الحلم التاسع - زواج مملوكي
بدأ الحلم بمشهد تكرر، و ما زال يتكرر كثيرًا هذه الأيام: أنا جالس إلى الحاسب أطالع كتابًا لأحمد خالد توفيق .. رأيتني أطالع صفحات من كتابه "الحافة" - و كان مما طالعت قبل أن أخلد للنوم - لكن الموضوع و المحتوى لم يكونا ينتميان بحال إلى هذا الكتاب .. الكتاب يتحدث في الأساس عن الأشخاص أو الأشياء التي هي على الحافة بين الخيال و الحقيقة، أو العلم و الأسطورة، لكن طقوس الزواج المملوكي ليست من هذه الفئة بكل تأكيد ..
أطالع كتاب الحافة، لأجد أن الصفحة المعروضة تتحدث عن طقوس الزواج المملوكي .. لا أذكر من المكتوب إلا جملة تقول: "و أبلغ مثال على هذه الطقوس هو ما عرضه فيلم ثورة المماليك" ..
عندما استيقظت أدركت إن فيلم "ثورة المماليك" هذا ليس سوى فيلم "المماليك" الذي شاهدته منذ أزمان، و هو فيلم قام ببطولته عمر الشريف، نبيلة عبيد، حسين رياض، و بطل حلم الليلة: عماد حمدي .. الفيلم يحكي قصة مشوهة عن ثورة المصريين ضد المماليك بعد عصور الاستبداد، مع كثير من البهارات الرومانسية، و الأحبة الذين فرقتهم يد الغدر، و الثوار، إلخ إلخ .. شاهدت الفيلم في عصر البله المغولي الذي كان يجلعني أصدق كل شيء و أنبهر بكل شيء، و قد شفيت منه و الحمد لله، لأنبهر بكل شيء و أصدق كل شيء و لكن بعد إعمال عقلي، و لست أدري ما الذي قفز بهذا الفيلم إلى سطح عقلي في هذا اليوم ..
لقطة من الفيلم احتلت النصف السفلي من الصفحة، اكتشفت بعد لحظة أنها ليست لقطة ثابتة، بل مشهد حي من الفيلم سرعان ما وجدت نفسي قد غصت فيه بحيث يحتل مجال رؤيتي تمامًا، لكنني لا أظهر فيه، بل أنا مشاهد عن كثب ليس إلا ..
المشهد الذي رأيته في حلمي كان له مقابل في الفيلم، إلا إن الشيء المشترك الوحيد بين الاثنين هو جو الحجرة المظلم المتوجس، و وقفة عماد حمدي - جزء منها في الواقع ..
هناك من يقابل عمر الشريف، و هناك من تقابل نبيلة عبيد في هذا المشهد الذي أراه في حلمي، لكنهما لا يماثلنهما في أي شيء، بل لقد بدا لي هذا الذي من المفترض أنه عمر الشريف قريبًا من الصورة ثلاثية الأبعاد لأمير فارس - لعبة الحاسب الشهيرة - و يكاد يكون جيك جلينهال الذي قام بدور أمير فارس في الفيلم الذي عرض الصيف الماضي .. أما شبيهة نبيلة عبيد فلا أدري عنها شيئًا، و لست أظنه يهم ..
يقف عدد من الحراس إلى حوائط الحجرة .. أستطيع أن أرى منهم ثلاثة يقفون في صلابة، و إن بدا عليهم فضول لمعرفة ما يجري، بينما هنالك في منتصف الحجرة ما يشبه منصة تقديم القرابين، وُضع عليها محرق هائل يطلق دخان البخور في غزارة و بلا انقطاع، و أمامه وقف عماد إلى يمين نبيلة و قد أحنيا رأسيهما قليلاً، و مد عماد ذراعه الأيسر في الهواء، و كذلك فعلت نبيلة بذراعها الأيمن، لتستقر على ذراعيهما لفافة من قماش أبيض مائل للصفرة ربطت بإحكام قرب طرفيها بشريطين رفيعين، و إلى جوار المحرق وقف الشريف بينما انطلق عماد في تلاوة شيء ما بلغة غامضة، و بصوت أقرب للتمتمة ..
نطق عمر بشيء ما، أظنه كان "ابتعدي من هنا"، فإذا بنبيلة تُقذف للخلف كأنما يد عملاقة قد انتزعتها و ألقتها، بينما واصل عماد تمتمته، و لم يتحرك إلا ليحفظ اللفافة من الوقوع ..
تراجعت نبيلة حتى ارتمت على أحد المقاعد القريبة في مظهرها من "الفوتيهات"، ثم وضعت كفها الأيمن على جبهتها متألمة، فانصهرت جبهتها و تكون تجوبف طولي، لكن العجيب أن ما بدا لم يكن لحمًا و عظمًا قد احترقا، بل كان أقرب إلى سبيكة من الرصاص صنعت فيها فجوة باستعمال لهب الأكسي-ستيلين .. في هذه اللحظة أبيض بؤبؤاها و بدت أشبه بإنسان آلي على وشك تدمير الكرة الأرضية ..
سألها عمر عن الساعة، فوضعت أطراف أصابعها في ذلك التجويف الذي تكون في جبهتها و أجابته، ثم سألته عن مصير عماد، الذي انتهى من تلاوته التي لا أعرف ماذا قال فيها، و تنبه أخيرًا إلى أن شيئًا ما خارج نطاق سيطرته يحدث ..
أجاب عمر، و هو ينظر إلى وجه عماد الذي اكتسى بتعبير عدم فهم و شيء من الخوف: "سيلقى مصيره المناسب" .. لحظة قوله هذا اقتربت الكاميرا - التي أرى بعينها - من وجه عمر، فبدت لي قسمات وجهه قاسية للغاية، منذرة بمصير أسود حالك السواد، و لا شيء أقل من ذلك .. لحظتها أيضًا تأكدت من انطباعي أن هذا هو أمير فارس ..
و كما يحدث في أفلام الخيال العلمي التي تتحدث عن الانتقال الآني، فيتطاول الشخص - كأنه قطعة من المطاط تُشد - مع خفوت تدريجي لصورته، يتبعهما اختفاءه ثم ظهوره في مشهد آخر بتتابع عكسي، حدث هذا مع عماد حمدي، فاختفى من المشهد، الذي تغير كلية ليحل محله مشهد آخر ينتمي إلى قصص الرعب التي تمتلأ بالتنانين و السحرة و رائحة العصور القديمة، و قد كان الأمر كذلك ..
المشهد مصبوغ بلون أحمر قان دموي، تستطيع تمييز الموجودات فيه بصعوبة، لكنني أستطيع تمييز سلسلة جبلية تملأ المشهد بأكمله .. يظهر فرس معلق في الهواء بطريقة الانتقال الآني ثم ظهر من بعده عماد بالطريقة ذاتها، لكنه امتطى الجواد بالمقلوب، و أطال النظر إلى ما ظنه كوكبة من الفرسان آتية تجاهه .. كانت هذه الكوكبة تنطلق من حيث أرى المشهد، لكن الفرس انطلق لا يلوي على شيء و كأنما رأى شيطانًا، لكنه لم يكن شيطانًا واحدًا، بل عدة شياطين ..
كانت مجموعة من التنانين الصغيرة، كأنما هي خفافيش متضخمة، برؤوس - أو بجماجم إن شئنا الدقة - آدمية .. انطلقت التنانين في أثر عماد، و انطلق هو لا يلوي على شيء .. وصل إلى كهف يهبط السقف فيه إلى حد مريع حتى يصنع ممرًا ضيقًا يكفي لمرور شخص واحد فحسب، فانطلق عماد، حتى إذا مر من هذا المضيق ارتفع حتى بلغ السقف، و ترك سرب التنانين ينطلق كسرب من النفاثات في خط مستقيم غير ملتفتين إلى ذلك الفارس في الأعلى، و لما اطمأن عماد أن التنانين قد تركته، عاد أدراجه ..
تغير المشهد، و أصبح يغطيه السواد فلا تدري له أرضًا من سماء، لكنني أميز البنايات و الناس يمشون عند مستوى معين، فأعرف أن هذا المستوى هو الأرض .. أنظر للمشهد كأنني من طائرة هيليكوبتر، و على المدى أرى عماد آتيَا طائرَا بفرسه يهبط إلى الجمع الذي ينتظره، و الذي ألمح فيه عددَا من التنانين قد تخفى في هيئة بشر، لكن بلون أخضر مميز، و قد اتضح لي خطأ هذا الانطباع في اللحظة التالية ..
هبط عماد إلى الأرض وسط ترحيب الجميع، و انتظارهم له في الواقع، لاكتشف أن هؤلاء هم نواة الانتفاضة الفلسطينية القادمة، و أننا في عام 2111 أو شيء قريب من هذا التاريخ ..
استيقظت من النوم و الجميع يشد على يد عماد مؤازرًا .. استيقظت من النوم مطمئنًا أن الانتفاضة الفلسطينية في أيد أمينة ..
23.10.10
أحلام الفتى الدائخ - الحلم التاسع
24.9.10
إحنا ع التلافزيون يا رجالة !
رغم إن عدد مشاهدي القناة لا يتجاوز عدد معدي البرامج فيها بالإضافة إلى ضيوفها، إلا أن لذة الشعور بالظهور على الشاشة الفضية الصغيرة ليس لها مثيل .. ليس لدي الكثير لأقوله، اللهم إلا دعوتي إياكم أن تشاركونا هذه اللذة علّ هذا يجعلها أضعافًا مضاعفة ..
23.9.10
أكاد ابكي ، و لكن
لست أدرك ما الذي دفعني لأكتب هذا ، و لست أدري ما الذي منحني الشجاعة لأكتبه .. و لأول مرة أكتب و بداخلي أمنية أن لا أتلقى ردا .. لأن أي رد قد يؤثر في ما أفكر به ، قد يدفع قاربي باتجاه احدى تلك الامواج المتلاطمة من الأفكار التي أخذت تملأ رأسي فجأة .. بل ربما اني أكتب هذا لأني بانتظار رد يؤنبني ، أو رد يساندني .. لست ادري شيئا سوى انني أكتب هذا الان .. أفرغ شيئا فشيئا مما يمتلأ به عقلي من أفكار ، أكتب و بداخلي هذا الشعور الذي يجعلك تريد أن تبكي .. لا بكاء ألم و لا بكاء حزن ، و حتما ليس بكاء فرح و سرور .. ذلك الشعور الذي يطغى عليك و يملأ نفسك فتبكي دون أن تدرك لم تبكي ، و لم ترتاح نفسك و تشعر بانك نزعت - و لو مؤقتا - عن نفسك رداءا كان يثقل كاهليك .. بداخلي هذا الشعور و يملأني ، و لكني لا أبكي .. أنا لم أبك منذ فترة طالت حتى نسيت ما البكاء و كيف هو ، لا أعرف لهذا سببا ، ربما لم أعد أستطيع أن أبكي لأن قلبي تحجر ، و لكن اذا كان تحجر فما هذا الشعور الذي يجتاحني بين حين و اخر فيزلزلني و يكاد يبلغ عيني .. و ربما عجزي عن البكاء لأدراكي أنني لم أعد ذلك الشخص النقي الذي كنت و الذي يتحمل من الدنيا أذاها حتى لا يجد سوى البكاء مفرا ، ربما عجزي عن البكاء ليس عجزا في حقيقته و انما عو عدم رغبة في البكاء ، لأنني ان بكيت فقد ضعفت .. و نفسي تنكر هذا الضعف و تأباه ، اما لأنها لا تزال على نحو ما تلك النفس جميلة الصفات التي عرفتها يوما ما فتخشى أن تضعف فتتحول عما هي عليه الى وحشية العالم الذي يحيط بها ، و اما ان هذا الضعف هو ندم عما أصبحت عليه بعد انقلابها الى أنانية مفرطة و تبلد احساس ، و هذا الندم سيذكرني بما كنت عليه فأعقد المقارنات بين هذا الذي كان و ذا الذي أصبحت عليه فيزيد ألمي ، بل ربما ليس هذا أو ذاك و لكني أرفض البكاء لكي أعاقب نفسي على ما أصبحت عليه ، فالبكاء راحة .. و ذلك الذي أصبحته من وجهة نظري لا يستحق تلك الراحة و الطمأنينة .. يزيدني التفكير ألما و أكاد أختنق ، يتزايد هذا الشعور بداخلي ، يجتاحني كاعصار يهدم ما بقي من اسوار بيني و بين تلك الدموع ، و لكن ما ان تترقرق عيناي بها حتى تتجمد فجأة أو تختفي .. يهيأ الي أحيانا أنها تمتنع ، و أحيانا أخرى أني أمتعها ، يعيدني هذا للحلقة التي كنت أدور بها ، أحاول الهرب لعالم أفتراضي أجده في مشاهدة مسلسل أو فيلم ما .. أو لعبة .. أتوه في هذا العالم ناسيا أو بالأحرى متناسيا ما أنا عليه حقا ، حتى اني أكاد أبتسم ، و اما أني أجدها هي أيضا تذبل قبل أن تبلغ شفتي ، أو أجد انها تصل مكذوبة ، غير حقيقية .. ليست في صوتها أو تأثيرها كما كانت ابتساماتي أو ضحكاتي تفعل من قبل .. لا أجدها تغسل روحي من ألامها فكأنما تشرق الشمس من جديد تنير نفسي و تجهزني لاستقبال جرعات جديدة من أحزان الحياة ، أيا كان ما يحدث فان الامر ينتهي بانكار هذه البسمة ، اما انكارها حق الوجود ، و اما انكار صدقها .. و اما انكار أحقيتي بها ، فأعود الى حيث كنت ، لنفس التساؤلات مع اختلاف بسيط و هو لم لا أضحك بدلا أن كان لم لا أبك ، أعجز؟ أرفض بداخلي؟ أعقاب لنفسي ؟ تتسارع الأفكار فلا أجد الا مهربا واحدا .. هو أن أدع كل هذا خلفي ، فلا أفكر فيه ، و أن أتعلم كيف أتظاهر ، أتظاهر بالضحك عندما يتطلب الموقف هذا ، و أتظاهر أيضا بالحزن عندما يكون الموقف حزينا .. مع الوقت أبرع في هذا التظاهر حتى اني أبدا بالتظاهر بمشاعر أخرى ، شيئا فشيئا أتحول الى انسان قادر على التعبير عن جميع المشاعر دون أن يشعر بها في الحقيقة ، و كأن لي مجموعة من الأقنعة ، كل يلائم موقفا .. أضعها عند الحاجة و أنزعها اذا ما انتهيت من حاجتي اليها ، يزداد الامر سوءا ، فبينما أستعمل هذه الاقنعة واحدا تلو الأخر ، أكتشف أني فقدت وجهي ، و أني حتى اذا حدث فيما ندر أن شعرت بشيء فلا أستطيع التعبير عنه ، فأضطر لأستعارة الاقنعة أستر بها وجهي ، أو بالأصح أستبدل بها وجهي الذي فقدت .. يزداد سخطي على ما وصلت اليه و على أقنعتي فتبدأ اقنعتي بالسخط على بدورها و الرحيل عني ، فأجد نفسي حتى و ان أحسست بشيء بما تبقى من ادميتي و استعرت قناعا لأعبر به عما أشعر به ، يزول القناع سريعا .. فربما قال صديق لي شيئا أضحكني و ابدأ بالضحك ، و فجأة تلتصق شفتاي و يتجمد وجهي و كانما تجمد ذلك الاحساس فجأة أو كانما سقط عني قناعي فاضحا اياي ، أمل ما أصبحت عليه ، و اذكر نفسي التي كنتها ، كالطفل البريء لا يغش و لا ينافق ، ما تراه الاعين هو انعكاس لما بداخلها .. يعود الشعور و يغمرني أكثر و تعود الدمعة تحاول ان تمر لتنهي صراعي فلا يحدث و أعود للتفكير ، و كأني أعيد ما كتبت ، و هكذا دواليك حتى أفكر أنه ماذا لو مت ، أتخيل ما سيقول الناس عني ، هل سيذكروني بالخير ، تجيبني نفسي بنعم و لا ، و كلاهما يزيدني رغبة في البكاء .. نعم تبكيني لأني أدرك في قرارة نفسي أنني لا أستحق بكاءهم ، و أني خدعت حتى أولئك الذين أحبوني و لطالما اهتموا لأمري بأقنعتي الزائفة .. أما لا فتبكيني لأني أدرك أني أستحق هذا العقاب على الطريق الذي سلكت لأنتهي بفقداني لي ، أريد أن أبكي ، و الموت أشد ما يبكي المرء ، فما بالك اذا كان موتي أنا .. ولكني لازلت لا أستطيع ، أحاول أن أتغاضى عن الأمر بالضحك فلا أستطيع ، أفكر مرة اخرى ، و اخرى ، و أخرى .. و بداخلي بكاء أبكم ، ونحيب صامت ، و دموع تموت قبل ميلادها ، و على وجهي بقايا أقنعة بالية قد افتضح أمرها .. لأنظر في المراة فلا أجد أحدا .. فأحزن و أبدأ مرة أخرى بالتفكير ..
