسطورة يابانية شنتوية بطعم البوذية، و (العنقاء) أسطورة مصرية بطعم الإغريقية .. كلاهما ينفث النار و كلاهما لا يُقتل بسهولة ..
أما التناقض الكبير فكان في طريقة قتال كل منهما .. كانت (العنقاء) تقاتل و تفكر كطائر، أما (كارورا) فكان يفكر كإنسان استيقظ ذات صباح ليجد رأسه استبدلت برأس نسر ..
و لهذا كان التعامل مع (كارورا) أصعب بكثير من التعامل مع (العنقاء) .. أنت تتعامل مع إنسان تحول لوحش أسطوري، لكنه ليس ك(المينوتور) .. ف(المينوتور) اكتسب رأس و عقل ثور، كل ما يعرفه هو "هجووووم" .. أما (كارورا) فقد اكتسب رأس نسر، يعرف كيف يخطط حتي يصطاد فريسته، كيف يناور .. كيف يحصر فريسته في ركن ضيق .. كيف يسيّرها حيث يريد، و حيث يسهل عليه الإمساك بها ..
و لو استمر التحدي في تمسكه بحذافير الأسطورة، كما تأكد (عبد العزيز) من الوحوش السابقة، و كما زاد يقينه عندما وجد (السيكلوب) يسترجع ذكراه مع (أوديسيوس) الذي أخبره أن اسمه (أوتيس) .. لو استمر في هذا التمسك الذي يسير وفق خطي الأسطورة كما ينبغي للخادم الأمين .. لو استمر الحال علي هذا، فهذا يعني صعوبة مضاعفة مع (كارورا)، فـ (كارورا) يتطلب طلسمًا بوذيًا، و من أين لـ (عبد العزيز) الآن بأي طلسم حتي و لو كان طوطمًا بسيطًا ؟
انتزع (عبد العزيز) نفسه من هذه الأفكار و هو يحاول مراوغة (كارورا) قدر جهده، الذي أحس انه يوشك علي النفاد، خصوصًا و أن (كارورا) يراوغ كما ينبغي لنفر من بني آدم، لا لوحش أسطوري ..
انتزع (عبد العزيز) نفسه مما سبق و هو يسدد ضربة يائسة يعلم علم اليقين أنها لن تنفع كسابقاتها العشرين، لأن (كارورا) كان يبتلعها ابتلاعًا ..
انتزع (عبد العزيز) نفسه، و هو يحاول تذكر ما قاله (هوتشي) عن (كارورا) قبل أن يصبحا وجهًا لوجه ..
حاول ان يتذكر ماذا فعل (سي-كامي-سيا) ليقتل (كارورا)، عندما واجهه عند تلال (أكيتا) .. حاول لكنه لم يتذكر أكثر من أ ..
أكثر من أن (سي) أفلت بأعجوبة من انقضاضة مريعة لـ (كارورا)، كما أفلت هو في هذه اللحظة، قبل أن يتلفظ بتعويذة بوذية قديمة لا يعرف منها و لا حتي حرفًا، و لم يسعف الوقت (هوتشي) ليقول منها حرفًا..
" اللعنة "
صرخ بها و هو يضرب بعنف لا محدود، موجهًا ضرباته لأنحاء متفرقة من جسد (كارورا) الذي كان يقهقه قهقة أقرب لصراخ البوم منها لأي شيء آخر ..
انقض عليه (كارورا) مرة أخري، و أفلت مرة أخري منه بأعجوبة و هو يشعر بقواه بادئة في التلاشي، و هذا الـ (كارورا) لا يهدأ كأنه موصل بمولد تيار كهربي ..
" توعده كـ(بوذا) يا (عبد العزيز) "
من الغريب - بل من المثير للسخرية - أن يهتف (هوتشي) بهذه العبارة - و إلا فما هذا الذي يصنعه (عبد العزيز) بالضبط ؟! - لكنه ما هتف بها إلا لثقته في أنها خلاص (عبد العزيز) الوحيد ..
اخترقت الكلمة رأس (عبد العزيز) كالرصاصة، و أوحت له بما أراد (هوتشي) بالضبط ..
واحدة من الرموز التي يصنعها (بوذا) بيديه، هي أن يشكل بإبهامه و سبابته دائرة، و يفرد باقي الأصابع، واضعًا يده اليمني عمودية علي يده اليسري ..
