الصمت ..
الصمت يغلف كل شخص .. كل شيء .. كل حركة .. كل همسة .. حتي كل صوت ..
الصمت و الحزن ..
و دموع تجري أنهارًا لا تجد لها مصبًا سوي صدور تحترق بنار الفراق و حزن علي حبيب قريب مضي تاركها في ظلمة أشد عليها من ظلمة قبره ..
و رغم أن صوت الشيخ الحصري كان يدوي كعادته يتلوا آيات من سورة البقرة، السورة التي طالما أحبها خميس، خارجًا من جهاز الكاسيت "الضخم" الذي اشتراه خميس هدية لأخته لتسمع عليها ما كان يسميها بـ "الأغاني الهبابية" كما تشاء .. رغم أن صوته كان يخرج واضحًا تتجاوب معه رؤوس الناس بحركات تقترب من الآلية، لقلت أن الحاضرين جميعًا قد لحقوا بميتهم ..
إن هي إلا لحظات حتي دخل محمود متشح بسواد ليس يبلغ من قريب أو بعيد معشار ما في قلبه .. شد علي يدي والد خميس ثم أخويه ثم من تلوهم من أعمام و أخوال، حتي وصل إلي فاروق الذي نظر إليه نظرة أودعها كل ما في قلبه و شد علي يديه بقوة كادت تحطم عظام يده، و لم يتمالك نفسه إذ أجهش بالبكاء مرتميًا علي صدر صديقه الذي حاول أن يخفف عنه، فأجلسه إلي جواره و محمود لا يدري أن فاروق لا يواسيه، لكنه يواسي نفسه أولاً و ثانيًا و سادسًا و أحد عشر ..
و هناك في الشقة التي تعلو شقة خميس، حيث استقبلت عائلته المعزين من الرجال، كان معزي النساء ..
ربما يتعجب المرء من هؤلاء النسوة .. ليست فيهم واحدة ليست بذات قربي لخميس، لكنهم متماسكون كأنهم صخر .. كأنهم أدركوا حقًا كيف أن لله ما أخذ و لله ما أعطي .. وحدها كانت تبكي بحرقة .. وحدها سامية كانت تتقد نارًا بداخلها ..
كانت جالسة جوار والدته تضرب في بحر لجي متلاطم الأمواج من الأفكار .. أفكار من فوقها هموم من فوقها ظلمات من سحابات الكآبة إذا تركت نفسك فيه غرقت لا محالة و ليس لك منجي إلا رحمة الله .. كانت تفكر في خميس و كيف "حفي" وراءها لكنه كانت تصده .. كانت تقول له إنه لن يكون أبدًا من تتزوجه لأنه ليس "من مستواها" .. لم تكن تدرك أنها تفري جسده و قلبه بكلامها .. لم تكن تدري، و ها هو الإدراك يأتيها متأخرًا .. متأخرًا جدًا ..
شعرت في قرارة نفسها أن قتلته .. لكن ليس يوم عرسها، بل يوم أن قالتها له صريحة بعد أن سأمت ملاحقته رغم صدها "المكني" له باستمرار .. لا، لم تكن صريحة .. كانت صفيقة ..
- بص يا خميس .. إحنا لا يمكن نكون لبعض ..
- لا يمكن ؟
- طبعًا .. أنت دبلوم تجاري .. أنا بكالوريوس علوم .. أنت والدك فران و والدتك علي قد حالها يدوب بتفك الخط، و ..
- خلاص .. خلاص يا بت الأكابر ..
تذكرت كيف قاطعها بعنف، و كيف شعرت لحظتها أنها "زودت العيار"، لكنها بررت لنفسها ما فعلت بأنه لم يستجب لصدها الرفيق الهاديء، فكان لا بد له من صدمة تفيقه ..
" رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ "
ثم زيييييييييييء تك، ليعلن الشريط أن الحصري قد انتهي من القراءة، و أن شكر الله سعيكم ..
- يخرب بيت التخاطر اللي بينا يا فاروق .. جاي طبعًا ..
مشيا سويًا بعد أن هبطا من البناية التي طالما ألقيا التحية علي بوابها و هم صاعدون إلي خميس يسهرون معه أيام الثلاثاء و الخميس، و التي ستصبح ذكري أخري تضاف إلي ذكرياتهم العديدة ..
مشيا سويًا حتي ركبا سيارة فاروق الأوبل الفضية أو "الفنكوشة" كما يحب أن يسميها فارس، لأنها ما تركت موقفًا هامًا إلا و خذلتهم فيه كأفضل نذلة في تاريخ السيارات .. لكنها أفضل من لا شيء ..
صوت المينوتور القابع في محرك السيارة يعلو معلنا بدأت معركة جديدة علي الأسفلت، لكنها معركة تتشح بالسواد .. سواد الليل و سواد الحزن ..
- علي فكرة .. خميس ما ماتش ..
قالها فاروق بعد أن خرجا من ذلك الشارع الجانبي إلي شارع بورسعيد ليسأله فارس متعجبًا:
- نعم ؟
- دا انتحر ..
- نعمين يا خويا .. فاروق .. خميس ابن خالك و حبيبك و صاحبك، بس لازم تمسك نفسك ..
- باتكلم بجد .. فاكر النوبة اللي جاتة أول مرة و ما كانش حد عارف إن عنده ضيق في الشرايين و زكريا لحقه و شخّصه ..
- طبعًا فاكر .. و دي حاجة تتنسي ..
