21.7.10

الذهب الأحمر - تابع الفصل الثالث

حاولت غاريتا أن تبقى ذهنها صافيًا لكنها لم تفلح .. حديث روك منذ يومين عن را الذي عاد، و الذي تعرف عليه ما زال يرن في أذنها، و تسمع له – مدفوعة بقلقها و خوفها – صوتًا كصليل السيوف ..
السيوف، و الدم، و أرواحهم التي قد يخسرونها في أية لحظة .. ربما يتشكك روك أو رين في را، لكنها لا يمكن أن تفعل .. هي معجبة به، و لا تنكر هذا، لكن الإعجاب ليس السبب الوحيد لدفع الشك تجاه را عن نفسها ..
غالب الأمر أنه إحساس الأنثى .. مجرد إحساس أن را يحمل لهم لا عليهم، و أن شيئًا عظيمًا سيجنونه من ورائه، و أن هذا الشيء لهم فيه خير عظيم ..
إحساس الأنثى الذي أبقاهم على قيد الحياة اثني عشرة عامًا، عندما أشارت على رين أن يشتريا هذه الحانة بما تبقى لهم من كرونكات تركها لهم والدهم – قبل أن يرحل و يفروا – و أن يستقرا فيها متخفين، فأفضل مكان للاختباء – كما تقول دومًا – هو أبرز الأماكن و أقربها لعدوك ..
نادت فتاة المطعم كي تأخذ طبق الحساء للزبائن، و لم تكد تنهي نداءها، حتى فوجئت برين يأتيها قلقًا، و التوجس و الخوف يرسمان خطوطًا عميقة على وجهه، و انتقل لها خوفه و توجسه فبادرته بالسؤال:
- أي مصيبة حفرت نفسها في وجهك يا رين ؟
أجاب و هو يفرك يديه كعادته كلما استبد به القلق:
- حملة جديدة ..
ألقى الكلمة كالحجر في بئر، فأجفلت منها و قالت و الكلمات تخرج من فمها تجر بعضها جرًا:
- أي حملة .. و لأي سبب ؟
- يقولون إن أحدهم اقتحم القصر و فر، و هم يبحثون عنه ..
- تبًا لأولئك الأشقياء ..
قالتها واضعة يدها على جبهتها من صداع مفاجئ ألم بها ثم أكملت:
- و ماذا ستفعل ؟
- كالمعتاد .. لقد سأمت هذا، لكن لا حل أمامنا سواه ..
لفت جسدها بهذا الثوب المهلهل الذي اصطلحت أن تسميه معطفًا، و غطت رأسها بما اتصل بالمعطف من غطاء للرأس، ثم توجهت بصحبة رين إلى الحانة كي ينهوا الأمر كما اعتادوا دومًا: بعض الدلال الأنثوي و قليل من الكرونكات، و ينتهي كل شيء ..
إلا أن كل شيء كان قد حدث قبل أن يصلا إلى باحة الحانة، ليفاجآ بالضجة تملأ الأجواء و تصم الآذان و حارسان يقتادان واحدًا من الرواد تحت وابل من الشتائم و الصفعات و الركلات، فيما عقدت المفاجأة لسان غاريتا و رين، فهذه هي المرة الأولى – تقريبًا – التي يتطور فيها الأمر إلى اعتقال أحد الزبائن .. لقد جن جنون القصر حقًا ..
سأل رين أقرب الجالسين:
- ماذا فعل ابن الغبية هذا ؟
هز الرجل رأسه أسفًا و أشار بيده بحركة تحمل المعنى ذاته، قبل أن يجيب:
- سب الملك علنًا .. قال إن أموره الخاصة لا تعنينا في شيء، و إنه يجب أن يكون أكثر حرصًا عن أن يكون أكثر نفيرًا ..
أشار رين إلى غاريتا أن تدخل، ففعلت، بينما ظل هو ساهم ينظر إلى الأرض نظرة ملؤها الفراغ، و عقله يعمل بكل طاقته كي يجد تفسيرًا واحدًا مقنعًا لهذه الجملة التي لم يسبق أن فكر أحد في أن يفكر فيها .. ثمة شيء غير عادي دار برأس هذا المأفون فقال ما قال، لكنها بالطبع ليست الخمر .. الجعة تفعل الأفاعيل برأس البشر، لكنها لا تحيلهم أغبياء ..
زفر في ضيق، ثم تبع أخته إلى الداخل، فيما أعاد صبية الحانة ترتيب المكان ..
***
أجابت نارزا نداء الملكة بسرعة، و هي على أية حال لم تكن في حاجة إلى هذا؛ فالملكة على عكس جلالته، صبورة ودودة، ما يجعل التعامل معها ألطف قليلاً من التعامل مع الملك .. أنحنت تحية لها ثم جلست إلى الأرض إثر إشارة منها، و انتظرت سؤالها:
- أريدك أن تخبريني الحقيقة يا نارزا .. أنت من ربيتي را، و لربما تقضين معه من الوقت أكثر مما أقضي .. أصدقيني الحديث ..
- بالطبع يا مولاتي .. سلي ما شئتي، فأنا رهن بنانك ..
- أقسمي أن تقولي الحق ..
و دون مقدمات استحال قلب نارزا قلب عدّاء قطع ما بين السدين الأعظمين دون راحة، حتى شعرت بدقاته تدوي في أذنيها كالطبول، قبل أن تجيب:
- أقسم أن أقول الحق و لا شيء إلا الحق يا مولاتي ..
استبد بها الرعب أن تكون جلالتها قد كشفت شيئًا عن نزول را إلى الغوغاء، لكن الملكة قالت:
- أيحب را إحداهن ؟ .. هل هنالك فتاة تشغل باله ؟
لو كان باستطاعتها، لزفرت و أراحت جسدها و أبدت كل ما يبديه المرء من علامات للارتياح، لكنها خشيت أن تشك فيها الملكة، فقالت دون إبطاء:
- لم يصارحني بشيء كهذا، و لم ألاحظ عليه التفكير في واحدة بعينها ..
أومأت الملكة برأسها دون أن تجيب، ما دفع نارزا أن تسألها:
- لو أذنت لي مولاتي أن أعرف سبب السؤال ..
واصلت الملكة صمتها للحظة قبل أن تجيب:
- يبدو مشغول البال دومًا .. ليس صافي الذهن كما كان .. ليس حاضر البديهة كما كان .. هنالك خطب ما قد ألمّ به ..
- لعلها شئون الحكم يا مولاتي .. سمو الأمير قد عاد لتوه من رحلة هامة خارج البلاد، و لعله مشغول بما فيها ..
- لقد بدأ الأمر قبل الرحلة بفترة قصيرة .. ليس هذا هو الأمر ..
بالطبع ليس هذا هو الأمر .. فرا مشغول بالغوغاء حتى النخاع .. عالم جديد يستكشفه للمرة الأولى، و يبدو أنه سيكون استكشافًا حتى الأعماق ..
همت نارزا أن تقول شيئًا، لكنها لم تستطع؛ إذ سمعت طرقًا على الباب أعقبه دخول را قائلاً:
- أأنت هنا ؟ .. لقد بحثت عنك طويلاً يا نانا ..
- إنما طلبتني جلالتها، و ليس لي إلا الإجابة ..
- فهل تأذن مولاتي أن آخذ مربيتي حتى أتحدث إليها ؟
قامت الملكة عن مجلسها و هي تقول:
- لم نكد نغلق ما بدأنا بشأنك ..
- بشأني ؟ .. علّه خير يا أماه ..
- أتمنى هذا ..
صدمته كلمتها .. أتمنى ؟! .. لقد أفلت بأعجوبة مما حدث بشأن تسلله إلى القصر، و أمه تتحدث عن شيء بشأنه "تتمنى" أن يكون خيرًا ؟!
- فهل لي أن أعرف، علّي أثلج صدرك ..
- ستراوغ ..
- أنت من علمتيني المراوغة، و لست أظنني سأتفوق عليك في هذا المضمار ..
- إذن ..
ثم صمتت قليلاً كأنما ترتب الكلمات في رأسها، ثم قالت:
- أتحب يا را ؟
هم بإطلاق ضحكة عالية مجلجلة، لكنه كتمها و كتم أنفاسه عندما تابعت سؤالها:
- أم أن زياراتك للغوغاء هي التي تشغل فكرك ؟
و هوى قولها على را و نارزا كألف صاعقة ..
***
حقًا ألجمت لسانه، و بصعوبة بالغة استطاع أن ينطق بكلمتين فحسب:
- كيف عرفت ؟
كان قوله يتضمن اعترافًا بالزيارة، لكنه علم أنها تعلم حقًا، فالفكرة في حد ذاته غير قابلة للتخمين ما لم تطلقها من عقالها أدلة مادية محسوسة و دامغة ..
قالت:
- أنت مهمل بعض الشيء، و أنا أصاب بالأرق أحيانًا .. شاهدتك، ثم تأكدت من تلك الأسمال التي تهبط بها إليهم، و الآن أنت تعترف .. و لكن ..
ثم صمتت صمتًا انخلع له قلبيهما، قبل أن تكمل:
- لكنني بالطبع لم و لن أخبر أباك ..
- حقًا ؟
- هل اعتدت مني الكذب ؟
ثم أشارت إليهما و قالت بينما سبابتها اليمنى تتنقل بينهما:
- لكن الحذر واجب يا ولدي .. أعلم أنك تفعل هذا لأنهم شعبك الذي يجب أن تعرفهم، و لن تعرفهم و أنت خلف هذه الأسوار المقيتة .. أبوك نسيهم من قلة رؤياهم، و إن رآهم فلا يراهم إلا عبيدًا يدفعون الضرائب، أو قتلى في جيوشه يحاربون الهوبوز، و لست أرضى لك هذا يا ولدي ..
ارتاح را كأنما جبل ثقيل قد انزاح عن صدره، و لم يكن شعور نارزا بأقل من هذا، حتى بعد أن توجهت إليه الملكة بالحديث قائلة:
- و لكنك تغامرين يا نارزا .. أستطيع حماية را، فهو في النهاية ولي العهد، و لن يمسه سوء .. أما أنت، فالملك بكل أسف لا يرحم ..
كانت تتحدث بالحق بكل أسف، لكن نارزا لم يعد أمامها خيار إلا المواصلة .. الملك لا يرحم، و هي لن تتراجع حتى تجعل ممن ربته في صغره ملكًا عظيمًا يحب شعبه و يحبه ..
- أخبرني إذن عما رأيت بالأسفل ..
- إنه عالم مختلف تمام الاختلاف يا أماه .. هؤلاء الناس لا يعيشون، بل يتعايشون ..
- نعم .. أعلم هذا ..
قالتها بمرارة ثم وضعت يدها على كتف ابنها و أخذته إلى الشرفة، حتى إذا أصبحا ينظران إلى الأفق الممتد قالت و هي تشير إلى الأفق:
- في يوم من الأيام سيثور هؤلاء كما ثاروا من مائة عام و عشرين .. إن هذا اليوم يقترب بسرعة البرق، و إنني أكاد أراه ..
ثم نظرت لابنها و قالت:
- لا أريدك كأبيك، فإن شهوة السلطة و الغنى قد أعميا قلبه ..
- لم أعلم يا أماه أنك تهتمين بشئون الحكم إلى هذا الحد ..
قالها مبتسمًا فأجابت:
- النساء محرم عليهم التدخل في شئون الحكم، لكن هذا لا ينطبق على الاهتمام بها ..
ثم نظرت للأفق الرحب في صمت شاركها فيه را، لكنه لم يشاركها ما كان يدور بخلدها، و ما كانت تراه أمام عينيها من ماض بعيد، يوشك أن يكرر نفسه ..
***
مضى أسبوع على مجيء را، قبل أن يجلس با-هيب إلى رأس المائدة الضخمة التي التف حولها أعضاء مجلس المشورة الملكية، و إلى الجانب الآخر جلس رئيس مجلس المشورة الملكية، را، الذي افتتح الجلسة قائلاً:
- جلالة الملك، أعضاء مجلس المشورة الملكية الموقرين، فلتفتتح الجلسة السادسة بعد المائة الخامسة من جلسات هذا المجلس الكريم لنناقش عرض الملك تارام، ملك إقليم الشمال ..
ثم أشار للكاتب أن يقرأ نص العرض الرسمي الذي تقدم به تارام، و عاد به را:
"جلالة الملك المعظم با-هيب، ملك أرض النازوم
تحيات معطرة، و أمنيات بالسعادة لا حدود لها .. فقد وصلني رسولك، الأمير را-هيمين، و أبلغني عرضك، الذي ينص على دمج فيلق من جيش جلالتكم و فيلق من جيشنا بقيادة مشتركة و تمويل مشترك .. و عرض تجاري متمثل في توفير الأخشاب من مملكتم بثلاثمائة كرونك للكانو ..
و قد درسنا عرضكم الكريم، لكننا رأينا أن عرضًا أفضل منه يمكن أن يخرج للنور، و أن عُرى الأخوة و المحبة بين المملكتين يمكنها أن تتوثق أكثر لو تخللها زواج ولي العهد، سمو الأمير را-هيمين، بكريمتنا كارين، و لتكن بعدها جيوشنا واحدة، ما دامت الدماء ستصير واحدة، و ليكن عرضي بديلاً لعرضكم، و محل النقاش ..
حليفكم، تارام"
أنهى الكاتب قراءة الرسالة التي بدا التصنع واضحًا يقطر من كلماتها؛ فكل كلمات المودة و الاحترام لم تكن حقيقية بحال، لما بين المملكتين من صراع خفيّ بسبب مقاطعة التاشاما الغربية الغنية بالمعادن، و التي ظلت محل نزاع طويل، حتى استولى عليها إقليم الشمال في لحظة من لحظات ضعف مملكة النازوم، ليظل الصراع بينهما متأججًا يرقد بخبث تحت السطح، منتظرًا شررًا يشعله مرة أخرى ..
- فما رأي الأفاضل النبلاء ؟
تنحنح شاولي-هيم، و هو نبيل من الطبقة الرابعة، و حامل مفاتح الخزائن، و قال:
- ما بيننا و بينهم لا يخفى على أحد، و عرضه مثير للريبة و لا شك، لكن الأمر يحتاج للتفكير من زاوية أخرى .. زاوية احتياجنا لهم في المرحلة الحالية، هل هي حاجة يمكن لها أن تبرر قبول مثل هذا العرض ؟
- جيوشنا تستنزف، و ليس لدينا أمل في هزيمة هؤلاء الهوبوز الملاعين دون مساعدة خارجية .. لم يبق في المملكة أحد يقدر على الحرب إلا و أخذ إلى ساحة النزال، حتى لم يبق إلا الشيوخ و الأطفال و النساء ..
قالها سيما-زي، المستشار الملكي لشئون الحرب و الاستطلاع، فرد شاولي:
- أنا أعني تحديدًا قبول عرض الزواج .. لا أنكر أننا بحاجة للمدد، فخزائن الدولة بالإضافة إلى جنودها يفنون شيئًا فشيئًا، لكننا لسنا بحاجة إلى إدخال غريب إلى القصر الملكي تحت مسمى الزواج، خاصة لو كان من إقليم الشمال ..
قال كانوزا، مستشار الملك لشئون التجارة:
- يبدو أن جلالة الملك تارام ليس مقتنعًا بالعرض الذي قدمناه، و لهذا ارتأى هذا العرض البديل، لذا اقترح أن نضاعف العرض، أو أن نعرض منتجًا آخر .. الكتان على سبيل المثال ..
لم يبد على وجوه أغلب الأعضاء الستة عشر الارتياح لهذا العرض، ما دفع مياز، مستشار الملك لشئون الأمن الداخلي، أن يقول:
- حقيقة لست أرى بأسًا في هذا الزواج .. أعلم أن قوانينا تمنعنا أن نراقب زوج الأمير أو أن نضعها تحت رقابة دائرة الأمن، خاصة الأجنبيات، لكننا مَنْ نضع القوانين، و لن يرغمنا أحد أن نحتفظ بالقانون كما هو .. لسنا حتى مضطرين لتطبيقه لو لم نرد له تعديلاً ..
ظل الملك و را طوال هذه المناقشات صامتين، حتى كسر با-هيب صمته قائلاً:
- مياز قال اقتراحًا ممتازًا، لكنه يعتمد على موافقتنا من الأساس على هذا الزواج .. لا أريد لنسلي أن يكون في دمه شيء من دماء هذا المأفون، فإن العرق دساس ..
- ليس كل الأبناء كآبائهم يا جلالة الملك ..
قالها را مبتسمًا، و لم يفطن إلى أنه – حتى و إن لم يقصد – يعنيه هو أيضًا، و هو ما ظهر على وجه والده الذي زال شيء من انبساطه، لكنه تابع رغم ذلك:
- أنا لا أريد هذا الزواج بحال .. أنتم ترونه مصلحة المملكة، لكنني أراه مأساة شخصية، لكنني في الوقت نفسه أرى أننا يجب ألا نخسر حليفًا ممتازًا كتارام، حتى و إن كنا نكرهه .. حلفاؤنا الآخرون ليس منهم من يريد الاستمرار، و حججهم قوية بهذا الصدد .. كاما ملك الأرض البيضاء لديه نزاعاته الداخلية و ليس يرغب في إبقاء الجيش بعيدًا عن مملكته، و نيورجا يوشك أن يعلن إفلاسه و إفلاس مملكته، فمن يبقى بعد هذا ؟
- و الرأي ؟
- لو أذن لي جلالة الملك و سمو الأمير ..
تنحنح مركاسو، حافظ سجلات الأنساب الملكية و وثائق الزواج و الطلاق للطبقة الحاكمة، قبل أن يكمل:
- إنني أرى أن كل زواج ليس بالضرورة يجلب الولد .. نستطيع أن نقبل العرض و الزواج، حتى نحقق غايتنا، ثم نفتعل أي حجة لإفشال الأمر، و لربما استعنا بماريناس كي يصرف الأميرة كارين عن سمو الأمير، فيبدو الأمر طبيعيًا لا شك فيه ..
- لكن الأمر ليس في الولد فحسب .. غريب في القصر الملكي يعني وجود جاسوس إلى أن يثبت العكس ..
قالها با-هيب و قد تملكه الغضب و أكمل:
- إنني أرى ألا نوافق على هذا العرض، و لنخض جولة جديدة من المفاوضات مع هذا المأفون ..
- لا يبدو أنه في استطاعتنا يا مولاي ..
- كيف يا سيما ؟ .. كل شيء ممكن ..
- لا أعني أنه مستحيل، بل أقول إن الظروف قد لا تسمح؛ ففرق الاستطلاع تقول إن رسولاً من قِبل كومار ملك البلخاي قد وفد إلى تارام بالأمس، و أخشى ما أخشاه يا مولاي أن يكون هذا بداية تحالف بينهما، و لحظتها لن يبقى من مملكتنا ما ندافع عنه ..
- لكن ما بينهما حرب ضروس لا أول لها و لا آخر ..
- و ما بيننا و بين تارام صراع طويل طوى تحت صفحته أجيالاً، لكن الخلافات قد تتوارى جانبًا إذا اقتضت المصلحة، و مصلحة كومار أن نزول من على وجه الأرض ..
أطرق با-هيب و قد شعر أنه قد وضع في مأزق .. كومار بمفرده كابوس مطبق، فما باله لو انضم إليه تارام، كابوس حياته الآخر ؟
- فما رأيك يا والي مجلس المشورة ؟
- أرى ..
ثم صمت لحظات داعب خلالها ذقنه ثم قال:
- أرى أننا قد حوصرنا، فحلف بين تارام و كومار فيه الهلاك المحقق .. اثنان من أكثر من يبغضوننا على وجه الأرض يتحالفان، إذن هي الطامة .. لهذا أقترح بعضًا من هذا و قليلاً من ذاك .. سأفاوضه على التحالف بدون الزواج، فإذا أُحصرت قبلت و ليس لي حيلة ..
- فلنصوت ..
قالها با-هيب و لم يكن لها ضرورة، لكنه العرف و التقاليد، و انفض المجلس و قد وقع با-هيب في الفخ المرسوم .. وقع وقوعًا بلا رجعة ..
***