إنها طلسم بوذي - إشارة من صنع المعلم الأكبر للبوذية .. بوذا نفسه - و هو كفيل بجعل كفة الميزان في صالح (عبد العزيز)، و لو جزيئًا بتقييد حركة (كارورا)، إن هو لم يقتل هذه الكارثة التي بدأت بالفعل في الاقتراب من الإجهاز علي (عبد العزيز) ..
لكن هذا الطلسم في الوقت ذاته فخ قاتل ..
لكي يصنعه (عبد العزيز) فلا بد أن يترك السيف من يده، لكنه لم يتردد في هذه النقطة كثيرًا، بعد أن أفلت من هجمة مؤكدة النتائج - لولا قدر (عبد العزيز) الذي كُتب فيه أن يظل حيًا - من قِبل (كارورا) ..
أمسك (عبد العزيز) السيف بين فخذيه، و صنع الطلسم صارخًا:
- مت أيها الضخم .. مت ..
لم يكن الطلسم الذي صنعه (عبد العزيز) بالقوة التي تقتل (كارورا) بسرعة "كسرعة البرق الخاطف أو الشهاب الذي يلتمع فما تدوم التماعته إلا ثوان"، كما فعلت تعويذة (سي)، لكنها كانت بالقوة التي تجعل (كارورا) يتراجع، و يقف للحظات مشلولاً ..
و الواقع أن (عبد العزيز) برهن علي قدرته الفذة في الاحتفاظ بسرعة استجابته في هذه اللحظة، ففور وقوف (كارورا) كالمشلول للحظة، سدد له (عبد العزيز) الضربة التي تمناها طويلاً ..
الضربة التي أجهزت علي (كارورا) لينفجر كسابقيه ..
" التالي يا محارب الشانو .."
و هكذا دون مقدمات كان لقاؤه مع (هيرميس) [في الأساطير اليونانية هو رسول الآلهة، و ابن زيوس، اتخذه اللصوص إلهًا لهم، لأنه سرق ماشية أخوه، يعرف بالسرعة، و بأنه يحمل عصا الرسل، و الخوذة الشهيرة، ذات الجناحين، عرف أيضًا بأنه مرشد الأرواح داخل هيدز، مملكة الموتي]
- 6 -
عندما يكون التحدي أن تظل حيًا ..
في كل مرة يقفز (عبد العزيز) و يوجه له ضربة بالسيف، إذ كان (هيرميس) طائرًا كما كان حاله في الأسطورة، يجد (هيرميس) قد أصبح في بقعة أخري تمامًا، يعجز أي إنسان عن تصور الكيفية التي بلغها بها ..
و في كل مرة كان (هيرميس) يضحك ساخرًا و يقول بالإغريقية القديمة ما لا يُفهم إلا علي أنه سخرية لاذعة ..
استمر الحال هكذا لعدة دقائق، كاد فيها قلب (عبد العزيز) أن يتوقف، من فرط السرعة و المجهود الذي يبذله، من أجل قتل (هيرميس) ..
و غير سرعته، فقد برهن (هيرميس) أنه استحق بجدارة تنصيبه إلهًا للصوص ..
فلولا يقظة (عبد العزيز)، لكان سيفه مزينًا ليد (هيرميس) الخالية من عصا الرسل، و لكان بالطبع - أي (عبد العزيز) - في عداد الموتي ..
واصل (عبد العزيز) محاولاته للنيل من (هيرميس)، الذي كان يردد مقولته الإغريقية في تلذذ واضح، و فجأة توقف عن ذلك كله ..
توقف، و أخذ نفسًا عميقًا، ثم أمسك بالسيف و وضع حده علي أرنبة أنفه ..
و أغمض عينيه ..
أغمضها لثوان، بدا خلالها كما لو كان محاربًا من المحاربين القدامي، الذين يستعملون قواهم الروحية للإجهاز علي خصومهم ..
كما لو كان من محاربي الشانو بالفعل ..
ظل كذلك لثوان، قفز بعدها بالغًا مستوي لم يكن حتي ليحلم ببلوغه في أشد لحظات خياله ابتعادًا عن الواقع، و قد أطلق صرخة قوية هزت قلوب أفراد البعثة، و هو يدور حول نفسه كما لو كان قد ثُبت إلي محور محرك كهربي، و قد وضع السيف بحيث يطلق الليزر مشكلاً قوسًا واسعًا، سرعان ما اتسع ليفعل بالضبط ما خطط له (عبد العزيز) ..
اتسع القوس مارًا برقبة (هيرميس)، الذي لم تفده سرعة الانتقال التي يتمتع بها في الإفلات من فخ (عبد العزيز) ..