13.9.10
سواد قدام
لأ مش باهلفط بالكلام
10.9.10
أحلام الفتى الدائخ - الحلم الثامن
هذا واحد من الأحلام التي تمنيت كثيرًا أن استيقظ فلا أكملها، لكنني على العكس من البعض الذين يدّعون استطاعتهم إنهاء الحلم في منتصفه إذا لم يعجبهم .. أنا على العكس منهم؛ إذ لا استطيع إلا أن أكمله و لا استيثقظ إلا إذا انتهى أو أيقظني مؤثر خارجي ..
بداية الحلم كانت شخصية، و مترتبة على آخر ما تحدثنا فيه أنا و أسرتي قبل أن أنام .. حديث عن قطعة أرض من ميراث جدي يرحمه الله و صراع مرير بين الوارثين من أجل لا شيء و بلا داع سوى جشع الإنسان اللامحدود للمال و رغبة البعض و عشقهم لأكل المال الحرام ..
كنت أقف كواحد من الوارثين مع بقيتهم على قطعة الأرض المتنازع عليها .. كنا واقفين بجمود و في أوضاع مسرحية، و لو شئت الدقة لقلت إننا كنا نقف كأننا سنلتقط صورة لملصق فيلم سينمائي من فئة أفلام الحروب والأساطير، حيث تُلتقط الصورة من زاوية سفلية تعطي إحساسًا بعظم الحجم، و بالتالي عظم المكانة، بالإضافة إلى قليل من الدوران اليسير يمنة أو يسرة و رفع الرأس لإعطاء إحساس عام بالهيبة .. كنا نقف في جمود مستفز، أدركت بعد استيقاظي أنه تعبير عن حالة اللاسلم و اللاحرب التي تحيط بهذا الإرث .. على أية حال، فجمودنا هذا لم يستمر ..
فوجئت باثنين من أصدقائي يقفان بلباس فلاحيّ - أحدهما على الأقل على قدر ما أذكر - و قد استقطعا قطعة من الأرض على شكل حرف T و يريدان أن يمداها بالماء، و لست أدري ما العلاقة، لكنني استندت إلى وجودهم لإقرار حقي المشروع في هذه الأرض، لكن الأمور سريعًا ما انقلبت بوصول فيروز - الممثلة لا المطربة - التي اكتشفت أنها كانت من أصدقاء جدي الآخر - و ليس صاحب الأرض - و قد أتت لتدلي بدلوها في الأمر بصحبة سائقها النوبي .. العجيب في الأمر أنها كانت بالأبيض و الأسود، فيما كنا جميعًا بالألوان، حتى سيارتها كانت من طراز الخمسينات على أقل تقدير ..
و على الرغم من شعوري عندما جاءت بأن الموقف قد تعقد، فإن هذا الشعور انقلب فجأة إلى الضد، لكنه لم يدم كثيرًا، إذ خيّم الليل سريعًا و لم نصل إلى شيء، و انطلقت مكتئبًا أريد أن أروّح عن نفسي ..
هنالك شارع ما، لست أدري موقعه على الأرض تحديدًا، لكنه يتكرر كثيرًا في أحلامي .. نفس التقاطع و الميدان و الإشارات المرورية، لكن ما يختلف من مرة لأخرى هي ما يحيط بهذا الشارع من مبان و عقارات .. هذه المرة كانت مساحات شاسعة من الفراغ تتناثر فيها مبان متفرقة أشبه بالقصور و المنتجعات، و لسبب ما - ربما يتعلق بالإرث - كان هذا المكان هو منطقة العجمي بالإسكندرية ..
أسير مهمومًا و الليل البهيم فوق رأسي يغلفني، و النجوم ساطعة؛ إذ لا توجد مصابيح للإضاءة إلا النذر اليسير، لكنها كافية برغم كل شيء أن أرى كل شيء بوضوح .. أسير شاعرًا ببرودة في جسدي فسرتها بسيري ليلاً مرتديًا ملابس خفيفة للغاية، و أدركت عند استيقاظي أن هذا كان بسبب تحرري من أغلب ملابسي قبل نومي، مع نسيم المروحة الممتزج بنسائم باردة آتية من الشرفة المفتوحة .. أسير و أرفع رأسي للسماء متأملاً، فأرى مذنبًا - أو هكذا ظننته في البداية - يلتمع في السماء يحيط به عدد من الشهب التي كانت تسير في مسارات دائرية كأنها تشكيل من الطائرات يؤدي عرضًا عسكريًا لا شهبًا تحترق في طبقات الجو العليا، ثم اختفى كل شيء ..
أخذت أفكر قائلاً: "عجبًا لهذا المذنب ! يقطع آلاف و ملايين الكيلومترات ثم يأتي ليحترق ها هنا، فأي أمر عجيب هذا !" .. أفكر في هذا بينما أسير متوجهًا إلى إحدى دور السينما، في سابقة لم تحدث من قبل، و لا أظنها ستحدث أبدًا .. أفكر في هذا و استمع إلى حديث اثنين حول النيازك التي ستهبط إلى الأرض، فاسترجع مشهد المذنب الذي رأيته منذ لحظات و استرجع معلوماتي عن المذنبات، لاكتشف أنهم على حق .. هذا ليس مذنبًا، بل نيزك ضخم يهبط إلينا بسرعة جنونية ..
اصبحت أمام السينما، فسمعت جلبة التفت لمصدرها لأجد أنه النيزك الذي أصبح فوق رأسي تقريبًا، فأخفضها لأجده يقع فوق السينما فيحيلها ترابًا و أنقاضًا في لحظة، و كأنها ضغط زر Delete أو ربما Shift + Delete ..
ثم توالت النيازك ..
استحالت السماء حمراء كالدم، لكنه دم قان سرعان ما اكتسى بصفرة النيران البرتقالية فأخذ طابعًا مقبضًا يشعرك بدنو أجلك .. لحظتها تمنيت بحق أن استيقظ، لكنني لم استطع .. النيازك تتوالى و الكل يجري بعيدًا عنها و عن مواقع سقوطها ..
النيازك تسقط بزاوية حادة صانعة ذيلاً عظيمًا من الدخان الأسود الممتزج ببرتقالية النيران التي تشتعل في جو السماء فيذكرك بمشهد انفجار القنابل النووية المحدودة، و الارتجاجات الأرضية تفقد الناس توازنهم فيتخبطون في جريهم الهلوع الملئ بصرخات الفزع و الرعب، بينما أجري أنا صامتًا كأنني قد أخرست ..
على غير توقع أجد أختي الصغرى تجري إلى جواري، و لا أدري تحديدًا ما أتى بها إلى هنا، لكنني آخذها في كنفي و نجري سويًا في الأرض المفتوحة منطلقين بعيدًا عن مواقع سقوط النيازك التي صنعت فوهات هائلة خلفنا جعلت الرجوع مستحيلاً .. أسمع أحدهم يقول "هرمجدون"، أو لعله نطقها بالإنجليزية Armageddon مشيرًا إلى الاعتقاد الغربي أن معركة آخر الزمان ستنتهي بكارثة تسقط فيها المذنبات تباعًا لتنهي الحياة على الأرض قبل أن تقوم القيامة .. حقيقة، و بعيدًا عن كل هذا الذي يحيط باللفظ من روايات و حكايات، فإن وقع الكلمة ممتزجًا مع ما شاهدت كان مروعًا بحق ..
على حين غرة يسقط نيزك في اتجاه معاكس لكل النيازك ليصطدم بمحطة وقود نبتت من العدم، كأنما نبتت لتصطدم بالنيزك تحديدًا، و دوى انفجار مروع ليجد الجميع - بما فيهم أنا و أختي - أننا قد حوصرنا بين السقوط المتوالي للنيازك و بين هذا الانفجار الذي أطح بمقدمة الصفوف الهاربة ..
وجدت نفسي دون وعي أعلق على سقوط هذا النيزك خارج السرب: "أي سخف هذا !" .. واصلت الجري للحظات بعد أن غيرت اتجاه الركض، لكنني استيقظت و لست أدري تحديدًا إلام أنتهت الأمور، و لست أريد العودة كي أعرف ..
9.9.10
أستقــيل
فاقبلي أرجوك دون أستبيان اسبابي
لا تزيدي من عذابي
تقولين لم أحبك ، فما أقساك
و أنا حياتي في ذكراك
طفولتي هي اذا ابتسمت شفتاك
تحملان دنيا ورود بلا أشواك
و صباي ابتدا بعشقي اياك
و تمرد نبض قلبي عند لقياك
و تعثر خطاي و جمود أنفاسي
و تيهي بين ألف احساس
و تلعثم لساني اذا ما ناجاك
و رجولتي .. عرفتها في خوفي عليك
و احمرار و جنتيك
ان زل اللسان بقولي: ملاكي
و غيرتك اذا حادثت امرأة سواك
و التماع عينيك لرؤياي
و اشراقة وجهك كالنجوم للقياي
و بك عرفت أبوتي
في رعايتي لك كطفلتي
و خشيتي عليك حتى من محبتي
و افراطي في تدليلك
و سهري كي يطمئن ليلك
و اكتمال دنياي بك
أذكر كل ذا و أخشى فقدانك
فأستقيل من هواك و من حياتي
أستقيل و أعرف في الرحيل مماتي
أستقيل و أعرف اني لن انسى
و لكن الحياة دونك أقسى
من الموت على هواك
14.8.10
أحلام الفتى الدائخ - الحلم السابع
الحلم السابع - شيء ما في سوق زنانيري
كي تحسن تصور ما سأحكيه، سابدأ روايتي ببعض التفاصيل الجغرافية .. شارع أبي قير، أو طريق الحرية، هو من الشوارع الرئيسة في الإسكندرية، و هو مواز في أغلب الأحيان لشريط الترام .. عند محطة ترام كليوباترا هنالك شارع طويل يصل ما بين شريط الترام و شارع أبي قير، ليتقاطع مع شريط الترام ثم يكمل المسيرة حتى يصل بك إلى أول شارع السوق - سوق زنانيري - حيث تبدأ أحداث الحلم ..
كنت عائدًا من السوق، و الظلام حولي يقول إني في منتصف الليل أو أبعد، و أحمل بيدي كيسين بلاستيكيين لا أدري ما محتواهما، لكنهما ثقيلان بما يكفي ليمنعا يداي من التحرك بحرية، و يبقيانهما في وضع التدلي دائمًا .. أسير، بينما على البعد أجد مخبولاً كلاسيكيًا من أولئك الهائمين على وجوههم في الطرقات؛ شعر منكوش أكرت مليء بالقاذورات، و سروال قصير يكشف عن ساقين مشعرتين قذرتين، و أسنان مهشمة صفراء، و كلام غير مترابط البتة ..
يحاول هذا المخبول مضايقتي، و ينجح بشكل مستفز، بينما أنا عاجز عن رده لما في يداي، ثم أفاجيء بحائط بشري أبلغ أنا - بقامتي التي تقترب من المترين إلا ربعًا - ركبتيه بشق الأنفس .. أفاجيء بهذا الحائط البشري يعزله عني، و يمنعه أن يصل إليّ، فأتقوّى و أصرخ فيه كي يرحل، فيرحل بالفعل، بينما فتاة صغيرة تناوشه و تجري ضاحكة ..
ما زلنا نسير بلا توقف، لنعبر جميعنا - أنا و الحائط و الفتاة و المخبول - شريط الترام، لكن المخبول يسبقنا و يختفي، بينما أبطئ أنا المسير قليلاً لأجد أن الحائط البشري و الفتاة قد اختفيا أيضًا ..
يعود المخبول ممتطيًا كتفي أجدهم، الذي يبدو من ملابسه أنه من "معلمي الوكالة"، و يشير إلى لافتة حانوت شهير يقع على شريط الترام صارخًا: "انظر .. إنه limbster" و هي الكلمة التي كانت مكتوبة على اللافتة، لاكتشف أن حانوتًا آخر حل محل هذا الحانوت الشهير، و ليس مشتركًا بينهما سوى المكان ..
لا أملك تفسير هذا، لكن كلمة limbster هذه تعني - في الحلم على الأقل - الجزار، و هكذا تحول حانوت الألبان - و هذا هو الحال في الواقع - إلى جزارة يتجه إليها هذا المخبول محاولاً، فيما يبدو، أن يسطو عليها، فأركض محاولاً إيقاف هذه المهزلة ..
أدخل الحانوت لأكتشف أنه يبيع عملات معدنية قديمة و حديثة، و هنالك شخص ظننته مالك الحانوت يجلس بقرب الباب و ينظر في لامبالاة مستفزة إلى ذلك المخبول و هو يفرغ أحد الصناديق مما بها من عملات ذهبية، أكتشفت أنها من فئة السنت الأمريكي، لكنها أضخم بكثير و تكاد تقارب حجمًا ريال السلطان حسين أو أكبر قليلاً، و مصكوكة من الذهب ..
و لأنني من مدمني جمع العملات، فإن لعابي قد سال لمرأى هذه العملات النادرة و العجيبة، فغرفت بيدي بعضًا منها، و وضعته في جيبي، لكن على ما يبدو فإن ضميري قد وخزني، فأعدت هذه العملات إلى صندوق آخر، كل هذا و ذا الرجل ينظر إلينا جميعًا - أنا و المخبول و آخرون لا أدري ماذا يفعلون تحديدًا في الحانوت - نظرة لامبالاة مستفزة ..
أعدت الصندوق لصاحب الحانوت، لأفاجئ بالرجل قد انقلب هذا المخبول، أما الرجل نفسه فلا أدري أين ذهب، فأطبقت يداي على عنقه و التفت إلى الجانب الآخر - حيث كان هذا المخبول منذ دقائق، و حيث كان يفتح الصناديق يفرغ ما فيها - لأفاجئ بملكة إنجلترا تمسك بكتاب يتحدث عن أسطورة الملك آرثر و فرسان المائدة المستديرة، و السيف المسحور الذي كان مغروسًا في صخرة، و قد أخذت هذا الكتاب من أحد الأرفف التي لم تكن موجودة من قبل، لكنني لم أهتم بهذه النقطة كثيرًا ..