14.7.10

أحلام الفتى الدائخ - الحلم الخامس


الحلم الخامس - مملكة يارا و التنين المائي، أشياء أخرى ..

لسبب ما فإن أول ما طرأ إلى ذهني في بداية هذا الحلم - أو عندما تذكرته فور استيقاظي - هو قصة جول فيرن الشهيرة "عشرون ألف فرسخ تحت الماء" .. على أية حال، ليس للقصة من قريب أو بعيد أي علاقة بما حدث ..

أراني واقفًا على شاطيء صخري أعتلي إحدى صخوره، أنظر إلى الأفق و البحر الصاخب، و السماء ملبدة بالغيوم، و ذلك اللون الرمادي الذي أكره الشتاء بسببه، و على البعد توجد بحيرة صغيرة تتصل بالبحر عن طريق فتحة ضيقة - بوغاز لو أردت الدقة .. عند هذه البحيرة يرقد تنين مائي ضخم، يذكرك فور رؤيته بذلك التنين الذي صمموه في فيلم The Seventh Voyage of Sinbad لكن لونه مائل للزرقة، و بجواره يرقد العفريت الذي يقوده .. عفريت من الجن أخضر اللون يشبه الغوريللا على رأسه خوذة لها اللون نفسه، أو ربما هي جزء من تكوين رأسه لا أكثر ..

أراقب المشهد، لأجد أن التنين نائم لكن صوت شخيره مزعج للغاية، و يوّلد أثناء نومه الكثير من الرذاذ، ما يثير غضب العفريت، فيتشاجران، لكن الواضح أنه شجار الأحبة؛ مزاح ليس إلا .. مزاح ينقلب على حين غرة إلى مأساة حينما ينزلق التنين إلى بركة من الطين الأخضر، الذي اكتشف إنه مسحور يقتل بمجرد الملامسة، و يصيب الضحية بالاختناق التدريجي، بينما تنزلق كما ينزلق المرء في الرمال المتحركة .. في البداية سقط التنين في البركة، فهب العفريت لإنقاذه ليسقط بدوره بينما نجا التنين، و في النهاية أنقذ أنا العفريت من بركة الطين القاتلة تلك ..

نسيت أن أخبركم أنني كنت في رحلة برفقة اثنين من الإغريق، نبحث عن شيء ما لست أذكر كنهه تحديدًا، لكنه كان شيئًا مقدسًا فُقد من أحد المعابد اليونانية، و كان هذا التنين هو وسيلة السفر و التنقل ..

بعد أن أخرجت العفريت من البركة، أتى أحد رفاقي، و أمسك بقطعة من طين أخضر، لكنه أدكن من الطين القاتل - ما يعني أنه ليس بخطر - و وضع قدر غمسة إصبع من الطين القاتل في الطين الآمن و أعطانيها قائلاً إنها قد تحميني في يوم من الأيام ..

انطلقنا نحن الثلاثة نستشرف الأفق، لأفاجئ بالمشهد يتغير كلية، و رفيقاي الإغريقيان يتحولان إلى اثنين من زملائي في الكلية، و الشاطيء الذي كنا عليه وجدته قد استحال شاطيء الشاطبي المواجه لمكتبة الإسكندرية .. انطلقنا نسير، و ننظر إلى اللافتات التي ملأت المكان حولنا، و على الجانب الآخر من الشاطيء، لنجد أننا لسنا في الإسكندرية، بل في مملكة يارا - التي تتحدث العربية - التابعة لمملكة تايلاند ..

نحاول تدبير طريقة للعودة إلى الديار، لنقابل أستاذًا جامعيًا إنجليزيًا من المهتمين بالشأن الداخلي المصري، يخبرنا إنه قادم من أجل مؤتمر أو لقاء عن مصر، يقام هنا في مملكة يارا، و إنه يستطيع تدبير طريقة للعودة إلى مصر بعد انتهاء المؤتمر، و يدعونا للحضور فنوافق، على أمل أن تنتهي هذه المشكلة ..

سرنا معه و قد فوجئنا أن المؤتمر مقام في أحد الأسواق الشعبية، التي اتخذت مسحة جنوب-شرق آسيوية بامتياز، بأولئك الباعة المتراصين تحت أقمشة تظلل عليهم مشدودة بين أربعة قوائم .. وصلنا المكان المنشود، الذي لم يكن سوى "شادر" كهذه الشوادر التي يقيمها المرشحون في الانتخابات، و قد اصطفت المقاعد الخشبية في صفوف أمام منصة بدائية يجلس إليها المتحدثون في هذا المؤتمر الذي اكتشفنا أنه عن انجازات وزارة التعليم العالي في مائة عام ..

جلست في المقدمة، بينما جلس رفيقاي في الصفوف الخلفية - كعادتهما في الحياة الواقعية - و بدأت الكلمة الافتتاحية بفيلم قصير يستعرض هذه الإنجازات، التي لا اذكر منها سوى إدخال رقم الجلوس لأول مرة في مصر عام 1889 - على وجه التقريب ..

تشوشٌ في الإرسال، و تشوهٌ في الصورة، لينتهي الحلم باستيقاظي مندهشًا من كل هذا ..

11.7.10

شيءٌ كالبكا ..


أذكر قصة قصيرة لكاتب يمني قرأتها منذ فترة، كانت تتحدث عن بكاء الرجال .. يروي المؤلف القصة على لسان بطله الذي يقول إنه ظل يُنهَر عن البكاء كلما هم به، بدعوى أن الرجال لا يبكون، و أن البكاء من شيم النساء، حتى إذا مات أبوه و أراد أن يبكي فراقه .. لم يستطع !
لم أكن يومًا من هواة قراءة القصص القصيرة، أو من هواة المغامرة بالقراءة لمؤلف لا أعرفه، خاصة لو سبق قصته نقد من عينة "إشكاليات الصراع" و "مضامين الحداثة" و "ازدواجية الأنا" و هذا الحديث المقعر الذي لا أدري من أي جحيم يأتي به هؤلاء النقاد، لكن القصة على أية حال جذبتني، و قرأتها حتى النهاية، لا لشيء إلا - ربما - لأنها مست شيئًا في قلبي ..

في البدء كنت أبكي .. لست أكذب لو قلت إنني كنت استشعر شيئًا عجيبًا كلما بكيت .. شعور بالهم ينزاح عن صدرك، أو كأن روحك تسمو فوق هذه المآسي التي تراها صغيرة، أو كأن دموعك - و التعبير ليس لي - تغسلك كلك جملة و تفصيلاً ..

في البدء كنت أبكي، ثم تحت ضغط هذه العبارة الجوفاء العرجاء الخرقاء - الرجل لا يبكي - أخذت القدرة على البكاء داخلي تتضاءل .. لم أعد أبكي إلا إذا كان الهم ثقيلاً جدًا جدًا، ثم لم أعد أبكي إلا لآلام الجسد، ثم لم تعد تبكيني إلا شرائح البصل !

أحيانًا أشعر أنني فقدت كنزًا عظيمًا .. أحيانًا تعتريني لحظات يقصم الهم فيها ظهري - و من منا لا يمر بتلكم اللحظات - و أشعر أنني أريد لدموعي ألا تقف، فلا أستطيع ..

أحيانًا أرى رؤى و أحلامًا لا أحتملها .. استرجع ذكريات لست أدري كيف طاب لنفسي أن تفقدها .. أمر بمواقف أحصر فيها حصرًا، و أرغب في أن أخفف عن نفسي شيئًا من كل هذا بالبكاء .. فلا أستطيع !

الحقيقة التي أيقنتها و أدركتها، أنك قد تجد ألف طريقة تفرغ بها ما بداخلك، لكن .. ليس شيءٌ كالبكا

7.7.10

الوصايا الألف .. العشرة الثامنة

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الحادية و السبعون: لا تكن رأسك رأس ثور لا يتقدم إلا ناطحًا، فمهما كانت رأسك صلبة فالدنيا أصلب، و أعلم أن الكثير قد تكسبه بالسياسة، و أن السياسة لا تعني دومًا المهادنة و التنازل عن الحق.
الوصية الثانية و السبعون: لا تجعل حرفتك في الدنيا دس أنفك في شئون الناس، فهي حرفة ليس لها راتب إلا السب و اللعن.
الوصية الثالثة و السبعون: من عاش يظلم الناس، مات يلعنونه.
الوصية الرابعة و السبعون: لا تبك على شيء فاتك، فلربما فاتك لتُرزق خيرًا منه.
الوصية الخامسة و السبعون: إذا تعلمت التقدم فتعلم التراجع؛ فتقدم بلا تراجع لهو أشد خطرًا من تراجع بلا تقدم.
الوصية السادسة و السبعون: اعلم أن الناس يرونك على الصورة التي ترسمها أنت في أذهانهم.
الوصية السابعة و السبعون: إذا عظمت الهمة، عظم البلاء .. فلا تبتأس.
الوصية الثامنة و السبعون: لا تعش أسير ماضيك، فهو سجّان لا يترك أسراه إلا جثة هامدة.
الوصية التاسعة و السبعون: لتكن خَجِلاً من الإصرار على الخطأ، لا من الوقوع فيه.
الوصية الثمانون: إذا كنت ممن هوايتهم إثارة المتاعب، فخير لك أن تعتزل الناس .. و حتى إن لم تفعل، فهم سيفعلون.

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

23.6.10

ربح مضمون، فهل أنت مستعد ؟

جميعنا تقريبًا سمع و يسمع كل يوم عن "الربح من خلال الإنترنت"، و كثير منا أيضًا تراوده أحلامه أن يكون ما يسمع حقيقة؛ أن أناسًا يربحون الآلاف و هم جلوس في منازلهم و كل ما يفعلونه هو بضع ضغطات هنا و هناك، لا أكثر و لا أقل ..
بالطبع راودني هذا الحلم، لكنني كنت دائمًا متشككًا بخصوصه .. المال السريع الذي لا تعب فيه هو ضرب من ضروب الخيال، و أولئك الذين يعدونك بالثراء السريع أغلبهم نصابون .. هذه حقيقة لا يمكن أن نتغافل عنها، و لكن ..
لكن الكثير من الأشياء تغيرت .. قررت أن أخوض تجربة بسيطة، لن تضر، لكنها قد تنفع كثيرًا، و قد جاءت بنتائج ممتازة، ترون أولاها في الصورة التي في بداية الموضوع ..
إنه إثبات تحويل النقود من موقع Neobux إلى حسابي على AlertPay .. دولاران فحسب، لكنه يثبت أنهم يدفعون، و هم من القلائل الذين يفعلون هذا حقًا ..
إذا أردت أن تشارك في الربح، فما عليك سوى الضغط هنا: http://tinyurl.com/35t49v3 و تأكد أن الأمر مضمون جدًا ..

إذا أردت أن تعرف المزيد فتفضل: http://ptc-investigation.com/NeoBux.aspx

حظًا سعيدًا، و ربحًا مباركًا :)

8.6.10

جهاز ضغط و سماعة - الحلقة الرابعة عشرة


لن أكتب ها هنا كما اعتدت، بل سأترك الصورة تتحدث، لأنها أبلغ من كل ما سأقول ..
الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به تلك العقلية المهترئة التي تجبر الجيل القادم من الأطباء أن يكره حياته - لا مهنته فحسب - من فرط ما تحشوها بتفاهات ليس لها معنى و لا فائدة ..

الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به تلك السادية العجيبة التي يتمتع بها أولئك المسمون زورًا - إلا قلة منهم - بأساتذة الجامعة .. حملة مشعل العلم في مصر، الذي يتضح مع الوقت أنه مطفأ، لأن الغاز يصدر إلى جارتنا الحبيبة الودودة الطيبة إسرائيل ..

الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به هذا الكم البشع من الهراء الذي لا يمكن أن يتحمله ابن آدم، لكننا - كطلبة نطلب العلم الذي مجد منه صدودًا مستمرًا - مجبرون على تحمله و تحمل كل ما يترتب عليه من أمراض قلما تجد طبيبًا خرج إلى الدنيا دونها .. يكفي الرجال سقوط شعرهم، و يكفي النساء ذهاب جمالهن ..

الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به تلك الكيفية و القدرة التي ليس لها حدود، و التي تدهشني يومًا بعد يوم، على إيجاد مبررات منطقية للهراء و العبث، بحيث يطرد طالب من لجنة الامتحان قبل تمام وقته، فيحصل على الدرجة النهائية، و التعليل: ابن دكتور ..

الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به ذلك الشعور المؤسف الذي أصبح ملازمًا لأغلبنا - طلبة و طالبات .. شعور بالاحباط و الاكتئاب و الرغبة في التخلص من الحياة، و ربما لا يمنعنا من هذا إلا شيء من الإيمان بالله، و نعمة أنعم الله بها علينا : الأصدقاء و رفقاء الكفاح ..

الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به كل ما يجري، لأن ما يجري لا يوصف .. لا تنتظروا من أطباء درسوا بهذه الطريقة أن يخرجوا إلى العالم يعالجون و يداوون، بل إن الطبيب الذي يصور مريضاته في أوضاع يندى لها الجبين يبدو هو المنتج الوحيد الذي يقبله العقل و المنطق لنظام تعليمي كهذا ..

لن أكتب كما اعتدت، فالصورة تتحدث أبلغ من كل ما سأقول ..