و كما يحدث كل مرة .. انفجر (هيرميس) ..
و هنا هبط (عبد العزيز) ..
" السهم ... "
نطقها (شيان)، لتبدأ أولي مواجهات المستوي الثاني ...
(سخمت) .. [في الأساطير المصرية القديمة، هي إلهة الحرب، و كانوا يرمزون لها بأنثي الأسد، لما كانوا يرونه من شراسة فيها عند اصطياد الفرائس]
وحشية متناهية، و حب شرس لسفك الدماء، و رغبة عارمة كموج البحر المتلاطم في القتل ..
" و انقضت (سخمت) لبؤة ممفيس و أشد الربات وطأة و شراسة و حبًا لسفك الدماء .. انقضت تلاحق البشر في كل مكان، تثخنهم بالجراح، و توسعهم طعنًا بالأنياب و تجريحًا بالمخالب .. تضرب هنا و هناك، تذبح و تقتل، و تصب الدماء صبًا، و تعبها عبًا ..
و إذا أرض مصر كلها أنهار من دماء، و صفوف طويلة من أجساد البشر .. و إذا صرخات البشر تعلو، و صراخ المعذبين علي النار شويًا و هم أحياء يتواري خجلاً من هول هذه الصرخات .. " [جزء من أسطورة الخلق المصرية الفرعونية]
هذه هي (سخمت)، التي كان (عبد العزيز) يواجهها !
و إضافة لشراستها، فإنها لم تخل من دهاء القطط ..
كانت تدور و تدور و هي تزمجر تلك الزمجرة الخفية، التي تذيب قلبك رعبًا، حتي إذا ما تحينت فرصة، قفزت ..
و الحق أن (عبد العزيز) استطاع الإفلات منها عدة مرات بمعجزات يحق لها - من استحالة حدوثها و لو في أبعد اللحظات بعدًا عن الواقع - أن توضع مع أساطير القدماء سواء بسواء ..
كان منها واحدة هي التي أذابت أجساد الجميع رعبًا و هلعًا ..
زمجرت (سخمت) كعادتها، و دارت دورتين، و (عبد العزيز) يتابعها بعينين متحفزتين، ثم انقضت انقضاضة هي أسرع من أن تستطيعها أي لبؤة علي وجه الكرة الأرضية، و لو كان مثلها موجودًا، لما خاب صيدها و لو لمرة واحدة في حياتها كلها ..
انقضت و وجهت مخالبها مباشرة إلي رقبة (عبد العزيز)، و هي تلوح بكفها، الذي لو كان قد لمس (عبد العزيز)، لأحال لحم رقبته أليافًا ..
هول المفاجأة وحده هو ما أنجاه، إذ جعله يتراجع بسرعة شديدة، أوقعته أرضًا، فأفلتت رقبته من كف (سخمت) الذي كان علي قيد أنملة منه، دون مبالغة صغيرة أو كبيرة ..
كان واثقًا من أن خلاصه هو في أي أسطورة تضمنت التغلب علي (سخمت)، و لم يجد أقرب إلي ذاكرته من أسطورة الخلق الفرعونية، حيث تغلب رع علي ابنته (سخمت)، التي أمرها بسفك دم البشر جزاء لاستهزائهم به، ثم أخذته الشفقة بمخلوقاته الضعيفة .. تغلب عليها بأن أسقاها خمرًا بلون الدم من عصير الرمان المجلوب من جزيرة فيلة ..
لكن من أين له الآن بأي من هذا ؟ ..
خمرًا بلون الدم ..
نعم .. الدم ..
التمعت في ذهنه فكرة، و سرعان ما جرح نفسه في كف يده جرح تسيل معه الدماء بغزارة لا هي بالتي تفقد دمه كله، و لا هي بالتي لا تغرق يده بدمه ..
فعل هذا ثم رفع صارخًا:
- أيتها الهمجية ..
ظل رافعًا يسراه التي جرحها، و لدهشته هدأت (سخمت) ..
لكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة .. عرف هذا من زمجرتها الخافتة، و عيناها اللتان أخذتا تدوران بمكر أشد ..
ظل الأمر علي حاله هذا ما يقارب الدقائق الخمس، أثبتت خلالها (سخمت) أنها تستحق كونها من السنوريات عن جدارة ..
تلك النظرة التي كأنها تقوم بتنويمك، و تلك الزمجرة الخافتة التي تسلب اليقظة من عينيك ..