أخرجت الملكة السيف المسحور من قلب الكتاب، و تأملته .. كان سيفًا ذهبيًا ليس فيه ما يميزه سوى لونه، لكنه كان صغيرًا ليحمل لقب سيف، و شعرت أن خنجر هي اللفظة الأدق لتصفه .. تحدثت إلى الملكة قائلاً، و لم أزل ممسكًا بالمخبول: Your Majesty, The Avillon ..
هذا الـ Avillon كنت أعني به السيف و الكتاب معًا، و إن كنت أشير للسيف بصورة خاصة، و هو شيء تعجبت منه، إذ أنني أعرف الاسم الحقيقي لهذا السيف، و هو Excalibur، لكنني بعدما استيقظت رجحت أني قلت هذا لأنها كانت الكلمة ذاتها التي وُضعت عنوانًا للكتاب التي كانت الملكة تمسك به ..
أعطتني السيف و الكتاب، فأمسكت السيف بشمالي التي كانت حرة، بينما اليمنى تمسك المخبول، و أشرت للكتاب فتجمد في مكانه معلقًا في الهواء، ثم مزقته فتاتًا صغيرة بالسيف، و لم يزل بعد معلقًا في الهواء، ثم استدرت بالسيف و أطلقت صيحة بطولية - لست أدري ما جدواها - و أغمدت السيف حتى مقبضه في صدر المخبول، و أنا أشرح ما يحدث للجمع الواقف ينظر إليّ في جمود، و ملخص شرحي أن تفتيت الكتاب كان هو الطريقة الوحيدة للقضاء على هذا المخبول قبل أن يفعل شيئًا ما لست أذكره، و لا أظن أنني ذكرته في شرحي، لكنه كان سيفعله ..
أشرت للكتاب بيسراي التي عادت حرة مرة أخرى .. أشرت له براحتى اليسرى كلها فعاد كما كان بعد أن كان مفتتًا، و ابتسمت للملكة - على قدر ما أذكر - ثم استيقظت ..
11.8.10
أحلام الفتى الدائخ - الحلم السادس
الحلم السادس - الملك الذي عاد
بداية الحلم هذه المرة كانت مشوشة، و أشبه بفيلم يحاول فيه المخرج الإيحاء بالفوضى العارمة، عن طريق المونتاج المتقاطع و الزوايا غير المستقرة و البعيدة عن بؤرة الحدث، لكن ملخص ما أذكره هو أن مؤامرة قد حيكت ضد جلالة الملك - الذي لا أعرفه و لست أدري في أي مملكة أو كوكب هو - و أن ابنه قد وقع في يد أحد أمناء القصر الذي تعهده بالرعاية حتى يدبر له طريقة للهرب .. ابنه هذا رضيع في الواقع، و تهريبه كان عن طريق ماموث فضائي حمله لواحدة من الممالك الحليفة لمملكة أبيه الموجودة على كوكب آخر، و التي كانت - لسوء حظه - في حرب طاحنة مع أحد أعدائها ..
يتغير المشهد حيث أراني أسير جوار أحد أصدقائي الذي يعرفه الجميع بعدو المرأة، فإذا به يسير إلى جوار فتاتين حسناوتين يتحدث إلى إحديهما بشيء من الاهتمام، و لست أدري حقًا ما أتى بي أو به داخل هذه القصة التي لا ناقة لنا فيها و لا جمل، اللهم إلا أنني أشاهدها، لكنني و لسبب ما أقرر أنا أن أسير على يديّ ممسكًا بالسور الحديدي الأملس الذي نجلس عليه - أنا و صديقي و فتاتيه - فانطلق حتى أصل لتلك المملكة التي وصل إليها الأمير الرضيع، لأجد أسدًا مدرعًا يعلو ظهره قوس عظيم و سهام، كذلك القوس الذي كان القدماء يصنعونه في الحروب ليطلقوا به الحراب العظيمة، محاكين في ذلك المنجنيق .. قوس عظيم و سهام على ظهره، و يقف إلى جواره ذلك الماموث الذي نقل الأمير الرضيع في البدء، و يتناقشون في مصير هذا الرضيع، الذي يجب أن يعود ليستعيد ملكه، و الطريق إلى هذا يجب أن يمر بانتصار حلفائه على أعدائهم حتى يساعدوه على أعدائه ..
ثم يتغير المشهد مرة أخرى فأجد أنني في وسط ساحة فارغة إلا من مادة الوجود و مادة العدم، اللتان تستعملهما المملكة الحليفة في حربها ضد أعدائها، و يستخدمهما أعداؤهم كذلك، و هاتان المادتان تشبهان الحجارة إلا أنهما تتفتام إلى أجزاء صغيرة سوداء يتحكم فيها الطرفان ليوجها بها الضربات ..
أجدني منخرطًا في التحكم في مادة الوجود، و أحاول السيطرة على مادة العدم التي ينفلت عقالها كل حين، فيما يتصارع الفريقان عن طريق التحكم في المادتين، ثم انسحب أنا شيئًا فشيئًا، و استيقظ، و لست أدري أعاد الملك أم لا ..
21.7.10
الذهب الأحمر - تابع الفصل الثالث
السيوف، و الدم، و أرواحهم التي قد يخسرونها في أية لحظة .. ربما يتشكك روك أو رين في را، لكنها لا يمكن أن تفعل .. هي معجبة به، و لا تنكر هذا، لكن الإعجاب ليس السبب الوحيد لدفع الشك تجاه را عن نفسها ..
غالب الأمر أنه إحساس الأنثى .. مجرد إحساس أن را يحمل لهم لا عليهم، و أن شيئًا عظيمًا سيجنونه من ورائه، و أن هذا الشيء لهم فيه خير عظيم ..
إحساس الأنثى الذي أبقاهم على قيد الحياة اثني عشرة عامًا، عندما أشارت على رين أن يشتريا هذه الحانة بما تبقى لهم من كرونكات تركها لهم والدهم – قبل أن يرحل و يفروا – و أن يستقرا فيها متخفين، فأفضل مكان للاختباء – كما تقول دومًا – هو أبرز الأماكن و أقربها لعدوك ..
نادت فتاة المطعم كي تأخذ طبق الحساء للزبائن، و لم تكد تنهي نداءها، حتى فوجئت برين يأتيها قلقًا، و التوجس و الخوف يرسمان خطوطًا عميقة على وجهه، و انتقل لها خوفه و توجسه فبادرته بالسؤال:
- أي مصيبة حفرت نفسها في وجهك يا رين ؟
أجاب و هو يفرك يديه كعادته كلما استبد به القلق:
- حملة جديدة ..
ألقى الكلمة كالحجر في بئر، فأجفلت منها و قالت و الكلمات تخرج من فمها تجر بعضها جرًا:
- أي حملة .. و لأي سبب ؟
- يقولون إن أحدهم اقتحم القصر و فر، و هم يبحثون عنه ..
- تبًا لأولئك الأشقياء ..
قالتها واضعة يدها على جبهتها من صداع مفاجئ ألم بها ثم أكملت:
- و ماذا ستفعل ؟
- كالمعتاد .. لقد سأمت هذا، لكن لا حل أمامنا سواه ..
لفت جسدها بهذا الثوب المهلهل الذي اصطلحت أن تسميه معطفًا، و غطت رأسها بما اتصل بالمعطف من غطاء للرأس، ثم توجهت بصحبة رين إلى الحانة كي ينهوا الأمر كما اعتادوا دومًا: بعض الدلال الأنثوي و قليل من الكرونكات، و ينتهي كل شيء ..
إلا أن كل شيء كان قد حدث قبل أن يصلا إلى باحة الحانة، ليفاجآ بالضجة تملأ الأجواء و تصم الآذان و حارسان يقتادان واحدًا من الرواد تحت وابل من الشتائم و الصفعات و الركلات، فيما عقدت المفاجأة لسان غاريتا و رين، فهذه هي المرة الأولى – تقريبًا – التي يتطور فيها الأمر إلى اعتقال أحد الزبائن .. لقد جن جنون القصر حقًا ..
سأل رين أقرب الجالسين:
- ماذا فعل ابن الغبية هذا ؟
هز الرجل رأسه أسفًا و أشار بيده بحركة تحمل المعنى ذاته، قبل أن يجيب:
- سب الملك علنًا .. قال إن أموره الخاصة لا تعنينا في شيء، و إنه يجب أن يكون أكثر حرصًا عن أن يكون أكثر نفيرًا ..
أشار رين إلى غاريتا أن تدخل، ففعلت، بينما ظل هو ساهم ينظر إلى الأرض نظرة ملؤها الفراغ، و عقله يعمل بكل طاقته كي يجد تفسيرًا واحدًا مقنعًا لهذه الجملة التي لم يسبق أن فكر أحد في أن يفكر فيها .. ثمة شيء غير عادي دار برأس هذا المأفون فقال ما قال، لكنها بالطبع ليست الخمر .. الجعة تفعل الأفاعيل برأس البشر، لكنها لا تحيلهم أغبياء ..
زفر في ضيق، ثم تبع أخته إلى الداخل، فيما أعاد صبية الحانة ترتيب المكان ..
- أريدك أن تخبريني الحقيقة يا نارزا .. أنت من ربيتي را، و لربما تقضين معه من الوقت أكثر مما أقضي .. أصدقيني الحديث ..
- بالطبع يا مولاتي .. سلي ما شئتي، فأنا رهن بنانك ..
- أقسمي أن تقولي الحق ..
و دون مقدمات استحال قلب نارزا قلب عدّاء قطع ما بين السدين الأعظمين دون راحة، حتى شعرت بدقاته تدوي في أذنيها كالطبول، قبل أن تجيب:
- أقسم أن أقول الحق و لا شيء إلا الحق يا مولاتي ..
استبد بها الرعب أن تكون جلالتها قد كشفت شيئًا عن نزول را إلى الغوغاء، لكن الملكة قالت:
- أيحب را إحداهن ؟ .. هل هنالك فتاة تشغل باله ؟
لو كان باستطاعتها، لزفرت و أراحت جسدها و أبدت كل ما يبديه المرء من علامات للارتياح، لكنها خشيت أن تشك فيها الملكة، فقالت دون إبطاء:
- لم يصارحني بشيء كهذا، و لم ألاحظ عليه التفكير في واحدة بعينها ..
أومأت الملكة برأسها دون أن تجيب، ما دفع نارزا أن تسألها:
- لو أذنت لي مولاتي أن أعرف سبب السؤال ..
واصلت الملكة صمتها للحظة قبل أن تجيب:
- يبدو مشغول البال دومًا .. ليس صافي الذهن كما كان .. ليس حاضر البديهة كما كان .. هنالك خطب ما قد ألمّ به ..
- لعلها شئون الحكم يا مولاتي .. سمو الأمير قد عاد لتوه من رحلة هامة خارج البلاد، و لعله مشغول بما فيها ..
- لقد بدأ الأمر قبل الرحلة بفترة قصيرة .. ليس هذا هو الأمر ..
بالطبع ليس هذا هو الأمر .. فرا مشغول بالغوغاء حتى النخاع .. عالم جديد يستكشفه للمرة الأولى، و يبدو أنه سيكون استكشافًا حتى الأعماق ..
همت نارزا أن تقول شيئًا، لكنها لم تستطع؛ إذ سمعت طرقًا على الباب أعقبه دخول را قائلاً:
- أأنت هنا ؟ .. لقد بحثت عنك طويلاً يا نانا ..
- إنما طلبتني جلالتها، و ليس لي إلا الإجابة ..
- فهل تأذن مولاتي أن آخذ مربيتي حتى أتحدث إليها ؟
قامت الملكة عن مجلسها و هي تقول:
- لم نكد نغلق ما بدأنا بشأنك ..
- بشأني ؟ .. علّه خير يا أماه ..
- أتمنى هذا ..
صدمته كلمتها .. أتمنى ؟! .. لقد أفلت بأعجوبة مما حدث بشأن تسلله إلى القصر، و أمه تتحدث عن شيء بشأنه "تتمنى" أن يكون خيرًا ؟!
- فهل لي أن أعرف، علّي أثلج صدرك ..
- ستراوغ ..
- أنت من علمتيني المراوغة، و لست أظنني سأتفوق عليك في هذا المضمار ..
- إذن ..
ثم صمتت قليلاً كأنما ترتب الكلمات في رأسها، ثم قالت:
- أتحب يا را ؟
هم بإطلاق ضحكة عالية مجلجلة، لكنه كتمها و كتم أنفاسه عندما تابعت سؤالها:
- أم أن زياراتك للغوغاء هي التي تشغل فكرك ؟
و هوى قولها على را و نارزا كألف صاعقة ..
- كيف عرفت ؟
كان قوله يتضمن اعترافًا بالزيارة، لكنه علم أنها تعلم حقًا، فالفكرة في حد ذاته غير قابلة للتخمين ما لم تطلقها من عقالها أدلة مادية محسوسة و دامغة ..
قالت:
- أنت مهمل بعض الشيء، و أنا أصاب بالأرق أحيانًا .. شاهدتك، ثم تأكدت من تلك الأسمال التي تهبط بها إليهم، و الآن أنت تعترف .. و لكن ..
ثم صمتت صمتًا انخلع له قلبيهما، قبل أن تكمل:
- لكنني بالطبع لم و لن أخبر أباك ..
- حقًا ؟
- هل اعتدت مني الكذب ؟
ثم أشارت إليهما و قالت بينما سبابتها اليمنى تتنقل بينهما:
- لكن الحذر واجب يا ولدي .. أعلم أنك تفعل هذا لأنهم شعبك الذي يجب أن تعرفهم، و لن تعرفهم و أنت خلف هذه الأسوار المقيتة .. أبوك نسيهم من قلة رؤياهم، و إن رآهم فلا يراهم إلا عبيدًا يدفعون الضرائب، أو قتلى في جيوشه يحاربون الهوبوز، و لست أرضى لك هذا يا ولدي ..
ارتاح را كأنما جبل ثقيل قد انزاح عن صدره، و لم يكن شعور نارزا بأقل من هذا، حتى بعد أن توجهت إليه الملكة بالحديث قائلة:
- و لكنك تغامرين يا نارزا .. أستطيع حماية را، فهو في النهاية ولي العهد، و لن يمسه سوء .. أما أنت، فالملك بكل أسف لا يرحم ..
كانت تتحدث بالحق بكل أسف، لكن نارزا لم يعد أمامها خيار إلا المواصلة .. الملك لا يرحم، و هي لن تتراجع حتى تجعل ممن ربته في صغره ملكًا عظيمًا يحب شعبه و يحبه ..
- أخبرني إذن عما رأيت بالأسفل ..
- إنه عالم مختلف تمام الاختلاف يا أماه .. هؤلاء الناس لا يعيشون، بل يتعايشون ..
- نعم .. أعلم هذا ..
قالتها بمرارة ثم وضعت يدها على كتف ابنها و أخذته إلى الشرفة، حتى إذا أصبحا ينظران إلى الأفق الممتد قالت و هي تشير إلى الأفق:
- في يوم من الأيام سيثور هؤلاء كما ثاروا من مائة عام و عشرين .. إن هذا اليوم يقترب بسرعة البرق، و إنني أكاد أراه ..
ثم نظرت لابنها و قالت:
- لا أريدك كأبيك، فإن شهوة السلطة و الغنى قد أعميا قلبه ..
- لم أعلم يا أماه أنك تهتمين بشئون الحكم إلى هذا الحد ..
قالها مبتسمًا فأجابت:
- النساء محرم عليهم التدخل في شئون الحكم، لكن هذا لا ينطبق على الاهتمام بها ..
ثم نظرت للأفق الرحب في صمت شاركها فيه را، لكنه لم يشاركها ما كان يدور بخلدها، و ما كانت تراه أمام عينيها من ماض بعيد، يوشك أن يكرر نفسه ..