4.6.10

بلد الدخان الهابط إلى أسفل

أظن أن هذه هي الحلقة الحادية عشر في هذه القصة، و أعتقد أنها ستكون الأخيرة.
الأمر ليس متعلقًا بنضوب الأحداث أو توقف الوحي .. الحقيقة هي أنني عزمت، و و لتدعوا الله أن يوفقني في هذا، أن أنتهي منها، حتى إذا اكتملت دفعت بها إلى واحدة من دور النشر لتكون أول إصدار مطبوع لي، و بطبيعة الحال فإن هذا لا يستقيم و حرق القصة فصلاً تلو الآخر على الإنترنت .. يكفينا ما أحرقنا منها ..
لست استطيع الجزم بموعد صدورها، فمن تابع منكم القصة - و هم قلة :) - يعرفون كيف أصبحت متشعبة و مليئة بالتفاصيل، بصورة تجعل كتابتها تحتاج إلى صبر و أناة، كي لا تفلت شاردة هنا أو هناك، و حتى تصمد الحبكة أمام سلطان المنطق ..
كل ما أرجوه هو أن تدعوا الله أن يوفقني، و يسدد خطاي ..

31.5.10

الحرية


عندما كتبت في هذا الموضع مقالاً عن الجدار الذي شيدته مصر لعزل و حصار غزة، بحجة إغلاق الأنفاق، ظللت اسأل نفسي: لم كل هذا الهياج من أجل جدار أقامه حفنة من الأوباش، بينما الكيان الصهيوني نفسه يدك غزة ليل نهار ؟!
و بعد شيء من التفكير وجدت أن الأمر لا يتعلق بالجدار في حد ذاته، و لا بالحصار و لا الدك و العجن و السحل الذي يلقاه إخواننا في غزة ..
فإذا العيب كان من أهله
فلا عيب و لا خجل
و هذا هو بيت القصيد؛ إذ من المفترض من مصر - الشقيقة الكبرى للعرب كما يدعي أولو الطول عندنا - أن تدعم، و تؤيد، و تساند لا أن تحاصر و تقتل ..
ما الجديد في ما يفعله الصهاينة ؟ .. لا شيء .. هم يفعلون الشيء نفسه منذ عام 1948 .. لكن الأمر ذاته يأخذ بعدًا مفجعًا عندما تقوم به مصر، أو أي دولة عربية أخرى من أولئك الذين أزعجونا ليل نهار بالحديث عن العروبة و الإسلام و القضية و الأرض التي لن تكون إلا لنا .. شيء يدعوك أن تغمس نفسك حتى النخاع في أنقى صور الشعور بالخزي و العار ..
و مع إنطلاق ذلك الأسطول البحري الذي تزعمت قيادته تركيا، شعرت بمزيد من الخزي أنني أنتمي - حسب الأوراق الرسمية، لا حسب قلبي و ما فيه - إلى هذا النظام الذي باع الأرض سحتًا و أكل ثمنها ..
البعض يقول إنْ هي إلا "حركات دعاية" يقوم بها النظام التركي، ليجمع حوله الأتباع .. هل عشرة آلاف طن من المواد الغذائية و المساعدات "حركات دعاية" ؟! .. لو كانت كذلك فمرحبًا بهذه الحركات ..
ما فعلته قوات الكيان الصهيوني من اعتداء ليس جديدًا، و لا يدعو لشيء من الدهشة أو الشعور بالغيظ، لكن موقفنا نحن - و نحن تشملنا نحن الشعوب التي تنعت نفسها بالمستضعفة المغلوبة على أمرها - هو الذي يستوجب أن نحرق أنفسنا أحياء، فأولئك الذين هم أبعد ما يكون عن خط النار و المواجهة - الأتراك - فعلوا ما لم نفكر فيه نحن، و نحن في المواجهة كأقرب ما يكون ..
قبل أن أنهي، تذكرت ما فعلنا بجورج جالاوي و قافلته شريان الحياة و المنع و الضرب و السحل .. ألا يذكركم هذا بشيء يحدث الآن في عرض البحر ؟

23.5.10

الوصايا الألف .. العشرة السابعة

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الواحدة و الستون: لا تكن مفرط الحساسية، فالحياة مليئة بالألم، و أمثالك لن يدوموا إلا لحظات
الوصية الثانية و الستون: من جد وجد .. المهم أن تجدّ
الوصية الثالثة و الستون: أن تعرف ماذا ستفعل فهذا أمر مهم، لكن كيفية فعله تظل أكثر أهمية
الوصية الرابعة و الستون: عش كما شئت، لكن لا تحزن إذا وجدت ما خلفته وراءك سوادًا حالكًا
الوصية الخامسة و الستون: إن لم تكن لديك القدرة - أو النية - لتغيير واقعك المزعج، فلا تبحث عن مواطن الإزعاج فيه .. لا أنت غيّرته، و لا أنت رحمت نفسك شر الاكتئاب
الوصية السادسة و الستون: يولد الفراغ لدى المرء حالة مزعجة من الرغبة في إزعاج الآخرين، لذا، اشغل نفسك بما ينفعك قبل أن تنشغل بالرد على سباب الآخرين
الوصية السابعة و الستون: إذا كانت لديك الطاقة كي تغضب، فلتكن لديك الطاقة كي تتحكم في غضبك
الوصية الثامنة و الستون: محّص نفسك إذا ما وجدت الجميع حولك يكرهونك، فهم حتمًا لم يولدوا كذلك
الوصية التاسعة و الستون: كل الطرق تفشل إذا ما فشل التحاور
الوصية السبعون: لا تضيّق الخناق على من حولك، فتستفزهم أن يخدعوك

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

11.4.10

الوصايا الألف .. العشرة السادسة

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الواحدة و الخمسون: بالخوف قد تحصد احترامهم، لكنك لن تحصل على محبتهم
الوصية الثانية و الخمسون: إن لم يكن لك من حب الخير نصيب، فكن محبًا لأهله، فإن لم ينفعك الخبر نفعك أهله
الوصية الثالثة و الخمسون: لا تجعل من حياتك حربًا متصلة، فحتى الجيوش الكبرى تستريح
الوصية الرابعة و الخمسون: ليست الحياة فوزًا دائمًا .. كن متأهبًا دائمًا للخسارة، فمن لا يتوقعها تقع من نفسه موقع الموت
الوصية الخامسة و الخمسون: لا تقض حياتك تشك في الكل، فتموت و قد كرهك الكل
الوصية السادسة و الخمسون: كن حذرًا في تعاملك مع الناس، فالبعض قد يتناسى، لكنه لا ينسى، و هذا الطراز -حتمًا- لا و لن يغفر
الوصية السابعة و الخمسون: إذا كنت قادرًا على إتيان الأفعال، فكن قادرًا على تحمل النتائج
الوصية الثامنة و الخمسون: لا تلق بعملك إلى الآخرين تكاسلا منك، ثم تلمهم على خذلانك
الوصية التاسعة و الخمسون: لا تلم الآخرين على ضعفك، فلو كان لهم في ذلك ذنب، فلك فيه ألف
الوصية الستون: لو أدرك الإنسان ما أدركه بعد فوات الأوان، لكان منه غير ما كان .. و لأن هذا لن يحدث، فانفض عن نفسك شبح الندم، فهو لن يتركك إلا جثة يائسة

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

3.4.10

شريان الحياة


هل كانت لحظة مفزعة ؟ .. الإجابة الدقيقة هي لا، فقد كانت مريعة، لا تدانيها – و لو أنه لم يختبر الثانية بعد – سوى سكرات الموت ..
في البداية حاول إقناع نفسه أن هناك خطأ ما، أو أن عطبًا قد ألمّ بالأجهزة فأصبحت تعطي نتائج مغلوطة .. أعاد كل الحسابات بالورقة و القلم كي يتأكد، و قد تأكد .. هذه هي بداية النهاية ..
نهاية الشمس .. و نهايتنا ..

