الفصل الثالث - و يفضلها البعض حمراءأغلق عبد الواحد باب السيارة فيما جلس فاروق أمام المقود في انتظار لحظة الانطلاق، و ما أن تأكد أن عبد الواحد قد استقر مكانه حتي أدار المفتاح منطلقًا من أمام مبني الرقابة الإدارية، بينما قال عبد الواحد:
- تُشكر يا روقة .. الواحد مش عارف يودي جمايلك فين ..
ربت علي ساقه وقال:
- جمايل مين بس يا عُبد .. دا واجب .. بس أنا مستغرب، إزاي أنت سايب الأرض لغاية ما وصلت للمرحلة دي ..
- و حياتك يا فاروق أنا ما عرفتش إلا من أسبوع واحد بس .. الغفير ابن الـ .. و لا بلاش شتيمة بظهر الغيب .. المهم البني آدم ده ما إدانيش خبر إلا من أسبوع .. أنا إيه اللي حيوديني برج العرب في الحر ده ..
- بس ما تخافش .. ما دام محسن باشا قالك الموضوع حيخلص، يبقي إن شاء الله حيخلص .. بس أنت اعمل الورق اللي قالك عليه ..
- يعني أنت مالي إيدك م الراجل
ده ؟
- اللي بيني و بينه زي اللي بيني و بينك بالظبط ..
- إيه .. فتيس العربية يعني ؟
و فيما انطلق عبد الواحد يضحك، اعتصر فاروق يده الحرة في غيظ قائلاً:
- يا ربي .. هو إحنا كل شلتنا كده .. دمها شربات خفة قوي كده ..
- ما هو لازم علشان نفك م اللي إحنا فيه ده ..
دار بالسيارة ليرجع إلي اتجاه فيكتوريا - الاتجاه الأصلي الذي يجب أن يسير فيه - قائلاً:
- المهم أنت أخبارك إيه ؟
- الحمد لله ..
- و الشغل ؟
- أنا واخد إجازة النهار ده .. بس الشغل ماشي كويس ..
- إجازة ؟! .. يعني مش حطلعك ع المكتب ؟
- أنا أصلا متقريف م الموضوع ده، و بعدين الموظفين من تلات شهور تقريبًا ما إديتهومش منحة كده زي ما أنا متعود .. قلت أريحهم النهار ده شوية .. أنا بهد حيلهم بجد ..
- يا خويا اللهم لا حسد .. بس الشغل عندك نار ..
- الحمد لله، بس يا ريته جايب همه .. الواحد بيخلص في الشغل .. بيتهلك، و تلاقي في الآخر يدوب مكفي نفسه و العيال بالعافية ..
- آدي حالك و آدي حال البلد .. تعرف تغيره ؟
- نفسي ..
اقتربت السيارة من مصطفي كامل فقال فاروق:
- أنت حتنزل عند البيت .. صح ؟
- آه .. نفسي أأجظ خالص النهارده .. و لا حتي فسحة ..
- ماشي .. يا سيدي ..
و عند مدرسة عبد الله النديم انحرف فاروق مخترقًا شارعها لينزل عبد الواحد قبل نفق مصطفي كامل، لينطلق هو بعدها إلي المستشفي الألماني ليجهز نفسه لعملية تغيير مفصل ركبة "ع الماشي" .. تذكر أول عملية تثبيت بالمسامير أجراها في حياته، و كيف رآها نهاية الكون بدون منازع، لكنها اليوم بالنسبة له كأنها تقليم أظافره ..
- دنيا ..
قالها و يشغل الراديو علي إذاعة الموسيقي طلبُا لبعض الهدوء بعد حرق الدم الذي عاشه منذ ساعة مع عبد الواحد بسبب أرضه - ملكه - التي تكاد تضيع بسبب بعض الحثالة البشرية التي لا تنفك تفسد في الأرض ..