- جلالة الملك، أعضاء مجلس المشورة الملكية الموقرين، فلتفتتح الجلسة السادسة بعد المائة الخامسة من جلسات هذا المجلس الكريم لنناقش عرض الملك تارام، ملك إقليم الشمال ..
ثم أشار للكاتب أن يقرأ نص العرض الرسمي الذي تقدم به تارام، و عاد به را:
"جلالة الملك المعظم با-هيب، ملك أرض النازوم
تحيات معطرة، و أمنيات بالسعادة لا حدود لها .. فقد وصلني رسولك، الأمير را-هيمين، و أبلغني عرضك، الذي ينص على دمج فيلق من جيش جلالتكم و فيلق من جيشنا بقيادة مشتركة و تمويل مشترك .. و عرض تجاري متمثل في توفير الأخشاب من مملكتم بثلاثمائة كرونك للكانو ..
و قد درسنا عرضكم الكريم، لكننا رأينا أن عرضًا أفضل منه يمكن أن يخرج للنور، و أن عُرى الأخوة و المحبة بين المملكتين يمكنها أن تتوثق أكثر لو تخللها زواج ولي العهد، سمو الأمير را-هيمين، بكريمتنا كارين، و لتكن بعدها جيوشنا واحدة، ما دامت الدماء ستصير واحدة، و ليكن عرضي بديلاً لعرضكم، و محل النقاش ..
حليفكم، تارام"
أنهى الكاتب قراءة الرسالة التي بدا التصنع واضحًا يقطر من كلماتها؛ فكل كلمات المودة و الاحترام لم تكن حقيقية بحال، لما بين المملكتين من صراع خفيّ بسبب مقاطعة التاشاما الغربية الغنية بالمعادن، و التي ظلت محل نزاع طويل، حتى استولى عليها إقليم الشمال في لحظة من لحظات ضعف مملكة النازوم، ليظل الصراع بينهما متأججًا يرقد بخبث تحت السطح، منتظرًا شررًا يشعله مرة أخرى ..
- فما رأي الأفاضل النبلاء ؟
تنحنح شاولي-هيم، و هو نبيل من الطبقة الرابعة، و حامل مفاتح الخزائن، و قال:
- ما بيننا و بينهم لا يخفى على أحد، و عرضه مثير للريبة و لا شك، لكن الأمر يحتاج للتفكير من زاوية أخرى .. زاوية احتياجنا لهم في المرحلة الحالية، هل هي حاجة يمكن لها أن تبرر قبول مثل هذا العرض ؟
- جيوشنا تستنزف، و ليس لدينا أمل في هزيمة هؤلاء الهوبوز الملاعين دون مساعدة خارجية .. لم يبق في المملكة أحد يقدر على الحرب إلا و أخذ إلى ساحة النزال، حتى لم يبق إلا الشيوخ و الأطفال و النساء ..
قالها سيما-زي، المستشار الملكي لشئون الحرب و الاستطلاع، فرد شاولي:
- أنا أعني تحديدًا قبول عرض الزواج .. لا أنكر أننا بحاجة للمدد، فخزائن الدولة بالإضافة إلى جنودها يفنون شيئًا فشيئًا، لكننا لسنا بحاجة إلى إدخال غريب إلى القصر الملكي تحت مسمى الزواج، خاصة لو كان من إقليم الشمال ..
قال كانوزا، مستشار الملك لشئون التجارة:
- يبدو أن جلالة الملك تارام ليس مقتنعًا بالعرض الذي قدمناه، و لهذا ارتأى هذا العرض البديل، لذا اقترح أن نضاعف العرض، أو أن نعرض منتجًا آخر .. الكتان على سبيل المثال ..
لم يبد على وجوه أغلب الأعضاء الستة عشر الارتياح لهذا العرض، ما دفع مياز، مستشار الملك لشئون الأمن الداخلي، أن يقول:
- حقيقة لست أرى بأسًا في هذا الزواج .. أعلم أن قوانينا تمنعنا أن نراقب زوج الأمير أو أن نضعها تحت رقابة دائرة الأمن، خاصة الأجنبيات، لكننا مَنْ نضع القوانين، و لن يرغمنا أحد أن نحتفظ بالقانون كما هو .. لسنا حتى مضطرين لتطبيقه لو لم نرد له تعديلاً ..
ظل الملك و را طوال هذه المناقشات صامتين، حتى كسر با-هيب صمته قائلاً:
- مياز قال اقتراحًا ممتازًا، لكنه يعتمد على موافقتنا من الأساس على هذا الزواج .. لا أريد لنسلي أن يكون في دمه شيء من دماء هذا المأفون، فإن العرق دساس ..
- ليس كل الأبناء كآبائهم يا جلالة الملك ..
قالها را مبتسمًا، و لم يفطن إلى أنه – حتى و إن لم يقصد – يعنيه هو أيضًا، و هو ما ظهر على وجه والده الذي زال شيء من انبساطه، لكنه تابع رغم ذلك:
- أنا لا أريد هذا الزواج بحال .. أنتم ترونه مصلحة المملكة، لكنني أراه مأساة شخصية، لكنني في الوقت نفسه أرى أننا يجب ألا نخسر حليفًا ممتازًا كتارام، حتى و إن كنا نكرهه .. حلفاؤنا الآخرون ليس منهم من يريد الاستمرار، و حججهم قوية بهذا الصدد .. كاما ملك الأرض البيضاء لديه نزاعاته الداخلية و ليس يرغب في إبقاء الجيش بعيدًا عن مملكته، و نيورجا يوشك أن يعلن إفلاسه و إفلاس مملكته، فمن يبقى بعد هذا ؟
- و الرأي ؟
- لو أذن لي جلالة الملك و سمو الأمير ..
تنحنح مركاسو، حافظ سجلات الأنساب الملكية و وثائق الزواج و الطلاق للطبقة الحاكمة، قبل أن يكمل:
- إنني أرى أن كل زواج ليس بالضرورة يجلب الولد .. نستطيع أن نقبل العرض و الزواج، حتى نحقق غايتنا، ثم نفتعل أي حجة لإفشال الأمر، و لربما استعنا بماريناس كي يصرف الأميرة كارين عن سمو الأمير، فيبدو الأمر طبيعيًا لا شك فيه ..
- لكن الأمر ليس في الولد فحسب .. غريب في القصر الملكي يعني وجود جاسوس إلى أن يثبت العكس ..
قالها با-هيب و قد تملكه الغضب و أكمل:
- إنني أرى ألا نوافق على هذا العرض، و لنخض جولة جديدة من المفاوضات مع هذا المأفون ..
- لا يبدو أنه في استطاعتنا يا مولاي ..
- كيف يا سيما ؟ .. كل شيء ممكن ..
- لا أعني أنه مستحيل، بل أقول إن الظروف قد لا تسمح؛ ففرق الاستطلاع تقول إن رسولاً من قِبل كومار ملك البلخاي قد وفد إلى تارام بالأمس، و أخشى ما أخشاه يا مولاي أن يكون هذا بداية تحالف بينهما، و لحظتها لن يبقى من مملكتنا ما ندافع عنه ..
- لكن ما بينهما حرب ضروس لا أول لها و لا آخر ..
- و ما بيننا و بين تارام صراع طويل طوى تحت صفحته أجيالاً، لكن الخلافات قد تتوارى جانبًا إذا اقتضت المصلحة، و مصلحة كومار أن نزول من على وجه الأرض ..
أطرق با-هيب و قد شعر أنه قد وضع في مأزق .. كومار بمفرده كابوس مطبق، فما باله لو انضم إليه تارام، كابوس حياته الآخر ؟
- فما رأيك يا والي مجلس المشورة ؟
- أرى ..
ثم صمت لحظات داعب خلالها ذقنه ثم قال:
- أرى أننا قد حوصرنا، فحلف بين تارام و كومار فيه الهلاك المحقق .. اثنان من أكثر من يبغضوننا على وجه الأرض يتحالفان، إذن هي الطامة .. لهذا أقترح بعضًا من هذا و قليلاً من ذاك .. سأفاوضه على التحالف بدون الزواج، فإذا أُحصرت قبلت و ليس لي حيلة ..
- فلنصوت ..
قالها با-هيب و لم يكن لها ضرورة، لكنه العرف و التقاليد، و انفض المجلس و قد وقع با-هيب في الفخ المرسوم .. وقع وقوعًا بلا رجعة ..
14.7.10
أحلام الفتى الدائخ - الحلم الخامس
لسبب ما فإن أول ما طرأ إلى ذهني في بداية هذا الحلم - أو عندما تذكرته فور استيقاظي - هو قصة جول فيرن الشهيرة "عشرون ألف فرسخ تحت الماء" .. على أية حال، ليس للقصة من قريب أو بعيد أي علاقة بما حدث ..
أراني واقفًا على شاطيء صخري أعتلي إحدى صخوره، أنظر إلى الأفق و البحر الصاخب، و السماء ملبدة بالغيوم، و ذلك اللون الرمادي الذي أكره الشتاء بسببه، و على البعد توجد بحيرة صغيرة تتصل بالبحر عن طريق فتحة ضيقة - بوغاز لو أردت الدقة .. عند هذه البحيرة يرقد تنين مائي ضخم، يذكرك فور رؤيته بذلك التنين الذي صمموه في فيلم The Seventh Voyage of Sinbad لكن لونه مائل للزرقة، و بجواره يرقد العفريت الذي يقوده .. عفريت من الجن أخضر اللون يشبه الغوريللا على رأسه خوذة لها اللون نفسه، أو ربما هي جزء من تكوين رأسه لا أكثر ..
أراقب المشهد، لأجد أن التنين نائم لكن صوت شخيره مزعج للغاية، و يوّلد أثناء نومه الكثير من الرذاذ، ما يثير غضب العفريت، فيتشاجران، لكن الواضح أنه شجار الأحبة؛ مزاح ليس إلا .. مزاح ينقلب على حين غرة إلى مأساة حينما ينزلق التنين إلى بركة من الطين الأخضر، الذي اكتشف إنه مسحور يقتل بمجرد الملامسة، و يصيب الضحية بالاختناق التدريجي، بينما تنزلق كما ينزلق المرء في الرمال المتحركة .. في البداية سقط التنين في البركة، فهب العفريت لإنقاذه ليسقط بدوره بينما نجا التنين، و في النهاية أنقذ أنا العفريت من بركة الطين القاتلة تلك ..
نسيت أن أخبركم أنني كنت في رحلة برفقة اثنين من الإغريق، نبحث عن شيء ما لست أذكر كنهه تحديدًا، لكنه كان شيئًا مقدسًا فُقد من أحد المعابد اليونانية، و كان هذا التنين هو وسيلة السفر و التنقل ..
بعد أن أخرجت العفريت من البركة، أتى أحد رفاقي، و أمسك بقطعة من طين أخضر، لكنه أدكن من الطين القاتل - ما يعني أنه ليس بخطر - و وضع قدر غمسة إصبع من الطين القاتل في الطين الآمن و أعطانيها قائلاً إنها قد تحميني في يوم من الأيام ..
انطلقنا نحن الثلاثة نستشرف الأفق، لأفاجئ بالمشهد يتغير كلية، و رفيقاي الإغريقيان يتحولان إلى اثنين من زملائي في الكلية، و الشاطيء الذي كنا عليه وجدته قد استحال شاطيء الشاطبي المواجه لمكتبة الإسكندرية .. انطلقنا نسير، و ننظر إلى اللافتات التي ملأت المكان حولنا، و على الجانب الآخر من الشاطيء، لنجد أننا لسنا في الإسكندرية، بل في مملكة يارا - التي تتحدث العربية - التابعة لمملكة تايلاند ..
نحاول تدبير طريقة للعودة إلى الديار، لنقابل أستاذًا جامعيًا إنجليزيًا من المهتمين بالشأن الداخلي المصري، يخبرنا إنه قادم من أجل مؤتمر أو لقاء عن مصر، يقام هنا في مملكة يارا، و إنه يستطيع تدبير طريقة للعودة إلى مصر بعد انتهاء المؤتمر، و يدعونا للحضور فنوافق، على أمل أن تنتهي هذه المشكلة ..
سرنا معه و قد فوجئنا أن المؤتمر مقام في أحد الأسواق الشعبية، التي اتخذت مسحة جنوب-شرق آسيوية بامتياز، بأولئك الباعة المتراصين تحت أقمشة تظلل عليهم مشدودة بين أربعة قوائم .. وصلنا المكان المنشود، الذي لم يكن سوى "شادر" كهذه الشوادر التي يقيمها المرشحون في الانتخابات، و قد اصطفت المقاعد الخشبية في صفوف أمام منصة بدائية يجلس إليها المتحدثون في هذا المؤتمر الذي اكتشفنا أنه عن انجازات وزارة التعليم العالي في مائة عام ..
جلست في المقدمة، بينما جلس رفيقاي في الصفوف الخلفية - كعادتهما في الحياة الواقعية - و بدأت الكلمة الافتتاحية بفيلم قصير يستعرض هذه الإنجازات، التي لا اذكر منها سوى إدخال رقم الجلوس لأول مرة في مصر عام 1889 - على وجه التقريب ..
تشوشٌ في الإرسال، و تشوهٌ في الصورة، لينتهي الحلم باستيقاظي مندهشًا من كل هذا ..
11.7.10
شيءٌ كالبكا ..
لم أكن يومًا من هواة قراءة القصص القصيرة، أو من هواة المغامرة بالقراءة لمؤلف لا أعرفه، خاصة لو سبق قصته نقد من عينة "إشكاليات الصراع" و "مضامين الحداثة" و "ازدواجية الأنا" و هذا الحديث المقعر الذي لا أدري من أي جحيم يأتي به هؤلاء النقاد، لكن القصة على أية حال جذبتني، و قرأتها حتى النهاية، لا لشيء إلا - ربما - لأنها مست شيئًا في قلبي ..
في البدء كنت أبكي .. لست أكذب لو قلت إنني كنت استشعر شيئًا عجيبًا كلما بكيت .. شعور بالهم ينزاح عن صدرك، أو كأن روحك تسمو فوق هذه المآسي التي تراها صغيرة، أو كأن دموعك - و التعبير ليس لي - تغسلك كلك جملة و تفصيلاً ..
في البدء كنت أبكي، ثم تحت ضغط هذه العبارة الجوفاء العرجاء الخرقاء - الرجل لا يبكي - أخذت القدرة على البكاء داخلي تتضاءل .. لم أعد أبكي إلا إذا كان الهم ثقيلاً جدًا جدًا، ثم لم أعد أبكي إلا لآلام الجسد، ثم لم تعد تبكيني إلا شرائح البصل !
أحيانًا أشعر أنني فقدت كنزًا عظيمًا .. أحيانًا تعتريني لحظات يقصم الهم فيها ظهري - و من منا لا يمر بتلكم اللحظات - و أشعر أنني أريد لدموعي ألا تقف، فلا أستطيع ..
أحيانًا أرى رؤى و أحلامًا لا أحتملها .. استرجع ذكريات لست أدري كيف طاب لنفسي أن تفقدها .. أمر بمواقف أحصر فيها حصرًا، و أرغب في أن أخفف عن نفسي شيئًا من كل هذا بالبكاء .. فلا أستطيع !
الحقيقة التي أيقنتها و أدركتها، أنك قد تجد ألف طريقة تفرغ بها ما بداخلك، لكن .. ليس شيءٌ كالبكا
7.7.10
الوصايا الألف .. العشرة الثامنة
الوصية الحادية و السبعون: لا تكن رأسك رأس ثور لا يتقدم إلا ناطحًا، فمهما كانت رأسك صلبة فالدنيا أصلب، و أعلم أن الكثير قد تكسبه بالسياسة، و أن السياسة لا تعني دومًا المهادنة و التنازل عن الحق.