***
مرصد القاسمية الجديد، المقام في عمق الصحراء الغربية على تبة اصطناعية عملاقة، كان عادة ما يجتمع أعضاؤه من الفلكيين و الراصدين عندما يخططون لرصد حدث فلكي مهم، أو بشكل دوري لمتابعة حملات الرصد التي ينظمها المرصد باستمرار، لكن أيًا من هذه الاجتماعات لم يكن بهذه السخونة، و هذه الكثافة ..
واصل يحيى – المتخصص في علوم الشمس – حديثه مشيرًا إلى الشاشة التي احتلت الجدار بأكمله تعرض مجموعة من الرسوم البيانية و صور التقطت للشمس منذ يوم واحد .. قال:
- و هكذا أيها السادة نجد أن القطر الاستوائي للشمس قد زاد بما يساوي 2.3% من قيمته الأصلية، و لو استمر على هذا المنوال كمعدل يومي، فلن يستمر الأمر أكثر من بضعة شهور حتى نجد أنفسنا قد شوينا أحياء ..
- و هل أنت متأكد من أن الأمر متعلق بمجالات الجاذبية النووية للشمس ؟ .. كان من الممكن أن نلاحظ انحرافًا في مسار الأرض أو أي من الكواكب الستة عشر المحيطة بنا ..
- في الواقع ..
قالها د. شهاب العلوي مدير المرصد قبل أن يتنحنح مكملاً:
- في الواقع فإن هذه المعلومات قد وصلتنا للتو من مرصد شرق كاليفورنيا من الولايات الغربية ..
ثم طرح مجموعته من الأوراق أمام الشاشة الموجودة خلف يحيى، فعرضتها مكبرة، و تابع:
- هناك زيادة في مدار الأرض بنسبة 0.15 % على كلا محوريه، و هو ما يعني أن الأمر يتعلق بمجالات الجاذبية الشمسية بشكل أو بآخر ..
تابع يحيى:
- الأمر الذي لا زلنا بحاجة للتأكد منه هو طبيعة هذا التغير .. هل هو مجرد نوبة عنيفة من الاضطرابات الكهرومغناطيسية كتلك التي شهدناها عام 2036، أم أنه السيناريو الأسوأ، و أن الشمس تتحول بالفعل إلى عملاق أحمر، و تفقد طاقتها ؟
سرت همهمة خفيفة في القاعة أوقفها أحد الفلكيين بنقرات من إصبعه قائلاً:
- دعونا نفترض الأسوأ، و أن الشمس تدنو من نهايتها و نهايتنا، و لو أن حساباتنا قالت و تقول أن الشمس لا زالت تحمل في نواتها من الهيدروجين ما يكفينا و يكفيها ملايين السنين .. عل كل ليس هذا وقت مناقشة الحسابات .. دعونا نفترض الأسوأ .. ما هي الحلول المتاحة أمامنا ؟
أجابه د. شهاب:
- هناك جملة من المشاريع التي وضعت كخطط احتياطية لمواجهة اضطرابات الشمس الحادة بعد الاضطراب الأعظم في 2036، لكنها كلها تعتمد على الاختباء في باطن الأرض، و هو المستحيل بعينه في حالتنا هذه .. تحول الشمس إلى عملاق أحمر سيجعلها تتمدد حتى تبتلعنا في جوفها، و لن يجدي الاختباء نفعًا .. الحلول الأخرى هي حلول مجنونة ..
- تحديدًا مشروعي شريان الحياة و الهروب الكبير ..
ضرب أحد الحضور بيده على سطح مائدة الاجتماعات قائلاً:
- قبل أن تتكلموا في أي شيء أنا اعترض تمامًا على مشروع شريان الحياة .. إذا كان مشروع الهروب الكبير مجنونًا، فشريان الحياة هو الجنون بعينه ..
قال يحيى:
- مشروع شريان الحياة يا فوزي طرح تحديدًا لمثل هذا الموقف، و أخشى ألا يكون سواه اختيارًا إذا استمرت الشمس في تمددها بهذا المعدل .. الهروب إلى المستعمرات القمرية و المريخية سيأخذ وقتًا لسنا نملك ترف الحصول عليه في الوقت الحالي ..
- و شريان الحياة غير مأمون العواقب .. لقد نجح في تجارب المحاكاة التي قمنا بها، لكن هل ينجح في الواقع ؟ ..
- نحن لم نلتفت إلى شيء مهم أيها السادة ..
ساد الصمت إثر هذه الجملة التي قالها خالد، أحد الفلكيين الجدد، و الذي شعر بالرهبة من هذا الصمت المفاجيء، لكنه تابع:
- إذا كانت قوة جاذبية الشمس تضعف، بحيث لم تعد قادرة على الاحتفاظ لا بغلافها الغازي، و لا بكواكبها، فهذا يعني أننا سنبتعد عنها بنفس مقدار اقترابها منا .. و هو ما يعني أن شيئًا لن يحدث أكثر من تحول الشمس إلى عملاق أحمر، و زيادة قطر مدارنا ..
- و هذا هو بيت القصيد يا خالد ..
أجابه أحد الفلكيين القدامى بالمرصد – محيي – الذي تابع:
- ستصبح السنة الأرضية ضعف عدد الأيام، و سيتغير طيف الشمس إلى الأحمر، محدثًا تغيرات بيئية غير متوقعة، ثم – و هذا هو الأخطر على الإطلاق – سينتهي الأمر بواحدة من اثنتين: إما أن تنكمش الشمس بعد ذلك إلى قزم أبيض، أو تنفجر كسوبر نوفا، و كلتا الحالتين ليستا محببتين إلى قلبي في الحقيقة ..
- إذًا لن يجدي الهروب نفعًا .. ما دامت الشمس في النهاية محكوم عليها إما بالتحول إلى قزم أبيض، فنعاني البرود المطلقة بعد السخونة المطلقة، أو ما هو أسوأ فتتحول إلى ثقب أسود، و إما الانفجار كسوبر نوفا، فلم نهرب ؟ .. سيكون الأمر أشبه بالمستجير من الرمضاء بالنار ..
تدخل د. شهاب قائلاً:
- يبدو حديثك رغم سوداويته يا خالد منطقيًا، لكننا لن نندب حظنا العاثر كالنساء و نقف مكتوفي الأيدي .. لا بد من حل ..
- إذا فلننفذ شريان الحياة .. يبدو الحل المنطقي الوحيد ..
- لا زلت أعترض ..
قالها فوزي محتدًا مرة أخرى، فقال يحيى:
- لنمسك العصا من المنتصف إذًا .. لن نقفز إلى الخيار الأصعب و نترك خيارات أقل صخبًا .. سننفذ مشروع الهروب الكبير و ننطلق إلى مستعمراتنا على المريخ، و بعد أن نؤمن من نستطيع تأمينهم من البشر، ننطلق في تنفيذ مشروع شريان الحياة .. يبدو أنه الحل الوحيد المتاح أمامنا ..
- اتفق معك .. لنصوت أيها السادة ..
قالها د. شهاب رافعًا يده، و لم يكن الأمر بحاجة فعلية إلى إجراء تصويت، فالقرار محسوم من البداية ..
- أمامنا الكثير من العمل .. فلندع الله أن يوفقنا ..
***
عندما اقترح هشام الوقاد – الفلكي الشاب حينذاك – منذ ثلاثين عامًا فكرة مشروع شريان الحياة، كانت فكرة مجنونة بحق وقتها – و لا زالت – لكنها كانت إجابة على سؤال طرحة أحد المحاضرين في المؤتمر السنوي السابع و العشرين بعد المائة لعلوم الفلك و الفضاء، و الذي عقد في مرصد القاسمية الجديد .. كان السؤال الذي طرحه عن رد فعل البشرية إزاء أحد النهايات المتوقعة للحياة على الأرض في حال تحولت الشمس لعملاق أحمر، نتيجة نضوب مخزونها من الهيدروجين و ما يترتب على ذلك من ضعف مجالات الجاذبية الشمسية، و هو ما يؤدي بالحتمية إلى هروب الغازات التي تشكل جسد الشمس، ما ينتج عنه تمددها و تعملقها .. إجابة المحاضر لم تزد عن "ندب" حظ البشرية العاثر و البكاء على اللبن المسكوب، دون تقديم أي حل فعلي ..
في تلك الفترة – بدايات 2103 – كان تنفيذ مشروع كهذا مستحيلاً، لكن أصبح ممكنًا مع مرور الوقت .. على أية حال، فقابلية هذا المشروع للتنفيذ لم تشفع له أن يكون هو الاختيار الأول، رغم الحاجة البالغة لتنفيذه ..
و رغم مرور يوم على الاجتماع الساخن الذي عقده مرصد القاسمية الجديد، عقد المرصد اجتماعًا آخر في اليوم التالي، لكنه كان بالاشتراك مع المراصد الكبرى في العالم: مرصد شرق كاليفورنيا في الولايات الغربية، و مرصد نان-تشانج التابع لحكومة شرق آسيا ..
لم يكن هناك الكثير ليقال، و لم يكن لأي من المرصدين الآخرين اقتراحات تضاف إلى ما اقترحه مرصد القاسمية الجديد، اللهم إلا تأكيد النتيجة الأولى بأن الشمس تفقد طاقتها، و أن سيناريو موت الشمس آخذ في الوقوع، و هكذا انتهى الاجتماع إلى التنسيق بين الأجهزة الحكومية المختلفة للبدء في تنفيذ مشروع الهروب الكبير ..
كان العمل يجري على قدم و ساق، و لو أن الآليين الذين تولوا مهمة نقل كافة كنوز البشرية المعرفية و العلمية و المادية لم يكونوا يمتلكون أي أقدام أو سيقان، لكنهم كانوا يعملون بجد على أية حال، و رغم إنجاز جزء كبير من عملية الانتقال، و تجهيز الأساطيل الفضائية التي ستتولى تلك العملية، إلا أن تطورًا خطيرًا أضيف إلى مسار المشروع بعد أسبوع من الاجتماع الأول، ما جعل المراصد الثلاثة تجتمع مرة أخرى ..
بدأ د. ستيفن من مرصد شرق كاليفورنيا الحديث قائلاً:
- يبدو أن معدل التمدد اليومي الذي حسبناه منذ سبعة أيام قد زاد من 2.3% إلى 5.77%، و هو الأمر الذي ينذر بأن عملية التحول تتسارع بما لا يعطينا الوقت الكافي لإتمام الانتقال ..
قال تينج-بان مدير مرصد نان-تشانج:
- أذكر أن الخطة المقترحة في الاجتماع السابق كانت تقتضي تنفيذ مشروع الهروب الكبير ثم مشروع شريان الحياة .. أليس كذلك ؟
أجابه يحيى:
- بلى .. لكنني أشك أننا سنجد الوقت الكافي لتنفيذ الخطة بهذا التتابع ..
- لذا أقترح أن نعمل في المشروعين في الوقت ذاته .. لقد تم تجهيز ستمائة سفينة عملاقة للسفر .. يمكنها الانطلاق، فيما يتم تجهيز السفن الألف و مائتين الباقين .. أظن أن هذا سيقلل الخسائر المحتلمة لو فشل مشروع شريان الحياة أو أتى بنتائج عكسية ..
أجابه د. ستيفن:
- أظن هذا .. لكننا بهذا نمارس عملية انتقائية بشعة ..
- أن ينتقي القدر بعضًا منا لينجوا، خير من أن يذهب بنا كلنا ..
ساد الصمت لحظة قطعها د. شهاب قائلاً:
- أنا موافق .. الوقت يمر و ليس من مجال للتباطؤ، لكنني أظن أننا بحاجة إلى سفينة دفع ثلاثي مصنوعة من سبيكة هرقل .. هذه لديكم يا د. ستيفن ..
- هل ستستعملون سفينة واحدة فحسب ؟ .. إن الشحنة المرسلة لن تكون كافية بهذه الصورة .. حسب الأرصاد و قياسات الطاقة، فإن الشمس بحاجة لما يساوي أربع سفن ..
- لا يمكننا المخاطرة بإرسال أربع سفن دفعة واحدة يا د. ستيفن .. المشروع لم تتم تجربته قط، و كل ما لدينا من نتائج هي نتائج تجارب المحاكاة .. سفينة واحدة لاختبار ما سيحدث، فإذا نجحنا انطلقنا بالثلاث الأخريات ..
قال تينج:
- د. شهاب على حق .. هذا بالإضافة لاحتمال حدوث تصدع في جسد السفينة قبل الاقتراب بمسافة كافية من الشمس، ما قد يؤدي لانفجارها .. تخيل معي انفجار ستين مليون مترًا مكعبًا من الهيدروجين .. هذا سيصنع شمسًا أخرى ..
- لكن سبيكة هرقل تم اختبارها بالفعل .. لو لم تضعف ذاكرتي، فسبيكة هرقل هي التي شكلت جسد السفينة "المستكشف" التي وصلت حتى وشاح الأرض ..
- د. ستيفن .. لا نريد أن نتشاجر .. أنت تتحدث عن وشاح الأرض، لكن ما نتحدث عنه الآن هو الشمس .. الأمر جد مختلف، و لا أظنك تجهل هذا ..
- حسنا .. و لو أنني واثق من نجاح الخطة، رغم جنونها ..
- كلنا نأمل هذا، لكننا لا نملك سوى الأمل ..
و كان هذا إيذانًا ببدء تنفيذ مشروع شريان الحياة جنبًا إلى جنب مع مشروع الهروب الكبير ..
***
فكرة المشروع المجنونة البسيطة في الوقت ذاته يمكن تلخيصها في الكلمات الثلاث التي وصفه بها هشام نفسه: إعادة شحن الشمس!
كان السيناريو المتوقع هو أن يقل مخزون الشمس من الهيدورجين، فيقل إنتاجها من الطاقة، و تبدأ سلسلة الأحداث المأساوية التي تنتهي بنهاية الحياة التي نعرفها على وجه الأرض، و كان اقتراح هشام العجيب هو إعادة شحن الشمس مرة أخرى بضخ كميات من الهيدروجين تكفيها على الأقل حتى نتدبر أمورنا، إذ يبدو أنه كان يدرك الطبيعة البشرية التي لم و لن تتغير، و التي تركن إلى السكون و الهدوء طالما كل الأمور على خير ما يرام، و أن البشر لن يتحركوا قبل أن تقع الكارثة ..
كيفية إرسال هذه الشحنة التي ستعيد الحياة للشمس ظلت هي اللغز و العقبة الكبرى في وجه المشروع، الذي ناضل هشام لوضعه على الخريطة، لكن سبيكة هرقل – التي ابتدعها مركز أبحاث المعادن في كيبيك عام 2112 – كانت هدية من السماء أنعشت الأمل داخل هشام، و جعلت من مشروعه شيئًا قابلاً للتنفيذ ..
كان السبيكة مؤلفة من الحديد المعالج بالتيتانيوم و الكربون، مع معدن اكتشف في العام الذي سبق خروج السبيكة إلى النور في أحد المناجم بجنوب المريخ، ما جعلهم يطلقون عليه اسم مارسيوم .. كان خليطًا قويًا إلى أبعد الحدود، و ليس أدل على ذلك من بقاءه سليمًا دون خدش حتى في تلك الرحلة التي صممت خصيصًا لاختبار هذا الخليط، و ذهبت فيها سفينة غير مأهولة في باطن الأرض حتى وصلت إلى الوشاح الأرضي، و خرجت سليمة ..
تمطأ يحيى، الذي أصبح مسئولاً عن التنفيذ يعاونه في ذلك طاقم من الفلكيين من مرصد القاسمية، و عدد من الفلكيين حول العالم .. تمطأ و هو يتابع اللمسات الأخيرة على المشروع، و يتأكد من كل صغيرة و كبيرة .. كانت السفينة ديجنتي ستحمل في جوفها خمسة عشر مليون مترًا مكعبًا من الهيدروجين، و هي ربع الكمية التي خرجت الحسابات بضرورة ضخها في نواة الشمس حتى تعود لسابق عهدها، و عندما تصل إلى نواة الشمس ستبدأ في مد عدد من الأنابيب المصنوعة من السبيكة ذاتها إلى داخل النواة ليندفع الهيدروجين مباشرة من جوفها إلى الشمس .. من المفترض أن يؤدي هذا إلى رفع نسبة إنتاج الطاقة الشمسية، و هو الأمر الذي من شأنه إيقاف عملية التحول إلى عملاق أحمر ..
- هل تظن أننا سننجح، أم أن الأمر كله ضرب من الخيال ؟
سأله مساعده فأجاب يحيى:
- لو أردت الحديث بلغة الأرقام و الحقائق، فإن خطأ حساباتنا في الماضي، و خطأ تقدير عمر الشمس لا يزال ماثلا أمامي، يضع احتمال أن نخطأ هذه المرة أيضًا نصب عيني .. لكننا بشر، و نتحدث بكثير من الأمل .. لنأمل أن ننجح، و لندع الله ألا يخذلنا ..
- اللهم آميـ ..
لم يستطع مساعد يحيى الوصول إلى نهاية الجملة، إذ انطلق صوت إنذار مدو و أشارت أحد شاشات الرصد التي تتابع السفينة في مستقرها الأخير قبل الانطلاق الذي يفصلها عنه عدة دقائق .. أشارت إلى حدوث تسرب في الغاز من إحدى خزانات السفينة، و على الفور تأهب الكل لمعالجة الموقف ..
لم ينتظر يحيى أن يبعث بأحد ليرى ماذا يحدث، بل ذهب بنفسه إلى القطاع المصاب، ليجد ما أصابه بالدهشة الشديدة، بل لا نكذب لو قلنا ألجمه عن الحركة للحظات ..
***
- ماذا تفعل .. هل جننت؟
- و هل تسمي هذا تعقلاً؟ .. إنه الجنون يرتدي ثوب العلم .. إنني أمنع الجنون ذاته من أن يقع ..
- أي جحيم هذا الذي تريد أن تلقينا فيه أيها المجنون ..
و بكل قوته انقض يحيى على فوزي، الذي نزع أحد الصمامات التي تحمي الهيدروجين داخل خزاناته في السفينة ديجنتي، كمحاولة منه لإفشال المشروع الذي يراه سيودي بالبشرية كلها إلى التهلكة ..
و رغم أن يحيى لم يكن ممن يمارسون الرياضة بشكل دوري، إلا أن ضخامته النسبية و الغضب المشتعل بداخله جعلا انقضاضته عنيفة للغاية، إلا أن فوزي لم يكن أيضًا بالخصم السهل .. نزع أحد صمامات الحماية يعني بنيانًا متينًا، فهذه الصمامات تحتاج رجلين آليين كي يتم تثبيتها ..
أمسك يحيى فوزي من رقبته و قذف به إلى الأرض بقوة و انقض عليه يحاول تثبيته، إلا أن الأخير لم يعطه أدنى فرصة لذلك، إذ تدحرج و قام عن سقطته و كال ليحيى لكمة ترنح لها، إلا أنه تمالك نفسه و استدار ليكمل القتال .. لكمة فالثانية فالرابعة فالعاشرة .. تبادل الاثنان اللكمات حتى تحول وجهيهما إلى عجينة زرقاء منتفخة، و الدماء تسيل من كل فتحات جسديهما، و في بادرة إعياء من يحيى انقض عليه فوزي قائلاً:
- ستهلكوننا أيها المخبولون .. هل كنت تظن أنني سأصمت؟
كانت لطمته قوية على وجه يحيى، لم يستطع أن يتفاداها، لكنه أُنقذ من لكمة أخرى عندما وجد فوزي يتصلب على حين غرة و يهوي عند قدميه مغشيًا عليه، ليجد مساعده بصحبة أحد الحرس الآليين و سهم مخدر مثبت في رقبة فوزي، فقال و هو يحاول الوقوف:
- خذه من هنا و أعيدوا كل شيء كما كان .. ليس لدينا اليوم بأكمله ..
و فيما حاول أن يمشي غير مترنح، ساعده الآلي على الوصول إلى غرفة التحكم، ليعاود متابعة الإطلاق ..
***
"لا بد أنه فقد عقله .. خسارة" .. ترددت هذه الكلمات في سريرة يحيى، و هو يشاهد فوزي من نافذة مركز الإطلاق يقتاده آلييْن إلى الاحتجاز، لكنه نفض كل هذا عن ذهنه، و تابع عن كثب مجموعة الآليين الذين يزيلون آخر دعامات السفينة، ثم انطلق صوت معدني يردد:
- السفينة ديجنتي جاهز للإطلاق .. الإطلاق خلال عشرة .. تسعة .. ثمانية .. سبعة ..
و استمر العد التنازلي و الجميع يتابع المؤشرات المختلفة على الشاشة، حتى ردد الصوت نفسه "إطلاق .. إطلاق"، لترتفع درجة الحرارة إلى معدلات لم تشهدها من قبل .. حرارة الجو و حرارة أجساد المتابعين لإطلاق السفينة ..
- كم من الوقت برأيك سيلزم السفينة هذه حتى تصل إلى نواة الشمس يا د. ستيفن ؟
- إنها ثلاثية الدفع، تعمل بالطاقة الاندماجية و البلازما و طاقة الوقود الحفري، و لن تتجاوز رحلتها على أقصى تقدير مائة و خمسين دقيقة ..
أومأ يحيى برأسه موافقًا ثم تنهد قائلاً:
- من كان يصدق .. نعيد شحن الشمس !
- لقد كانت، و لا زالت، فكرة مجنونة .. لنأمل أن تعمل بنجاح ..
و جلس الاثنان، يحيى و ستيفن، يتابعون عن كثب شريان الحياة الممدود من الأرض إلى الشمس ..
***
لم تكن تلك الدقائق المائة و الخمسون بأفضل ما مر على طاقم التشغيل، خصوصًا ذلك الطيار الذي جلس إلى مقعد محاكاة يوجه من خلاله السفينة في الفضاء السرمدي، و لو أن أحد الحضور كان مرشحًا للإصابة بارتفاع ضغط الدم أو الداء السكري، فلا بد أنه فعلها في تلك اللحظات ..
أعلنت الشاشات أن الاصطدام بسطح الشمس بات وشيكًا، و إن هي إلا لحظات حتى يقع، فقام الفلكيون الثلاثة – د. شهاب و د. ستيفن و يحيى – عن مقاعدهم يتابعون عن كثب المعدلات و المؤشرات الحيوية للسفينة ..
- ما هي أخبار الدرع الواقي ؟
- نسبة التحمل 97% .. ما زلنا في الحدود الآمنة ..
- و آلية الضخ ؟
- تعمل بكفاءة .. الأنابيب خالية من العوائق، و صندوق الإطلاق محتفظ بمرونته ..
- و الخزانات ..
- جميعها مغـ ..
لم يكمل الفني جملته، ما رفع حدة التوتر لدي الثلاثة، و اندفع يحيى يسأله:
- ماذا بها بالضبط .. لا تخبرني أن بها تسربًا أو أن أحد الخزانات لا يستطيع إفراغ شحنته ..
- مع الأسف فهذا الصمام الذي تم فكه قبل الإقلاع أصابه العطب، و هناك تسرب من الخزان السابع، لكنني أحاول عزله ..
انتحى د. ستيفن بيحيى و قال:
- ماذا يعني هذا يا يحيى .. ألم تتأكد بنفسك من هذه الصمامات؟
- على الأرض .. أما درجات الحرارة المرتفعة هنا على سطح الشمس، فيبدو أن الصمام لم يتحملها ..
- و هل تقول هذا الآن؟
- و هل كنت أعرف ..
ثم التفت إلى الفني و قال:
- اعزل هذا الخزان و تخطه في سلسلة التفريغ ..
لم يكد ينهي جملته حتى قال الطيار:
- الوصول إلى موقع التفريغ سيتم خلال سبعة عشر ثانية ... استعدوا أيها السادة ..
تأهب الكل، و البعض أصبح غارقًا في عرق التوتر و القلق، و إن هي إلا لحظات حتى قال الطيار:
- السفينة في موقع الضخ .. فلتعمل آليات التفريغ ..
أشار يحيى للفني المسئول عن الخزانات بأن يتابع عملية العزل، و أشار لآخر أن يبدأ الضخ على الفور .. كان هذا الخزان المسرّب يشكل غصة في الحلق، فهو يعني ببساطة فقدان نصف مليون متر مكعب من الهيدروجين، و هذا ليس بالشيء السهل .. كل هذا، بالإضافة إلى الاحتمال الذي لم يتحقق، و هو أن يتسبب هذا التسرب في انفجار السفينة نتيجة اشتعال الخزان وسط كل هذا اللهب، لكن الله سلّم ..
و هناك، داخل الشمس، كانت السفينة ديجنتي تستقر في موقعها المحدد لها، ليظهر أسفلها تجويف برزت من خلاله مجموعة من الأنابيب التي تحركت في بطء، و لكن بثبات، نحو نواة الشمس لتبدأ ضخ الهيدروجين مباشرة فيها ..
و رغم أن الأمور كانت تسير على ما يرام، إلا أن هذا لم يمنع القلق و التوتر أن يعصف بطاقم التشغيل، خصوصًا يحيى الذي أخذ يدعو الله و يتمتم ببعض آيات القرآن الكريم، في محاولة لتهدئة نفسه ..
التفت يحيى إلى الفني المسئول عن متابعة الهيكل، و سأله:
- الدرع و الخزانات؟
- الدرع لا زال يعمل بكفاءة .. نسبة التحمل انخفضت إلى 96.4% لكننا لا زلنا في الحدود الآمنة، و الخزانات تفرغ الآن بمعدل خزان كل دقيقتين ..
صمت لحظة ثم أضاف:
- تم تفريغ الخزان الأول و حتى الرابع .. الخامس يجري تفريغه الآن ..
التفت إلى أحد الفلكيين الذين كانوا يرصدون الشمس من أجل التيقن من نجاح المشروع و سأله:
- هل من جديد؟
- لا زالت كمية الهيدروجين الذي تم ضخه أقل من العتبة الفارقة .. السفينة كلها أقل من العتبة الفارقة .. لن نحصل على نتائج قبل أن تتم عملية الضخ كاملة ..
و أخذت الدقائق تمر، و خزان تلو الآخر يفرغ ما بداخله .. تسعة و عشرون خزانًا بدا و كأنها ستمكث الدهر بأكمله، لكن لحظة النهاية جاءت، و أعلن فني الهيكل:
- تم تفريغ آخر الخزانات، باستئناء الخزان السابع ..
- و السفينة؟
- تعاني بعض المشكلات .. الهيدروجين كان يوازن الضغط حولها .. سأندهش لو رجعت سليمة ..
- أيها السادة ..
خرجت من حلق فلكي الرصد الشمسي كالطلقة، فالتفت إليه الجميع و قد صمتوا تمامًا مترقبين ما سيقول:
- لقد نجحنا .. القطر يتناقص بمقدار 0.25% عن آخر قياس له، و إنتاج الطاقة ارتفع بنسبة 1.28% و هو في ازدياد مستمر .. لقد نجحنا .. نجحنا ..
و وسط صيحات الفرح و السرور، التفت يحيى إلى مساعده و قال:
- جهز السفن ديجنتي 2 و 3 و 4 للانطلاق .. هناك شمس بالأعلى لننقذها و نمد لها شريان الحياة ..
***
تمت بحمد الله

25.2.10

الوصايا الألف .. العشرة الخامسة

أوصيك يا هذا وصية فاقد الشيء، الذي هو - حتمًا - لن يعطيه ..