و تلك المشية الهادئة الوئيدة المتحفزة ..
و ..
و تلك الانقضاضة الطائرة العنيفة ..
انقضاضة علي عنفها لم يحرك لها (عبد العزيز) ساكنًا، و بدا للبعثة أنه كأنما قد شُل شللاً تامًا ..
لكنها ما إن اقتربت منه، و تحديدًا من يده الغارقة في الدماء، حتي نفض عنه هذا التسمر، و انزاح جانبًا برشاقة مفسحًا المجال لـ (سخمت) كي تهبط أرضًا، ثم التفت إليها لينفذ نصيحة طالما سمعها و لم يدر نفعها إلا في هذه اللحظة ..
" إذا أردت أن تمسك قطًا مشاكسًا .. فأمسكه من ذيله، ثم أحكم قبضتك عليه بعد ذلك .. " [حقيقة]
أمسك بذيلها، و إن لم يستطع أن يفعل ذلك تمامًا، و قطعه بالسيف، ثم قفز نحوها و قد التفتت إليه (سخمت)، فور أن لامست قدماها الأماميتان الأرض ..
التفتت إليه ففعل ما أراد ..
غرز السيف بين عينيها، لتتسمر لدقيقة، ثم تنفجر كغيرها ..
" تستحق استراحة "
و رقد حيث كان ..
حتي حديث العيون الصامت الصاخب لم يدر بينهم ..
صعوبة التغلب علي (كارورا)، سرعة (هيرميس) الرهيبة، و شراسة (سخمت)، جعلت الجميع يوقن أن الاختبار انتقل لمستوي جديد أصعب من سابقه .. و أشرس من سابقه .. و أن ما سيتلوه إن لم يكن أشرس فهو علي الأقل مماثل له في الشراسة ..
قال (هوتشي):
- اعتقد أن الوحش التالي سيكون أكثر شراسة من كل ما سبق ..
لم يعلق أحد بكلمة، فهذا أمر كانوا يتفقون عليه دون حتى أن يناقشوه ..
لكن الأمر الذي أقلقهم أكثر هو أن (عبد العزيز) أصبح منهكًا ..
محاربة (المينوتور)، (العنقاء)، (الهيدرا)، (السيكلوب)، (هيرميس)، (كارورا)، و أخيرًا (سخمت) .. كل هذا كان فوق طاقته ..
فوق طاقته بالصورة التي تجعل وصف " و تهاوي إلي أقرب مقعد وجده " ترفًا لا يقوي (عبد العزيز) علي مجرد التفكير فيه ..
و هذا يعني أنه لن يستطيع أن يواصل كما ينبغي ..
و ..
" انتهت الاستراحة .. "
قالها (شيان) ثم قال:
- التالي .. (شيانج شي) .. [هم مصاصو الدماء الصينيون .. يُفسر الصينيون ظهروهم بأنه إذا مات الإنسان ميتة عنيفة، أو لم يدفن بالسرعة الكافية، أو عبث بقبره أحد الحيوانات - خصوصًا القطة - فإن الروح الشريرة في الإنسان و التي تدعي باي تسيطر عليه و يتحول إلي شيانج شي .. هم أقرب للموتي منهم للأحياء، و قوتهم لا تصدق .. لا يقتلهم إلا كاهن تاو بتعاويذ يكتبها علي ورق أصفر بدم الدجاج و يلصقها علي جباههم]
- ما هي التعويذة التي تقتله ؟
- لا توجد .. يجب أن تلصق عليه ورق الفو المكتوب بدم الدجاج .. و لكن يمكنك أن تهزمه بالكوفوي [أحد مذاهب الشانو، الذي يتعامل مع الكاي بصورة أكثر تركيزًا]، هي الطريقة الوحيدة بعد الفو التي يمكن أن تقتله، و لكن ردد هذه أولاً ..
أخبره بتعويذة سريعة قصيرة، لم تتجاوز الكلمات الست، و تعني: "أيتها الكاي انطلقي من الأسفل إلي حيث أريد"
أخبره بها، و أصبح بعدها فورًا وجهًا لوجه مع الـ (شيانج شي) ..
لم يضع (عبد العزيز) أي وقت في محاولة الإجهاز عليه باستخدام السيف، بل كان أول ما فعله هو أن كتم نَفَسه كما نصحه (هوتشي)، ليجد الـ (شيانج شي) كالمشلول [لا يستطيع الـ (شيانج شي) تتبع أي إنسان إذا كتم أنفاسه، فهم يشمونها و يتعرفون بها علي اماكن الأحياء] و بدأ في تلاوة التعويذة ..