الوصية الثانية و السبعون: لا تجعل حرفتك في الدنيا دس أنفك في شئون الناس، فهي حرفة ليس لها راتب إلا السب و اللعن.
الوصية الثالثة و السبعون: من عاش يظلم الناس، مات يلعنونه.
الوصية الرابعة و السبعون: لا تبك على شيء فاتك، فلربما فاتك لتُرزق خيرًا منه.
الوصية الخامسة و السبعون: إذا تعلمت التقدم فتعلم التراجع؛ فتقدم بلا تراجع لهو أشد خطرًا من تراجع بلا تقدم.
الوصية السادسة و السبعون: اعلم أن الناس يرونك على الصورة التي ترسمها أنت في أذهانهم.
الوصية السابعة و السبعون: إذا عظمت الهمة، عظم البلاء .. فلا تبتأس.
الوصية الثامنة و السبعون: لا تعش أسير ماضيك، فهو سجّان لا يترك أسراه إلا جثة هامدة.
الوصية التاسعة و السبعون: لتكن خَجِلاً من الإصرار على الخطأ، لا من الوقوع فيه.
الوصية الثمانون: إذا كنت ممن هوايتهم إثارة المتاعب، فخير لك أن تعتزل الناس .. و حتى إن لم تفعل، فهم سيفعلون.
و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..
23.6.10
ربح مضمون، فهل أنت مستعد ؟
جميعنا تقريبًا سمع و يسمع كل يوم عن "الربح من خلال الإنترنت"، و كثير منا أيضًا تراوده أحلامه أن يكون ما يسمع حقيقة؛ أن أناسًا يربحون الآلاف و هم جلوس في منازلهم و كل ما يفعلونه هو بضع ضغطات هنا و هناك، لا أكثر و لا أقل ..
بالطبع راودني هذا الحلم، لكنني كنت دائمًا متشككًا بخصوصه .. المال السريع الذي لا تعب فيه هو ضرب من ضروب الخيال، و أولئك الذين يعدونك بالثراء السريع أغلبهم نصابون .. هذه حقيقة لا يمكن أن نتغافل عنها، و لكن ..
لكن الكثير من الأشياء تغيرت .. قررت أن أخوض تجربة بسيطة، لن تضر، لكنها قد تنفع كثيرًا، و قد جاءت بنتائج ممتازة، ترون أولاها في الصورة التي في بداية الموضوع ..
إنه إثبات تحويل النقود من موقع Neobux إلى حسابي على AlertPay .. دولاران فحسب، لكنه يثبت أنهم يدفعون، و هم من القلائل الذين يفعلون هذا حقًا ..
إذا أردت أن تشارك في الربح، فما عليك سوى الضغط هنا: http://tinyurl.com/35t49v3 و تأكد أن الأمر مضمون جدًا ..
إذا أردت أن تعرف المزيد فتفضل: http://ptc-investigation.com/NeoBux.aspx
8.6.10
جهاز ضغط و سماعة - الحلقة الرابعة عشرة
الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به تلك العقلية المهترئة التي تجبر الجيل القادم من الأطباء أن يكره حياته - لا مهنته فحسب - من فرط ما تحشوها بتفاهات ليس لها معنى و لا فائدة ..
الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به تلك السادية العجيبة التي يتمتع بها أولئك المسمون زورًا - إلا قلة منهم - بأساتذة الجامعة .. حملة مشعل العلم في مصر، الذي يتضح مع الوقت أنه مطفأ، لأن الغاز يصدر إلى جارتنا الحبيبة الودودة الطيبة إسرائيل ..
الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به هذا الكم البشع من الهراء الذي لا يمكن أن يتحمله ابن آدم، لكننا - كطلبة نطلب العلم الذي مجد منه صدودًا مستمرًا - مجبرون على تحمله و تحمل كل ما يترتب عليه من أمراض قلما تجد طبيبًا خرج إلى الدنيا دونها .. يكفي الرجال سقوط شعرهم، و يكفي النساء ذهاب جمالهن ..
الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به تلك الكيفية و القدرة التي ليس لها حدود، و التي تدهشني يومًا بعد يوم، على إيجاد مبررات منطقية للهراء و العبث، بحيث يطرد طالب من لجنة الامتحان قبل تمام وقته، فيحصل على الدرجة النهائية، و التعليل: ابن دكتور ..
الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به ذلك الشعور المؤسف الذي أصبح ملازمًا لأغلبنا - طلبة و طالبات .. شعور بالاحباط و الاكتئاب و الرغبة في التخلص من الحياة، و ربما لا يمنعنا من هذا إلا شيء من الإيمان بالله، و نعمة أنعم الله بها علينا : الأصدقاء و رفقاء الكفاح ..
الصورة حتمًا أبلغ من كل وصف يمكن أن أصف به كل ما يجري، لأن ما يجري لا يوصف .. لا تنتظروا من أطباء درسوا بهذه الطريقة أن يخرجوا إلى العالم يعالجون و يداوون، بل إن الطبيب الذي يصور مريضاته في أوضاع يندى لها الجبين يبدو هو المنتج الوحيد الذي يقبله العقل و المنطق لنظام تعليمي كهذا ..
لن أكتب كما اعتدت، فالصورة تتحدث أبلغ من كل ما سأقول ..
4.6.10
بلد الدخان الهابط إلى أسفل
الأمر ليس متعلقًا بنضوب الأحداث أو توقف الوحي .. الحقيقة هي أنني عزمت، و و لتدعوا الله أن يوفقني في هذا، أن أنتهي منها، حتى إذا اكتملت دفعت بها إلى واحدة من دور النشر لتكون أول إصدار مطبوع لي، و بطبيعة الحال فإن هذا لا يستقيم و حرق القصة فصلاً تلو الآخر على الإنترنت .. يكفينا ما أحرقنا منها ..
لست استطيع الجزم بموعد صدورها، فمن تابع منكم القصة - و هم قلة :) - يعرفون كيف أصبحت متشعبة و مليئة بالتفاصيل، بصورة تجعل كتابتها تحتاج إلى صبر و أناة، كي لا تفلت شاردة هنا أو هناك، و حتى تصمد الحبكة أمام سلطان المنطق ..
كل ما أرجوه هو أن تدعوا الله أن يوفقني، و يسدد خطاي ..
31.5.10
الحرية
و بعد شيء من التفكير وجدت أن الأمر لا يتعلق بالجدار في حد ذاته، و لا بالحصار و لا الدك و العجن و السحل الذي يلقاه إخواننا في غزة ..
فلا عيب و لا خجل
ما الجديد في ما يفعله الصهاينة ؟ .. لا شيء .. هم يفعلون الشيء نفسه منذ عام 1948 .. لكن الأمر ذاته يأخذ بعدًا مفجعًا عندما تقوم به مصر، أو أي دولة عربية أخرى من أولئك الذين أزعجونا ليل نهار بالحديث عن العروبة و الإسلام و القضية و الأرض التي لن تكون إلا لنا .. شيء يدعوك أن تغمس نفسك حتى النخاع في أنقى صور الشعور بالخزي و العار ..
و مع إنطلاق ذلك الأسطول البحري الذي تزعمت قيادته تركيا، شعرت بمزيد من الخزي أنني أنتمي - حسب الأوراق الرسمية، لا حسب قلبي و ما فيه - إلى هذا النظام الذي باع الأرض سحتًا و أكل ثمنها ..
البعض يقول إنْ هي إلا "حركات دعاية" يقوم بها النظام التركي، ليجمع حوله الأتباع .. هل عشرة آلاف طن من المواد الغذائية و المساعدات "حركات دعاية" ؟! .. لو كانت كذلك فمرحبًا بهذه الحركات ..
ما فعلته قوات الكيان الصهيوني من اعتداء ليس جديدًا، و لا يدعو لشيء من الدهشة أو الشعور بالغيظ، لكن موقفنا نحن - و نحن تشملنا نحن الشعوب التي تنعت نفسها بالمستضعفة المغلوبة على أمرها - هو الذي يستوجب أن نحرق أنفسنا أحياء، فأولئك الذين هم أبعد ما يكون عن خط النار و المواجهة - الأتراك - فعلوا ما لم نفكر فيه نحن، و نحن في المواجهة كأقرب ما يكون ..
قبل أن أنهي، تذكرت ما فعلنا بجورج جالاوي و قافلته شريان الحياة و المنع و الضرب و السحل .. ألا يذكركم هذا بشيء يحدث الآن في عرض البحر ؟
23.5.10
الوصايا الألف .. العشرة السابعة
الوصية الواحدة و الستون: لا تكن مفرط الحساسية، فالحياة مليئة بالألم، و أمثالك لن يدوموا إلا لحظات
الوصية الثانية و الستون: من جد وجد .. المهم أن تجدّ
الوصية الثالثة و الستون: أن تعرف ماذا ستفعل فهذا أمر مهم، لكن كيفية فعله تظل أكثر أهمية
الوصية الرابعة و الستون: عش كما شئت، لكن لا تحزن إذا وجدت ما خلفته وراءك سوادًا حالكًا
الوصية الخامسة و الستون: إن لم تكن لديك القدرة - أو النية - لتغيير واقعك المزعج، فلا تبحث عن مواطن الإزعاج فيه .. لا أنت غيّرته، و لا أنت رحمت نفسك شر الاكتئاب
الوصية السادسة و الستون: يولد الفراغ لدى المرء حالة مزعجة من الرغبة في إزعاج الآخرين، لذا، اشغل نفسك بما ينفعك قبل أن تنشغل بالرد على سباب الآخرين
الوصية السابعة و الستون: إذا كانت لديك الطاقة كي تغضب، فلتكن لديك الطاقة كي تتحكم في غضبك
الوصية الثامنة و الستون: محّص نفسك إذا ما وجدت الجميع حولك يكرهونك، فهم حتمًا لم يولدوا كذلك
الوصية التاسعة و الستون: كل الطرق تفشل إذا ما فشل التحاور
الوصية السبعون: لا تضيّق الخناق على من حولك، فتستفزهم أن يخدعوك
و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..
11.4.10
الوصايا الألف .. العشرة السادسة
الوصية الواحدة و الخمسون: بالخوف قد تحصد احترامهم، لكنك لن تحصل على محبتهم
الوصية الثانية و الخمسون: إن لم يكن لك من حب الخير نصيب، فكن محبًا لأهله، فإن لم ينفعك الخبر نفعك أهله
الوصية الثالثة و الخمسون: لا تجعل من حياتك حربًا متصلة، فحتى الجيوش الكبرى تستريح
الوصية الرابعة و الخمسون: ليست الحياة فوزًا دائمًا .. كن متأهبًا دائمًا للخسارة، فمن لا يتوقعها تقع من نفسه موقع الموت
الوصية الخامسة و الخمسون: لا تقض حياتك تشك في الكل، فتموت و قد كرهك الكل
الوصية السادسة و الخمسون: كن حذرًا في تعاملك مع الناس، فالبعض قد يتناسى، لكنه لا ينسى، و هذا الطراز -حتمًا- لا و لن يغفر
الوصية السابعة و الخمسون: إذا كنت قادرًا على إتيان الأفعال، فكن قادرًا على تحمل النتائج
الوصية الثامنة و الخمسون: لا تلق بعملك إلى الآخرين تكاسلا منك، ثم تلمهم على خذلانك
الوصية التاسعة و الخمسون: لا تلم الآخرين على ضعفك، فلو كان لهم في ذلك ذنب، فلك فيه ألف
الوصية الستون: لو أدرك الإنسان ما أدركه بعد فوات الأوان، لكان منه غير ما كان .. و لأن هذا لن يحدث، فانفض عن نفسك شبح الندم، فهو لن يتركك إلا جثة يائسة
و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..
3.4.10
شريان الحياة
هل كانت لحظة مفزعة ؟ .. الإجابة الدقيقة هي لا، فقد كانت مريعة، لا تدانيها – و لو أنه لم يختبر الثانية بعد – سوى سكرات الموت ..
في البداية حاول إقناع نفسه أن هناك خطأ ما، أو أن عطبًا قد ألمّ بالأجهزة فأصبحت تعطي نتائج مغلوطة .. أعاد كل الحسابات بالورقة و القلم كي يتأكد، و قد تأكد .. هذه هي بداية النهاية ..
نهاية الشمس .. و نهايتنا ..
واصل يحيى – المتخصص في علوم الشمس – حديثه مشيرًا إلى الشاشة التي احتلت الجدار بأكمله تعرض مجموعة من الرسوم البيانية و صور التقطت للشمس منذ يوم واحد .. قال:
- و هكذا أيها السادة نجد أن القطر الاستوائي للشمس قد زاد بما يساوي 2.3% من قيمته الأصلية، و لو استمر على هذا المنوال كمعدل يومي، فلن يستمر الأمر أكثر من بضعة شهور حتى نجد أنفسنا قد شوينا أحياء ..
- و هل أنت متأكد من أن الأمر متعلق بمجالات الجاذبية النووية للشمس ؟ .. كان من الممكن أن نلاحظ انحرافًا في مسار الأرض أو أي من الكواكب الستة عشر المحيطة بنا ..
- في الواقع ..
قالها د. شهاب العلوي مدير المرصد قبل أن يتنحنح مكملاً:
- في الواقع فإن هذه المعلومات قد وصلتنا للتو من مرصد شرق كاليفورنيا من الولايات الغربية ..
ثم طرح مجموعته من الأوراق أمام الشاشة الموجودة خلف يحيى، فعرضتها مكبرة، و تابع:
- هناك زيادة في مدار الأرض بنسبة 0.15 % على كلا محوريه، و هو ما يعني أن الأمر يتعلق بمجالات الجاذبية الشمسية بشكل أو بآخر ..
تابع يحيى:
- الأمر الذي لا زلنا بحاجة للتأكد منه هو طبيعة هذا التغير .. هل هو مجرد نوبة عنيفة من الاضطرابات الكهرومغناطيسية كتلك التي شهدناها عام 2036، أم أنه السيناريو الأسوأ، و أن الشمس تتحول بالفعل إلى عملاق أحمر، و تفقد طاقتها ؟
سرت همهمة خفيفة في القاعة أوقفها أحد الفلكيين بنقرات من إصبعه قائلاً:
- دعونا نفترض الأسوأ، و أن الشمس تدنو من نهايتها و نهايتنا، و لو أن حساباتنا قالت و تقول أن الشمس لا زالت تحمل في نواتها من الهيدروجين ما يكفينا و يكفيها ملايين السنين .. عل كل ليس هذا وقت مناقشة الحسابات .. دعونا نفترض الأسوأ .. ما هي الحلول المتاحة أمامنا ؟
أجابه د. شهاب:
- هناك جملة من المشاريع التي وضعت كخطط احتياطية لمواجهة اضطرابات الشمس الحادة بعد الاضطراب الأعظم في 2036، لكنها كلها تعتمد على الاختباء في باطن الأرض، و هو المستحيل بعينه في حالتنا هذه .. تحول الشمس إلى عملاق أحمر سيجعلها تتمدد حتى تبتلعنا في جوفها، و لن يجدي الاختباء نفعًا .. الحلول الأخرى هي حلول مجنونة ..
- تحديدًا مشروعي شريان الحياة و الهروب الكبير ..
ضرب أحد الحضور بيده على سطح مائدة الاجتماعات قائلاً:
- قبل أن تتكلموا في أي شيء أنا اعترض تمامًا على مشروع شريان الحياة .. إذا كان مشروع الهروب الكبير مجنونًا، فشريان الحياة هو الجنون بعينه ..