الوصية الواحدة و الأربعون: احم نفسك بحسن ظنك بالآخرين
الوصية الثانية و الأربعون: لا تجر وراء شي فاتك من متاع الدنيا، فهو بين أمرين .. إما أن يأتيك في وقته، و إما أنه ليس مقدرًا لك من الأصل
الوصية الثالثة و
الأربعون: لا تنظر إلى ما في يد غيرك، فتفقد ما في يديك
الوصية الرابعة و الأربعون: رحم الله رجلا عرف قدر نفسه، فلا هو كلفها ما لا تطيق، و لا أذلها بسفيه الأمور
الوصية الخامسة و الأربعون: إذا لم تستطع أن تتقن عملك، فخير للجميع ألا تزاوله
الوصية السادسة و الأربعون: كلما أفرطت في استخدام القوة، كلما ازداد يقين الناس أنك الأضعف
الوصية السابعة و الأربعون: رفقًا بنفسك، فكما تفعل في الناس يُفعل بك
الوصية الثامنة و الأربعون: لا تنه الناس عن شيء و تفعله، فإن كان باطلاً فالأحق أن تتركه، و إن كان حقًا فالأحق ألا يتركوه
الوصية التاسعة و الأربعون: من ارتدى جلد غيره فلا يأسفنّ إن صار عريانًا
الوصية الخمسون: ليس المهم أن تقول الشيء الصحيح، بل المهم أن تقوله بطريقة صحيحة و مناسبة

و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..

18.2.10

فازوع كوبسة


خير اللهم اجعله خير .... وانا نائم بعد يوم طويل من الملل الروتيني الاقي نفسي وسط مجموع من الجنود وبنمثل لعبة
House of dead بس الجزء رقم الش ....ما علينا انا كنت بقود الهجوم واذا بكائنات غريبة الشكل والملامح تهجم علينا فحاولت الفرار (معلش بقى هتقولوا جبان ...جبان ياعم بس اعيش وزي ماقال سيد شيبة الله يرحمه ياروح ما بعدك روووح) ولكن فوجئت اني داخل نفق غريب والمخرج الوحيد عبارة عن سلالم مين غير درجات سلم يعني زحليئة .. ما حولتش افكر واقعد اطلع اطلع لحد الحملله وصلت للسطح انا واللي معايا وشوية لاقيت وحش كبييييييييييير ( صِوْب ) مش باين منه اي ملامح بس على ما اتذكره ان كان راسه اد جسمه المهم ماعرفش لييييه كان شايل مني بالذات لاقيته بيجري ورايا بشكل مستفز المهم ماكدبدش خبر وقلت يا فكيك و مالاقتش حل غير اني اقفز في النفق اهو ارحم منه برده وخد النفق زحاليق لحد ماوصلت لتحت لاقيت كانلت تانية غريبة عملت فيها جيمس بوند واعد اتنط عليهم ولا كأني في مراجيح مرجان بس فجاة اتكثروا على بصراحة انا خفت على شرفي وفي اللحظة الحاسمة ................ لاقيت ماما بتقولي انت مش نازل انهاردة وقمت مسكت فيها لحد مادركت اني كنت في مغامرات عقلة الاسبع والحمدلله عدت على خير .............................. سلام

7.2.10

ديجافو-محمد رمضان على تيت راديو




حتى لا تصبح حياتنا قوالب مكررة وممسوخة..اخبط دى.. أُذيع على تيت راديو

3.2.10

بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل الثامن

الفصل الثامن – جولة جديدة

- نعم يا .. أمك ... أنت حتستعبط ياض ..
و ألحق محمود جملته بقبضته التي هبطت قوية على سطح مكتبه، فيما تراجع المتهم الماثل أمامه من الرعب و هو يتمتم:
- و ربنا يا باشا ... و ربنا ما أعرف .. أنا بس اللي حيجبرني ع البهدلة دي و أنا متنيل عارف .. ما كنت حأقول يا باشا ..
مسح محمود وجهه براحة يده ضيقًا و زفر قائلاً:
- أقولك على حاجة .. أنا حأريحك خالص ..
ثم قام من جلسته و توجه ناحية المتهم الذي امتزجت مشاعر الراحة بالتوجس داخله فانطبعت على وجهه في صورة تعبير توتر و ترقب يزداد شيئًا فشيئًا كلما اقترب منه محمود، الذي قال في النهاية بهدوء مستفز:
- أنت تشرفنا ليلة هنا هو، و بعون الله ثم بعون زملاتك في الحجز حتفتكر يا ....
ثم رفع صوته:
- يا شاويش .. خده ع الحجز ..
و زفر ضيقًا و همًا فيما واصل المتهم توسلاته و رجاءاته، و ما أن جلس حتى أتاه الشاويش محييًا التحية العسكرية قائلاً:
- أستاذ جمال عبد الغفار يا أفندم ..
- دخله و هات واحد مظبوط بسرعة ..
و فيما انصرف الشاويش، قام ليرحب بجمال الذي ابتدره قائلاً بابتسامة:
- أنت يا بني مش حتبطل بهدلة ف خلق الله .. ماله الغلبان ده ؟
- ما تشغلش بالك .. واحد من المعفنين اللي ماليين البلد و ما خلّوش لولاد الحلال حاجة ..
ثم اعتدل في جلسته و قال:
- بس إيه المفاجأة الحلوة دي .. جنحة و لا جناية المرة دي ؟
- لو تمت حتبقى جناية .. ربنا يستر ..
- فارس ؟
أومأ جمال برأسه إيجابا فتابع محمود:
- عملتوا إيه ف المحضر .. أنا اتصلت بالمأمور عرفت منه إنه قام بالواجب و زيادة ..
- فارس ما اتهمش حد، و لو إن الكلام على اللي بيكتب عنه اليومين دول في الدستور ..
- ما تقول له يخف اللون .. أنا قلت له، بس هو دماغه ناشفة ..
أشعل سيجارة ثم تابع:
- أدخل ع الفيس ألاقيه كاتب لي لو قلت ما تخافش و مش ما تخافش .. الواد دا بيعمل كده ليه ؟
- مش دي القضية دلوقتي .. القضية ..
قطع حديثه دخول الساعي حاملاً القهوة، ثم تابع بعد خروجه:
- القضية إن إحنا محتاجين نرخص له سلاح .. أظن ما فيهاش مشكلة دي ..
- لا طبعًا .. في تهديد بالقتل، و محضر رسمي .. مفيش مشكلة خالص ..
- طب كارت كوسة صغير بقى، علشان ننجز ..
انفجر محمود ضاحكًا، ما دفع جمال للضحك أيضًا، رغم أنه لم يستشعر شيئًا يضحك فيما قال، ما دفعه للسؤال:
- إيش يا ولد ؟ مالك سخسخت كده ليه ؟
- أصلك استخدمت تعبير نكتة قوي .. المهم .. خد يا سيدي ..
و أخرج من جيبه بطاقة خط فيها بعض الكلمات و أعطاها إياه قائلاً:
- تروحوا بيها للعقيد كريم الصالحي في إدارة الأمن الجنائي و أدي له الكارت ده .. الراجل حبيبي من أيام الجيزة ..
أخذ جمال البطاقة معقبًا:
- ماشي يا سيدي .. ألا حماك عامل إيه ؟
- الحمد لله .. أزمة و عدت، و لو إنه لسه بيتوه مننا ساعات كده ..
أطفأ السيجارة ثم تابع:
- و أنت والدك أخباره إيه ؟ .. و عملت إيه في الولية بت الإيه اللي خبطته دي ؟
- هو كويس الحمدلله .. يوم الخميس بعد بكره فاروق حيعمل له العملية و تبقى كل حاجة تمام ..
- و المحضر ؟
- اتعاملت بكل أدب .. ليلة في الحجز و الصبح اتنازلت .. بس أدبت بت الرفضي دي ..
ثم قام مودعًا محمود:
- ما أعطلكش أنا بقى، و بالمرة ألحق أعدي على إسماعيل قبل ما أروّح .. سلام ..
- ما تخليك قاعد يا راجل .. دا القهوة لسه بحالها ..
- بحالها مين .. دا ما فاضلش إلا التفل .. سلام ..
و انصرف فيما شيعه محمود بتحياته، ليعود بعدها للعمل متمتمًا بأشياء متفرقة عن "الدماغ الناشفة" ..
***
أوقفت إسراء سيارتها و شرعت في إجراء مناورات "الركنة" التي جعلتها تدرك و هي تتعلم قيادة السيارات أن مثل هذا الفن لم يخلق لبنات جنسها .. هي لم ترد السيارة و لا تعلم قيادة السيارات، لكن المضطر يركب الصعب .. تشعر في كل لحظة أن شيئًا ما شنيعًا سيحدث .. أي شيء، و لو لم يحدث فهي تتوقعه على الدوام و تنتظره ..
في بعض الأحيان تجلس في شرفة المنزل تتطلع إلى شارع سوريا الواسع المفضي مباشرة إلى طريق البحر تتأمل السيارات، و المناورات التي يصنعها السائقون بسياراتهم .. في كل لحظة تمر تشعر أنها ترتكب ذنبًا لا يغتفر بقيادتها لسيارتها في مثل هذه الطرق .. هي لا تجيد القيادة من ناحية، و من ناحية أخرى فالسائقون يجلسون إلى مقاود سياراتهم كمن يجلس إلى لعبة سباق سيارات .. البقاء للأسرع، و هي لا تستطيع مجاراة ذلك ..
- ماما .. من شان شو اتوقفنا ؟
- حننزل نجيب شوية حاجات للبيت و نرجع ..
- بس "يوجي" عم يفوتني هيك ..
- ما تخافش .. حنرجع قبليه، و بعدين أنا موصية بابا مخصوص يسجله لك .. يالا ..
اثنتا عشرة عامًا خارج مصر جعلتها "كالخواجاية" .. لم تتأقلم بعد على الشراء من السوق مباشرة، و تفضل عليه – حتى حين – السوبر ماركت و المجمعات التجارية .. هنا السعر ثابت و لا حاجة لك للمساومة .. السعر ثابت و معقول و الجودة تجعلك لا تشعر أنك خدعت .. عندما ذهبت للسوق أول مرة بعد العودة من سوريا شعرت كأنها في غابة، و أن ما يحدث ليس له علاقة بنشاط البيع و الشراء بل بنشاط السرقة .. لا السعر يناسب الجودة، و لا الجودة أو التعامل يتناسبان و بني آدم ..
اثتنا عشرة عامًا في الخارج أفقدتها القدرة المصرية المتأصلة في كل واحد منا على المساومة و "تطليع عين البيّاع" قبل الشراء، لذا فالمجمعات التجارية هي الاختيار الأفضل حتى يأذن الله ..
انطلقت تنتقي من البضائع ما تحتاج، محاولةً تجاوز إلحاح شمس المتواصل بشراء هذه أو تلك .. السيطرة على عفريت كهذا كانت و ما تزال مأساة بالنسبة لها .. هو وحيدها، لذا فحنانها كله منصب عليه بحكم قوانين الرياضيات .. الحنان يوزع بالتساوي بين الأبناء، فإن لم يكن لديها غير هذا، فحنانها كله له .. لكنها في الوقت نفسه تدرك عواقب التدليل الزائد .. تحاول أن توازن بين هذا و ذاك، و تتعامل معه بشيء من الحزم الممتزج باللين و اللين المختلط بالحزم، لكنها كثيرًا ما ترى نفسها عاجزة ..
عاجزة ليس لأنها عاجزة .. عملها كمعلمة يجعلها تعرف كيف تتحكم في الأطفال، لكنها تشعر بالعجز لأنها وحدها من تواجه هذا الموقف .. زوجها مشغول حتى الثمالة في توطيد دعائمه هنا في مصر، و الخروج سالمًا من مشاكله التي ورثها عن أبيه في سوريا، و هي لا تلومه لانشغاله و لا تتضجر منه، لكنها في الوقت نفسه تتمنى لو لم يكن هذا حالها ..
عندما تزوجته منذ ست سنوات لم تكن تدري أن حياته معقدة إلى هذه الدرجة .. انقسامات عائلية، و مشاكل مع السلطة السورية، و حظ عاثر بطريقة تدعو للعجب .. من الغريب حقًا أنها أحبته، و ما زالت تحبه رغم كل هذا، و لربما هي تحبه لكل هذا .. تشعر معه بأن هناك أهدافًا أخرى بالإضافة للإنجاب و تربية الأولاد و كل هذه الأهداف التقليدية للزواج ..
انتظرت دورها أمام الخزينة، و هي تحاول تهدئة شمس ببعض العبارات التي لا تجدي – للأسف – معه نفعًا، ما جعلها تفكر في صلابة رأسه و من أين ورثها .. أمنها أم من أبيه ؟ .. أغلب الظن منها، فبفضلها طلقت من زوجها الأول، لكنه كان – على أية حال – لا يطاق ..
نفضت ذكراه من عقلها، و هي تستعيد الباقي مما دفعت ثمنًا للأشياء القليلة التي اشترتها .. نظرت إلى الحقيبتين البلاستيكيتين اللتين خرجت بهما في عجب، إذ لم تتصور أن يسوء الحال إلى هذه الدرجة .. بعض من المنتجات الألبان و بعض الأرغفة و قليل من الأطعمة المحفوظة، و المقابل ما يساوي نصف راتبها قبل أن تسافر ..
تذكرت أول عطلة نزلت فيها إلى مصر، و قد كانت بعد عامين متصلين في سوريا، و كيف شعرت وقتها أنها غادرت البلاد منذ ألف سنة أو تزيد، فالتطورات سواء كانت بالسلب أو بالإيجاب كانت كثيرة و كبيرة، و لو أن ما كان منها بالسلب كان أكثر .. الآن هي تشعر الشعور ذاته، إن لم يكن مضاعفًا ..
وضعت قدمها على دواسة الوقود بعد أن تأكدت من ربط حزامي الأمان، لتبدأ معركة جديدة على الأسفلت ..
***
فرقع زكريا أصابعه و رقبته و ظهره، في محاولة منه لفك التبيس الذي حل بعضلات جسده من طول الجلسة خلف المكتب لما يزيد عن خمسة و أربعين دقيقة، يحاول فيها شرح ما لا يُشرح لأحد المرضى .. زفر في ضيق، و قد جعله هذا المريض يفكر في أصناف المرضى الذين يتعامل معهم، هنا أو في المستشفى الميري ..
هناك المريض المستسلم، و هذا يريد أن يفهم ماذا أصابه، ماذا ستفعل، و بعد ذلك هو لك .. هناك المريض المزعج، و هؤلاء يتعددون حسب التخصص .. البعض يتخصص في الأمور المالية، فلا ينفك يساومك على أجرك كما لو كان يبيعك سلعة ما، و هناك من يتخصص في الأمور الفنية، فلا يتركك إلا و قد قررت أن تترك المهنة من كثرة ما سألك في تفاصيل التفاصيل، و كأنه قد انتوى أن يخرج من عندك طبيبًا .. البعض يتخصص في "خدمة ما بعد الخدمة"، فلا يتركك ليلاً أو نهارًا، و يعتبر هاتفك المحمول ملكًا له، قد أقطعته إياه يوم أعطيته رقمك .. أسئلة و استفسارات بالليل و النهار، و كأنك ما خلقت و لا تطببت إلا من أجله ..
البعض، و هؤلاء هم الأشنع على الإطلاق، مزعجون بالجملة .. يحترف و يجمع بين عدة فنون من الإزعاج، فيجعل من مداواته جحيمًا لا يطاق .. هناك المرضى العصابيون الموسوسون، الذين يشمون رائحة المؤامرة في كل إجراء تتخذه، و غالبة ما تكون المؤامرة المزعومة على جيوبهم المسكينة ..
زفر شاعرًا أن متابعة حالة هذا المريض المسن الذي خرج لتوه ستكون واحدة من لعنات الطب التي ستلازمه لفترة ما، و أن الشيء الوحيد الذي يجبره على تقبله هو أنه عاهد نفسه يومًا أن يكون لطيفًا ودودًا مع أي مريض أيًا كان، حتى لا يكون سببًا في مزيد من الألم لهؤلاء المساكين ..
- اللي بعده يا حنفي ..
- الآنسة سارة الهواري يا دكتور ..
و كأنما ألقى بدلو ماء بارد في وجهه، شعر زكريا بشيء من عدم الاتزان .. ما زالت تثير في نفسه شعورًا مبهمًا أنه ارتكب ذنبًا شنيعًا و جرمًا لا يغتفر، و أنها في أي لحظة قد تستدعي هذا الموقف و تتعامل معه وفقًا له ..
- خمس دقايق و دخلها ..
و هي الحيلة التي استعملها المرة السابقة حتى يستجمع شتات أمره الذي لا يدري حقًا لم تبعثر، رغم أنها لم تفلح تمامًا فيما سبق .. على أية حال، فالدقائق الخمس لن تدوم دهرًا، و لا بد من المواجهة في النهاية:
- السلام عليكم يا دكتور .. إزاي حضرتك ؟
- الحمد لله بخير .. إزاي الوالدة، أخبارها إيه ؟
- لسه الحال على ما هو عليه .. ألا بالحق يا دكتور زكريا ..
ثم اعتدلت في جلستها و وضعت صور الأشعة و التقارير الطبية على المكتب أمامه و أكملت:
- إحنا كنا بنسأل كده و إحنا بنعمل التحاليل و الأشعات، و دكتور القلب اللي عمل الإيكو لماما قال لها إنها احتمال تحتاج عملية مش مجرد قسطرة .. صحيح الكلام ده ؟
ابتسم في شيء من العجب، إذ أن كل المرضى إلا أقل القليل يفعلون الشيء نفسه .. يستفسرون عن أشياء لن يستطيع أحد الإجابة عنها ما لم يقرأ التقارير و التحاليل و يتفحصها بعناية .. كثيرون ينظرون للطبيب على أنه الشخص "اللي عارف كل حاجة في كل حاجة" أو كما يحب زكريا أن يعبر عن هذه النظرة "كمن بقر بطون الكتب و أتى على علوم الأولين و الآخرين" ..
رد قائلاً محافظًا على الابتسامة:
- هو قال رأيه لما شاف الأشعة .. أشوفها الأول و بعدين نتكلم ..
كانت طريقته المفضلة في الرد على مثل هذه الأسئلة، إذ تجعله كمن لم يقل شيئًا، لكن المعنى الخفي يصل للمريض أو أيًا كان من سأل فيغرقه في شعور من الخجل لاندفاعه و عدم انتباهه لشيء بسيط كهذا، و الحق أن هذا ما أصابها بالفعل ..
تركت له الأوراق التي أتت بها، و جلست صامتة تتأمل خلجاته .. الآن يبدو كالطبيب حقًا، واثقًا متمكنًا من علمه و شيء من الحكمة و الهيبة يحيط بجلسته، لكنها كدارسة محبة لعلم النفس، أو ربما هو الاستشفاف، أدركت أن شيئًا من التوتر و القلق يغلفان حركاته و سكناته .. أرادت أن تعرف في هذه المرة أهي السبب أم أنها أسقطت ما في نفسها على ما رأته في المرة السابقة، لكنها لم تستطع، إذ راودها شعور أنه من المحتمل أن تكون هذه طبيعته، و طريقته في التفاعل مع الحياة ..
قطع تأملها أن رفع عينيه عن الأوراق التي قدمتها له، و شعرت أنه ارتجف عندما رآها تحدق فيه فأشاحت بعينها محاولة الخروج من الموقف، لكنه بادرها بالحديث قائلاً:
- بصي حضرتك .. شرايين والدتك التاجية مع الأسف وصلت لنقطة اللاعودة .. يعني القسطرة و الدعامات و البالونات و الحاجات دي كلها حتبقى عاملة زي المسكنات، لا تغني و لا تسمن من جوع .. الحل المطروح قدامنا دلوقتي إننا نعمل عملية ترقيع للشرايين التاجية، أو بمعنى أدق تبديل .. نشيلهم و نحط أنسجة تانية مكانهم بحيث تقوم بنفس الوظيفة .. و إن شاء الله خير ..
ظلت صامتة لحظة انتظر خلالها زكريا السؤال المتوقع:
- يعني دلوقتي الخطوة الجاية إيه .. ماما تتحضر للعملية، و لا في حاجة تانية ؟ .. فحوصات تانية يعني ..
- لا لا لا .. مفيش فحوصات تانية و لا حاجة .. بس هي تأنسني كده في الوقت اللي يناسبها أكشف عليها مرة تانية في ضوء المعطيات الجديدة، و أسجل شوية بيانات كده ..
- إن شاء الله .. متشكرة جدًا يا دكتور ..
- لا شكر على واجب، و ابقى بلّغي سلامي لسامية و محمود ..
- آ ..
و جلست مرة ثانية بعد أن كادت تقوم من مقعدها:
- بمناسبة سامية، كان في حاجة عاوز أكلم حضرتك فيها بس مترددة جدًا ..
لسبب ما شعر بالقلق .. هذه الـ "جدًا" التي انتهت بها الجملة كان سيئة الوقع جدًا، و شعر أنها ستلقي بقنبلة في وجهه:
- يعني ع اللي حصل يوم الفرح .. بس حسيت إن حضرتك يعني آ ..
لم تدر بم تكمل، و لم يدر كيف يرد، إلا أن الله فتح عليه بما أنقذ كليهما:
- أنا اللي كنت عاوز أتأسف بس كنت محرج .. أنا اللي مفروض أبقى متردد و باعتذر ..
- حصل خير .. استأذن أنا ..
و قامت عن مقعدها شاعرة أنها ارتكبت مذبحة، فيما عاد إلى زكريا لونه الطبيعي مرة أخرى ببطء:
- يالا يا سي حنفي .. اللي بعده ..
لكن الحق يقال أنه أراد أن يغلق العيادة لتوه، ليجلس في مكان هادئ يستجمع شتات نفسه ..
***
عقد عادل عبد الحليم ذراعيه أمام صدره شاخصًا ببصره في تجهم محدثًا عبر تنفسه من فتحتي أنفه بسرعة موسيقى منذرة كأنها فحيح أفعى، هذا إن عُد الفحيح ضربًا من الموسيقى، و لو أن شردي الماثل أمامه و المقصود بكل مظاهر التوعد هذه لم يكن ليهتم كثيرًا بهذه التفاصيل الصغيرة و البلاغة المتحذلقة، إذ كان يشعر أن حياته، و ليس وظيفته فحسب، على المحك ..
- أنت بتقبض مني كام ألف في الشهر يا ابن الـ... ؟
- آ .. يعني ..
- كام ؟
سأله صارخًا خارجًا من عباءة التجهم التي ظل فيها لفترة مكشرًا عن أنيابه، فجفف شردي شيئًا من عرقه الغزير و قال مرتجفًا:
- خير سعادتك كتير يا باشا ..
- بس مش طامر يا ابن الكلب ..
- ليه بس يا باشا .. دا أنا لحم كتافي من خير و ماليش إلا سعادتك و ..
- بس بس .. اخرس ..
قالها ملوحًا بيده دلالة على نفس المعنى المنطوق، ثم قام متجهًا نحو النافذة الكبيرة خلفه، و صمت للحظات أرسل بصره خلالها، ثم قال:
- أنا قلت خلص المسألة يا شردي .. يعني تخلصها و تخلص عليه ..
ثم التفت إليه يصرخ:
- مش تقول لي هددته هو و أمه .. يا فرحتي بيك يا ننوس عين أمه ..
صمت لحظة قبل أن يكمل رافعًا سبابته مهددًا:
- آخر فرصة .. آخر فرصة تخلص فيها العملية دي كلها و إلا البقية في حياتك فيك يا شردي .. فاهم ؟
اومأ برأسه موافقًا، فتابع عادل و هو يعود لجلسته:
- عرفت نظام حياته إيه ؟
- أيوه يا باشا .. بيطلع م البيت الصبح ع الجرنان يديهم المقال بتاع تاني يوم، بعد كده بيقضي مشاويره و يرجع البيت و بعد الضهر بينزل تاني يلف شوية و يرجع البيت ع الساعة حداشر اتناشر كده ..
- تصطاده و هو راجع .. تاخد رجالتك و تعكموه علقة مش عاوز أمه تتعرف عليه بعديها ..
ثم مال للأمام منذرًا:
- المرة دي عاوز يجيني خبره .. فاهم ؟
- أوامرك يا باشا ..
- على الله تنفذها .. غور يالا من وشي ..
انصرف شردي يتمتم بالكثير من كلمات الحمد و الثناء فيما ظل عادل للحظات صامتًا حتى تأكد من انصراف شردي، ثم أمسك بهاتفه المحمول و ضغط أرقامه و انتظر المجيب:
- السلام عليكم .. إزاي صحتك يا باشا ؟
- عملت إيه يا عادل ؟
شعر عادل بالضيق لهذا الاستقبال الجاف، لكنه أجاب:
- كل تمام إن شاء الله يا باشا .. ديّتها بكرة بالكتير يكون عندك خبره، و تكون صورة جثته مالية الجرايد ..
- اتعشم كده .. أنا مش ناقص حد كل شوية ينخور ورايا .. فاهم ؟
- مفهوم يا باشا .. إحنا خدامين سعادتك ..
- ابقى اتصل بي و قول لي وصلتوا لإيه ..
و أغلق الخط ليغلقه عادل بالمثل قاذفًا بالهاتف إلى منتهى ما وصلت إليه يداه هاتفًا:
- فاكر نفسه إيه بـ... أمه ده .. إحنا اللي شايلين الشغل كله و طالع ... أبونا و ف الآخر يكلمني من فوق ..
و بينما الغضب و الغيظ يأكله من الداخل دافعًا إياه للتفكير في مخطط شيطاني آخر، كان شردي يجري مكالمة مماثلة مع أحد رجاله، مدفوعًا بخوفه الشديد من يد عادل الطولى، التي يمكن أن تمحو ذكراه إلى الأبد:
- جابر .. عاوزك أنت و الرجالة دلوقتي حالاً ..
- بس يا ريس أنا ..
- مفيش بس .. أنا قلت تيجي أنت و الرجالة يعني تيجوا ..
- يا ريس أنا مراتي بتولد، و معاها دلوقتي في المستشفى ..
- إن شالله تكون أنت نفسك بتموت .. بلاش كتر كلام ..
- أوامرك يا ريس .. في الشقة برضك ؟
- أمال حيكون فين يعني .. يالا اتكل أنت ع الله .. ساعة و تكونوا عندي ..
و أنهى الحديث ضاغطًا بعنف على دواسة الوقود يفرغ فيها ما بنفسه من توتر محاولاً التفكير كيف ينفذ ما طلبه عادل "باشا" منه .. عندما تفتق ذهنه عن التهديد بالقتل، ظن أن فارس سيرتدع، فإحساس المرء أن حياته في خطر يقفز بغريزة حب البقاء إلى القمة و الذروة، فلا يعود غيرها في مخيلته، و يصبح الابتعاد عن موطن الخطر هو شغله الشاغل، لكن ما حدث كان عكس ما توقع، إذ واصل فارس نشر مقالاته، و كأنه لا يبالي على الإطلاق ..
على أية حال، إذا لم يكن يبالي، فالموتى أيضًا لا يبالون ..
***