و الحكاية أن عبد الواحد كان قد اشتري قطعة أرض في منطقة برج العرب من أحد أحفاد رجل يوناني يحمل اسمًا يونانيًا معقدًا علي غرار خريستوفليس ديستروتيفيس، و كان هذا الرجل قد اشتري الأرض من هيئة استصلاح الأراضي بعد استيفاء كافة الأوراق و منها، و أهمها هنا و التي هي سبب المشكلة، بيان من هيئة الآثار أن الأرض خالية من الآثار بكافة الصور و أنها لا تخضع لقانون حماية الآثار و إلخ إلخ إلخ ..
اشتري عبد الواحد الأرض بعد التأكد من صحة كافة الأوراق، و سجل الأرض باسمه و انهي كافة الإجراءات بصورة قانونية تمامًا ليفاجأ منذ أسبوع بالحارس الذي عينه علي الأرض يخبره أن عددًا من الأشخاص قد جاءوا بمعدات هدم و هدموا السور الذي أحاط به الأفدنة الأربعة و أحالوه ترابًا و أخذوا عداد المياه و الكهرباء، قائلين أن الأرض تابعة لهيئة الآثار و أن إجراءاتها غير قانونية و .. و ..
زفر ضيقًا و هو يتذكر كل هذا، بينما ينجرف بسيارته في ذلك الشارع الجانبي خلف المستشفي مباشرة "ليركن" السيارة قبل أن ينطلق إلي المستشفي محاولاً تصفية ذهنه كيلا تنتهي العملية بكارثة ..
***
جلست مدام إنعام السويركي علي مقعدها المفضل في الشرفة تتنسم قليلاً من هواء المساء في مثل هذا الجو الحار .. هي تكره الهواء المعلب الخارج من جهاز المكيف .. تراه أشنع اختراع في تاريخ البشرية، إذ يجعل الإنسان كالطعام الذي نخشي فساده فنضعه في الثلاجة، و تفضل عنه - و لو جاء كقذائف اللهب - النسيم الطبيعي ..
جلست ممسكة بهاتفها المحمول تدير أرقامه حتي وصلت لبغيتها، فأخذت شهيقًا عميقًا و هي تتصل بالرقم الذي أرادته قبل أن تزفر و هي تضعه علي أذنها في انتظار الرد ..
- آلو .. مساء الخير ..
- مساء النور .. مين معايا ؟
- أنا مدام إنعام عمة سامية ..
- آسف .. مش واخد بالي ..
- سامية مرات محمود صاحبك .. لحقت تنساهم يا دكتور زكريا و لا إيه ..
- يا أهلاً و سهلاً .. شرفتينا يا أفندم .. آسف جدًا علي عدم الانتباه، بس ضغط الشغل كان جامد شوية النهار ده ..
- أرجو ما أكونش أزعجتك ..
- لا أبدًا .. أأمري ..
- أنا كنت عاوزة استشير حضرتك استشارة طبية .. أقدر آجي العيادة امتي ؟
- الوقت اللي يناسب حضرتك .. العيادة شغالة من الساعة واحدة للساعة خمسة .. بس يفضل حضرتك تيجي علي الساعة اتناشر اتناشر و نص، قبل الزحمة، حاكون في انتظارك ..
- إن شاء الله أكون عندك بكره ..
- تشرفي يا أفندم، و ألف سلامة عليكي ..
- الله يسلمك .. مع السلامة ..
- مع السلامة .. في رعاية الله ..
و أنهي الاتصال و هو لا يكاد يري أزرار الهاتف .. زفر زفرة طويلة من شدة تعبه و هو يستلقي علي ذلك السرير الذي أعده خصيصًا لتلك الأيام المرهقة ..