قال يحيى:
- مشروع شريان الحياة يا فوزي طرح تحديدًا لمثل هذا الموقف، و أخشى ألا يكون سواه اختيارًا إذا استمرت الشمس في تمددها بهذا المعدل .. الهروب إلى المستعمرات القمرية و المريخية سيأخذ وقتًا لسنا نملك ترف الحصول عليه في الوقت الحالي ..
- و شريان الحياة غير مأمون العواقب .. لقد نجح في تجارب المحاكاة التي قمنا بها، لكن هل ينجح في الواقع ؟ ..
- نحن لم نلتفت إلى شيء مهم أيها السادة ..
ساد الصمت إثر هذه الجملة التي قالها خالد، أحد الفلكيين الجدد، و الذي شعر بالرهبة من هذا الصمت المفاجيء، لكنه تابع:
- إذا كانت قوة جاذبية الشمس تضعف، بحيث لم تعد قادرة على الاحتفاظ لا بغلافها الغازي، و لا بكواكبها، فهذا يعني أننا سنبتعد عنها بنفس مقدار اقترابها منا .. و هو ما يعني أن شيئًا لن يحدث أكثر من تحول الشمس إلى عملاق أحمر، و زيادة قطر مدارنا ..
- و هذا هو بيت القصيد يا خالد ..
أجابه أحد الفلكيين القدامى بالمرصد – محيي – الذي تابع:
- ستصبح السنة الأرضية ضعف عدد الأيام، و سيتغير طيف الشمس إلى الأحمر، محدثًا تغيرات بيئية غير متوقعة، ثم – و هذا هو الأخطر على الإطلاق – سينتهي الأمر بواحدة من اثنتين: إما أن تنكمش الشمس بعد ذلك إلى قزم أبيض، أو تنفجر كسوبر نوفا، و كلتا الحالتين ليستا محببتين إلى قلبي في الحقيقة ..
- إذًا لن يجدي الهروب نفعًا .. ما دامت الشمس في النهاية محكوم عليها إما بالتحول إلى قزم أبيض، فنعاني البرود المطلقة بعد السخونة المطلقة، أو ما هو أسوأ فتتحول إلى ثقب أسود، و إما الانفجار كسوبر نوفا، فلم نهرب ؟ .. سيكون الأمر أشبه بالمستجير من الرمضاء بالنار ..
تدخل د. شهاب قائلاً:
- يبدو حديثك رغم سوداويته يا خالد منطقيًا، لكننا لن نندب حظنا العاثر كالنساء و نقف مكتوفي الأيدي .. لا بد من حل ..
- إذا فلننفذ شريان الحياة .. يبدو الحل المنطقي الوحيد ..
- لا زلت أعترض ..
قالها فوزي محتدًا مرة أخرى، فقال يحيى:
- لنمسك العصا من المنتصف إذًا .. لن نقفز إلى الخيار الأصعب و نترك خيارات أقل صخبًا .. سننفذ مشروع الهروب الكبير و ننطلق إلى مستعمراتنا على المريخ، و بعد أن نؤمن من نستطيع تأمينهم من البشر، ننطلق في تنفيذ مشروع شريان الحياة .. يبدو أنه الحل الوحيد المتاح أمامنا ..
- اتفق معك .. لنصوت أيها السادة ..
قالها د. شهاب رافعًا يده، و لم يكن الأمر بحاجة فعلية إلى إجراء تصويت، فالقرار محسوم من البداية ..
- أمامنا الكثير من العمل .. فلندع الله أن يوفقنا ..
في تلك الفترة – بدايات 2103 – كان تنفيذ مشروع كهذا مستحيلاً، لكن أصبح ممكنًا مع مرور الوقت .. على أية حال، فقابلية هذا المشروع للتنفيذ لم تشفع له أن يكون هو الاختيار الأول، رغم الحاجة البالغة لتنفيذه ..
و رغم مرور يوم على الاجتماع الساخن الذي عقده مرصد القاسمية الجديد، عقد المرصد اجتماعًا آخر في اليوم التالي، لكنه كان بالاشتراك مع المراصد الكبرى في العالم: مرصد شرق كاليفورنيا في الولايات الغربية، و مرصد نان-تشانج التابع لحكومة شرق آسيا ..
لم يكن هناك الكثير ليقال، و لم يكن لأي من المرصدين الآخرين اقتراحات تضاف إلى ما اقترحه مرصد القاسمية الجديد، اللهم إلا تأكيد النتيجة الأولى بأن الشمس تفقد طاقتها، و أن سيناريو موت الشمس آخذ في الوقوع، و هكذا انتهى الاجتماع إلى التنسيق بين الأجهزة الحكومية المختلفة للبدء في تنفيذ مشروع الهروب الكبير ..
كان العمل يجري على قدم و ساق، و لو أن الآليين الذين تولوا مهمة نقل كافة كنوز البشرية المعرفية و العلمية و المادية لم يكونوا يمتلكون أي أقدام أو سيقان، لكنهم كانوا يعملون بجد على أية حال، و رغم إنجاز جزء كبير من عملية الانتقال، و تجهيز الأساطيل الفضائية التي ستتولى تلك العملية، إلا أن تطورًا خطيرًا أضيف إلى مسار المشروع بعد أسبوع من الاجتماع الأول، ما جعل المراصد الثلاثة تجتمع مرة أخرى ..
بدأ د. ستيفن من مرصد شرق كاليفورنيا الحديث قائلاً:
- يبدو أن معدل التمدد اليومي الذي حسبناه منذ سبعة أيام قد زاد من 2.3% إلى 5.77%، و هو الأمر الذي ينذر بأن عملية التحول تتسارع بما لا يعطينا الوقت الكافي لإتمام الانتقال ..
قال تينج-بان مدير مرصد نان-تشانج:
- أذكر أن الخطة المقترحة في الاجتماع السابق كانت تقتضي تنفيذ مشروع الهروب الكبير ثم مشروع شريان الحياة .. أليس كذلك ؟
أجابه يحيى:
- بلى .. لكنني أشك أننا سنجد الوقت الكافي لتنفيذ الخطة بهذا التتابع ..
- لذا أقترح أن نعمل في المشروعين في الوقت ذاته .. لقد تم تجهيز ستمائة سفينة عملاقة للسفر .. يمكنها الانطلاق، فيما يتم تجهيز السفن الألف و مائتين الباقين .. أظن أن هذا سيقلل الخسائر المحتلمة لو فشل مشروع شريان الحياة أو أتى بنتائج عكسية ..
أجابه د. ستيفن:
- أظن هذا .. لكننا بهذا نمارس عملية انتقائية بشعة ..
- أن ينتقي القدر بعضًا منا لينجوا، خير من أن يذهب بنا كلنا ..
ساد الصمت لحظة قطعها د. شهاب قائلاً:
- أنا موافق .. الوقت يمر و ليس من مجال للتباطؤ، لكنني أظن أننا بحاجة إلى سفينة دفع ثلاثي مصنوعة من سبيكة هرقل .. هذه لديكم يا د. ستيفن ..
- هل ستستعملون سفينة واحدة فحسب ؟ .. إن الشحنة المرسلة لن تكون كافية بهذه الصورة .. حسب الأرصاد و قياسات الطاقة، فإن الشمس بحاجة لما يساوي أربع سفن ..
- لا يمكننا المخاطرة بإرسال أربع سفن دفعة واحدة يا د. ستيفن .. المشروع لم تتم تجربته قط، و كل ما لدينا من نتائج هي نتائج تجارب المحاكاة .. سفينة واحدة لاختبار ما سيحدث، فإذا نجحنا انطلقنا بالثلاث الأخريات ..
قال تينج:
- د. شهاب على حق .. هذا بالإضافة لاحتمال حدوث تصدع في جسد السفينة قبل الاقتراب بمسافة كافية من الشمس، ما قد يؤدي لانفجارها .. تخيل معي انفجار ستين مليون مترًا مكعبًا من الهيدروجين .. هذا سيصنع شمسًا أخرى ..
- لكن سبيكة هرقل تم اختبارها بالفعل .. لو لم تضعف ذاكرتي، فسبيكة هرقل هي التي شكلت جسد السفينة "المستكشف" التي وصلت حتى وشاح الأرض ..
- د. ستيفن .. لا نريد أن نتشاجر .. أنت تتحدث عن وشاح الأرض، لكن ما نتحدث عنه الآن هو الشمس .. الأمر جد مختلف، و لا أظنك تجهل هذا ..
- حسنا .. و لو أنني واثق من نجاح الخطة، رغم جنونها ..
- كلنا نأمل هذا، لكننا لا نملك سوى الأمل ..
و كان هذا إيذانًا ببدء تنفيذ مشروع شريان الحياة جنبًا إلى جنب مع مشروع الهروب الكبير ..
كان السيناريو المتوقع هو أن يقل مخزون الشمس من الهيدورجين، فيقل إنتاجها من الطاقة، و تبدأ سلسلة الأحداث المأساوية التي تنتهي بنهاية الحياة التي نعرفها على وجه الأرض، و كان اقتراح هشام العجيب هو إعادة شحن الشمس مرة أخرى بضخ كميات من الهيدروجين تكفيها على الأقل حتى نتدبر أمورنا، إذ يبدو أنه كان يدرك الطبيعة البشرية التي لم و لن تتغير، و التي تركن إلى السكون و الهدوء طالما كل الأمور على خير ما يرام، و أن البشر لن يتحركوا قبل أن تقع الكارثة ..
كيفية إرسال هذه الشحنة التي ستعيد الحياة للشمس ظلت هي اللغز و العقبة الكبرى في وجه المشروع، الذي ناضل هشام لوضعه على الخريطة، لكن سبيكة هرقل – التي ابتدعها مركز أبحاث المعادن في كيبيك عام 2112 – كانت هدية من السماء أنعشت الأمل داخل هشام، و جعلت من مشروعه شيئًا قابلاً للتنفيذ ..
كان السبيكة مؤلفة من الحديد المعالج بالتيتانيوم و الكربون، مع معدن اكتشف في العام الذي سبق خروج السبيكة إلى النور في أحد المناجم بجنوب المريخ، ما جعلهم يطلقون عليه اسم مارسيوم .. كان خليطًا قويًا إلى أبعد الحدود، و ليس أدل على ذلك من بقاءه سليمًا دون خدش حتى في تلك الرحلة التي صممت خصيصًا لاختبار هذا الخليط، و ذهبت فيها سفينة غير مأهولة في باطن الأرض حتى وصلت إلى الوشاح الأرضي، و خرجت سليمة ..
تمطأ يحيى، الذي أصبح مسئولاً عن التنفيذ يعاونه في ذلك طاقم من الفلكيين من مرصد القاسمية، و عدد من الفلكيين حول العالم .. تمطأ و هو يتابع اللمسات الأخيرة على المشروع، و يتأكد من كل صغيرة و كبيرة .. كانت السفينة ديجنتي ستحمل في جوفها خمسة عشر مليون مترًا مكعبًا من الهيدروجين، و هي ربع الكمية التي خرجت الحسابات بضرورة ضخها في نواة الشمس حتى تعود لسابق عهدها، و عندما تصل إلى نواة الشمس ستبدأ في مد عدد من الأنابيب المصنوعة من السبيكة ذاتها إلى داخل النواة ليندفع الهيدروجين مباشرة من جوفها إلى الشمس .. من المفترض أن يؤدي هذا إلى رفع نسبة إنتاج الطاقة الشمسية، و هو الأمر الذي من شأنه إيقاف عملية التحول إلى عملاق أحمر ..
- هل تظن أننا سننجح، أم أن الأمر كله ضرب من الخيال ؟
سأله مساعده فأجاب يحيى:
- لو أردت الحديث بلغة الأرقام و الحقائق، فإن خطأ حساباتنا في الماضي، و خطأ تقدير عمر الشمس لا يزال ماثلا أمامي، يضع احتمال أن نخطأ هذه المرة أيضًا نصب عيني .. لكننا بشر، و نتحدث بكثير من الأمل .. لنأمل أن ننجح، و لندع الله ألا يخذلنا ..
- اللهم آميـ ..
لم يستطع مساعد يحيى الوصول إلى نهاية الجملة، إذ انطلق صوت إنذار مدو و أشارت أحد شاشات الرصد التي تتابع السفينة في مستقرها الأخير قبل الانطلاق الذي يفصلها عنه عدة دقائق .. أشارت إلى حدوث تسرب في الغاز من إحدى خزانات السفينة، و على الفور تأهب الكل لمعالجة الموقف ..
لم ينتظر يحيى أن يبعث بأحد ليرى ماذا يحدث، بل ذهب بنفسه إلى القطاع المصاب، ليجد ما أصابه بالدهشة الشديدة، بل لا نكذب لو قلنا ألجمه عن الحركة للحظات ..
- و هل تسمي هذا تعقلاً؟ .. إنه الجنون يرتدي ثوب العلم .. إنني أمنع الجنون ذاته من أن يقع ..
- أي جحيم هذا الذي تريد أن تلقينا فيه أيها المجنون ..
و بكل قوته انقض يحيى على فوزي، الذي نزع أحد الصمامات التي تحمي الهيدروجين داخل خزاناته في السفينة ديجنتي، كمحاولة منه لإفشال المشروع الذي يراه سيودي بالبشرية كلها إلى التهلكة ..
و رغم أن يحيى لم يكن ممن يمارسون الرياضة بشكل دوري، إلا أن ضخامته النسبية و الغضب المشتعل بداخله جعلا انقضاضته عنيفة للغاية، إلا أن فوزي لم يكن أيضًا بالخصم السهل .. نزع أحد صمامات الحماية يعني بنيانًا متينًا، فهذه الصمامات تحتاج رجلين آليين كي يتم تثبيتها ..
أمسك يحيى فوزي من رقبته و قذف به إلى الأرض بقوة و انقض عليه يحاول تثبيته، إلا أن الأخير لم يعطه أدنى فرصة لذلك، إذ تدحرج و قام عن سقطته و كال ليحيى لكمة ترنح لها، إلا أنه تمالك نفسه و استدار ليكمل القتال .. لكمة فالثانية فالرابعة فالعاشرة .. تبادل الاثنان اللكمات حتى تحول وجهيهما إلى عجينة زرقاء منتفخة، و الدماء تسيل من كل فتحات جسديهما، و في بادرة إعياء من يحيى انقض عليه فوزي قائلاً:
- ستهلكوننا أيها المخبولون .. هل كنت تظن أنني سأصمت؟
كانت لطمته قوية على وجه يحيى، لم يستطع أن يتفاداها، لكنه أُنقذ من لكمة أخرى عندما وجد فوزي يتصلب على حين غرة و يهوي عند قدميه مغشيًا عليه، ليجد مساعده بصحبة أحد الحرس الآليين و سهم مخدر مثبت في رقبة فوزي، فقال و هو يحاول الوقوف:
- خذه من هنا و أعيدوا كل شيء كما كان .. ليس لدينا اليوم بأكمله ..
و فيما حاول أن يمشي غير مترنح، ساعده الآلي على الوصول إلى غرفة التحكم، ليعاود متابعة الإطلاق ..
- السفينة ديجنتي جاهز للإطلاق .. الإطلاق خلال عشرة .. تسعة .. ثمانية .. سبعة ..
و استمر العد التنازلي و الجميع يتابع المؤشرات المختلفة على الشاشة، حتى ردد الصوت نفسه "إطلاق .. إطلاق"، لترتفع درجة الحرارة إلى معدلات لم تشهدها من قبل .. حرارة الجو و حرارة أجساد المتابعين لإطلاق السفينة ..
- كم من الوقت برأيك سيلزم السفينة هذه حتى تصل إلى نواة الشمس يا د. ستيفن ؟
- إنها ثلاثية الدفع، تعمل بالطاقة الاندماجية و البلازما و طاقة الوقود الحفري، و لن تتجاوز رحلتها على أقصى تقدير مائة و خمسين دقيقة ..
أومأ يحيى برأسه موافقًا ثم تنهد قائلاً:
- من كان يصدق .. نعيد شحن الشمس !
- لقد كانت، و لا زالت، فكرة مجنونة .. لنأمل أن تعمل بنجاح ..
و جلس الاثنان، يحيى و ستيفن، يتابعون عن كثب شريان الحياة الممدود من الأرض إلى الشمس ..
أعلنت الشاشات أن الاصطدام بسطح الشمس بات وشيكًا، و إن هي إلا لحظات حتى يقع، فقام الفلكيون الثلاثة – د. شهاب و د. ستيفن و يحيى – عن مقاعدهم يتابعون عن كثب المعدلات و المؤشرات الحيوية للسفينة ..
- ما هي أخبار الدرع الواقي ؟
- نسبة التحمل 97% .. ما زلنا في الحدود الآمنة ..
- و آلية الضخ ؟
- تعمل بكفاءة .. الأنابيب خالية من العوائق، و صندوق الإطلاق محتفظ بمرونته ..
- و الخزانات ..
- جميعها مغـ ..
لم يكمل الفني جملته، ما رفع حدة التوتر لدي الثلاثة، و اندفع يحيى يسأله:
- ماذا بها بالضبط .. لا تخبرني أن بها تسربًا أو أن أحد الخزانات لا يستطيع إفراغ شحنته ..
- مع الأسف فهذا الصمام الذي تم فكه قبل الإقلاع أصابه العطب، و هناك تسرب من الخزان السابع، لكنني أحاول عزله ..
انتحى د. ستيفن بيحيى و قال:
- ماذا يعني هذا يا يحيى .. ألم تتأكد بنفسك من هذه الصمامات؟
- على الأرض .. أما درجات الحرارة المرتفعة هنا على سطح الشمس، فيبدو أن الصمام لم يتحملها ..
- و هل تقول هذا الآن؟
- و هل كنت أعرف ..
ثم التفت إلى الفني و قال:
- اعزل هذا الخزان و تخطه في سلسلة التفريغ ..
لم يكد ينهي جملته حتى قال الطيار:
- الوصول إلى موقع التفريغ سيتم خلال سبعة عشر ثانية ... استعدوا أيها السادة ..
تأهب الكل، و البعض أصبح غارقًا في عرق التوتر و القلق، و إن هي إلا لحظات حتى قال الطيار:
- السفينة في موقع الضخ .. فلتعمل آليات التفريغ ..
أشار يحيى للفني المسئول عن الخزانات بأن يتابع عملية العزل، و أشار لآخر أن يبدأ الضخ على الفور .. كان هذا الخزان المسرّب يشكل غصة في الحلق، فهو يعني ببساطة فقدان نصف مليون متر مكعب من الهيدروجين، و هذا ليس بالشيء السهل .. كل هذا، بالإضافة إلى الاحتمال الذي لم يتحقق، و هو أن يتسبب هذا التسرب في انفجار السفينة نتيجة اشتعال الخزان وسط كل هذا اللهب، لكن الله سلّم ..
و هناك، داخل الشمس، كانت السفينة ديجنتي تستقر في موقعها المحدد لها، ليظهر أسفلها تجويف برزت من خلاله مجموعة من الأنابيب التي تحركت في بطء، و لكن بثبات، نحو نواة الشمس لتبدأ ضخ الهيدروجين مباشرة فيها ..
و رغم أن الأمور كانت تسير على ما يرام، إلا أن هذا لم يمنع القلق و التوتر أن يعصف بطاقم التشغيل، خصوصًا يحيى الذي أخذ يدعو الله و يتمتم ببعض آيات القرآن الكريم، في محاولة لتهدئة نفسه ..
التفت يحيى إلى الفني المسئول عن متابعة الهيكل، و سأله:
- الدرع و الخزانات؟
- الدرع لا زال يعمل بكفاءة .. نسبة التحمل انخفضت إلى 96.4% لكننا لا زلنا في الحدود الآمنة، و الخزانات تفرغ الآن بمعدل خزان كل دقيقتين ..
صمت لحظة ثم أضاف:
- تم تفريغ الخزان الأول و حتى الرابع .. الخامس يجري تفريغه الآن ..
التفت إلى أحد الفلكيين الذين كانوا يرصدون الشمس من أجل التيقن من نجاح المشروع و سأله:
- هل من جديد؟
- لا زالت كمية الهيدروجين الذي تم ضخه أقل من العتبة الفارقة .. السفينة كلها أقل من العتبة الفارقة .. لن نحصل على نتائج قبل أن تتم عملية الضخ كاملة ..
و أخذت الدقائق تمر، و خزان تلو الآخر يفرغ ما بداخله .. تسعة و عشرون خزانًا بدا و كأنها ستمكث الدهر بأكمله، لكن لحظة النهاية جاءت، و أعلن فني الهيكل:
- تم تفريغ آخر الخزانات، باستئناء الخزان السابع ..
- و السفينة؟
- تعاني بعض المشكلات .. الهيدروجين كان يوازن الضغط حولها .. سأندهش لو رجعت سليمة ..
- أيها السادة ..
خرجت من حلق فلكي الرصد الشمسي كالطلقة، فالتفت إليه الجميع و قد صمتوا تمامًا مترقبين ما سيقول:
- لقد نجحنا .. القطر يتناقص بمقدار 0.25% عن آخر قياس له، و إنتاج الطاقة ارتفع بنسبة 1.28% و هو في ازدياد مستمر .. لقد نجحنا .. نجحنا ..
و وسط صيحات الفرح و السرور، التفت يحيى إلى مساعده و قال:
- جهز السفن ديجنتي 2 و 3 و 4 للانطلاق .. هناك شمس بالأعلى لننقذها و نمد لها شريان الحياة ..
25.2.10
الوصايا الألف .. العشرة الخامسة
الوصية الواحدة و الأربعون: احم نفسك بحسن ظنك بالآخرين
الوصية الثانية و الأربعون: لا تجر وراء شي فاتك من متاع الدنيا، فهو بين أمرين .. إما أن يأتيك في وقته، و إما أنه ليس مقدرًا لك من الأصل
الوصية الثالثة و الأربعون: لا تنظر إلى ما في يد غيرك، فتفقد ما في يديك
الوصية الرابعة و الأربعون: رحم الله رجلا عرف قدر نفسه، فلا هو كلفها ما لا تطيق، و لا أذلها بسفيه الأمور
الوصية الخامسة و الأربعون: إذا لم تستطع أن تتقن عملك، فخير للجميع ألا تزاوله
الوصية السادسة و الأربعون: كلما أفرطت في استخدام القوة، كلما ازداد يقين الناس أنك الأضعف
الوصية السابعة و الأربعون: رفقًا بنفسك، فكما تفعل في الناس يُفعل بك
الوصية الثامنة و الأربعون: لا تنه الناس عن شيء و تفعله، فإن كان باطلاً فالأحق أن تتركه، و إن كان حقًا فالأحق ألا يتركوه
الوصية التاسعة و الأربعون: من ارتدى جلد غيره فلا يأسفنّ إن صار عريانًا
الوصية الخمسون: ليس المهم أن تقول الشيء الصحيح، بل المهم أن تقوله بطريقة صحيحة و مناسبة
و إن كان لنا في العمر بقية، فعشرة كل حين ..
18.2.10
فازوع كوبسة
House of dead بس الجزء رقم الش ....ما علينا انا كنت بقود الهجوم واذا بكائنات غريبة الشكل والملامح تهجم علينا فحاولت الفرار (معلش بقى هتقولوا جبان ...جبان ياعم بس اعيش وزي ماقال سيد شيبة الله يرحمه ياروح ما بعدك روووح) ولكن فوجئت اني داخل نفق غريب والمخرج الوحيد عبارة عن سلالم مين غير درجات سلم يعني زحليئة .. ما حولتش افكر واقعد اطلع اطلع لحد الحملله وصلت للسطح انا واللي معايا وشوية لاقيت وحش كبييييييييييير ( صِوْب ) مش باين منه اي ملامح بس على ما اتذكره ان كان راسه اد جسمه المهم ماعرفش لييييه كان شايل مني بالذات لاقيته بيجري ورايا بشكل مستفز المهم ماكدبدش خبر وقلت يا فكيك و مالاقتش حل غير اني اقفز في النفق اهو ارحم منه برده وخد النفق زحاليق لحد ماوصلت لتحت لاقيت كانلت تانية غريبة عملت فيها جيمس بوند واعد اتنط عليهم ولا كأني في مراجيح مرجان بس فجاة اتكثروا على بصراحة انا خفت على شرفي وفي اللحظة الحاسمة ................ لاقيت ماما بتقولي انت مش نازل انهاردة وقمت مسكت فيها لحد مادركت اني كنت في مغامرات عقلة الاسبع والحمدلله عدت على خير .............................. سلام
3.2.10
بلد الدخان الهابط إلى أسفل - الفصل الثامن
- نعم يا .. أمك ... أنت حتستعبط ياض ..
و ألحق محمود جملته بقبضته التي هبطت قوية على سطح مكتبه، فيما تراجع المتهم الماثل أمامه من الرعب و هو يتمتم:
- و ربنا يا باشا ... و ربنا ما أعرف .. أنا بس اللي حيجبرني ع البهدلة دي و أنا متنيل عارف .. ما كنت حأقول يا باشا ..
مسح محمود وجهه براحة يده ضيقًا و زفر قائلاً:
- أقولك على حاجة .. أنا حأريحك خالص ..
ثم قام من جلسته و توجه ناحية المتهم الذي امتزجت مشاعر الراحة بالتوجس داخله فانطبعت على وجهه في صورة تعبير توتر و ترقب يزداد شيئًا فشيئًا كلما اقترب منه محمود، الذي قال في النهاية بهدوء مستفز:
- أنت تشرفنا ليلة هنا هو، و بعون الله ثم بعون زملاتك في الحجز حتفتكر يا ....
ثم رفع صوته:
- يا شاويش .. خده ع الحجز ..
و زفر ضيقًا و همًا فيما واصل المتهم توسلاته و رجاءاته، و ما أن جلس حتى أتاه الشاويش محييًا التحية العسكرية قائلاً:
- أستاذ جمال عبد الغفار يا أفندم ..
- دخله و هات واحد مظبوط بسرعة ..
و فيما انصرف الشاويش، قام ليرحب بجمال الذي ابتدره قائلاً بابتسامة:
- أنت يا بني مش حتبطل بهدلة ف خلق الله .. ماله الغلبان ده ؟
- ما تشغلش بالك .. واحد من المعفنين اللي ماليين البلد و ما خلّوش لولاد الحلال حاجة ..
ثم اعتدل في جلسته و قال:
- بس إيه المفاجأة الحلوة دي .. جنحة و لا جناية المرة دي ؟
- لو تمت حتبقى جناية .. ربنا يستر ..
- فارس ؟
أومأ جمال برأسه إيجابا فتابع محمود:
- عملتوا إيه ف المحضر .. أنا اتصلت بالمأمور عرفت منه إنه قام بالواجب و زيادة ..
- فارس ما اتهمش حد، و لو إن الكلام على اللي بيكتب عنه اليومين دول في الدستور ..
- ما تقول له يخف اللون .. أنا قلت له، بس هو دماغه ناشفة ..
أشعل سيجارة ثم تابع:
- أدخل ع الفيس ألاقيه كاتب لي لو قلت ما تخافش و مش ما تخافش .. الواد دا بيعمل كده ليه ؟
- مش دي القضية دلوقتي .. القضية ..
قطع حديثه دخول الساعي حاملاً القهوة، ثم تابع بعد خروجه:
- القضية إن إحنا محتاجين نرخص له سلاح .. أظن ما فيهاش مشكلة دي ..
- لا طبعًا .. في تهديد بالقتل، و محضر رسمي .. مفيش مشكلة خالص ..
- طب كارت كوسة صغير بقى، علشان ننجز ..
انفجر محمود ضاحكًا، ما دفع جمال للضحك أيضًا، رغم أنه لم يستشعر شيئًا يضحك فيما قال، ما دفعه للسؤال:
- إيش يا ولد ؟ مالك سخسخت كده ليه ؟
- أصلك استخدمت تعبير نكتة قوي .. المهم .. خد يا سيدي ..
و أخرج من جيبه بطاقة خط فيها بعض الكلمات و أعطاها إياه قائلاً:
- تروحوا بيها للعقيد كريم الصالحي في إدارة الأمن الجنائي و أدي له الكارت ده .. الراجل حبيبي من أيام الجيزة ..
أخذ جمال البطاقة معقبًا:
- ماشي يا سيدي .. ألا حماك عامل إيه ؟
- الحمد لله .. أزمة و عدت، و لو إنه لسه بيتوه مننا ساعات كده ..
أطفأ السيجارة ثم تابع:
- و أنت والدك أخباره إيه ؟ .. و عملت إيه في الولية بت الإيه اللي خبطته دي ؟
- هو كويس الحمدلله .. يوم الخميس بعد بكره فاروق حيعمل له العملية و تبقى كل حاجة تمام ..
- و المحضر ؟
- اتعاملت بكل أدب .. ليلة في الحجز و الصبح اتنازلت .. بس أدبت بت الرفضي دي ..
ثم قام مودعًا محمود:
- ما أعطلكش أنا بقى، و بالمرة ألحق أعدي على إسماعيل قبل ما أروّح .. سلام ..
- ما تخليك قاعد يا راجل .. دا القهوة لسه بحالها ..
- بحالها مين .. دا ما فاضلش إلا التفل .. سلام ..
و انصرف فيما شيعه محمود بتحياته، ليعود بعدها للعمل متمتمًا بأشياء متفرقة عن "الدماغ الناشفة" ..
في بعض الأحيان تجلس في شرفة المنزل تتطلع إلى شارع سوريا الواسع المفضي مباشرة إلى طريق البحر تتأمل السيارات، و المناورات التي يصنعها السائقون بسياراتهم .. في كل لحظة تمر تشعر أنها ترتكب ذنبًا لا يغتفر بقيادتها لسيارتها في مثل هذه الطرق .. هي لا تجيد القيادة من ناحية، و من ناحية أخرى فالسائقون يجلسون إلى مقاود سياراتهم كمن يجلس إلى لعبة سباق سيارات .. البقاء للأسرع، و هي لا تستطيع مجاراة ذلك ..
- ماما .. من شان شو اتوقفنا ؟
- حننزل نجيب شوية حاجات للبيت و نرجع ..
- بس "يوجي" عم يفوتني هيك ..
- ما تخافش .. حنرجع قبليه، و بعدين أنا موصية بابا مخصوص يسجله لك .. يالا ..
اثنتا عشرة عامًا خارج مصر جعلتها "كالخواجاية" .. لم تتأقلم بعد على الشراء من السوق مباشرة، و تفضل عليه – حتى حين – السوبر ماركت و المجمعات التجارية .. هنا السعر ثابت و لا حاجة لك للمساومة .. السعر ثابت و معقول و الجودة تجعلك لا تشعر أنك خدعت .. عندما ذهبت للسوق أول مرة بعد العودة من سوريا شعرت كأنها في غابة، و أن ما يحدث ليس له علاقة بنشاط البيع و الشراء بل بنشاط السرقة .. لا السعر يناسب الجودة، و لا الجودة أو التعامل يتناسبان و بني آدم ..
اثتنا عشرة عامًا في الخارج أفقدتها القدرة المصرية المتأصلة في كل واحد منا على المساومة و "تطليع عين البيّاع" قبل الشراء، لذا فالمجمعات التجارية هي الاختيار الأفضل حتى يأذن الله ..
انطلقت تنتقي من البضائع ما تحتاج، محاولةً تجاوز إلحاح شمس المتواصل بشراء هذه أو تلك .. السيطرة على عفريت كهذا كانت و ما تزال مأساة بالنسبة لها .. هو وحيدها، لذا فحنانها كله منصب عليه بحكم قوانين الرياضيات .. الحنان يوزع بالتساوي بين الأبناء، فإن لم يكن لديها غير هذا، فحنانها كله له .. لكنها في الوقت نفسه تدرك عواقب التدليل الزائد .. تحاول أن توازن بين هذا و ذاك، و تتعامل معه بشيء من الحزم الممتزج باللين و اللين المختلط بالحزم، لكنها كثيرًا ما ترى نفسها عاجزة ..
عاجزة ليس لأنها عاجزة .. عملها كمعلمة يجعلها تعرف كيف تتحكم في الأطفال، لكنها تشعر بالعجز لأنها وحدها من تواجه هذا الموقف .. زوجها مشغول حتى الثمالة في توطيد دعائمه هنا في مصر، و الخروج سالمًا من مشاكله التي ورثها عن أبيه في سوريا، و هي لا تلومه لانشغاله و لا تتضجر منه، لكنها في الوقت نفسه تتمنى لو لم يكن هذا حالها ..
عندما تزوجته منذ ست سنوات لم تكن تدري أن حياته معقدة إلى هذه الدرجة .. انقسامات عائلية، و مشاكل مع السلطة السورية، و حظ عاثر بطريقة تدعو للعجب .. من الغريب حقًا أنها أحبته، و ما زالت تحبه رغم كل هذا، و لربما هي تحبه لكل هذا .. تشعر معه بأن هناك أهدافًا أخرى بالإضافة للإنجاب و تربية الأولاد و كل هذه الأهداف التقليدية للزواج ..
انتظرت دورها أمام الخزينة، و هي تحاول تهدئة شمس ببعض العبارات التي لا تجدي – للأسف – معه نفعًا، ما جعلها تفكر في صلابة رأسه و من أين ورثها .. أمنها أم من أبيه ؟ .. أغلب الظن منها، فبفضلها طلقت من زوجها الأول، لكنه كان – على أية حال – لا يطاق ..
نفضت ذكراه من عقلها، و هي تستعيد الباقي مما دفعت ثمنًا للأشياء القليلة التي اشترتها .. نظرت إلى الحقيبتين البلاستيكيتين اللتين خرجت بهما في عجب، إذ لم تتصور أن يسوء الحال إلى هذه الدرجة .. بعض من المنتجات الألبان و بعض الأرغفة و قليل من الأطعمة المحفوظة، و المقابل ما يساوي نصف راتبها قبل أن تسافر ..
تذكرت أول عطلة نزلت فيها إلى مصر، و قد كانت بعد عامين متصلين في سوريا، و كيف شعرت وقتها أنها غادرت البلاد منذ ألف سنة أو تزيد، فالتطورات سواء كانت بالسلب أو بالإيجاب كانت كثيرة و كبيرة، و لو أن ما كان منها بالسلب كان أكثر .. الآن هي تشعر الشعور ذاته، إن لم يكن مضاعفًا ..
وضعت قدمها على دواسة الوقود بعد أن تأكدت من ربط حزامي الأمان، لتبدأ معركة جديدة على الأسفلت ..
هناك المريض المستسلم، و هذا يريد أن يفهم ماذا أصابه، ماذا ستفعل، و بعد ذلك هو لك .. هناك المريض المزعج، و هؤلاء يتعددون حسب التخصص .. البعض يتخصص في الأمور المالية، فلا ينفك يساومك على أجرك كما لو كان يبيعك سلعة ما، و هناك من يتخصص في الأمور الفنية، فلا يتركك إلا و قد قررت أن تترك المهنة من كثرة ما سألك في تفاصيل التفاصيل، و كأنه قد انتوى أن يخرج من عندك طبيبًا .. البعض يتخصص في "خدمة ما بعد الخدمة"، فلا يتركك ليلاً أو نهارًا، و يعتبر هاتفك المحمول ملكًا له، قد أقطعته إياه يوم أعطيته رقمك .. أسئلة و استفسارات بالليل و النهار، و كأنك ما خلقت و لا تطببت إلا من أجله ..
البعض، و هؤلاء هم الأشنع على الإطلاق، مزعجون بالجملة .. يحترف و يجمع بين عدة فنون من الإزعاج، فيجعل من مداواته جحيمًا لا يطاق .. هناك المرضى العصابيون الموسوسون، الذين يشمون رائحة المؤامرة في كل إجراء تتخذه، و غالبة ما تكون المؤامرة المزعومة على جيوبهم المسكينة ..
زفر شاعرًا أن متابعة حالة هذا المريض المسن الذي خرج لتوه ستكون واحدة من لعنات الطب التي ستلازمه لفترة ما، و أن الشيء الوحيد الذي يجبره على تقبله هو أنه عاهد نفسه يومًا أن يكون لطيفًا ودودًا مع أي مريض أيًا كان، حتى لا يكون سببًا في مزيد من الألم لهؤلاء المساكين ..
- اللي بعده يا حنفي ..
- الآنسة سارة الهواري يا دكتور ..
و كأنما ألقى بدلو ماء بارد في وجهه، شعر زكريا بشيء من عدم الاتزان .. ما زالت تثير في نفسه شعورًا مبهمًا أنه ارتكب ذنبًا شنيعًا و جرمًا لا يغتفر، و أنها في أي لحظة قد تستدعي هذا الموقف و تتعامل معه وفقًا له ..
- خمس دقايق و دخلها ..
و هي الحيلة التي استعملها المرة السابقة حتى يستجمع شتات أمره الذي لا يدري حقًا لم تبعثر، رغم أنها لم تفلح تمامًا فيما سبق .. على أية حال، فالدقائق الخمس لن تدوم دهرًا، و لا بد من المواجهة في النهاية:
- السلام عليكم يا دكتور .. إزاي حضرتك ؟
- الحمد لله بخير .. إزاي الوالدة، أخبارها إيه ؟
- لسه الحال على ما هو عليه .. ألا بالحق يا دكتور زكريا ..
ثم اعتدلت في جلستها و وضعت صور الأشعة و التقارير الطبية على المكتب أمامه و أكملت:
- إحنا كنا بنسأل كده و إحنا بنعمل التحاليل و الأشعات، و دكتور القلب اللي عمل الإيكو لماما قال لها إنها احتمال تحتاج عملية مش مجرد قسطرة .. صحيح الكلام ده ؟
ابتسم في شيء من العجب، إذ أن كل المرضى إلا أقل القليل يفعلون الشيء نفسه .. يستفسرون عن أشياء لن يستطيع أحد الإجابة عنها ما لم يقرأ التقارير و التحاليل و يتفحصها بعناية .. كثيرون ينظرون للطبيب على أنه الشخص "اللي عارف كل حاجة في كل حاجة" أو كما يحب زكريا أن يعبر عن هذه النظرة "كمن بقر بطون الكتب و أتى على علوم الأولين و الآخرين" ..
رد قائلاً محافظًا على الابتسامة:
- هو قال رأيه لما شاف الأشعة .. أشوفها الأول و بعدين نتكلم ..
كانت طريقته المفضلة في الرد على مثل هذه الأسئلة، إذ تجعله كمن لم يقل شيئًا، لكن المعنى الخفي يصل للمريض أو أيًا كان من سأل فيغرقه في شعور من الخجل لاندفاعه و عدم انتباهه لشيء بسيط كهذا، و الحق أن هذا ما أصابها بالفعل ..
تركت له الأوراق التي أتت بها، و جلست صامتة تتأمل خلجاته .. الآن يبدو كالطبيب حقًا، واثقًا متمكنًا من علمه و شيء من الحكمة و الهيبة يحيط بجلسته، لكنها كدارسة محبة لعلم النفس، أو ربما هو الاستشفاف، أدركت أن شيئًا من التوتر و القلق يغلفان حركاته و سكناته .. أرادت أن تعرف في هذه المرة أهي السبب أم أنها أسقطت ما في نفسها على ما رأته في المرة السابقة، لكنها لم تستطع، إذ راودها شعور أنه من المحتمل أن تكون هذه طبيعته، و طريقته في التفاعل مع الحياة ..
قطع تأملها أن رفع عينيه عن الأوراق التي قدمتها له، و شعرت أنه ارتجف عندما رآها تحدق فيه فأشاحت بعينها محاولة الخروج من الموقف، لكنه بادرها بالحديث قائلاً:
- بصي حضرتك .. شرايين والدتك التاجية مع الأسف وصلت لنقطة اللاعودة .. يعني القسطرة و الدعامات و البالونات و الحاجات دي كلها حتبقى عاملة زي المسكنات، لا تغني و لا تسمن من جوع .. الحل المطروح قدامنا دلوقتي إننا نعمل عملية ترقيع للشرايين التاجية، أو بمعنى أدق تبديل .. نشيلهم و نحط أنسجة تانية مكانهم بحيث تقوم بنفس الوظيفة .. و إن شاء الله خير ..
ظلت صامتة لحظة انتظر خلالها زكريا السؤال المتوقع:
- يعني دلوقتي الخطوة الجاية إيه .. ماما تتحضر للعملية، و لا في حاجة تانية ؟ .. فحوصات تانية يعني ..
- لا لا لا .. مفيش فحوصات تانية و لا حاجة .. بس هي تأنسني كده في الوقت اللي يناسبها أكشف عليها مرة تانية في ضوء المعطيات الجديدة، و أسجل شوية بيانات كده ..
- إن شاء الله .. متشكرة جدًا يا دكتور ..
- لا شكر على واجب، و ابقى بلّغي سلامي لسامية و محمود ..
- آ ..
و جلست مرة ثانية بعد أن كادت تقوم من مقعدها:
- بمناسبة سامية، كان في حاجة عاوز أكلم حضرتك فيها بس مترددة جدًا ..
لسبب ما شعر بالقلق .. هذه الـ "جدًا" التي انتهت بها الجملة كان سيئة الوقع جدًا، و شعر أنها ستلقي بقنبلة في وجهه:
- يعني ع اللي حصل يوم الفرح .. بس حسيت إن حضرتك يعني آ ..
لم تدر بم تكمل، و لم يدر كيف يرد، إلا أن الله فتح عليه بما أنقذ كليهما:
- أنا اللي كنت عاوز أتأسف بس كنت محرج .. أنا اللي مفروض أبقى متردد و باعتذر ..
- حصل خير .. استأذن أنا ..
و قامت عن مقعدها شاعرة أنها ارتكبت مذبحة، فيما عاد إلى زكريا لونه الطبيعي مرة أخرى ببطء:
- يالا يا سي حنفي .. اللي بعده ..
لكن الحق يقال أنه أراد أن يغلق العيادة لتوه، ليجلس في مكان هادئ يستجمع شتات نفسه ..
- أنت بتقبض مني كام ألف في الشهر يا ابن الـ... ؟
- آ .. يعني ..
- كام ؟
سأله صارخًا خارجًا من عباءة التجهم التي ظل فيها لفترة مكشرًا عن أنيابه، فجفف شردي شيئًا من عرقه الغزير و قال مرتجفًا:
- خير سعادتك كتير يا باشا ..
- بس مش طامر يا ابن الكلب ..
- ليه بس يا باشا .. دا أنا لحم كتافي من خير و ماليش إلا سعادتك و ..
- بس بس .. اخرس ..
قالها ملوحًا بيده دلالة على نفس المعنى المنطوق، ثم قام متجهًا نحو النافذة الكبيرة خلفه، و صمت للحظات أرسل بصره خلالها، ثم قال:
- أنا قلت خلص المسألة يا شردي .. يعني تخلصها و تخلص عليه ..
ثم التفت إليه يصرخ:
- مش تقول لي هددته هو و أمه .. يا فرحتي بيك يا ننوس عين أمه ..
صمت لحظة قبل أن يكمل رافعًا سبابته مهددًا:
- آخر فرصة .. آخر فرصة تخلص فيها العملية دي كلها و إلا البقية في حياتك فيك يا شردي .. فاهم ؟
اومأ برأسه موافقًا، فتابع عادل و هو يعود لجلسته:
- عرفت نظام حياته إيه ؟
- أيوه يا باشا .. بيطلع م البيت الصبح ع الجرنان يديهم المقال بتاع تاني يوم، بعد كده بيقضي مشاويره و يرجع البيت و بعد الضهر بينزل تاني يلف شوية و يرجع البيت ع الساعة حداشر اتناشر كده ..
- تصطاده و هو راجع .. تاخد رجالتك و تعكموه علقة مش عاوز أمه تتعرف عليه بعديها ..
ثم مال للأمام منذرًا:
- المرة دي عاوز يجيني خبره .. فاهم ؟
- أوامرك يا باشا ..
- على الله تنفذها .. غور يالا من وشي ..
انصرف شردي يتمتم بالكثير من كلمات الحمد و الثناء فيما ظل عادل للحظات صامتًا حتى تأكد من انصراف شردي، ثم أمسك بهاتفه المحمول و ضغط أرقامه و انتظر المجيب:
- السلام عليكم .. إزاي صحتك يا باشا ؟
- عملت إيه يا عادل ؟
شعر عادل بالضيق لهذا الاستقبال الجاف، لكنه أجاب:
- كل تمام إن شاء الله يا باشا .. ديّتها بكرة بالكتير يكون عندك خبره، و تكون صورة جثته مالية الجرايد ..
- اتعشم كده .. أنا مش ناقص حد كل شوية ينخور ورايا .. فاهم ؟
- مفهوم يا باشا .. إحنا خدامين سعادتك ..
- ابقى اتصل بي و قول لي وصلتوا لإيه ..
و أغلق الخط ليغلقه عادل بالمثل قاذفًا بالهاتف إلى منتهى ما وصلت إليه يداه هاتفًا:
- فاكر نفسه إيه بـ... أمه ده .. إحنا اللي شايلين الشغل كله و طالع ... أبونا و ف الآخر يكلمني من فوق ..
و بينما الغضب و الغيظ يأكله من الداخل دافعًا إياه للتفكير في مخطط شيطاني آخر، كان شردي يجري مكالمة مماثلة مع أحد رجاله، مدفوعًا بخوفه الشديد من يد عادل الطولى، التي يمكن أن تمحو ذكراه إلى الأبد:
- جابر .. عاوزك أنت و الرجالة دلوقتي حالاً ..
- بس يا ريس أنا ..
- مفيش بس .. أنا قلت تيجي أنت و الرجالة يعني تيجوا ..
- يا ريس أنا مراتي بتولد، و معاها دلوقتي في المستشفى ..
- إن شالله تكون أنت نفسك بتموت .. بلاش كتر كلام ..
- أوامرك يا ريس .. في الشقة برضك ؟
- أمال حيكون فين يعني .. يالا اتكل أنت ع الله .. ساعة و تكونوا عندي ..
و أنهى الحديث ضاغطًا بعنف على دواسة الوقود يفرغ فيها ما بنفسه من توتر محاولاً التفكير كيف ينفذ ما طلبه عادل "باشا" منه .. عندما تفتق ذهنه عن التهديد بالقتل، ظن أن فارس سيرتدع، فإحساس المرء أن حياته في خطر يقفز بغريزة حب البقاء إلى القمة و الذروة، فلا يعود غيرها في مخيلته، و يصبح الابتعاد عن موطن الخطر هو شغله الشاغل، لكن ما حدث كان عكس ما توقع، إذ واصل فارس نشر مقالاته، و كأنه لا يبالي على الإطلاق ..
على أية حال، إذا لم يكن يبالي، فالموتى أيضًا لا يبالون ..