12.1.10

أبحث عنــــــك

أبحث عن امرأة تغزوني
و تصير نبعا لجنوني
تكتبني و تعود فتمحوني
فلا يبقى مني الا ذكراي

امرأة تعصف بكياني
و تزلزل عمدا وجداني
ان غابت عني ألقاني
في الأفق ترسمها عيناي

امرأة ترجعني طفلا
تحنو حينا تقسو أجلا
تحرمني فتملأني أملا
كسراب أفلتته يداي

أبحث عن امرأة تبحث عني
سأجدها يوما فيه تجدني
حينئذ أبوح لها أني
أذوب شوقا من فرط هواي

أبحث عنك .

8.1.10

تأمــــــلات مسطول

لابد أن نتعلم أن ننظر للأمام قليلا .. فدائما ما يكون هؤلاء الذين يفتقدون للبصيرة المستقبلية شوكة في حلق و عثرة في طريق المبدعين ، نعم اتحدث عننا نحن المصريين ، نحن الذين نكتفي بالنظر تحت أقدامنا .. و اذا تجاوزنا هذا الحد فلا يكون الا لبضع خطوات لا تسمن و لا تغن من جوع ، الدليل القاطع على هذا هو الجدار المصري العازل المانع بيننا و بين الاخوة الاشقاء الفلسطنيين .. انطلقت السنة الشعب اللاذعة - كحالها دائما - لتسلخ ظهور السادة المسئولين .. و لذا و جب على حكماء المجتمع و مساطيله - و يترك للقاريء الحرية في اختيار الجانب الذي يراني انتمي اليه - الدفاع عن شرف حكومتنا الرشيدة ، او النظيفة ، أو المباركة .. ايا كان ما يصفه بها مثيرو الشغب بنية السخرية .. النقطة الاولى التي لم يلتفت اليها أحد هي التاريخ .. لقد لعب التاريخ دور عرافة الحظ للشعب الفلسطيني بوجود كل هذه الجدران العازلة .. اتهموني بالجنون و الخبل ، و لكن خلال بضع مئات من السنين ستدزهر السياحة الفلسطينية ازدهارا عظيما ، حيث يأتي السائحون من مشارق الارض و مغاربها لزيارة سور فلسطين العظيم .. فكما أن للصين سورا اليوم تفخر به و يمثل واجهتها الحضارية ، ستمتلك فلسطين سورا يبدو مما سمعت و فرأت أنه أكثر مناعة و بالطبع تطورا و أقدر على الصمود مما يمنحه ميزة عن سور الصين ، فبعد سقوط سور الصين و الاهرام و أمثالها من الحجارة البالية .. لن يبقى من أثار العالم و عجائبه الا سور فلسطين العظيم .. و ليست تلك المزية الوحيدة ، فنتيجة للحصار الذي يفتك بالشعب الفلسطيني الان ، سيتناقص عدد سكان فلسطين تناقصا ملحوظا بمرور الوقت ، مما يزيد نصيب الفرد من موارد السياحة .. و بحلول الوقت الذي يصبح فيه سور فلسطين عجيبة العالم الوحيدة ، سيكون الفرد الفلسطيني أغنى مواطن في العالم .. مزية ثالثة ، ان الشعب الفلسطيني لم يدفع دينارا ولا بنسا في هذا السور ، على غرار جميع عجائب الدنيا و انجازاتها الحديثة .. نجد أن سور فلسطين بني تماما دون أت تدفع فيه فلسطين مليما ! - و ذلك بغض النظر عن التكاليف البشرية - اذا ماذا يريد الفلسطينيون تضحية من مصر الاخت الكبرى أكثر من هذا ، تهدر حكومتنا الملايين لتستكمل تاريخ فلسطين و لتجعلها - لمن يملك البصيرة النافذة - في مصاف الدول مستقبلا .. مزية أخرى و ليست أخرة ، ان هذا الجدار يختلف تماما عن اي معلم حضاري أو أثري في فلسطين ، فهو لا ينتمي الى أي دين بعينه ، فمسجدنا الاقصى في زعم اليهود يطمس هيكلهم و يحول دون تحقيقه ، و حائط مبكاهم في الاصل الصخرة التي ربط نبينا محمد البراق اليها ، فانظروا كم من الدماء سفكت على تلك الخلافات الدينية بين المسلمين و المسيحيين و اليهود على أحقية كل منهم بالقدس ، و لكن هذا الجدار معجزة بحق ، فقد ساهم فيه يهود و مسلمون و مسيحيون ، كلهم سويا .. و كلهم عندما بنوه أسموه جدارا .. فلا مجال لخلاف أو تنازع ، ان هذا الجدار بحق هو مجمع الاديان و رمز السلام الذي طالما انتظرناه ..
هؤلاء المثيرون للشغب يلومون على حكوماتنا الصمت المطبق ازاء القضية الفلسطينية ، ماذا جنت حكوماتنا غير انها التزمت جانب الحكمة ، و استمعت لرأي العقلاء .. أوليس تاريخنا العربي مليء باقول مثل اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب ، و الحكيم هو الذي يصمت عندما يريد الكلام و خلافها من الامثال التي تعظم من قيمة السكوت ، أما عن الموقف المصري الأخير من عدم التصريح بشيء عن الجدار فله أكثر من تبرير في رايي أولها هو في التأني السلامة ، و داري على شمعتك تلالي ..و خلافها .. فلماذا نصر على أن حكوماتنا لا تأبه للحكم و نظل نثير قضية مثل أكلت يوم أكل الثور الأحمر بينما أن حكوماتنا تتبع كل هذه الامثال الأخرى التي سبق ذكرها حرفيا ، بل و ربما كانت مثالا حيا عليها ..
لا يزال في جعبتي الكثير من الحجج الداحضة أن هذا الجدار هو مصلحة قومية فلسطينية ، و تضحية مصرية اصيلة ، و ان كان المجال لا يتسع لذكرها كلها .. يتبقى في النهاية رجاء أن ننظر الى النصف المملوء من الكوب و ليس الفارغ ، و أن نتحلى ببعض البصيرة النافذة ، و بعض الثقة في حكوماتنا العربية لأنها تستحق هذه الثقة .. و أرجو أن يحدث هذا سريعا لأنه حكوماتنا بشر ، و طاقة البشر على الصبر محدودة .. أو في اسلوب ابسط .. بلغة الامثال التي نفهمها جميعا .. للصبر حدود.
ملحوظة على جنب : أعتذر عن قبول اي مناصب مثل عضو برلمان ، عضو بالحزب الوطني أو رئيس تحرير الأهرام . هذا المقال مجرد محاولة للنظر الى الوجه الحكومي ، اقصد الاخر من الجدار ، اقصد العملة.