عندما أخذ هذه الشقة ليجعلها عيادة له ألحق بحجرة الكشف حجرة صغيرة، و جعل بابها مبهمًا كجزء من ديكور الحجرة الرئيسة، و جعل فيها سريرًا و ثلاجة و بعض الأشياء الصغيرة علي هذه الشاكلة ليقضي فيها لياليه التي يفرمه فيها الإرهاق فلا يقوي علي التحرك قيد أنملة، و لو حتي ليذهب لبيته .. علي أية حال هو يحيا وحيدًا، و ليس من أحد في المنزل كي يقلق لغيابه .. قديمًا كانت والدته، أما الآن فلا والده و لا والدته و لا حتي أحد من إخوته يسكن معه .. فقط هو، و هو لن يقلق عليه إذا تغيب خارج المنزل ..
كثيرًا ما فعلها و بات ليلته في العيادة، و قد اعتاد حنفي - السكرتير - علي هذا، و أصبح يتصرف من تلقاء نفسه، إذا وجد اليوم مرهقًا، فيغلق العيادة كأن ليس فيها أحد، إذ يعلم أن زكريا سيبيت ليلته فيها ..
أسلم جفنيه للنوم اللذيذ الذي أخرجته منه مدام إنعام و هو يمني نفسه بليلة حافلة بالهلاوس كعادته كلما نام مرهقًا ..
***
تثاءب إسماعيل و هو ينظر إلي ورقة النتيجة الموضوعة أمامه علي مكتبه .. الرابع عشر من أغسطس .. عيد ميلاده الثالث و الخمسين .. ياه .. لقد خطط لهذا اليوم كثيرًا من بداية الشهر، لأنه يعتبر اجتياز عقبة الثاني و الخمسين من العمر انجازًا، و لم يخبر أحد أبدأ لم هذا .. هو نفسه ليس يدري .. مجرد شعور يجتاحه أنه حقق انجازًا بوصوله سالمًا إلي هذا السن ..
خطط كثيرًا لهذا اليوم، لكن جملة الأحداث التي وقعت منذ يوم الاثنين الماضي - الحادي عشر - دمرت كل شيء .. ما بين فرح محمود الذي أصر أن يكون في يوم ميلاده - يفصله عن إسماعيل سنة و يومان بالسلب - رغم أنه يوم اثنين علي غير العادة ..
" حد يعمل فرحه يوم الاتنين " قالها متعجبًا، و إن كان قد بلع عجبه و دهشته لمعرفته بصلابة و صلادة رأس محمود .. ثم جاء ما حدث في نهاية الليلة لخميس، فلم يدر أحد ماذا يقول لمحمود في الصباحية .. هل يقولون "صباحية مباركة" أم "البقاء لله" ؟!
ثم جاءت الطامة الكبري عندما اتصلوا به في الثالثة فجرًا ليأت المستشفي "علي ملا وشه" لأن جهاز الأشعة السينية - ببساطة - يحترق !
منذ أن جاء و هو يرغي و يزبد و يطيح في الكل .. فني قسم الأشعة يقول أن الأجهزة تسخن بشكل مريع، و أن أجهزة التكييف لا تعمل، و أنه أرسل أكثر من مرة إلي قسم الصيانة ثم قسم المشتريات فيما بعد و لا مجيب .. كل مرة "يصلبتوه" و انتهي الأمر ..
- هو إيه ؟ .. أنا شغال في مستشفي في الصومال أنا علشان تقولي مفيش تكييف .. و الزفت ده بتاع الصيانة و الزفت التاني بتاع المشتريات فين .. هاتوهم من قفاهم إن شالله يكونوا في المريخ ..
هو الآن منهك .. بالكاد كان يسيطر علي نفسه رغم أن الله سلّم و لم تأت الخسائر فادحة .. جهاز واحد فقط من ضمن ثلاثة أجهزة هو الذي أُصيب، و المستشفي بالفعل كانت في طريقها إلي تكهينه و شراء جديد .. الآن أصبح الأمر ضرورة ..
- اتفضل ..