- أول مرة دي كانت عنيفة جدًا .. الوله قعد أربع أيام في الـ ICU .. العناية المركزة يعني ..و بسم الله ما شاء الله طلع سليم .. المرة دي كانت أخف بكتير، بس هو اللي كان عاوز يموت ..
- كلام إيه ده ..
- أولاً ما كانش معاه و لا قرص نيترو .. أنت يا بني عارف خميس ده .. كان بيشيل معاه بالتلات علب .. ثانيًا نفسيته كانت زبالة جدًا و كان واضح إنه مش عاوز يكمل دنيته .. عارف ليه ؟
- ليه ؟
- يا ابن الــ .. يا واطي ..
خرجت من فمه كالقذيفة لذلك الشاب الأرعن الذي أخذ "غرزة" عن يساره بسرعة جنونية و كاد أن يقذف بالفنكوشة إلي غياهب الجب ليلحقا بخميس مباشرة ..
- كنا بنقول إيه ؟ .. آه .. خميس كان بيحب سامية .. جيران بقي و الواد كان متشحتف .. بس هي و لا عبرته ..بجد كسرت قلبه و نفسه و كل حاجة، بس يوم جوازها كان هو القشة اللي قطمت ضهره ..
- تفتكر ..
- دول كانوا آخر كلمتين داروا بيني و بينه ..
تنهد فارس ثم قال:
- الله يرحمه .. أهو دلوقتي في حته أكيد أحسن م اللي إحنا فيها ..
- يا أخي دا لو حتي و العياذ بالله .. اللهم لا تكتبها له يا رب العالمين .. دا لو حتي ف جهنم حيبقي أرحم له ..
- يا ساتر .. مش للدرجة دي ..
- الدرجة دي و أكتر .. ما أنت أخدت لك لحسة ... طالك م الحب جانب ..
- بس و لا همني ..
- ألا بالمناسبة .. آخر مشاريعك إيه ؟
انحرف يمينًا ليخرج من شارع المعسكر الروماني إلي أبي قير ليكمل طريقه إلي شقته في بولكلي، مطلقًا كمًا من السباب لكم أكبر من سائقي الأجرة و السرفيس و ملاكي القاهرة و سوهاج و قنا الذين يبتلي الله بهم الإسكندرية في شهور الصيف ..
- يا أخي الحمد لله إن إحنا ف أغسطس و الصيف بيشطب .. دا غلب ..
- م الصيف لرمضان .. م الدار للنار حدف ..
- رمضان نار برضه .. يا راجل حرام عليك ..
- أنا أصلاً ما ينفعش أصوم .. لولا إنه فرض كنت فطرته .. المهم سيبك ..
- برضه ما قولتليش ..
- واقع علي حتة موضوع .. سُقع .. فاكر محمد إبراهيم سليمان ..
- وزير الإسكان اللي فات ؟
- الله ينور عليك .. الراجل مشي طبعًا، لكنه ساب خميرة فساد معفنة .. كام وكيل وزارة بس "عبده أفسدها" م الطراز الأول ..
- ده المقال اللي جاي ..
- الكام مقال اللي جاي ..
- ياه .. طب خلي بالك علي نفسك .. الحاجة عاوزاك ..
انحرف آخر انحرافة له في طريق العودة، ليركن السيارة في مكانها المعتادة قائلاً لفارس:
- معلش بقي اتمشي أنت الشويتين دول .. المسافة مش كبيرة ..
- و لا يهمك .. أنا كنت فعلاً عاوز أمشي شوية ..
خرجا من السيارة، فودع فارس فاروقًا الذي دخل بنايته بينما أكمل هو المسافة القصيرة التي تفصله عن مسكن فاروق .. إلي الأمام قليلاً مباشرة أمام البنك التجاري الدولي ..
رن هاتفه المحمول فأخرجه ضَجِرًا يصب اللعنات علي المتصل، لكنه سرعان ما سكت إذ وجده عبد الواحد، فتساءل في نفسه عن السبب الذي يدفعه لمثل هذا الاتصال، قبل أن يجيب:
- سلامو عليكم ..
- و عليكم السلام .. فاروق جنبك ..
- لسه سايبني ..
- اتصل بيه في البيت بقي .. موبايله مقفول جنني معاه ..
- حصل خير .. تصبح علي خير ..
- و أنت من أهله ..
أنهي الاتصال و هو يصعد أولي درجات السلم القصير المؤدي لشقته في الطابق الأول و هو يشعر أن اليوم مر و قد فقد شيئًا ..
بل أشياء ..
- آلو ..
- أيوه يا روقة .. قافل الموبايل ليه ..
- أيووه .. نسيت افتحه بعد العزا .. عاوز إيه يا عبد الواحد ..
- عاوز سلامتك ..
- ظريف .. قصّر ..
- بفكرك بميعاد بكره ..
- يا خبر إخص ..
-إيه .. إوعي تقول لي نسيته ..
- لأ .. بس خليته بدري شوية .. أصل عندي عملية الساعة واحدة ..
- بقي كام يعني ؟
- تسعة الصبح ..
- حتلاقيني في النيابة مستنيك إن شاء الله ..
- تصبح علي خير ..
- و أنت من أهله ..
و أنهي الاتصال علي سريره، ليغرق في نوم عميق ..
هناك تعليق واحد:
بالرغم من انى متغاظ منّك على طناشك ... وبالرغم من انى كنت قايل انى مش حاعلقلك على حاجة... بس اعمل ايية من نفسى ... صاحبى بقىة اعمل ايية ..... جميلة ومنتظر تكملتها .. الى الامام تحياتى
إرسال تعليق