كانت تعويذة شنتوية قديمة، ورد ذكرها في (الباراي) ضمن فصل كامل يتحدث عن محاربي الشانو، إذ كان (شو-هو-كاتونا) أحد أبرز محاربي الشانو و كان هو مؤسس الكوفوي ..
" أيتها الكاي .. انطلقي من الأسفل إلي حيث أريد"
رددها (عبد العزيز) بهدوء، ثم ..
ثم قذف بالسيف تجاه الـ (شيانج شي) الذي طار إليه بقدمه الواحدة التي يقفز - أو لنقل يحجل - بها، مطلقًا منه دفقة ليزر مركزة لم تفعل أكثر من أن قذفت بالـ (شيانج شي) للخلف، ليعود من جديد ..
" أيتها الكاي .. انطلقي من الأسفل إلي حيث أريد"
رددها (عبد العزيز) مرة أخري، و قد عاد الـ (شيانج شي) مرة أخري، ففعل به (عبد العزيز) مثلما فعل في المرة الأولي، و ردد التعويذة مرة ثالثة ..
و هنا بدأ تأثير الكاي في الظهور ..
ارتفع (عبد العزيز) قليلاً عن الأرض، و واصل ارتفاعه و هو يرمي الـ (شيانج شي) بدفقات من الليزر تقذف به بعيدًا و لا تؤثر فيه قيد أنملة ..
واصل ارتفاعه، و هو يردد التعويذة و يصد الـ (شيانج شي) بضرباته المتلاحقة، و هو مغمض عينيه مطبق جفنيه تمامًا، ثم كانت لحظة النهاية ..
أصبح (عبد العزيز) بالفعل علي ارتفاع لا يستهان به، لو كان علي مثله في الواقع و هوي للقي حتفه بالتأكيد .. أصبح علي هذا الارتفاع و انتظر هجمة الـ (شيانج شي) التالية ..
قفز إليه الـ (شيانج شي)، فصرخ (عبد العزيز):
- انطلقي أيتها الكاي ..
صرخ بها ليطير الـ (شيانج شي) إلي الخلف كما لم يطر من قبل، و أتبعه (عبد العزيز) علي الفور بضربة من سيفه .. [الكاي هي في الواقع قوة للدفاع عن النفس، تظهر عند استخدامها و كأنما هناك يد خفية تضرب، و تظهر أوضح ما تظهر إذا كان من يستخدمها في موقف حرج]
و هنا هبط (عبد العزيز) برشاقة، ليواجه الـ (شيانج شي) الذي قفز إليه كالصحيح رغم قوة الضربة، هبط ليواجهه بقوة الكاي الحقيقية .. تلك القذفة القوية التي حدثت للـ (شيانج شي) ليست سوي أضعف الإيمان ..
بدا أن هناك شخصان يقاتلان مع (عبد العزيز) .. شخص يضرب ضربات باليد بدا أثرها واضحًا علي الـ (شيانج شي) الذي بدأ - لأول مرة - يترنح، و شخص آخر يضرب بالسيف ضربات متتالية توالت آثارها في الظهور، و لم يكن (عبد العزيز) يفعل أكثر من التركيز الشديد ..
رغم قوة الضربات و عنفها، و رغم ما بدا عليه من الترنح، إلا ان هذا المسخ أثبت قوة لا تصدق .. بل لنكن أدق، أثبت أن هذا الرداء الخارجي قوي بشكل لا يصدق .. أثبت أن الرداء الخارجي هو القوي بشكل لا يصدق، أما ذلك المسخ الذي خرج من عباءة الأول، فحتي الكاي لا تفلح حتي في زحزحته ..
و أُسقط في يد (عبد العزيز) ..
لا تتحدث أسطورة الـ (شيانج شي) عن أي مسوخ تخرج منهم، بل تتحدث عن أنهم بقوة لا تصدق، لكنهم يُهزمون بتعاويذ التاو، و أنهم ..
نعم .. و أنهم لا يموتون، لأنهم موتي بالفعل، و بدلاً من ذلك لا بد من أن يدفنوا في الثلج ليشل حركتهم .. ربما كان هذا المسخ الجديد هبة من التحدي، لأنه لم يكن من الممكن - بل هو من المستحيل - أن يدفن (عبد العزيز) الـ (شيانج شي) في هذا السواد المحيط به ..