أحلام الفتى الدائخ - الحلم الرابع


الحلم الرابع: وحدة أمراض الديكور بقسم طب الإلكترونيات بالمستشفى الميري

كعادة أحلامي تبدأ فجأة و دون مقدمات، إذ أجد نفسي في غرفة ما أرتدي البالطو الأبيض، و بجواري أحد زملاء الدراسة .. اكتشفت فيما بعد أن هذه الغرفة هي بالطابق السادس أو السابع من المستشفى الميري، الذي انتقل من الأزاريطة إلى ميدان الرصافة بمحرم بك .. كنت أتحدث إلى أحد المرضى أشرح له كيفية إعداد "الراوتر" الخاص به للاتصال بالإنترنت، و كيف يتم تعريف الجهاز لديه على خدمة الإنترنت اللاسلكية، بينما كان صديقي "يعالج" أحد الرسوم الهندسية الخاصة بإحدي الشقق ..
و بينما نحن على هذا الحال، حدث أن أتى نذير أن حادثة على الطريق قد وقعت، و أن الإسعاف سينقل ضحاياها إلى المستشفى، فنزلت أنا وصديقي إلى الشارع لأداء الصلاة، لاكتشف في منتصف الطريق أنه أصبح صديقًا آخر ..
وصلنا المسجد الذي كان يضع على عتبته مجموعة من المجسات و سماعات عملاقة ينطلق منها صوت القارئ يتلو القرآن، و كلما ضغط أحدهم على المجسات الموجودة في العتبة خفت الصوت شيئًا فيشيئًا، حتى إذا خفت الصوت تمامًا، كان معنى ذلك إكتمال العدد لتبدأ الصلاة، و استيقظ أنا من النوم ..

7.1.10

جدار الفولاذ و الدم و العار

"مصر إيه القصة..
احكوا يا مصريين..
بدكم تخنقونا..
نروح على مين..
غزة هالمقبورة والناس تعبانين..
بيكفي اليهود ..
ارحمونا يا مصريين ..

قالوا عن الجدار..
هذا أكبر إنجاز..
بدهم يحرمونا..
و عدوي ياخذ غاز..
عدوي ياخذ غاز .."
إسلام أيوب