قالها إثر الطرق الرقيق لسكرتيرته مستأذنة في الدخول .. رقيقة هي كنسيم البحر، و عاصف هو كإعصار كاترينا، و ليس يدري كيف يتجاور الاثنان، و لا كيف يطيقها بطبيعته النارية تلك .. و لربما لأنها تمثل الجانب الذي طالما أراده في نفسه، لهذا أحبها و أحب استمرارها معه في العمل ..
- البوستة يا أفندم ..
نظر إلي البريد ... كمية محترمة من البريد الدعائي، تزعجه لكنها مهمة بالنسبة له كمستشفي، لأنها قد تحمل عروضًا يصعب الإمساك بها في مرات قادمة .. لم يكن صافي الذهن لحظتها ليرد و ينظر في كل هذا، فحملهم "لوكشة واحدة" إلي جيبه لينظر فيهم بتمعن عندما يصفو ذهنه ..
- حاجة تانية ؟
- مدير المشتريات يا أفندم مقدم الطلب ده ..
نظر إلي الطلب .. طلب شراء جفت ميرلاند لجهاز المنظار الجراحي ..
- نهار أبوهم مش فايت .. ولاد الكلب دول فاكرينها قتّة محلولة و لا زريبة هي و لا إيه .. مش الزفت ده لسه متغير من ست شهور علشان القديم استهلك .. لحق يبوظ ..
- رئيس العمليات بيقول إن الجفت القديم مش مطابق للمواصفات ..
- نعم ؟ ..
- اتفضل يا فندم ..
و أعطته مذكرة رفعها رئيس العمليات يقول فيها أن الجفت الميرلاند الذي تم شراؤه غير سليم و ليس مطابقًا للمواصفات و به بعض العيوب الفنية التي تجعله غير صالح للاستعمال المتكرر بالشكل الذي يؤهله لمواجهة ضغط العمل في المستشفي ..
- ميرلاند .. ميرلاند مين ؟ .. مش الجفت كان أوليمبس ؟
- اللي اتورد كان ميرلاند يا أفندم ..
صمت لحظة و قد كاد أن ينفجر .. هناك عملية "تهليب و تقليب" واضحة للمستشفي، و هو لن يسمح أن يُسب في نهاية حياته بفضيحة مالية ..
انفجر في وجهها قائلاً:
- مدير المشتريات و مدير الصيانة و رئيس العمليات .. كل دول ع التحقيق .. لما نشوف ولاد الهرمة دول عاوزين إيه ..
- تمام يا أفندم ..
و انسحبت لتكمل عملها فاستوقفها قائلاً:
- اجتما ..
و قطع كلامه رنين هاتفه فصمت لترد هي:
- مستشفي عناية ..
و إن هي إلا ثوان حتي أعطت السماعة لإسماعيل قائلة:
- أستاذ جمال عبد الغفار ..
أمسك السماعة متذمرًا:
- أيوه يا جيمي ..
- إيه الدخلة الشمال ..
- قصّر .. أنا مش فايق .. حابقي أحكي لك بعدين ..
- عاوز أشوفك النهار ده ..
- ستة بليل كويس ..
- خليها سبعة ..
- عندك و لا عندي ؟
- عندك .. أنا عندي ضيوف و مش حينفع ..
- تمام .. أشوفك سبعة .. سلام ..
و أغلق الخط دون حتي أن ينتظر جمال حتي يغلقه، ثم أكمل ما بدأه:
- اجتماع مجلس الإدارة مفروض النهار ده ..
- الساعة تلاتة و نص ..
- خلي دكتور حسين فايق هو اللي يحضر .. أنا جبت آخري خلاص و مش حاقدر أحضر ..
ثم قام عن مكتبه و هو يفرك عينيه، و أكمل:
- و ألغي لي كل مواعيد النهار ده .. لو قالولك واحد عاوزني علشان بيموت قولي له يستني لبكرة ..
و انصرف لا يلوي علي شيء ..