بدأ (عبد العزيز) في التعامل مع هذا المسخ بالسيف .. يضرب يمنة و يسرة محاولاً إيجاد نقطة ضعف له، لكن هذه الضربات لم تفعل معه أي شيء .. أي شيء و لو حتي مجرد خدش ..
بدأ (عبد العزيز) في ترديد تعاويذ الكاي، لكنها أيضًا لم تفلح .. كان يضربه بالكاي ضربات لو نزلت علي جبل لجعلته ترابًا لكن ذاك المسخ كان كأنه قُدّ مما هو أصلب و أصلد من الفولاذ ..
زاد (عبد العزيز) من قوة ضرباته، لكنها كما لو كانت تزيد هذا المسخ قوة، و كان لا بد لـ (عبد العزيز) أن يجد حلاً سريعًا، فقد بدأت قواه تضعف، و لو استمر الحال علي هذا، فالأمر سينتهي حتمًا لصالح هذا المسخ ..
واصل (عبد العزيز) ضرباته و هو يفكر في وسيلة للتخلص من هذا المسخ ..
" وتد يوخز في قلبه يقتله .. و هو يموت نهائيًا إذا ما قطعنا عنه رأسه " .. تذكر هذه الجملة من قصة دراكيولا لـ (برام ستوكر) .. إذا اكن هذا المسخ مصاص دماء فستفلح معه هذه الطريقة، و في كل الأحوال لم يكن أمام (عبد العزيز) بد من أن يحاول ..
أوقف سيل ضرباته المنهمر، ثم بدأ في التركيز بشدة و ترديد التعاويذ بصورة أكثر هدوءًا، و ..
و فجأة انطلق السيف من يده كالطلقة لتخترق قلب هذا الوحش الذي جحظت عيناه بشدة، قبل أن يخرج السيف من قلبه و يتحرك كما لو أن يدًا تحركه ببراعة ليستأصل رقبته من جذورها ..
و أخيرًا سقط هذا المسخ قبل أن ينفجر كمن سبقوه، و معه هبط (عبد العزيز) من ارتفاعه الشاهق ..
- أهنئك يا محارب الشانو .. لقد تغلبت علي شرور عديدة .. تغلبت علي (المينوتور) .. الشر الذي كان في أحشاء زوجة (مينوس) .. تغلبت علي (العنقاء) .. الشر الذي كان يأتي من اليمن .. تغلبت علي (الهيدرا) .. الشر الذي كدر بلاد الإغريق .. تغلبت علي (السيلكوب) .. الشر الذي أتي به نبتون إلي العالم .. تغلبت علي (كارورا) .. الشر الذي تحدي بوذا من قبل .. تغلبت علي (هيرميس) .. الشر الذي نُصب إلها .. تغلب علي (سخمت) .. الشر الذي سكن ممفيس .. تغلب علي الـ (شيانج شي) .. الشر الذي سكن بلاد التشي .. تغلبت علي كل هذه الشرور لكنها لا تقاس بالشر الذي أنت مقبل عليه .. الشر الذي قد يقتلك أسرع من تفكيرك .. الشر الذي قد يقضي عليك في أي لحظة .. الشر الذي لا تدري أنه شر من الأساس ..
صمت برهة طالت بعض الشيء ثم تابع:
- و لأن الموت علي جهل هو أبشع من الموت ذاته، و لأنك بذلت مجهودًا جبارًا .. تستحق أن تعرف شيئًا من حقيقة السيف .. لكنك لن تذكرها، و لن تتذكرها بعد ذاك أبدًا ..
و بدأ يسرد حكاية السيف ..
هناك تعليقان (2):
ايه الوهم ده يا جدع يا دايخ انت, بجد ايشي خيال ياي نااس, حوة حوة يعني, انجز بقى و نزل الحلكة الكاديمه عشان نعرف حوكاية السيف دي ايه
اه و النبي متنساش تكملنا الذهب الاحمر عشان انا نسيتها اصلا و حبل غسيلها اتقطع من نافوخي
والله انت وهم. قصصك كلها عالية قوي
كيب اب ذا جود وورك يا دوك
تسلم يا z_diva ..
أنا مبسوط إن القصة عجبتك، و أديني نزلت آخر حلكة علشان تقفل القصة ..
قصة الذهب الأحمر باكتبها بالتبادل مع سكوبل .. أنا خلصت آخر حلقة و مفروض يكتب هو الجاية، بس ما اعرفش ما له مريح اليومين دول كده ليه ..
في انتظار رأيك لما تخلص القصة ..
سلام
إرسال تعليق