عندما بدأ رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون بناء جدار الفصل العنصري في 2002 بطول الحدود مع الضفة الغربية، و بامتداد الخط الأخضر، لم تبلغ الدهشة و العجب و الاستنكار مبلغًا عظيمًا، فهذا الكيان في النهاية هو قوة احتلال، و لربما صنفنا هذا العمل على أنه من "أرق و ألطف" ما يفعله المحتلون بالشعب الفلسطيني، رغم أنه حوّل الجانبين إلى حيوانات في حديقة يُخشى هروبهم منها ..
لكن الأمر لم يكن كذلك بكل تأكيد، عندما ذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية يوم الجمعة، الحادي عشر من ديسمبر الماضي، أن السلطات المصرية تقيم جدارا فولاذيا على عمق ما بين عشرين وثلاثين مترا تحت الأرض لمنع التهريب عبر الأنفاق إلى قطاع غزة, وقالت الصحيفة إن الجدار يبلغ طوله عشرة كيلومترات، وإنه "سيستحيل اختراقه أو صهره".
اعتبر الكل الأمر نوعًا من الوقيعة يريدها العدو أن تقع بين المصريين و الفلسطينيين، و كان رد الفعل الأول هو الاستنكار و الإنكار، فمن غير المعقول أن تجعجع الحكومة المصرية بكل هذا الحديث عن مساندة الشعب الفلسطيني و القضية الفلسطينية، ثم تأتي بجدار يسد المنفذ الأخير الذي ابتدعه أهل غزة ليحصلوا على القوت، بعد أن سُدت المعابر في وجوههم بشكل رسمي، و لم تعد تفتح إلا "بشكل استثنائي"، و كأن الأصل فيها الإغلاق ..
لكن المثير للدهشة هو أن الحكومة المصرية و النظام المصري التزما الصمت .. رد الفعل المنطقي للمظلوم و لمن يُرمى ببهتان أن يسارع للدفاع عن نفسه، لكنه الصمت .. الصمت الرسمي، فيما ذكرت الصحيفة الإسرائيلية أن مصدرا مصريا – لم تسمه – أكد بحديث لها وجود خطة لبناء الحائط، لكنه لم يؤكد بدء الأعمال لإقامته, مشيرة إلى أنه "بعد إقامة هذا الحائط فإنه ليس هناك يقين بأن تتوقف عمليات التهريب تماما"، و أن قوات الأمن المصرية كثفت مؤخراً من نشاطاتها على امتداد الحدود مع قطاع غزة وتمكنت من ضبط العديد من الأنفاق، كما أنها استعانت بخبراء أميركيين لاكتشاف هذه الأنفاق بواسطة أجهزة استشعار متقدمة ..
حتى أولئك المعارضون دومًا المشككون دومًا أنكروا و استنكروا، لكن إزاء هذا الصمت، بدأ الكل يشك، و بدأ شيء من اليقين لدي الناس ينمو أن الحكومة المصرية تقوم ببناء هذا الجدار .. المضحك المبكي في الأمر أن العمل في هذا الجدار، وفق تصريحات مهندس مصري يعمل في الموقع، قد بدأ الإعداد له له منذ ما يزيد عن ستة أشهر، وأن عملية البناء الفعلي بدأت منذ ثلاثة أشهر وسط حراسة أمنية مشددة، أي أن الأمر كان سيستمر حتى نفاجيء به كأمر واقع لا نقاش فيه، لولا وشاية الصحيفة الإسرائيلية !
هذا الأمر ليس جديدًا على الحكومة المصرية .. أذكر في صغري أن اقتتالاً طائفيًا وقع في إحدى قرى الصعيد .. لست أذكر أين أو متى بالضبط، لكنني أذكر أن هذا كان قبل انتشار أطباق الاستقبال الفضائي بالصورة التي نراها الآن، أي في الوقت الذي كان فيه الإعلام الرسمي الحكومي هو الإعلام الوحيد و الرئيس .. المهم أن ما حدث من اقتتال في الصعيد تكتمت الحكومة أمره كأن لم يكن، و كانت فرصة أن يعرف أحد في ربوع مصر بهذا الأمر تكاد تكون معدومة، إذ لا توجد أي تغطية إعلامية من أي نوع، اللهم إلا التلفزيون المصري – الذي تكتم الأمر – و قناة الجزيرة التي نشرت الخبر، و إزاء نشرها الخبر، سارعت الحكومة المصرية إلى نفي الخبر و تكذيبه ثم تراجعت قليلاً إلى تهوينه و تبسيطه و نقل صورة أقل دموية مما حدث .. بعيدًا عن هذه القصة، فإن ما أريد أن أقول هو أن الحكومة لم تكن لتذكر شيئًا لولا أن أحدهم أشار إلى ما حدث، لكنها كانت ستعتم تمامًا و ستنكر تمامًا لو سكت الجميع .. تمامًا مثلما حدث و يحدث في مسألة الجدار هذا ..
و قبل أن أكمل، لا بد أن أجيب على سؤال سألته نفسي قبل هذا، و اكتشفت أن كثيرين قد انفعلوا للأمر دون أن يعرفوا إجابته: ما هو هذا الجدار بالضبط ؟
هو جدار من صفائح حديدية صلبة طول الواحدة منها 18مترًا وسمكها 50 سم مزود بمجسَّات تنبِّه إلى محاولات خرقه، تغرس على عمق يتراوح ما بين 20 و 30 مترًا، و إمعانًا في العزل، فهناك ماسورة رئيسية ضخمة تمتد من البحر غربًا بطول 10 كم باتجاه الشرق، تتفرع منها مواسير في باطن الأرض مثقبة باتجاه الجانب الفلسطيني يفصل بين الماسورة والأخرى 30 أو 40 مترًا؛ حيث تضخّ المياه في الماسورة الرئيسية من البحر مباشرة ومن ثم إلى المواسير الفرعية في باطن الأرض، وكون المواسير مثقبة باتجاه الجانب الفلسطيني؛ فإن المطلوب من هذه المواسير الفرعية إحداث تصدعات وانهيارات تؤثر في عمل الأنفاق على طول الحدود. و قد تم فعليًا الانتهاء من 5 كيلومترات من أصل 10 كيلومترات، هي طول الشريط الحدودي .. أي أن نصف المهمة قد انتهى، و النصف الثاني يقاتلون حتى ينهوه بأسرع وسيلة ممكنة .. أكد هذا المهندس نفسه صاحب التصريحات سالفة الذكر، الذي قال إن " عمليات الحفر والبناء مستمرة في الجدار ولم تتوقف في أي وقت، وإنها مستمرة حتى الآن ولا تلتفت لما يدور في وسائل الإعلام، و إن البناء هو قرار سيادي و سياسي لا نقاش فيه".
السبب وراء هذا الجدار لا يخفى على أحد: الأنفاق .. أكاد أجزم أن شعب غزة قد ابتدع علم حفر الأنفاق الخاص به بعد كل هذه الأنفاق التي حفرها، و التي لم يكن ليحفرها لولا أن الخناق قد ضيق عليه .. المعابر على الجانبين مغلقة، و المعبر الوحيد الذي يفتح "بشكل استثنائي" هو معبر رفح، و هو مخصص للأفراد و ليس للبضائع .. رسالة ضمنية غير مصرح بها تقول: موتوا ثم موتوا ثم تواروا بالتراب ..
لكن مشكلة الأنفاق ليست لأنها مصدر القوت الرئيس للفليسطينين في غزة، بل لأنها مصدر مهم للسلاح بالنسبة لفصائل المقاومة .. من السودان، أو صعيد مصر، مرورًا بالصحراء الشرقية عبر الجبال و وسط الرمال، ثم عبر سيناء فالأنفاق فغزة .. و هكذا يصبح في يد الأسير سلاح يقاتل به سجّانه، و لا بد لسجّانه أن يبحث كافة الوسائل التي يغلق بها هذا الطريق في وجه أسيره ..
هذا هو السبب الرئيس الذي يجعل من الأنفاق شوكة في حلق الكيان الصهيوني، و هو السبب الذي يجعله يضغط على الولايات المتحدة كي تضغط باستمرار على مصر – العميل الوفيّ بكل أسف – لتبحث عنها و تدمرها .. إلا أن الجهود المصرية كانت دائمة دون المستوى المطلوب، ما جعل الإدارة الأمريكية تقترح بناء هذا الجدار، و تمد الجانب المصري بالتقنية المطلوبة و المهندسين الأمريكيين، الذين يشرفون إشرافًا شبه كامل على سير العمل في المشروع .. من المنطقي طبعًا أن نفكر في الولايات المتحدة الأمريكية في مثل هذه الأمور، فهي غالبًا الشيطان الذي ينزغ صدر الأخ ليقتل أخاه ..
البعض ذهب إلى أن الهدف من الجدار ليس زيادة الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة فحسب، بل تبرير "الجدار العازل" الذي قامت بتشييده إسرائيل حول الأراضي الفلسطينية و أدانه المجتمع الدولي وجمعيات حقوق الإنسان وأطلق عليه جدار الفصل العنصري، و أنه تلبية لتوجيهات واشنطن و تل أبيب الراغبتين في تبرير الجدار الإسرائيلي بآخر عربي وإسقاط تسمية "الجدار العنصري" و تبرئة إسرائيل من هذه التهمة .. حقيقة لست استبعد شيئًا كهذا ..
و لأن تبرير هذا العمل بمثل هذا المبرر – منع تهريب السلاح إلى الجانب الفلسطيني المقاوم، أو تبرير بناء إسرائيل لجدارها العازل بآخر عربي – لن يلقى قبولاً لدي الشارع المصري، كان لا بد من التفكير في حجة "فخمة" تسكت ألسن المعارضين و تدكهم دكًا .. أمن مصر القومي !
"أكد د. مفيد شهاب، فى جلسة مجلس الشعب يوم الأحد الماضي، الثالث من يناير، أن الإدعاء بأن مصر تقيم جدارا فولاذيا عازلا على حدودنا مع غزة، هو أمر عار تماما عن الصحة، لأن ما تقوم به مصر هو من قبيل الأعمال السيادية المتعارف عليها فى إطار القانون الدولى المعاصر، و هذه الإنشاءات وسيلتنا المشروعة لحماية مصر، ليس من أهل غزة، فهم أخوة لنا، وإنما من محترفى تهريب السلاح وتصدير العنف والإرهاب.
و قال شهاب إن مبدأ قدسية الحدود وحرمتها قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولى، و يرتبط هذا المبدأ بمبدأ حسن الجوار الذى يقرره ميثاق الأمم المتحدة بهدف الحفاظ على ثبات الحدود و حمايتها و تجنب ادلاع النزاعات حولها.
و أشار الى بيان مجمع البحوث الإسلامية برئاسة شيخ الأزهر الذى يؤكد أن وضع الحواجز التى تمنع أضرار الأنفاق التى أقيمت تحت أرض رفح المصرية من الحقوق المشروعة لمصر، حيث يتم تهريب المخدرات و غيرها عن طريقها، الأمر الذى يهدد ويزعزع أمن وإستقرار مصر و مصالحها.
و ذكر أن البيان أوضح أن ما تقوم به مصر تأمر به شريعة الإسلام وأن الذين يعارضون بناء هذه المنشآت يخالفون بذلك ما أمرت به الشريعة الإسلامية."
سأعود لبيان مجمع البحوث الإسلامية لاحقًا، لكنني أسوق هذا الخبر لأوضح وجهة النظر الحكومية، فالأنفاق وسيلة لتهريب المخدرات و الأسلحة التي يستخدمها الإرهابيون في عملياتهم في مصر، و هي بهذا تهدد الأمن القومي و الاستقرار المصري ..
بداية، أنا لست مع الأنفاق، فهي حل مبتدع فرضته تحكمات عملاء العدو في الداخل قبل العدو نفسه، و ليس من المفترض أن أعارض بناء الجدار لأنني أرغب في استمرار الأنفاق .. أوافق أن تغلقوا الأنفاق و تهدموها فوق رؤوس من يستعملونها، لكن لا تفعلوا هذا و أنتم تغلقون المعابر .. هذا هو الجور بعينه ..
لا أوافق أن تفعلوا هذا و أنتم تغلقون المعابر، و تمنعون الشعب الفلسطيني من حقه الطبيعي في المقاومة، و تضيقون الخناق عليه، و تحولون وطنه إلى أكبر سجن عرفته البشرية .. هذا ظلم ليس بعده سوى ظلم الإنسان لنفسه بالكفر ..
أما الحديث عن الأمن القومي، و أعمال السيادة، و حماية الوطن من المخدرات، فمن الواضح أن د. مفيد كان يتحدث إلى شعب آخر عن دولة أخرى !
تجار المخدرات تعرفهم الشرطة بالاسم، و كل ضابط لديه عدد من الاتفاقات مع عدد من التجار كي يسلموا له كل فترة "ضبطية" مخدرات تتيح له الترقي .. ثم إن المخدرات ليست بحاجة إلى أنفاق كي تدخل، فهي لا تدخل أصلاً .. جبال سيناء تشهد أزهى عصور زراعة البانجو و القنب و الخشخاش، و لا عزاء لأي أحد ..
أما السيادة ! .. الواقع أنني لم أكن أدري بالضبط و أنا أقرأ الخبر ما هو نوع السيادة التي تمارسها الحكومة المصرية او النظام المصري على أرض مصر .. مناورات النجم الساطع التي تجريها القوات المسلحة كل عام بالاشتراك مع الجيش الأمريكي تستبيح أرضنا للأمريكين ليعرفوا كل كبيرة و صغيرة، و تستبيح جيشنا ليعرفوا آخر ما يتم فيه، و تتيح لهم فرصة مثالية عندما ينقضون علينا، هذا لو فعلوا، لأنهم ببساطة يعرفوننا كبطون كفوفهم ..
أعمال السيادة التي يتحدث عنها النظام المصري يضحك الواحد منا ملء فيه من المرارة التي سيشعر بها إذا قرأ مواد اتفاقية كامب ديفيد التي وقعها أنور السادات لتهدمها حجرًا حجرًا:
- لا يجوز لمصر أن تنشئ أى مطارات حربية في أرض سيناء
- لا يجوز لمصر أن تستعمل المطارات التي ستخليها إسرائيل فى أغراض حربية
- ولا يجوز لمصر أن تنشئ أية موانئ عسكرية فى أي موقع على شواطئ سيناء (على البحر الأبيض أو خليج السويس أو خليج العقبة) ولا أن يستخدم أسطولها الحربى الموانئ التى بها.
- ولا يجوز لمصر أن تحتفظ شرق قناة السويس وإلى مدى 58 كيلو مترا تقريبا بأكثر من فرقة مشاة ميكانيكية واحدة، لا يزيد مجمل أفرادها عن 22 ألفا، ولا تزيد أسلحتها عن 126 قطعة مدفعية، و126 مدفعا مضادا للطائرات عيار 37 مم، و230 دبابة، و48 عربة مدرعة من جميع الأنواع .
- ولا يجوز لهذه القوة المحددة العدد والسلاح أن تخطو خطوة واحدة ولو لإجراء مناورات تدريبية شرق الخط المحدد لها بين أرض وطنها وبقية أرض وطنها!!
- لا يجوز لمصر أن تكون لها شرق الخط المشار إليه أية قوة عسكرية مقاتلة أو مسلحة بأسلحة قتالية من أي نوع كان.
و يمكنك أن تتأكد من هذه النصوص بنفسك هنا ..
أين السيادة و أربعة أخماس سيناء منزوعة السلاح ؟! أين السيادة و الأرض التي قاتلنا من أجلها و دفع الكثيرون دماءهم ثمنًا لها يحرم علينا أن نفعل بها ما شاء، و كأنها أرضهم و ليست أرضنا ؟!
أين كانت السيادة مع الخائن العميل عزام عزام، وكيف أكرهت هذه السيادة على إطلاق سراحه .. أتكون السيادة بإغلاق معبر رفح لقطع الغذاء و الدواء و مستلزمات الحياة الرئيسية عن المستضعفين من أهل غزة في حين يغرق أصحاب السيادة في الفنادق ذات النجوم الخمس، أم تكون هذه السيادة بإطلاق خراطيم المياه على بعض الأطفال والنساء الجوعى و المنكوبين المعتصمين على بوابة المعبر، بعد أن أصبح العدو خلفهم طالبين بعض العون من مصر"أم الدنيا" التي كانت غزة قطعة من أراضيها يوما ما ..
أعمال السيادة أصبحت في نظر الحكومة المصرية هي تنفيذ أوامر الولايات المتحدة و من والاها، و هي الحجة الجاهزة لإسكات كل صوت يندد بما تفعل، و هي الذريعة التي تتحرك تحت غطاءها ..
الغريب و المستفز أنها لا تمارس شيئًا من هذه السيادة إذا استدعتها الضرورة لدرء ضرر عن مصر و شعبها .. أين كانت السيادة عندما دكت طائرات الكيان الصهيوني حدود رفح المصرية في حرب غزة الأخيرة و قتلت بعض الجنود و حرس الحدود المصريين ؟ .. رصاص جنود الاحتلال يصيب جنديًا أو ضابطًا من حرس الحدود المصري، فيكون أقصى ما تفعله الحكومة المصرية هو "المطالبة باعتذار رسمي"، و في بعض الأحيان لا تتحرك حتى من أجل هذا الإعتذار الهزيل .. أين إذًا الحديث عن السيادة و الأمن القومي و كل هذا الهراء الذي يتقيأونه ليل نهار ؟
أما الحجة الثالثة فهي تصدير العنف عبر الأنفاق .. الحكومة تتحدث كأنها عمياء عما تفعل، فسياستها "الرشيدة" في كافة المجالات، من تعليم و صحة و أمن و تمثيل دبلوماسي و اقتصاد .. كلها تخنق الناس و تولد يومًا بعد يوم المزيد و المزيد من الكبت، و الكبت ليس له إلا الانفجار، هذا إذا لم يفرّغ بصورة مفيدة و في شيء نافع، و هو ما لا تفعله الحكومة، اللهم إلا مباريات كرة القدم ..
العنف لدينا صناعة محلية بأيد مصرية .. من هذا الأبله الذي سيقطع كل هذه المسافة من فلسطين إلى القاهرة ليفجر قنبلة بدائية، لن تحقق شيئًا سوى مصرعه ؟ .. من الأكثر بلاهة حتى يصدق أنه صار من اللازم أن تنضم لتنظيم إرهابي حتى تفجر نفسك و تقتل ؟
العنف لدينا صناعة محلية بأيد مصرية و لا يحتاج لاستيراد .. و كلما زادت الحكومة من ضغطها زادت فرص الانفجار ..
الحق أنني أتعجب لهذه الحكومة و لهذا النظام الذي أوتي من قلة ماء الوجه ما يجعله قادرًا على مواجهة كل هذه المواقف بثبات، رغم كذبه الواضح و ضعف موقفه الذي لا مراء فيهما .. قدرة مدهشة على تلفيق الحجج و الأدلة بحيث تنطلي على ذوي العقول البسيطة الذين لا يفقهون الكثير مما يدور حولهم، و يتعاملون بمبدأ عادل إمام في مسرحية الزعيم "أنا اللي يحكمني أسقف له و أدعي له"، لكن الملفت للنظر هذه المرة أنه أراد أن "يسبك" الحجج أكثر و أكثر، فلعب على الوتر الأكثر حساسية عند المصريين .. الدين ..
" في هذه الأثناء، كشف الموقع الالكتروني لصحيفة "الاسبوع" المستقلة عن سر قيام مجمع البحوث الإسلامية بسرعة إصدار بيانه الخاص بشرعية الجدار الفولاذي، و قال إن فتوى رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور يوسف القرضاوي بحرمة بناء الجدار، أثارت ردود أفعال واسعة واستفزت النظام والحكومة المصرية وهو ما دفع شيخ الازهر الدكتور محمد سيد طنطاوي والشيخ علي عبد الباقي امين عام مجمع البحوث الاسلامية الي اعداد فتوي مضادة تمت صياغتها في صورة بيان صادر عن مجمع البحوث الاسلامية، و ذلك رغم تباين آراء الأعضاء و اختلافهم حول مدي شرعية بناء الجدار ما بين مؤيد و معارض، إلا إن شيخ الأزهر أعد هذه الفتوي قبل الاجتماع الشهري للمجمع والذي كان موعده يوم الخميس الماضي و كان مقررا فيه مناقشة موعد و موضوع المؤتمر الرابع عشر للمجمع عن الصحابة، كما حرص علي ان يقوم التلفزيون المصري بتصوير و إذاعة البيان الذي كان مطبوعا سلفًا قبل الاجتماع، كما وصل الي بعض الصحف قبل انعقاد الجلسة، و أكد البيان علي تأييد بناء الجدار وأن ذلك من الحقوق الشرعية لمصر و لحماية أمنها و حدودها و أن هذه الأنفاق المقامة تحت ارض رفح المصرية يتم من خلالها تهريب المخدرات وغيرها وهو ما يهدد أمن مصر ومصالحها، وان بناء الجدار عمل تأمر به الشريعة التي كفلت لكل دولة حقوقها وامنها.
ولم يكتف البيان بهذا، بل شن هجوما علي المعارضين لانشاء الجدار و وصفهم بانهم يخالفون ما أمرت به شريعة الاسلام. و اكتفي البيان المقتضب بذلك دون أن يشير من قريب او بعيد الي حقوق الفلسطينين أو ضرورة مساعدتهم و تخفيف الحصار عنهم.
و تعليقا علي هذا اشار الشيخ علي عبد الباقي امين عام المجمع الي ان البيان جاء مختصرا حتي لا يتم فتح جبهة للتناحر بين العلماء، وان الفتاوي المضادة تخدم اجندات سياسية للهجوم علي مصر، مضيفا انه كان الاولي بالمعارضين ان يوجهوا لومهم للفلسطينيين اصحاب القضية حتي يوحدوا كلمتهم متسائلا "أليس هؤلاء هم من افتوا بان الضابط المصرى الذى استشهد على الحدود ليس شهيدا؟"..
جدير بالذكر ان راديو اسرائيل اشاد ببيان مجمع البحوث الاسلامية فور صدوره وان عددا من اعضاء المجمع ابدوا اعتراضاتهم علي هذا البيان وعلي صياغته التي ركزت علي جانب واحد ولم تلتفت الي الجوانب الاخري الخاصة بنصرة الاخوة الفلسطينيين."
لكن عددا من علماء الأزهر، بينهم أعضاء في مجمع البحوث، أدانوا قرار بناء الجدار، معتبرين أن "هذا الجدار حرام شرعا لما يهدف إليه من حصار الأشقاء في قطاع غزة وسد كل المنافذ أمام القطاع للخروج من الحصار الإسرائيلي المفروض عليه منذ 3 سنوات من خلال إغلاق المعابر، بحيث منعت عنه أسباب الحياة من الغذاء والدواء والوقود وهو ما يعد نوعا من الضغط عليه لإلغاء المقاومة والقضاء على حماس".
وطالب العلماء، في بيان موقّع الحكومة المصرية بوقف بناء الجدار والاعتذار الرسمي لشعب غزة المحاصر.
ومن أبرز العلماء الموقعين على البيان العالم الأزهري محمد عبد الله الخطيب، و عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين و أستاذ الحديث بجامعة الأزهر عبد الرحمن البر، و أستاذ التفسير بجامعة الأزهر عبد الحي الفرماوي، و الأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية سابقًا و عضو مجلس الشعب المصري السيد عسكر، و عضو مجمع البحوث الإسلامية الشيخ محمد الراوي، و رئيس جبهة علماء الأزهر السابق الدكتور عبد المنعم البري، و عضو مجمع البحوث الإسلامية الدكتور مصطفى الشكعة ..
و هكذا تحول الأزهر و مجمع البحوث الإسلامية إلى "عزبة" يديرها فضيلة الإمام، فلا علماء المجمع استشيروا في البيان الذي صدر باسمهم، و لا هو راعى حرمة المسلم التي ينتهكها هذا الجدار، بتضييقه و خنقه لآخر أنفاس الحياة فيه، و مساعدة العدو ضده، و لا هو اتقى الله و قال كلمة الحق، بل كلمة السلطان ..
قالها كما قالها قبل ثمانمائة عام الفقيه الشافعي شهاب الدين إبراهيم المعروف بابن أبي الدم للملك الكامل محمد حفيد صلاح الدين الأيوبي، عندما أفتى له بجواز تسليم القدس للصليبين قائلاً: " فإن الإمام يجوز له تسليم بلد من البلاد الإسلامية إلى الكفار، إذا رأى في ترك التسليم لهم ضررا ظاهرا لا يمكن تلافيه" و العجيب أن الضرر "الذي لا يمكن تلافيه" هذا لم يكن إلا وهم يعشش بعقل صاحبه و سلطان صاحبه، فحملة الامبراطور فريدريك الثاني، المقصود بهذا الحديث، و المعروف في التاريخ الغربي بلقب "أعجوبة الدنيا" كانت أعجوبة بالفعل، إذ لم تتجاوز ستمائة فارس، لكنه اعتمادًا على خيانة الملك "الناقص" و فتوى ابن أبي الدم أخذ بيت المقدس دون قطرة دم .. حقًا، ما أشبه اليوم بالبارحة !
و يومًا بعد يوم يفقد الأزهر تلك المكانة التي جعلت منه قبلة الدارسين، و منارة من منارات العلم، ليتحول إلى بوق من أبواق السلطان .. بالطبع ليس منكم من ليس يذكر مصافحة شيخ الأزهر لإيهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل بحرارة و حميمية في الولايات المتحدة الأمريكية، و كأنهما أصدقاء قدامى، ثم اعتذاره عن هذا بحجة بلهاء؛ أنه لم يكن يعرف الرجل معرفة دقيقة !
أطرف ما قرأت تعليقًا على هذا البيان ما قاله أحدهم على أحد المواقع التي نقلت الخبر: " سؤال لشيخ الازهر: حضرتك رفضت تفتي بالمقاطعة و قلت اسالو وزير الاقتصاد ورفضت تفتي بالعدوان على غزة وقلت اسالو وزير الخارجية ورفضت تفتي وبالنسبة لغلاء الاسعار قلت اسالو وزير التموين .. اجيت عند الجدار وافتيت طيب ما تسال وزير التخطيط" !
و تعليقًا على هذا البيان، و تحت عنوان "عن لعب السياسة بالدين" قال أ/ فهمي هويدي: "على الهاتف قال لي المستشار أحمد مكي نائب رئيس محكمة النقض إن البيان نموذج لتلبيس الحق بالباطل، ذلك أن دفاعه عن إقامة الجدار يعني في ذات الوقت الدفاع عن تجويع الشعب الفلسطيني. وتلك جريمة لا يقرها شرع أو قانون أو عقل. وأضاف أن شيخ الأزهر وأعضاء مجمع البحوث يعرفون أكثر من غيرهم الحديث النبوي الذي ذكر أن امرأة دخلت النار في هرة (قطة) حبستها وجوعتها، الأمر الذي يطرح سؤالا كبيرا عن جزاء الذين يقومون بحصار وتجويع مليون ونصف المليون فلسطيني في غزة. وهو يختم قال إن بعض الممارسات التي تتم في البلد أصبحت تجعل الإنسان يخجل من انتمائه إلى مصر. وإزاء مثل هذا التلاعب بالمؤسسات والقيم الدينية يخشى أن يدفع البعض منا إلى الخجل من انتمائهم الديني."
و رغم قسوة الموقف، إلا أنني أنظر إليه كحادث الإفك؛ لا تحسبوه شرًا لكم بل خيرٌ لكم .. كما كشفت حادثة الإفك عن المنافقين، و نفر من المسلمين لا يتورعون عن رمي الرسول صلى الله عليه و سلم في عرضه، يزيل هذا الجدار ورقة التوت عن الكثيرين ..
يزيلها عن نظامنا الحاكم الميمون، و يكشف تورطه و تواطؤه، كما كشفته مواقف عدة قبل ذلك، و كيف أنه يسير بنا كي نصبح الولاية الثالثة و الخمسين من الولايات المتحدة الأمريكية ..
يزيلها عن أعضاء مجلس الشعب، الذي من المفترض فيهم أنهم الصفوة يمثلون الشعب في مجلسه، فإذا هم حفنة من الأوغاد الذين تحركهم الأوامر من أعلى، فيوافقون و يؤيدون و يصفقون للجدار، و يسبون من يعترض بأبيه و أمه و بدينه، رغم معارضة القاصي و الداني من الشعب الذي يمثلونه لهذا العار .. فليذهب الشعب إلى الدرك الأسفل من الجحيم ..
يزيلها عنا نحن أيضًا .. نحن من صمتنا و نصمت، و سنظل نصمت على كل هذا ..
الجدار سيكتمل .. هذا أمر ليس بمقدور أحد أن ينكره، فطالما كانت الولايات المتحدة هي من تقف وراءه، فكل اعتراضات العالم لن توقفهم .. إنه منطق القوة الذي يحكم عالمنا ..
لكن هذا لا يمنع أن نتكلم .. أن نتحرك .. تمامًا كما حدث مع أصحاب السبت، فرغم إيمان المؤمنين أن الله سيعذبهم، إلا أنهم واصلوا دعوتهم إلى الحق حتى يبرئوا ذمتهم و ساحتهم من ذنب السكوت على الباطل .. وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ..
الجدار سيكتمل، لكن هذا ليس بالتأكيد نهاية القصة ..

3.1.10

عرافـــة


دقات الساعة على حائط البيت المهجور
عرافة ٌ قالوا تصدق اذا قالت
أصغت لدقات قلبي قليلا
ثم تنهدت و عليّ مالت
همست في أذني بلا صوت أسمعه
و في عينيها دمع لست أراه
"ستموت"
-كلنا سيموت يا هذه..
-نعم، و لكنهم بعد سنين
أو بضعة شهور
أما أنت فبعد ساعة
اضطرب و أضحى كالمجنون
ما بين أصدقت أم كذبت
محتارا لا يدري ما يفعل
و الدقائق تمر..
حتى اكتملت ستونا
نظر في عقارب الساعة الرمادية
و قال
أضعت أخر ساعة من عمري
و من الحسرة مال
و سقط قتيلا
كانت كذبته
و كان هو من أصدق قولها

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar