27.2.08

الطاحونة

كان هذا منذ زمن .. وقت كان الناس يستعملون طواحين الهواء من أجل طحن قمحهم و شعيرهم .. لكن تلك الطاحونة لم تكن عادية ..
هناك أولاً هذا الصرير الغريب الذي يصدر عنها كلما سكنت و يزول إذا تحركت، و كأن الأمر بالمقلوب .. هناك ذلك الدقيق الزائد الذي يأتي من لا مكان معبأ في أجولة مضاف إلي ما طحنه المزارعون .. و هناك هذه الكلمات، التي تتزايد كلمة كل يوم علي جدرانها، و جيلاً بعد جيل لم تنته الرسالة بعد ..
لكن الحكاية لم تبدأ مع القمح .. إنها العظام الغضة التي يومًا ما وقعت فريسة العناد و الجبروت .. و ياله من مصير !
بليل كأنه فحم حجري، توارت وراء الأعشاب .. انتظرت حبيبها الذي قررت و إياه أن يتخطيا كل الحواجز و يتزوجا .. طحّان هو، و لهذا لم يقبل أبوها أن تتزوجه، رغم أن أباه كان جامع مخلفات .. لكنه المال .. المال يعمي، و يصم، ويبكم ...
قابلته بليل ..و هربا سويًا، لكن القدر في النهاية قدر .. لا مفر و لا مآل منه إلا هو ..
كأنه يعرف، استيقظ أبوها يطمئن عليها .. لم يجدها .. هبط من فوره وأطلق كلابه في المدينة تجوبها يبحثون عنها، يتوعدها، إن لم تكن قد خطفت، بالشوي حية علي نار هادئة ..
و سرعان ما وجدها ..
كان لا بد واجدها، و قد أطلق جيش كلابه يبحثون عنها .. قالت لحبيبها فلنختبيء .. و لكن أين ؟ .. تعالي إلي الطاحونة البيضاء .. أشعر فيها بالأمان ..
لكن أبعد ما يكون عنهم في تلك اللحظة الموحشة هو الأمان .. دخلا .. تشممتهما الكلاب و وصل أبوها .. صرخ كأنه ينادي الأموات من قبورهم أن اخرجا و إلا أهلكتكما بالطاحونة .. لم تتوقع أن يكون أبوها بهذه القسوة .. قالت لحبيبها لن يفعل، فهو في النهاية أبي و لن يقتلني .. و إن هي لحظات لم يجيباه فيها حتي أدار الطاحونة بهذا الثور الفتي القوي المتبن المربوط إليها يديرها مع سكون الريح ..
و دارت الطاحونة .. ضمها إليه .. قالت أن يموتا الآن و قد تأكدت أن أباها بلا قلب خير لها ألف ألف مرة أن تعود .. ارتمت في أحضانه بقوة .. و استسلما لمصيرهم المنكوب ..
إنها العظام الغضة التي يومًا ما وقعت فريسة العناد و الجبروت .. و ياله من مصير !
و ظل الطحان و حبيبته في الطاحونة .. صارت ملتقاهم بعد أن ضاقت بهم الأرض و قلب أبيها .. و ظل يومًا بعد يوم يبثها أشواقه في رسالة أبدية يكتب منها كل يوم كلمة علي جدران الطاحونة، و معترفًا بالفضل لصاحب الطاحونة بتلك الأجولة من الدقيق، أن كانت طاحونته ملتقاهم بلا إزعاج، و متمنيًا ألا تنتهي الأيام ..
هذه هي حكابة الطاحونة البيضاء .. التي لم تعد كذلك ..





هناك تعليق واحد:

Khadieja Eshra يقول...

القصة جميلة و معبرة انت كاتب جيد للقصص القصيرة خليك زى ما انت
بس خلاص

Related Posts with Thumbnails
 
Share
ShareSidebar